حقيقة سيدي أحمد البدوي وبيان مكانته

حقيقة سيدي أحمد البدوي وبيان مكانته

ما حقيقة سيدي أحمد البدوي وما هي مكانته؟ فقد ورد سؤال نصه كالتالي: هل السيد البدوي وليّ من أولياء الله الصالحين؟ وما هي صحة نَسَبُه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ وهل هناك كُتبٌ أثبتت نسبَه؟ وما حكم من يطعن في دينه، أو يُشكِّك في نسبه، أو يدَّعي أنه مجرد خرافة أو أسطورة انتشرت بين السذج والبسطاء؟ وهل يجوز لنا أن نصفه بالولاية، أم نكل أمره إلى الله؟ وما موقف علماء المسلمين منه ومن طريقته الصوفية عبر العصور من وقت ظهوره إلى العصر الحاضر؟ وكيف يرد الإنسان على الأصوات التي انتشرت في هذه الآونة تطعن على السيد البدوي وغيره من أولياء الله الصالحين؟

السيد أحمد البدوي الحسيني رضي الله عنه إمام قطبٌ عارفٌ وليّ، ووارثٌ نبويٌّ ربانيّ، ونسيبٌ علويٌّ هاشميّ، ومقرئٌ فقيهٌ، وهو من كبار أولياء الأمة المحمدية، ووارث محمدي بلغ الغاية في الفتوة والأخلاق الندية، وأنه في الأمة كلمة إجماع، وبين الأئمة إمام بلا نزاع، قد جمع بين الحقيقة والشريعة، وضم إلى العلم الكسبي العلمَ الوهبي، وكان في العلم بحرًا لا يُدرَك له قرار؛ كما شهد بذلك العلماء الأخيار، وتواترت عنه الكرامات والمواهب اللدنية، وأثرت عنه الأخلاق الكريمة والشمائل المرضية.

وقد لقي الأئمة العارفين، وأخذ عن كبار أولياء الله الصالحين، وأرسى طريقته على الكتاب والسنة النبوية، والتزام الواجبات الشرعية، والمداومة على النوافل المرعية، وبناها على الصدق والصفاء، وحسن الوفاء، وتحمل الأذى، وحفظ العهود، وأقامها على الشهامة والكرم والأخلاق الندية؛ من إطعام الطعام في كل حين، والإحسان للمساكين، ورعاية الأيتام والمحتاجين، وإكرام الوافدين.

فأما كونُه سليلَ آل البيت عليهم السلام: فهو مما اتفقت عليه كلمة المؤرخين والعلماء الأعلام، وأطبق على صحته عدولُ الأمة، وأثباتُ المؤرخين والأئمة، وتواردت به شهادة الأشراف في مصره، وتواتر نسبه الشريف عند علماء النسب في عصره وبعد عصره، فالتشكيك في ذلك من الكبائر التي حرَّمَتْها الشريعَة، وذمَّت مِن مرتكبها صنيعَه.

وأما الشهادة بإمامته وولايته: أطبق على ولايته وإمامته وعلمه علماء الأمة ومؤرخوها منذ انتقاله رضي الله عنه إلى الآن، بل أصبحت محبتُه وزيارتُه عند العلماء أمارةً على الصلاح والخيرية، واستمرت شواهدُ محبتِه وبواعثُ زيارتِه وسلاسلُ طريقتِه ساريةً في الأمة منذ ظهوره إلى يوم الناس هذا من غير نكيرٍ ممن يعتد به من عارف أو عالم أو مؤرخ؛ حتى سمَّى الخاصة والعامة أولادهم باسمه ولقبه؛ تيمنًا وتبركًا، وأجمع أئمة الأزهر الشريف وشيوخُه إمامًا إمامًا على ولايته ومودته ومحبته، واتفق أولياء الأمة وعارفوها على إمامته، ومن ورائهم علماء المسلمين وأئمتهم وفقهاؤهم ومفتوهم في الشام والعراق والحجاز وسائر أقطار الأرض، ولا يُعرَف في الأمة كلها عالم أو عارف أو ولي أو مؤرخ ذكَرَه إلا بصلاحه وشرفه وولايته، فهو: "أحد أركان الولاية الذين اجتمعت الأمة على اعتقادهم ومحبتهم"؛ كما يقول العلامة القاضي يوسف النبهاني، فالشهادة بولايته وإمامته شهادةٌ بالحق، وتصديقٌ لأهل الصدق؛ امتثالًا لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ».

أما الطعنُ في ولايته رضي الله عنه أو اتهامُه بالجاسوسية أو التشكيكُ في كونه من الأشراف رغم معرفة ما ترجمه به العلماء والمؤرخون عبر القرون بالسيادة والولاية والعلم والإمامة من غير خلاف: فكلها مسالك خاليةٌ عن الإنصاف، موغلة في الاعتساف، وخروجها عن المنهج العلمي غير خافٍ؛ لأن ذلك يستلزم اتهامَ أولياء الأمة وعلمائها ومؤرخيها وحكامها قاطبةً بالجهل والغفلة أو التزوير والكذب أو التواطؤ والخيانة! مع ما في ذلك من إفقاد المسلمين الثقةَ في تاريخِهم، وتراثِ مؤرخيهم وعلمائهم؛ فإن الأمة متفقة على ولايته وشرفه، ولم يطعن فيه رضي الله عنه إلّا نابتةٌ نبتت منذ عقود -والله أعلم بالقُصود- جامعةً بين المتناقضات فيما تحوكه مِن الاتهامات، مدَّعيةً تارةً أنه لم يكن يصلي، وتارةً أنه كان جاسوسًا شيعيًّا، وثالثةً أنه كان باطنيًّا إسماعيليًّا، ورابعةً أنه حديثُ خُرافة! متجاوزةً بطعنها هذا كل تراث الأمة وتاريخها لكل مؤرخيها وعلمائها، مناديةً لأهلها على جهلها، مِن غير وازعٍ ولا رادِعٍ مِن دينٍ أو أدبٍ أو إنصافٍ، ولا حلمَ ولا علمَ!

التفاصيل ....

المحتويات

خطورة الخوض في أعراض الخلق وإساءة الظن بهم

شَّدد الشرع الشريف على حُرمة الخوض في أعراض الخلق وإساءة الظنِّ بهم؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 12].

ومن أشدِّ أنواع المعاصي والآثام: ما كان مُتعلقًا بحقوق الأنام؛ من انتقاص حرماتهم التي حفظتها شريعة الإسلام، وصانتها عن الخوض فيها بالفعل أو الكلام؛ فعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَمَّا عَرَجَ بِي رَبِّي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ، يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ» أخرجه الإمام أحمد في "المسند"، وأبو داود في "السنن"، والطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "الآداب" و"شعب الإيمان".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» أخرجه مسلم في "صحيحه".

التحذير من الخوض في أعراض أولياء الله الصالحين

إذا تعلقت الحرمة بوليٍّ من أولياء الله الصالحين أو سَيِّدٍ من سادات آل البيت الأكرمين عليهم وعلى جدِّهم أفضلُ الصلاة وأتمُّ التسليم: فإنَّ انتقاصه أشد جرمًا، والنيل من عرضه أعظم إثمًا؛ فإنهم موضع نظر الله تعالى، وهو المتكفل بالمُنَافَحَة والذَّوْدِ عنهم؛ قال جلَّ شأنه: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحج: 38]، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: 33]، فالوقيعة في أولياء الله تعالى ومعاداتهم والخوض في أعراضهم وأنسابهم من كبائر الذنوب؛ لأنَّ فيها تعرُّضًا لحرب الله تعالى ومعاداته، ولا طاقة لمخلوق بذلك، وكل امرئٍ حسيبُ نفسِه، وقد قال الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ» رواه الإمام البخاري في "الصحيح" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

قال الإمام أبو القاسم البكري الصّقلي [ت: 380هـ] في كتابه "الدلالة على الله" (ص: 31، ط. دار الكتب العلمية): [وإن الله عز وجل لَيَنتَقمُ لأوليائِهِ ممَّن آذاهم، ويعاقب مَن لم ينصرهم، فإياي وإياهم إلا بخير؛ فإنهم حِمَى الله في أرضه، وخزيُ الله واقع بمَن آذاهم، وإن الله ليغضبُ لغضبهم ويرضى لرضاهم، وإن الله إذا أراد بقومٍ خيرًا وفقهم للسُّنّة وحبب إليهم أولياءه، وإذا أراد بقومٍ شرًّا أخذهم في طريق البدعة وحبب إليهم أعداءه] اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (10/ 470، ط. دار المعرفة): [فمَن اغتاب وليًّا لله أو عالمًا ليس كمن اغتاب مجهول الحالة مثلًا، وقد قالوا ضابطها: ذكر الشخص بما يكره، وهذا يختلف باختلاف ما يقال فيه، وقد يشتد تأذيه بذلك، وأذى المسلم مُحَرَّمٌ] اهـ.

بيان المقصود بالأولياء

الأولياء هم أهل القرب من الله تعالى؛ بأصل الوضع اللغوي لكلمة "ولي"؛ فالواو واللام والياء أصلٌ صحيحٌ يدل على القرب والدنو؛ كما قال العلامة ابن فارس في "مقاييس اللغة" (6/ 141، ط. دار الفكر)، ولذلك يُذكَرُ الله تعالى بذكرهم؛ كما جاء في الحديث القدسي: «إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْ عِبَادِي وَأَحِبَّائِي مِنْ خَلْقِي: الَّذِينَ يُذْكَرُونَ بِذِكْرِي، وَأُذْكَرُ بِذِكْرِهِمْ» أخرجه أحمد في "المسند"، وابن أبي الدنيا في "الأولياء"، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" من حديث عمرو بن الجَمُوح رضي الله عنه.

قال الإمام القُشَيْري [ت: 465هـ] في "الرسالة" (2/ 416، ط. دار المعارف): [الولي له معنيان: إحداهما: فعيل بمعنى مفعول، وهو من يتولى اللهُ سبحانه أمره؛ قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ [الأعراف: 196]؛ فلا يكله إلى نفسه لحظة، بل يتولى الحقُّ سبحانه رعايتَه. والثاني: فعيل مبالغة من الفاعل؛ وهو الذي يتولى عبادة الله تعالى وطاعته فعبادته تجرى على التوالي] اهـ.

نسب سيدي أحمد البدوي

سيدي أحمد البدوي: هو السيد الشريف الحسيبُ النسيب، فرع الشجرة النبوية، وسليلُ البَضعة المصطفوية، أبو العباس شهاب الدين أحمد البدوي الحُسيني رضي الله عنه وأرضاه، المولود في فاس بالمغرب عام [596هـ]، والمتوفى في طنطا بمصر عام [675هـ]، المتصف بالصفات القويمة، والملقب بالألقاب الكريمة؛ كشيخ العرب، وأبي الفتيان، والملثم، والسطوحي، والسيد، وهو اللقب الملازم لاسمه الشريف، والذي صار في عرف أهل مصر عَلمًا عليه؛ بحيث ينصرف عند الإطلاق إليه، وهو ممَّن تربَّع على عرش الولاية الربانية، والوراثة المحمدية، وشهرته تغني عن تعريفه، وبركة سيرته تكفي في توصيفه، فهو قطب أقطاب الأولياء، وسلطان العارفين الأصفياء، وركن أقطاب الولاية لدى السادة الصوفية، وإليه تنسب الطريقة الأحمدية البدوية.

فأما نسبُه الشريف إلى سيدنا الحسين سبط النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فهو ثابتٌ بلا شك ولا ارتياب، باتفاق المؤرخين وعلماء الأنساب؛ كالشيخ يونس أزبك الصوفي، والمؤرخ المقريزي، والحافظين السخاوي والسيوطي، والعارف الشعراني، والعلامة الزبيدي وغيرهم، بل على ذلك إجماع كل مَن ترجم له: إما أن يذكر نسبتَه أو يلقبه بالسيد أي أنه من السادة الأشراف بلا خلاف.

ونسبه هو: السيد أحمد بن علي بن إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن عمر بن علي بن عثمان بن حسين بن محمد بن موسى بن يحي بن عيسى بن علي بن محمد بن الحسن بن جعفر بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الُحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان عليهم السلام.

وقد تواتر نسبه الشريف، وأطبق على صحته عدول الأمة ومؤرخوها ونُسَّابها، وألف معاصرُه الشيخ يونس بن عبد الله أزبك الصوفي رسالة مفردة في إثبات نسبه الشريف، وأثبت فيها أنه شهد على صحتها أشرافُ أهل المدينة المنورة ونُقباؤُها في زمنه؛ قال: [وكلُّهم يشهدون بذلك شهادةً لا يشكُّون فيها ولا يرتابون منها، وكفى بالله شهيدًا] اهـ، وقد نقلها بكمالها العلامةُ عبد الصمد بن عبد الله الطندتائي [ت: بعد 1028هـ] في كتابه "الجواهر السنية في النسبة والكرامات الأحمدية" (ص: 32-40، ط. مكتبة الثقافة الدينية)، وقال: [وتداولها الناس من لدن عصره إلى وقتنا هذا، وكثرت واشتهرت] اهـ.

وكان رضي الله عنه يحمل وثيقة نسبه معه؛ تشرفًا بالانتساب لعظيم الجناب صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يطعن في نسبه الشريف أحد قط، فهو نسب مجمع على صحته، متفق على وثاقته.

وأمّا أمه: فهي حفيدة الإمام العارف أبي مدين الغوث رضي الله عنه؛ وهي: السيدة فاطمة بنت محمد بن أحمد بن عبد الله بن مدين بن شعيب الأنصاري رضي الله عنهم وأرضاهم.

نَسَبٌ كأنَّ عَلَيهِ مِن شَمسِ الضُّحَى  ***  نُورًا ومِنْ فَلَقِ الصباحِ عَمودا

مـــا فيهِ إِلَّا سَـــيدٌ مِن سَـــيِّدٍ  *** حـــازَ المكارم والتُّقى والجُودا

المذهب الفقهي لسيدي أحمد البدوي ومصنفاته

السيد أحمد البدوي رضي الله عنه عارفٌ إمامٌ مقرئٌ فقيهٌ من كبار علماء الأمة؛ فقد كان فقيهًا على مذهب الإمام الشافعي، وكان معتنيًا بكتاب "التنبيه" للشيخ أبي إسحاق الشيرازي [ت: 476هـ]؛ كما قاله العلامة الحلبي في "النصيحة العلوية" (ص: 95، ط. المكتبة الأزهرية للتراث)، وكان في العلم بحرًا لا يُدرَك له قرارٌ؛ كما قال معاصره الشيخ العارف عبد العزيز الديريني [ت: 694هـ]، وترجمه الأئمة في طبقات فقهاء الشافعية؛ كما صنع شيخ الإسلام عبد الله الشرقاوي [ت: 1227هـ] في كتابه "التحفة البهية في طبقات الشافعية" (ق: 187أ، خ. برلين)، وله مصنفات في الفقه بقيت منها "رسالة في الفرائض" محفوظة في "مخطوطات أوقاف المشهد الزينبي" و"المكتبة الأزهرية"، وكان يحفظ القرآن؛ كما ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في ترجمته، ويقرؤه بالقراءات السبع المتواترة -كما ذكر معاصرُه الإمامُ العارف أبو السعود بن أبي العشائر الواسطي [ت: 644هـ] فيما نقله عنه صاحب "الجواهر السنية" (ص: 24)-، وتسلَّك بالشيخ بري، عن الشيخ أبي نعيم، عن الإمام السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه [ت: 570هـ] -كما ذكر العلامة ابن الملقن في "طبقات الأولياء" (ص: 422، ط. مكتبة الخانجي)-، وأخذ الطريقَ عن العارف عبد الجليل بن عبد الرحمن النيسابوري -كما نقله العلامة الحلبي عن أخيه العارف السيد حسن في "النصيحة العلوية" (ص: 96)، وذكره الشيخ أزبك الصوفي؛ فيما نقله صاحب "الجواهر السنية" (ص: 42-43)-، وتلقَّنه عن الإمام القطب عبد السلام بن مشيش الحسني [ت: 626هـ] -كما أسنده المحدِّث ابنُ عَقِيلَةَ في "مسلسلاته" (ص: 86، ط. البشائر الإسلامية)-، وروى عنه الصلاةَ المشيشية -كما في إسناد العلامة التاودي ابن سودة [ت: 1209هـ] الذي أورده تلميذه الشيخ الحوّات في "الروضة المقصودة والحلل الممدودة في مآثر بني سودة" (ص: 332، ط. مكتبة ابن سودة)-، واجتمع بالإمام القطب أبي الحسن الشاذلي [ت: 656هـ] -كما حققه العلامة الحافظ محمد مرتضى الزبيدي في رسالته "رفع النقاب عن اتصال السيد البدوي بقطب الأقطاب أبي الحسن الشاذلي قدس الله سرهما" ونقله عنه الكمال الحلبي في "تبيان وسائل الحقائق" (1/ ق: 47أ-49أ مخطوط)-؛ فهو رضي الله عنه من صدور علماء الأمة العاملين، وكبار أوليائها الصالحين، وعارفيها المعتقَدِين، وأئمة آل البيت الطاهرين.

وهو من شيوخ التلقين بشهادة التوحيد؛ يتسلسل عنهم الإسناد بذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقَبِلَ السادةُ الصوفيةُ ذلك واعتمدوه؛ كما فعل مُسنِدُ أهل زمانه علامة الحجاز ومحدِّثُه الإمام ابن عَقِيلَةَ [ت: 1150هـ] في "مسلسلاته" (ص: 86)؛ فذكر أنَّ السيد البدوي رضي الله عنه يروي حديث التلقين بكلمة: "لا إله إلا الله" عن القطب عبد السلام بن مشيش، عن الشيخ أبي مدين، عن الإمام أبي يعزى. قال: [وقد نقل هذا الحديثَ الشيخ يوسفُ العجميُّ الكوراني في بعض رسائله، ولم تزل السادة الصوفية يتلقونه بالقبول في سائر الأعصار والدهور] اهـ.

مبادئ طريقة سيدي أحمد البدوي

قد أرسى السيد البدوي رضي الله عنه طريقته على الكتاب والسنة، والتزام الواجبات الشرعية؛ فكان من وصاياه -فيما نقله العلامة النور الحلبي في "النصيحة العلوية" (ص: 159)-:

[طريقتنا هذه مبنيةٌ على الكتاب والسنة، والصدق والصفا، وحسن الوفا، وحمل الأذى، وحفظ العهود.. وأن يحافظ الفقير على الصلوات الخمس مع الجماعة في أوقاتها، مع الإتيان بشروطها وواجباتها وآدابها، وقد قيل: الصلوات الخمس سلسلة تجذب النفوس إلى مواطن العبودية؛ لأداء حق الربوبية، وقد قيل في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾: إن الصلوات يذهبن الخطيئات. وأن يحافظ على نوافل العبادات، خصوصًا ما كان منها من المؤكَّدات..] اهـ.

وكان رضي الله عنه على الغاية العليا من الفتوة والشهامة والكرم، والرحمة وجبر الخواطر؛ يوصِي بإطعام الطعام في كل حين، والإحسان إلى الضعفاء والمساكين، ورعاية الأيتام والمحتاجين، وإكرام الغرباء والوافدين، وحسن الخُلُقِ مع الخَلْق أجمعين؛ ففي وصاياه لخليفته سيدي عبد العال -كما في "النصيحة العلوية" (ص: 151)-: [واعلم يا عبد العال أن الله تعالى قال في كتابه المكنون: ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128]، يا عبد العال! أشفق على اليتيم، واكس العريان، وأطعم الجائع، وأكرم الغريب والضيفان؛ عسى أن تكون عند الله تعالى من المقبولين؛ لأن ما عاملت به الخلقَ: يعاملك به الحق، وما عاملت به الحقَّ: يعاملك به الخلق؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ﴾ [الأنعام: 139]، وقد قيل: كن للنَّاس كما تحب أن يكونوا لك] اهـ.

مكانة سيدي أحمد البدوي وخلفاؤه عند العلماء والأمراء والحكام

السيد البدوي رضي الله عنه هو من الأولياء الذين كتب الله لهم القبول في الأرض عند العامة والخاصة؛ فقد كان معظَّمًا عند العلماء والأمراء، والأغنياء والفقراء، مُهابًا عند الحكام والمحكومين، مُعْتَقَدَ الولايةِ في الحياة وبعد الممات، ودخل مصر فحصل له القبول التام عند العلماء والحكام، والخواص والعوام.

فكان الملك الظاهر بيبرس البُندُقْدَاري [ت: 676هـ] يستقبله ويكرمه وينزله في دار الضيافة الملكية، وكان يسافر لزيارته في طنطا؛ قال الإمام الشعراني في "الطبقات الوسطى" (ق: 103أ، مخطوط راغب): [ولمّا دخل سيدي أحمد إلى مصر خرج الملك الظاهر بيبرس أبو الفتوحات هو وعسكرُه فتلقوا سيدي أحمد، وأكرموه غاية الإكرام، وأنزله في دار الضيافة، وكان ينزل لزيارته لما أقام بناحية طندَتا، وكان يعتقده اعتقادًا عظيمًا] اهـ.

ويقول العلامة المؤرخ علي باشا مبارك [ت: 1311هـ] في "الخطط التوفيقية" (13/ 49، ط. المطبعة الأميرية): [وكان في حياته معظَّمًا مُعتقَدًا عند الناس محبوبًا فيهم، مشهورًا في الآفاق، تعلوه هيبة ووقار، وكان الملك الظاهر أبو الفتوحات بيبرس البندقداري يعتقده ويبالغ في تعظيمه] اهـ.

وكان السلطان الأشرف أبو النصر سيف الدين قايتباي المحمودي [ت: 901هـ] يزور ضريح السيد أحمد البدوي رضي الله عنه؛ كما في "نيل الأمل في ذيل الدول" (7/ 336، ط. المكتبة العصرية).

وكان خلفاء السيد البدوي رحمهم الله معظَّمين عند الحكام؛ قال العلامة الغزي [ت: 1061هـ] في ترجمة شيخ الأحمدية بدر الدين الصعيدي [ت: 928هـ] من "الكواكب السائرة" (1/ 27-28، ط. دار الكتب العلمية): [وكان مقبول الشفاعة في الدولتين، مسموع الكلمة عند ملك الأمراء فمَن دونه، وكان إذا دخل على نائب مصر انتصب له قائمًا، وانفرد به وقضى حوائجه، وقبل شفاعته، واعتبر كلامه، وأظهر ذلك بين خواصه وجماعته، وجعله أبًا له، وكان يقطع خصومات، وينفذ أمورًا لا يقدر عليها غيره، وكان يستخلص من القتل، وكان عليه السكينة والمهابة] اهـ.

وكتب الله لطريقته الأحمدية القبول في الأمة المحمدية، وكان له بمكة المكرمة زاويتان؛ كما يقول محدِّث الحجاز العلامة أبو البقاء العجيمي المكّي [ت: 1113هـ] في كتابه "خبايا الزوايا لأهل الكرامات والمزايا" (ق: 5أ، مخطوطة دار الكتب المصرية)، واستمرت زاويته وزاوية والده قائمة إلى وقت قريب، ووُقفت عليها الأوقاف، وتولى نِظارَتَها أهلُ بيت الإفتاء في مكة؛ كما يذكر قاضي مكة ابن مرداد الحنفي [ت: 1343هـ] في "المختصر من نشر النور والزهر" (ص: 370، ط. عالم المعرفة).

وبلغ من عظيم منزلته ورفيع درجته واتفاق العامة والخاصة على محبته: أن صارت محبتُه أمارةً على الصلاح والخيرية في الدين عند العلماء والمؤرخين؛ فرأيناهم لا يختلفون إذا ترجموا للأعيان على مدح صحة الاعتقاد في السيد أحمد البدوي رضي الله عنه أو دوام حضور مولده أو الانتساب له.

فهذا علّامة عصره الإمام الحافظ المؤرخ الشمس السخاوي [ت: 902هـ] يَعُدُّ اعتقادَ الولاية في السيد البدوي، والمواظبةَ على حضور مولده الشريف كل عام: مِن علامات الخيرية والديانة ومحمودِ الصفات وجميلِ الأفعال؛ فيقول في ترجمة خوند شكرباي [ت: 870هـ] زوجة السلطان خشقدم من كتابه "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع" (12/ 68-69، ط. دار مكتبة الحياة): [(شكرباي) الجركسية الناصرية الأحمدية زَوْجَة الظَّاهِر خشقدم.. وكانت منطوية على خير وَدين، محمودة الأفعال والأقوال، معتقدة فِي سيدي أَحْمد البدوي، متوجهة لمولده في كل سنة، رحمها الله وإيانا] اهـ.

وصار من مناقب الأعيان المترجَمين عند العلماء والمؤرخين: السفر السنوي إلى المولد الأحمدي، وعدَّ العلماء ذلك ممَّا يُذكَرُ فيُشكَر؛ حتى إنهم وثَّقُوا سفر السيدة المذكورة إلى المولد الأحمدي على جهة المدح والإكبار، وعدوه من الحسنات الكبار؛ كما صنع الحافظ السخاوي في "وجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام" (2/ 746، ط. مؤسسة الرسالة)، ومثله الإمام زين الدين بن شاهين الظاهريّ الملطيّ الحنفيّ [ت: 920هـ] في كتابه "نيل الأمل في ذيل الدول" (6/ 143، ط. المكتبة العصرية).

بركات السيد البدوي على مدينة طنطا

السيد البدوي رضي الله عنه من الأولياء الذين عمّر الله بهم البلاد، وزكّى بهم العباد، فمنذ حلَّ في طنطا -عام 634 من الهجرة النبوية الشريفة- بدأت تعمر محلتها، وتزداد شهرتها، وتكثر أبنيتها، وتتسع عمارتها، وأصبح يقصدها القُصَّاد، ويرتادها الرواد، ويأتيها الزوار والعُبّاد؛ فازدهت عمرانًا بشريًّا، ومركزًا تجاريًّا، ومزارًا إسلاميًّا يُقصَدُ للاحتفال بالمولد النبوي فيه من جميع الأنحاء، وتُشَدُّ له الرحال من سائر الأرجاء؛ وصار ذلك -كما يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني فيما نقله عنه الإمام الشعراني في "الطبقات الوسطى" بخطه-: [يومًا مشهودًا؛ يقصده الناس من النواحي البعيدة، وشهرة هذا المولد في عصرنا تغني عن وصفه] اهـ.

قال العلامة على باشا مبارك في "الخطط" (13/ 50): [ويؤخذ من كلامه أنَّ أصلَ مولدِ السيدِ: مولدُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يُعمَل عنده، ويدل لذلك: أن وفاة السيد كانت في ثاني عشر ربيع الأول، وهو وقت عمل المولد النبوي] اهـ.

ومن بركات السيد البدوي على طنطا: أنها صارت بقدومه إليها بلدًا علميًّا سامقًا ومعهدًا قرآنيًّا باسقًا، وصار تدريس القرآن والعلم فيها عريقًا، وازدانت بالعلماء والقُرّاء بريقًا؛ فنشأت فيها حركة علمية، ومنظومة تعليمية، ومدرسة قرآنية، صار فيها الجامعُ الأحمديُّ شقيقَ الجامع الأزهر، وانتسب إليه فطاحل العلماء والأولياء، وتخرّج منه كبارُ الفقهاء وأعاظم القُرّاء الذين تربعوا على عرش القراءة القرآنية؛ بحيث اشتهر بين علماءِ مصرَ قولُهم: "العلم أزهريٌّ، والقرآنُ أحمديٌّ"، وهي مقولة يأثرها القراء وعلماء القراءات عن شيخ المقارئ المصرية وإمام أهل القراءة في عصره ومصره العلامة شمس الدين محمد المتولي الكبير [ت: 1313هـ].

تبرك العلماء بتسمية أولادهم باسم سيدي أحمد البدوي

وبلغ ممَّا وضعه الله لوليه السيد أحمد البدوي رضي الله عنه من القبول عند الخاصة والعامة: أن سمَّى العلماءُ أولادَهم العلماءَ باسمه ولقبه معًا "السيد البدوي" تيمنًا وتبركًا؛ حتى كثر ذلك في الناس: كالشيخ العلامة محمدَا بن أبي أحمد الأموي المجلسي الشنقيطي، وولده هو العلامة النسابة أحمد البدوي الشنقيطي المجلسي [ت: 1208هـ] صاحب نظم "عمود النسب"؛ حيث سمّاه ولقبه "بأحمد البدوي" تيمنًا باسم السيد البدوي ولقبه رضي الله عنه، كما ذكره صاحب "رياض السيرة والأدب، في إكمال شرح عمود النسب" (1/ 3، ط. دار الفتح).

وكالشيخ العلامة المحدِّث السيد محمد أبو النصر الخطيب الشافعي [ت: 1325هـ]؛ حيث سمى ولده "السيد أحمد البدوي شيخ العرب" وأصبح ولدُه قاضيَ معرة النعمان؛ كما ذكر العلامة عبد الستار الدهلوي الصديقي [ت: 1355هـ] في "فيض الملك الوهاب المتعالي بأنباء أوائل القرن الثالث عشر والتوالي" (3/ 1705).

وكإمام الجامع الأحمدي الشيخ إبراهيم بن إبراهيم الظواهريّ الشافعي [ت: 1325هـ]؛ فإنه سمى ولدَه "بمحمد الأحمدي" تيمنًا باسم السيد أحمد البدوي رضي الله عنه، وولدُه هو شيخ الإسلام الإمام الأكبر محمد الأحمدي الظواهري إمام الجامع الأزهر [ت: 1363هـ].

بل صار جامعه المبارك منتسبًا إليه؛ كما قال الشيخ الأكبر محمد الأحمدي الظواهري في "السياسة والأزهر" (ص: 162، ط. مطبعة الاعتماد): [وقد سمي الجامع "بالأحمدي" نسبة إليه، وأضيفت كلمة السيد قبل اسمه للتكريم؛ فأصبح مشهورًا بالسيد أحمد البدوي، وهو مشهور بين الناس في مصر، ويرد لزيارة قبره الألوف من الناس في كل عام، وخصوصًا أيام الاحتفال بموالده الثلاث] اهـ.

علامات القبول التي وعد الله تعالى بها أولياءه

هذا كله من علامات القبول التي وعد الله تعالى بها أولياءَه وأهلَ رضاه؛ كما قال الله جل في علاه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ [مريم: 96].

قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: "يُحبُّهم ويحببهم" أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وهناد في "الزهد"، وابن أبي الدنيا في "الأولياء"، وقال مجاهد: "يُحبُّهم ويُحبِّبُهم إلى المؤمنين" أخرجه ابن أبي حاتم والطبري في "التفسير"، وفي لفظ للطبري: "يُحبُّهم ويُحبِّبُهم إلى خلقه".

وقال الأعمش: "المحبة في الدنيا" أخرجه الحافظ يحيى بن معين في "الجزء الثاني من فوائده".

وقال العلامة الزمخشري في "الكشاف" (3/ 47، ط. دار الكتاب العربي): [والمعنى: سيُحْدِثُ لهم في القلوب مَوَدّة ويزرعها لهم فيها من غير تودّد منهم، ولا تعرّض للأسباب التي توجب الود، ويكتسب بها الناس مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع بمَبَرَّة أو غير ذلك، وإنما هو اختراع منه ابتداء؛ اختصاصًا منه لأوليائه بكرامة خاصة، كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة؛ إعظامًا لهم، وإجلالًا لمكانهم] اهـ، وبذلك فسر الإمام الفخر الرازي الآية في تفسيره "مفاتيح الغيب" (21/ 218، ط. دار الكتب العلمية).

وأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «إِذَا أحَبَّ اللهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ عليه السلام: إنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فأحِبَّهُ، فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فيُنَادِي جِبْرِيلُ في أهْلِ السَّمَاءِ: إنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فأحِبُّوهُ، فيُحِبُّهُ أهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ له القَبُولُ في الأرْضِ» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

زاد الترمذي في "السنن"، والبزار في "المسند"، وأبو عوانة في "المستخرج": «ثُمَّ تَنْزِلُ لَهُ الـمَحَبَّةُ فِي أَهْلِ الأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا».

قال الإمام ابن هُبَيْرة في "الإفصاح عن معاني الصِّحَاح" (7/ 261-262، ط. دار الوطن): [في هذا الحديث مِن الفقه: أن الله سبحانه وتعالى إذا أحب عبدًا أعلم كلَّ مَرْضِيٍّ عنه عنده سبحانه بحبه إياه؛ لئلا يتعرض واحدٌ منهم ببغض مَن يحبه الله، فيبدأ جل جلاله بإعلام جبريل ليكون جبريل موافقًا فيه محبةَ الله عز وجل، ولِيُعْلِمَ أهلَ السماء؛ ليكونوا عابدين لله بمحبة ذلك الإنسان متقربين إليه بحبه.

وقولُه: «ثُمَّ يُوضَعُ له القَبُولُ في الأرْضِ» يعني: أنه يقبله أهل الحق الذين يقبلون أمر الله سبحانه، وإنما يحب أولياءَ الله مَن يحبُّ اللهَ، فأما من يبغض الحق من أهل الأرض ويشنأ الإسلام والدين؛ فإنه يريد لكلِّ وليٍّ لله محبوبٍ عند الله مقتًا وبغضًا] اهـ.

وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الْمِقَةُ مِنَ اللهِ، وَالصِّيتُ فِي السَّمَاءِ، فَإِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا قَالَ: يَا جِبْرِيلُ، إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَوَاتِ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَتَنْزِلُ لَهُ الْمِقَةُ فِي الْأَرْضِ» أخرجه الإمام أحمد وأبو يعلى والروياني في "مسانيدهم"، والفسوي في "مشيخته"، والطبراني في معجمَيه: "الكبير" و"الأوسط".

والمِقَةُ: المحبة، ويَمِقُ: يحب.

وقال هَرِمُ بنُ حَيّان رضي الله عنه: "ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا أقبل الله بقلوب أهل الإيمان إليه؛ حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم"، قال قتادة: "أي والله؛ ودًّا في قلوب أهل الإيمان" أخرجهما الإمام البيهقي في "الزهد الكبير".

فقد اتفق على ولاية السيد البدوي علماء عصره وقادة مصره، وهؤلاء هم ولاة الأمر الذين جعلهم الله تعالى المرجع في إدراك حقائق الأمور؛ فقال سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]، وقال تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83]، وولاة الأمر: هم العلماء والحُكَّام.

فأما العلماء: فهم المرجع في إدراك الأحكام الشرعية وإنزالها على الأفعال والأقوال.

وأما الحُكَّام: فهم المنوطون بالإلزام في تطبيق الأحكام؛ تحقيقًا لمصالح الأنام، والمخولون بالسياسة الشرعية؛ لإصلاح الرعية.

وقال القاضي أبو بكر بن العربي في "أحكام القرآن" (1/ 472، ط. دار إحياء التراث العربي): [والصحيح عندي: أنهم الأمراء والعلماء جميعًا؛ أما الأمراء: فلأن أصل الأمر منهم، والحكم إليهم. وأما العلماء: فلأن سؤالهم واجب متعين على الخلق، وجوابهم لازم، وامتثال فتواهم واجب] اهـ.

وقال الإمام الفخر الرازي في "التفسير" (10/ 114، ط. دار إحياء التراث العربي): [أعمال الأمراء والسلاطين موقوفة على فتاوى العلماء، والعلماء في الحقيقة أمراء الأمراء] اهـ.

فالشهادة للسيد أحمد البدوي رضي الله عنه بعد ذلك كله بالولاية: شهادةٌ بالحق، وتصديقٌ لخبر أهل الصدق؛ فقد انعقدت على ولايتِه الربانيةِ الخناصر، واتصلت بوِرَاثَتِه المحمديةِ الأواصر، وأجمع على جلالتِه الأوائلُ والأواخر، واتفق على إمامتِه الأكابرُ والأصاغر، وترجمه بذلك المؤرخون، والعلماء والحفاظ والفقهاء في كل القرون، ولم يختلف أحدٌ في فضله، ولا نازع عالمٌ في شرفه ونُبْلِه؛ بحيث إن الناظر في سيرته عند أهل العلم لا يجد عالمًا ولا مؤرخًا إلّا ذكرَه بالسيادة، وكريم الإشادة، ولا يطالع إلّا مدْحَ شجاعتِه، ووصْفَ نجدته وفتوَّتِه، والثناءَ على كرمه وسماحتِه، والدعاءَ بنيل بركتِه والانتفاع بزيارته ومحبتِه.

ما ورد في السيد أحمد البدوي رضي الله عنه عبر القرون

والمتتبع لكتب التراجم والتواريخ منذ عصره إلى يوم الناس هذا قرنًا بعد قرنٍ، وجيلًا مِن وراء جيل، لا يرى في حقه إلّا التعظيم والتبجيل، والذكرَ الجميل، والتنويهَ بالخلق النبيل، والتنبيهَ على أنه فرعٌ أثيلٌ من أصلٍ أصيل، وهذا مِن أمارات القبول عند الملك الجليل، وإشارات البشارات التي وعد بها أولياءه على جهة التعجيل والتأجيل؛ كما قال سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ۝ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [يونس: 62-64].

والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ» متفق عليه؛ فالشهادة له بالولاية امتثالٌ للتوجيه النبوي، وعملٌ بالهدي المحمدي، وتصديقٌ لشهادة الأئمة، وتحقيقٌ لما اتفقت عليه الأمة.

وهذا تتبُّعٌ مختصَر لبعض ما ورد في السيد أحمد البدوي رضي الله عنه عبر القرون؛ ممَّا ترجمه وذكره به العلماء والمؤرخون، وأنه قد لبس خرقتَه وانتسب لطريقته الصالحون، وأنهم على إمامته وولايته متفقون، وعلى جليل قدره وسيادته مُجمِعون؛ نسوقه قرنًا فقرنًا، ونأثره عن عالِمٍ مِن بعد عالِم، ونوالي فيه إمامًا وراءَ إمام؛ بحيث لا يخلو جيل من ترجمته، وذكر جميل سيرته ورفيع مرتبته؛ فإنه "أحد أركان الولاية الذين اجتمعت الأمة على اعتقادهم ومحبتهم"؛ كما يقول العلامة القاضي الفقيه يوسف بن موسى النبهاني الأزهري [ت: 1350هـ] في "جامع كرامات الأولياء" (1/ 416، ط. دار الكتب العلمية)، من غير خلاف بينهم أو شك أو جدال، وهم المرجع في معرفة الرجال، وسِيَرِ العظماء والأبطال؛ حتى يتبين لكل أحد أنه رضي الله عنه كلمةُ إجماعٍ ومحلُّ وِفاق، وأن أحدًا لم يترجمه بغير الولاية على الإطلاق، وأنَّ عِظَمَ قدرِه في الأولياء قد أطبق عليه المؤرخون والعلماء، والمحدِّثون والفقهاء، والصالحون والأولياء، والحكام والأمراء، عبر الأعصار والأمصار.

ففي حياته في القرن السابع:

الإمامُ العارفُ أبو السعود بن أبي العشائر الواسطي [ت: 644هـ]، والعارف السيد أبو العباس صفي الدين أحمد بن عَلْوان اليمني الأحمدي الحسني [ت: 665هـ]، والإمام الزاهد العارف عز الدين عبد العزيز بن أحمد الديريني الشافعي [ت: 694هـ]، والعارف السيد سعد بن مسعود الشهير بالحضراوي، والإمام العارف يونس بن عبد الله المدعوّ بأزبك الصوفي.

وفي القرن الثامن:

شيخُ الإسلام قاضي القضاة أبو الفتح القُشَيري تقي الدين ابن دقيق العيد [ت: 702هـ]، والوليُّ العارف عبد العال الأحمدي [ت: 733هـ] أجلّ أصحابه، وكبيرُ الدولة الناصرية الأميرُ ناصر الدين ابن جنكلي بن البابا [ت: 741هـ]، وشيخ الإسلام سراج الدين ابن المُلقن الشافعي [ت: 804هـ]، والشيخ الصالح عبد القادر التنيسي الدمياطي، والعارف أحمد الأباريقي [ت: في حدود 800هـ].

وفي القرن التاسع:

شمس الدين بن الزيّات [ت: 814هـ]، وتقي الدين المقريزي [ت: 845هـ]، وشيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني [ت: 852هـ]، والإمام شرفُ الدين المناوي [ت: 871هـ]، وشمس الدين الغزي [ت: 873هـ]، وابن تغري بردي [ت: 874هـ]، والعارف إبراهيم المتبولي [ت: 877هـ]، وحافظ الحجاز نجم الدين بن فهد المكي [ت: 885هـ]، والسلطان الأشرف قايتباي [ت: 901هـ]، والعلامة نور الدين السخاوي [ت: 889هـ]، والحافظُ أبو المحاسن الكركي [ت: 899هـ] سبط الحافظ ابن حجر.

وفي القرن العاشر:

الإمام شمس الدين السخاوي [ت: 902هـ]، والإمامُ السيوطي [ت: 911هـ]، وجلال الدين الكركي [ت: 912هـ]، وشهاب الدين بن شعبان [ت: 916هـ]، وزين الدين المَلَطي [ت: 920هـ]، والحافظ القسطلاني [ت: 923هـ]، وبدر الدين الصعيدي [ت: 928هـ]، والمؤرخ ابن إياس الحنفي [ت: 930هـ]، والعارف محمد الشناوي [ت: 932هـ]، والعارف ابن عِرَاق الدمشقي [ت: 933هـ]، وشيخ المالكية شمس الدين الحطاب [ت: 954هـ]، وشيخُ الشافعية ابن حجر الهيتمي [ت: 973هـ]، والعارف نورُ الدين عليٌّ الشُّونيُّ [ت: 944هـ]، وسيدي عبد الوهاب الشعراني [ت: 973هـ]، وعبد القادر الفاكهي الشافعي [ت: 982هـ]، وشمس الدين ابن حامد الصفدي الشافعي [ت: 985هـ].

وفي القرن الحادي عشر:

الشمس محمد الرملي الشافعي [ت: 1004هـ]، والشيخُ عبد الباقي الحنبلي [ت: 1010هـ]، والقاضي عبد الحليم القسطنطيني المعروف بأخي زاده [ت: 1013هـ]، والعارف ريحان الحبشي [ت: 1015هـ]، وأبو المواهب الشناوي [ت: 1028هـ]، والشيخ عبد الصمد [ت: بعد1028هـ]، وزين الدين المناوي [ت: 1031هـ]، ومحمد الطيب بافقيه [ت: نحو1040هـ]، والعلامة نور الدين الحلبي [ت: 1044هـ]، ونجم الدين الغزي [ت: 1061هـ]، ونور الدين الأُجْهُوري [ت: 1066هـ]، وشمس الدين الشوبري [ت: 1069هـ]، والمؤرخ محمد كبريت المدني [ت: 1070هـ]، والعارف صفي الدين القُشَاشيُّ [ت: 1071هـ]، ومفتي الحنابلة عبد الباقي الحنبلي [ت: 1071هـ]، وعبد الباقي الخزرجي [ت: 1078هـ]، والعارف العجمي الوفائي [ت: 1086هـ]، ونور الدين الشَّبْرامَلِّسي [ت: 1087هـ]، وابن العماد الحنبلي [ت: 1089هـ]، وعبد الله العياشي [ت: 1090هـ]، والمؤرخ أوليا جلبي [ت: 1095هـ]، وشهاب الدين الحموي الحنفي [ت: 1098هـ]، والشيخ الجندي الحنفي [من علماء القرن الحادي عشر الهجري].

وفي القرن الثاني عشر:

العلامة البرماوي [ت: 1106هـ]، والعلامة العصامي [ت: 1111هـ]، والأمين المحبي [ت: 1111هـ]، ومحدِّث الحجاز العجيمي المكّي [ت: 1113هـ]، ومفتي الحنابلة أبو المواهب الحنبلي [ت: 1126هـ]، وشيخ الإسلام عبد الغني النابلسي [ت: 1143هـ]، وشمس الدين البصير [ت: 1149هـ]، والعارف مصطفى البكري الصديقي [ت: 1162هـ]، وشمس الدين الغزي الشافعي [ت: 1167هـ]، ومفتي المدينة المنورة السيد البرزنجي الحسيني [ت: 1177هـ]، والمحقق الخالدي الجوهري [ت: 1181هـ]، وغريق النور سيدي نور الدين علي البيومي [ت: 1182هـ]، والشيخ العدوي المالكي [ت: 1189هـ]، ووجيه الدين العيدروس [ت: 1192هـ]، والورثيلاني [ت: 1193هـ]، وعبد الرحمن المدني الأنصاري [ت: 1195هـ]، والعلامة السجاعي [ت: 1197هـ]، وسيدي محمد مجاهد أبو النجا الطنتدائي [عاش في النصف الثاني من القرن الثاني عشر]، وحفيده السيد محمد أبو النجا مجاهد الطنطاوي الشافعي.

وفي القرن الثالث عشر:

سيدي أبو البركات الدردير [ت: 1201هـ]، والشيخ سليمان الجمل [ت: 1204هـ]، والشيخ الميهي المقرئ [ت: 1204هـ]، ومحدث أهل زمانه السيد مرتضى الزبيدي [ت: 1205هـ]، والمؤرخ المرادي [ت: 1206هـ]، والعلامة الجمزوري [ت: 1208هـ]، والشيخ الداموني [ت: 1208هـ]، والعلامة السماليجي [ت: 1209هـ]، والشيخ محمد تقي الدين أمين الزرعة [ت: أول القرن الثالث عشر]، والشيخ العقباوي [ت: 1221هـ]، والشيخ البُجَيْرمِيّ [ت: 1221هـ]، والشيخ الشرقاوي [ت: 1227هـ]، والشيخ الطحطاوي [ت: 1231هـ]، والأمير الكبير [ت: 1232هـ]، وبرهان الدين الهلالي [ت: 1238هـ]، والشيخ الصاوي [ت: 1241هـ]، والمؤرخ الجبرتي [ت: 1240هـ]، والشيخ يوسف ابن الملا عبد الجليل الموصلي [ت: 1241هـ]، والمرعشي الحلبي [ت: 1251هـ]، والعلامة ابن عابدين الحنفي [ت: 1252هـ]، ومفتي الشافعية بمكة أحمد الشافعي [ت: نحو1260هـ]، والشيخُ علي عُكْشَة [ت: 1271هـ]، وشيخ الإسلام الباجوري [ت: 1276هـ]، والشيخ علي المداح البنهاوي [ت: 1277هـ]، والشيخ مصطفى المبلط [ت: 1284هـ]، والشيخ الطرابيشي الحلبي [ت: 1285هـ]، ومفتي حلب محمد بهاء الدين الرفاعي [ت: 1290هـ]، والسيد أمجد البوسعيدي [ت: 1298هـ]، والسيد محمد إمام القصبي [ت: 1299هـ]، وكمال الدين الحلبي الحريري [ت: 1299هـ].

وفي القرن الرابع عشر:

العارف عمر الشبراوي [ت: 1303هـ]، ومفتي الشافعية بمكة أحمد زيني دحلان [ت: 1304هـ]، ومفتي الحنفية بالمدينة محمد أمين البالي [ت: 1304هـ]، والعلامة أبو المحاسن القاوقجي الحسني [ت: 1305هـ]، والعلامة عبد الهادي نجا الأبياري [ت: 1305هـ]، والسيد محمد بيرم الخامس التونسي [ت: 1307هـ]، والشيخ عبد السلام الطبّاخ [ت: 1308هـ]، والإمام الشبلنجي [ت: بعد 1308هـ]، والعلامة علي باشا مبارك [ت: 1311هـ]، ومفتي حلب بكري البابلي [ت: 1312هـ]، واللبابيدي الحلبي [ت: 1314هـ]، وشيخ الإسلام الشمس الأنبابي [ت: 1313هـ]، وإمام أهل القراءة المتولي الكبير [ت: 1313هـ]، والسيد محمد بن محمد إمام القصبي [ت: 1316هـ]، والحبيب عيدروس الحبشي [ت: 1314هـ]، والعلامة محمد نووي الجاوي [ت: 1316هـ]، وأحمد البابي الحلبي [ت: 1316هـ]، والمؤرخ الصباغ [ت: 1321هـ]، والشيخ حسن راشد المشهدي الخفاجي [ت: بعد1321هـ]، والشيخ إبراهيم بن إبراهيم الظواهري [ت: 1325هـ]، ووالده إبراهيم الظواهري، والمؤرخ الحضراوي المكي [ت: 1327هـ]، والمؤرخ عبد الرزاق البيطار الدمشقي [ت: 1335هـ]، والمؤرخ الحسن الكوهن الفاسي [ت: 1347هـ]، والعلامة القاضي يوسف النبهاني [ت: 1350هـ]، والمحدث أبو الفيض الدهلوي البكري الصديقي [ت: 1355هـ]، وشيخ الإسلام الأحمدي الظواهري [ت: 1363هـ]، والعلامة مصطفى عبد الرازق [ت: 1366هـ]، ومحمد الطباخ [ت: 1370هـ]، وشيخ المقارئ المصرية علي بن محمد الضباع [ت: 1380هـ]، والعلَّامة الزركلي [ت: 1396هـ].

وفي القرن الخامس عشر:

شيخ الإسلام الدكتور عبد الحليم محمود [ت: 1398هـ]، والعارف أحمد حجاب [ت: 1398هـ].

فهؤلاء أكثر من مائة وأربعين ما بين إمام عارف أو عالم فقيه أو محدِّثٍ مُسنِدٍ أو مؤرخ عبر القرون، قد أجمعوا على إمامة السيد أحمد البدوي رضي الله عنه وولايته، وشرفه ووراثته على تباين أمصارهم وأعصارهم، واختلاف زمانهم ومكانهم، معبرين بذلك عن لسان الأمة: بأن السيد البدوي من كبار الأئمة، وهذه شهادتهم في كل عصر ومصر، سُقناها على سبيل المثال لا الحصر.

وبذلك يتضح لكل مُنصِف طالب للحق أنَّ السيد أحمد البدوي الحسيني رضي الله عنه إمامٌ قطبٌ عارفٌ وليّ، ووارثٌ نبويٌّ ربانيّ، ونسيبٌ علويٌّ هاشميّ، ومقرئ فقيه، كان له اختصاص بكتاب "التنبيه"، وأنه من كبار أولياء الأمة المحمدية، ووارث محمدي بلغ الغاية في الفتوة والأخلاق الندية، وأنه في الأمة كلمة إجماع، وبين الأئمة إمام بلا نزاع، قد جمع بين الحقيقة والشريعة، وضمَّ إلى العلم الكسبي العلمَ الوهبي، وكان في العلم بحرًا لا يُدرَك له قرار؛ كما شهد بذلك العلماء الأخيار، وتواترت عنه الكرامات والمواهب اللدنية، وأثرت عنه الأخلاق الكريمة والشمائل المرضية.

وقد لقي الأئمة العارفين، وأخذ عن كبار أولياء الله الصالحين، وأرسى طريقته على الكتاب والسنة النبوية، والتزام الواجبات الشرعية، والمداومة على النوافل المرعية، وبناها على الصدق والصفاء، وحسن الوفاء، وتحمّل الأذى، وحفظ العهود، وأقامها على الشهامة والكرم والأخلاق الندية؛ من إطعام الطعام في كل حين، والإحسان للمساكين، ورعاية الأيتام والمحتاجين، وإكرام الوافدين.

فأمَّا كونُه سليلَ آل البيت عليهم السلام: فهو ممَّا اتفقت عليه كلمة المؤرخين والعلماء الأعلام، وأطبق على صحته عدولُ الأمة، وأثباتُ المؤرخين والأئمة، وتواردت به شهادة الأشراف في مصره، وتواتر نسبه الشريف عند علماء النسب في عصره وبعد عصره، فالتشكيك في ذلك من الكبائر التي حرَّمَتْها الشريعَة، وذمَّت مِن مرتكبها صنيعَه.

وأما الشهادة بإمامته وولايته: فلِمَا أودَع الله له من علامات القبول وشواهده عند العامة والخاصة، والعلماء والأمراء، والأغنياء والفقراء، والهيبة عند الحكام والمحكومين؛ حتى أطبق على ولايته وإمامته وعلمه علماء الأمة ومؤرخوها منذ انتقاله رضي الله عنه إلى الآن، بل أصبحت محبتُه وزيارتُه عند العلماء أمارةً على الصلاح والخيرية، واستمرت شواهدُ محبتِه وبواعثُ زيارتِه وسلاسلُ طريقتِه ساريةً في الأمة منذ ظهوره إلى يوم الناس هذا من غير نكيرٍ ممَّن يُعْتَدُّ به من عارف أو عالم أو مؤرخ؛ حتى سمَّى الخاصة والعامة أولادهم باسمه ولقبه؛ تيمنًا وتبركًا، وبيمن دخوله إلى طنطا امتلأت بالعمران، وصارت بلدًا للعلم والقرآن، وأصبح الجامع الأحمدي شقيق الجامع الأزهر حسًّا ومعنًى، وروحًا ومبنى، وأجمع أئمة الأزهر الشريف وشيوخُه إمامًا إمامًا على ولايته ومودته ومحبته، واتفق أولياء الأمة وعارفوها على إمامته، ومن ورائهم علماء المسلمين وأئمتهم وفقهاؤهم ومفتوهم في الشام والعراق والحجاز وسائر أقطار الأرض، ولا يُعرَف في الأمة كلها عالم أو عارف أو ولي أو مؤرخ ذكَرَه إلا بصلاحه وشرفه وولايته، فهو: "أحد أركان الولاية الذين اجتمعت الأمة على اعتقادهم ومحبتهم"؛ كما يقول العلامة القاضي يوسف النبهاني، فالشهادة بولايته وإمامته شهادةٌ بالحق، وتصديقٌ لأهل الصدق؛ امتثالًا لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ».

التحذير من الطعن في ولايه السيد البدوي واتهامه بالجاسوسية

أما الطعنُ في ولايته رضي الله عنه أو اتهامُه بالجاسوسية أو التشكيكُ في كونه من الأشراف رغم معرفة ما ترجمه به العلماء والمؤرخون عبر القرون بالسيادة والولاية والعلم والإمامة من غير خلاف: فكلّها مسالك خاليةٌ عن الإنصاف، موغلة في الاعتساف، وخروجها عن المنهج العلمي غير خافٍ؛ لأنَّ ذلك يستلزم اتهامَ أولياء الأمة وعلمائها ومؤرخيها وحكامها قاطبةً بالجهل والغفلة أو التزوير والكذب أو التواطؤ والخيانة! مع ما في ذلك من إفقاد المسلمين الثقةَ في تاريخِهم، وتراثِ مؤرخيهم وعلمائهم؛ فإنَّ الأمَّة متفقة على ولايته وشرفه، ولم يطعن فيه رضي الله عنه إلّا نابتةٌ نبتت منذ عقود -والله أعلم بالقُصود- جامعةً بين المتناقضات فيما تحوكه مِن الاتهامات، مدَّعيةً تارةً أنه لم يكن يصلي، وتارةً أنه كان جاسوسًا شيعيًّا، وثالثةً أنه كان باطنيًّا إسماعيليًّا، ورابعةً أنه حديثُ خُرافة! متجاوزةً بطعنها هذا كل تراث الأمة وتاريخها لكل مؤرخيها وعلمائها، مناديةً لأهلها على جهلها، مِن غير وازعٍ ولا رادِعٍ مِن دينٍ أو أدبٍ أو إنصافٍ، ولا حلمَ ولا علمَ!

ولو خُيِّرَ العاقلُ وطالبُ الحقِّ بين السير خلف البصائر المنيرة لعلماء الأمة وأوليائها وقادتها في هذا الإمام الهمام والحسيب النسيب والوارث المحمدي -على اختلاف مشاربها وتنوع مذاهبها، مع تتابعها وتعاقبها، قرنًا فقرنًا وجيلًا فجيلًا-، وبين الانسياق خلف طعنٍ ظالمٍ ظهر في سنينَ متأخرة؛ يُقِرُّ مَن تولَّى كبرَه أنه يكشف عما خَفِيَ على المسلمين "لأول مرة في التاريخ" -مِن غير سلفٍ يسبقُه، ولا نقلٍ يحققُه، ولا عقلٍ يُصَدِّقه، وليس له فيما يدَّعيه كلمةٌ واحدةٌ يأثرها عن مؤرخ أو إمام، ولا خطام له فيما يقول ولا زمام، إلّا سوء الظن والأوهام-، لاختار ما استقر عليه العلماء، وارتضاه المؤرخون والفقهاء، وباركه الحكام والأمراء؛ إعذارًا إلى الله من الطعن في أوليائه، وإحسانًا للظن بحمَلَة الدين وعلمائه، وتصديقًا لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ اخْتِلَافًا فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» رواه ابن ماجه في "سننه"، وفي رواية: «لَا يَجْمَعُ اللهُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ أَبَدًا، وَيَدُ اللهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ هَكَذَا، فَاتَّبِعُوا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ، فَإِنَّهُ مَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ» "المستدرك" للحاكم، فلْيَحْذَر امرؤٌ لنفسه، وكلُّ امرئٍ حسيبُ نفسِه.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا