الحث على إحسان الظن بالناس في أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم وحملها على أحسن الوجوه

الحث على إحسان الظن بالناس في أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم وحملها على أحسن الوجوه

 اعتاد بعض الناس عند حصول بعض الحوادث لهم أن يخاطبوا غيرهم بقولهم مثلًا: أستغيث بك، أو أرجوك، أو غير ذلك؛ فاعترض بعض الشباب ومنعوهم من ذلك، وبل أفرطوا في الأمر فقاموا باتهامهم بالشرك لمجرد صدور أمثال هذه الكلمات؛ فنرجو منكم بيان حكم الشرع في هذا الأمر؟

المقرر شرعًا أنَّ الأصل في أفعال الناس وأقوالهم وأحوالهم أن تُحمَل على أحسن وجه ممكن؛ ما دام هناك وجه حسن يحتمله الكلام أو الفعل، فيجب الاحتراز عن صرف الكلام إلى كل وجه قبيح يخالف الشريعة؛ إذ الأصل في الإنسان أنه حسن النية والاعتقاد، فيلتزم بذلك؛ فإنه لا يحمل أفعال الناس وأقوالهم على أسوأ الوجوه إلا الجهال وأصحاب الهوى وأهل الضلال.

التفاصيل ....

الأصل في الأفعال أو الأقوال التي تصدر من المسلم أن تُحمَل على الأوجُه التي لا تتعارض مع أصل التوحيد، ولا يجوز أن نبادر برميه بالكفر أو الشرك؛ فإنَّ إسلامه قرينة قوية توجب علينا ألا نحمل أفعاله على ما يقتضي الكفر، وتلك قاعدة عامة ينبغي على المسلمين تطبيقها في كل الأفعال التي تصدر من إخوانهم المسلمين، وقد عبر الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى عن ذلك بقوله: "من صدر عنه ما يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهًا ويحتمل الإيمان من وجه حُمِل أمره على الإيمان"، ولنضرب لذلك مثالين قوليّيْن وثالثًا فعليًّا:

أما المثالان القوليان: فأحدهما يتعلق بأفعال الله تعالى، والآخر يتعلق بأفعال العباد:

- فأما ما يتعلق بأفعال الله تعالى: فالمسلم يعتقد أن الله تعالى هو القادر على إحياء الموتى بخلقه وإيجاده الذاتي سبحانه، ويعتقد أن المسيح عليه السلام يحيي الموتى بإذن الله، وهو غير قادر على ذلك بنفسه وإنما بقوة الله وحوله، والنصراني يعتقد أنه يحيي الموتى، ولكنه يعتقد أن ذلك بقوة ذاتية، وأنه هو الله، أو ابن الله، أو أحد أقانيم الإله كما يعتقدون. وعلى هذا فإذا سمعنا المسلم الموحد يقول: "أنا أعتقد أن المسيح يحيي الموتى"، وهي نفس المقولة التي يقولها المسيحي، فلا ينبغي أن نظن أن المسلم تنصر بهذه الكلمة، بل نحملها على المعنى اللائق بانتسابه للإسلام ولعقيدة التوحيد.

- وأما ما يتعلق بأفعال العباد: فالمسلم يعتقد أن الاستغاثة بمعنى العبادة لا تكون إلا لله، وأن الاستغاثة بالمخلوق فيما يمكنه الإغاثة فيه ليست عبادة بل هي طلب مشروع للأسباب، فإذا سمعنا مسلمًا يستغيث بغير الله تعالى فإننا نحمل ذلك على طلب السببية لا العبادة، ولا يجوز أن نظن به الشرك لأجل ذلك؛ استصحابًا لإسلامه الذي يستلزم كونه موحدًا لربه سبحانه.

قال الإمام الأصولي شمس الدين الجزري شارح "منهاج الإمام البيضاوي": [اعتقاد التوحيد من لوازم الإسلام؛ فإذا رأينا مسلمًا يستغيث بمخلوق علمنا قطعًا أنه غير مشرك لذلك المخلوق مع الله عز وجل، وإنما ذلك منه طلبُ مساعدةٍ أو تَوَجُّهٌ إلى الله ببركة ذلك المخلوق] اهـ نقلًا عن الإمام نجم الدين الطوفي الحنبلي في كتابه "الإشارات الإلهية في المباحث الأصولية" (3/ 90، ط. المكتبة المكية بمكة المكرمة).

وأما المثال الفعلي: فالمسلم يعتقد أيضًا أن العبادة لا يجوز صرفها إلا لله وحده، والمشرك يعتقد جواز صرفها لغير الله تعالى، فإذا رأينا مسلمًا صدر منه لغير الله ما يحتمل العبادة وغيرها وجب حمل فعله على ما يناسب اعتقاده كمسلم؛ لأن مَن ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يزل عنه بالشك والاحتمال؛ ولذلك لَمّا سجد معاذ بن جبل رضي الله عنه للنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم -فيما رواه ابن ماجه وصححه ابن حبان- نهاه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن ذلك، ولكنه لم يصف فعله هذا بالشرك أو الكفر، وبدهي أن معاذًا رضي الله عنه -وهو أعلم الأمة بالحلال والحرام- لم يكن يجهل أن السجود عبادة، وأن العبادة لا يجوز صرفها لغير الله، ولكن لما كان السجود يحتمل وجهًا آخر غير عبادة المسجود له، لم يجز حمله على العبادة إذا صدر من المسلم أو تكفيره بحال، وفي ذلك يقول الحافظ الذهبي: [ألا ترى الصحابةَ من فرط حبهم للنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قالوا: ألا نسجد لك؟ فقال: «لا». فلو أذن لهم لسجدوا سجود إجلال وتوقير لا سجود عبادة، كما قد سجد إخوة يوسف عليه السلام ليوسف، وكذلك القول في سجود المسلم لقبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على سبيل التعظيم والتبجيل لا يكفر به أصلًا، بل يكون عاصيًا، فلْيُعَرَّفْ أن هذا منهيٌّ عنه، وكذلك الصلاة إلى القبر] اهـ من "معجم الشيوخ" للإمام الذهبي (ص: 56).

ويقول الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "مجموع الفتاوى" (4/ 360-361، ط. مجمع الملك فهد): [وأما السجود فشريعة من الشرائع؛ إذ أمرنا الله تعالى أن نسجد له، ولو أمرنا أن نسجد لأحد من خلقهِ غيرِه لسجدنا لذلك الغير طاعةً لله عز وجل؛ إذ أحب أن نعظم من سجدنا له، ولو لم يفرض علينا السجود لم يجب البتة فعله، فسجود الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة له وقربة يتقربون بها إليه، وهو لآدم تشريف وتكريم وتعظيم. وسجود إخوة يوسف له تحية وسلام؛ ألا ترى أن يوسف لو سجد لأبويه تحية لم يُكره له. ولم يأت أن آدم سجد للملائكة بل لم يؤمر آدم وبنوه بالسجود إلا لله رب العالمين، ولعل ذلك -والله أعلم بحقائق الأمور- لأنهم أشرف الأنواع وهم صالحو بني آدم ليس فوقهم أحد يحسن السجود له إلا الله رب العالمين] اهـ.

والإخلال بهذا الأصل الأصيل هو مسلك الخوارج؛ حيث وضَّح ابن عمر رضي الله عنهما أن هذا هو مدخل ضلالتهم فقال: "إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ". علقه البخاري في "صحيحه"، ووصله ابن جرير الطبري في "تهذيب الآثار" بسند صحيح. وممَّا ذُكر يُعلَم الجواب عن السؤال.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا