حكم صيام مريض الزهايمر

حكم صيام مريض الزهايمر

هل يجب الصيام على مريض الزهايمر، أو يجوز له أن يُفطر؟ وهل يجب عليه القضاء إذا أفاق؟

مريض الزهايمر يمر بمراحل ثلاث؛ تظهر فيها الأعراض بشكل تدريجي، وهي وإن اشتركت في معنى النسيان والتِّيه ونقص الإدراك، إلَّا أنها تتفاوت في درجة المرض ومراتب الإدراك والقدرة على التحكم في الذات.
- المرحلة الأولى منها: يتعلق بها الحكم التكليفي في أداء الصيام، غير أن الحكم فيها منوطٌ بالقدرة والاستطاعة، لما تقرر أن "الميسور لا يسقط بالمعسور"، وقد يستخدم المصاب بجانب العلاج بعض الوسائل المُعينة له على التذكر وإتمام العبادات.
- أما الحالتان؛ الثانية والثالثة: فتدخلان تحت الأمراض العقلية المنصوص عليها، التي تغلب العقل فتُفسِد أثره وتُعطِّل فعله، والتي اتفق العلماء على أن المُصابَ بها لا يلزمه الصيام، ولكن لو برئ من مرضه أثناء شهر رمضان تعلق به التكليف حينئذٍ ولزمه الخطاب، فيجب عليه الصيام، وأمَّا ما فاته من صيامٍ أثناء المرض: فالجمهور على أنه لا يقضيه، سواء قلَّ أم كثر، والنص وإن ورد في المجنون والمعتوه، إلَّا أنه قيس عليهما مَن زال عقلُهُ بسببٍ يعذر فيه.

التفاصيل ....

المحتويات

 

المراد بمرض الزهايمر ومراحله

مرض الزهايمر (Alzhemier): عبارة عن ضمور في خلايا المخ يؤدي إلى انخفاضٍ في الذاكرة والقدرات العقلية، ينتج عنه انخفاضٌ مستمرٌّ في التفكير والمهارات السلوكية والاجتماعية، وهذا المرض هو أشْيَعُ أسباب الخَرَف؛ حيث يساهم في حدوث 60% إلى 70% من حالات الخَرف؛ إذ الخرفُ يحدث بسبب مجموعة مختلفة من الأمراض والإصابات التي تلحق بالدماغ؛ كالزهايمر، والسكتة الدماغية، والخَرَف الوعائي، والخَرَف الجبهي أو الصدغي، والخَرَف المصحوب بأجسام ليوي (Lewy). ويتم التمييز بينها عن طريقِ فحص وظائف الدماغ؛ كاختبارات الوظائف الإدراكية، والأشعة، ونحو ذلك، ومن الممكن أن يُصاب الإنسان بمزيج منها في آنٍ واحد؛ كما أفادته منظمة الصحة العالمية (WHO) على موقعها الرسمي، وأفادت أيضًا أن مرض الزهايمر يمر بثلاث مراحل؛ تظهر فيها الأعراض بشكل تدريجي:
المرحلة الأولى: تقل فيها حيوية المريض، وتضعف ذاكرته، فتظهر فيها بعض أعراض النسيان، ويقلُّ عنده إدراك الوقت، وتحدثُ له حالة من التوهان واللامُبالاة لما يحدث حوله.
والمرحلة الوسطى: يكثر فيها نسيان الأحداث والأسماء الحديثة، والتِّيه في الأماكن المألوفة حتى في البيت، وتغيّر السلوك، وتراجع القدرة على الفهم مما يؤدي إلى صعوبة التواصل مع الغير، وطرح الأسئلة المتكرّرة، والتوقف في أواسط الكلام، وعدم إتمام العبارات، وفي هذه المرحلة يحتاج المريض إلى درجة كبيرة من المساعدة والاعتناء به.
والمرحلة المتقدمة: ويتم فيها اعتماد المُصاب بشكل كلي على الغير، ويصاحبه انعدامٌ في النشاط، واضطرابٌ شديد في إدراك الزمان والمكان، وصعوبة بالغة في التعرّف على الأقرباء والأصدقاء، والحاجة المُلحَة إلى المساعدة في الاعتناء بالذات، مع صعوبة المشي، وتغيّر السلوك الذي قد يتفاقم ليصبح عدوانيًّا.
وأفادت الُمنَظَّمَة أيضًا أن هذا المرض وإن كان يُصيب المُسنِّينَ بالدرجة الأولى، ويُفقدهم استقلاليتهم، إلَّا أنه لا يُعَدُّ جزءًا طبَعيًّا من الشيخوخة وطول العمر.

التكليف بالعبادات البدنية لمريض الزهايمر

بالرغم من أنَّ المراحلَ الثلاث تشترك في معنى النسيان والتِّيه ونقص الإدراك، إلَّا أنَّ هذه المراحل تتفاوت فيما بينها من حيثُ درجة المرض ومراتب الإدراك والقدرة على التحكم في الذات.
فالمرحلةُ الأولى:
قد يستطيع معها المريض إنجاز كثير من مهامه وواجباته ومتطلباته، ومنها العبادات البدنية؛ كالصلاة والصيام ونحوهما، فإذا استطاع المريض القيام بأداء العبادة: وجب عليه أداؤها؛ بناءً على القاعدة الشرعية: "الميسور لا يسقط بالمعسور"، وهي من أشهر القواعد المستنبطة من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»؛ كما في "الأشباه والنظائر" للإمام السبكي (1/ 155، ط. دار الكتب العلمية)، وقد يستخدم مصاب الزهايمر بجانب العلاج والأدوية بعض الوسائل المُعينة له على التذكر وإتمام العبادات.
أما المرحلتان الثانية والثالثة: فيغلب فيها المرض على عقلِ المُصاب؛ فيضطرب إدراكُهُ ويختلُّ فِعْلَهُ، وهي بذلك تُعَدُّ درجة من درجات زوال العقل؛ فكما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه -فيما نقله عنه صاحب "البيان" (2/12، ط. دار المنهاج)-: [إنَّ أقل زوال العقل: أن يكون مختلطًا؛ فيعزب عنه الشيء وإن قلَّ، ثم يثوب إليه عقله] اهـ.
وقد تقرر أن العقل هو تمام أهلية الإنسان التي عليها مدار تكليفه وخِطابه من الأوامر والنواهي؛ وذلك لكونه آلة الفهم ووسيلة الإدراك:
قال العلامة زين الدين بن قُطْلُوْبُغا في "خلاصة الأفكار" (ص: 179، ط. دار ابن حزم): [وتمام الأهلية الذي جعل منه مناط التكليف المعتبر فيها: العقلُ] اهـ.
فإذا طرأ على العقل مرضٌ أو عرَضٌ أفسد أثره وعطَّل فعله؛ بحيثُ يسبب له خللًا في أداء وظائفه الأساسية؛ كان لذلك أشد الأثر في سلب الأهلية وتغير الأحكام:
قال العلامة شمس الدين الفناري في "فصول البدائع" (1/ 323، ط. دار الكتب العلمية): [كالصغر عارضٌ على أهلية وجوب الأداء؛ لأنها شأن العقل والبلوغ، بخلافهما، وكالجنون، والعَتَه، والنسيان، والإغماء؛ فإنها أمراض لخصوصياتها أثرٌ في سلب الأهلية أو تغيير كثير من الأحكام] اهـ.
وعوارض الأهلية: يدور معناها حول صلاحية الإنسان للوجوب والتكليف؛ فهي عبارة عن خصال أو آفات لها تأثير في الأحكام بالتغيير أو الإعدام، وهي تنقسم إلى: أهلية وجوب، وأهلية أداء.
أما أهلية الوجوب: فهي صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه معًا أو له فقط، ويعبَّر عنها "بأهلية الشخص للإلزام والالتزام".
وأما أهلية الأداء: فهي صلاحية الإنسان لكون ما يصدر عنه معتبرًا شرعًا، فهي صفة تجعل المرء أهلًا للإيجاب والقبول والإنشاء وغيرها من الأعمال التي اشترط الشرعُ العقلَ لاعتبارها، ويتوقف على تلك الأهلية اعتبار التصرفات سواء كانت قولية أو فعلية، وهذه الأهلية قد يطرأ عليها ما يؤثِّر بالنقص أو الزوال؛ كالجنون، والعته، والنسيان، والنوم، والإغماء، والجهل، والسكر، والخطأ، والإكراه، ونحو ذلك.
وسميت عوارض الأهلية بذلك: لمنعها الأحكام المتعلقة بأهلية الوجوب؛ كالموت، أو لأهلية الأداء؛ كالجنون والنوم والإغماء، أو مُغيرة لبعض الأحكام مع بقاء أصلها؛ كالسفر؛ كما قاله العلامة ابن أمير الحاج في "التقرير والتحبير" (2/ 172، ط. دار الكتب العلمية).
وهذه العوارض هي حالة من حالات ذهاب المحل، فإذا طرأ للعقل عارض أَثَّر على إدراكه بالنقصان أو الزوال: انعدم محل الحكم؛ لذلك رفع الشرع الشريف عن مريض العقل التكليفَ وأسقط عنه الخطاب؛ فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: "مُرَّ على علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمجنونةِ بني فلان؛ زَنَتْ، فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه برجمها، فردها علي بن أبي طالب، وقال لعمر: يا أمير المؤمنين أمرت برجم هذه؟ قال: نعم، قال: وما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ»؟ قال: صدقتَ"، فخلى عنها. رواه أبو داود والنسائي والدارقطني في "سننهم"، وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما"، والحاكم في "المستدرك"، وصححه. قال أبو داود: رواه ابنُ جُريجٍ عن القاسم بن يزيد، عن عليٍّ رضي الله عنه، زادَ فيه: «والخَرِفِ».
وفي روايةٍ: «وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَبْرَأَ» أخرجه أبو داود في "السنن"، والطيالسي وأحمد وأبو يعلى والشاشي في "مسانيدهم"، من حديث عليِّ بن أبي طالب وعائشة رضي الله عنهما.
وفي رواية: «وَعَنِ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَعْقِلَ» أخرجه أحمد في "مسنده" من طريق أبي ظبيان.
وفي رواية: «وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ، أَوْ يُفِيقَ» أخرجه ابن الجارود في "المنتقى"، وابن ماجه والبيهقي في "السنن"، والحاكم في "المستدرك"، من حديث عائشة رضي الله عنها.
وفي رواية: «وَعَنِ المُصَابِ حَتَّى يُكشَف عَنهُ» أخرجه أحمد في "مسنده" من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وصحح إسنادَه ابن الجزري في "مناقب الأسد الغالب".
والمعاني الواردة في الأحاديث كلها متقاربة أو متوافقة؛ كما قال الإمام السبكي في "إبراز الحكم" (ص: 98، ط. دار البشائر)، وهي تدل على عدم تعلق الخطاب التكليفي بهذه الخصال:
قال العلامة المغربي في "البدر التمام شرح بلوغ المرام" (8/ 79، ط. هجر): [والحديث فيه دلالة على أن الثلاثة لا يتعلق بهم الخطاب التكليفي، وهذا مجمعٌ عليه] اهـ.

القدر العقلي الذي يُحكَم على صاحبه بأنه عاقل مُكَلَّف

قد نص العلماء على أن القدر المقتضي من العقل للتكليف هو ما يستطيعُ معه صاحبه أن يُميِّز بين الحَسَنِ والقبيح، وبين المنافع والمضار، والكمال والنقصان، فمن كان هذا وصفه: حُكم عليه بأنه عاقل مُكَلَّف، أمَّا إن انتفى عنه هذا المقتضي انتفت الصفة فلا يُحكمُ على صاحبه بأنه عاقل؛ حتى قيل بأن العقل: هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين، والعاقلُ: من عقل عنِ الله أمره ونهيه:
قال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (2/ 422، ط. دار إحياء التراث العربي): [العقل: هو العلم بصفات الأشياء من حُسنها وقُبحها، وكمالها ونقصانها، فإنك متى علمت ما فيها من المضار والمنافع: صار علمك بما في الشيء من النفع داعيًا لك إلى الفعل، وعلمك بما فيه من الضرر داعيًا لك إلى الترك، فصار ذلك العلم مانعًا من الفعل مرة ومن الترك أخرى، فيجري ذلك العلم مجرى عقال الناقة؛ ولهذا لمَّا سُئِل بعض الصالحين عن العقل قال: هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين، ولما سُئِلَ عن العاقل قال: العاقل من عَقَلَ عَنِ الله أمْرَهُ ونهيه] اهـ.
وقال الإمام الزركشي في "البحر المحيط" (2/ 63، ط. دار الكتبي): [قال القاضي أبو يعلى: ومقدار العقل المقتضي للتكليف أن يكون مميزًا بين المضار والمنافع، ويصح منه أن يستدل ويستشهد على ما لم يعلم باضطرار، فمَن كان هذا وصفه كان عاقلًا، وإلا فلا] اهـ.
وكون مريض العقل مغلوبًا على عقله لا يستلزم زوال عقله بالكلية؛ بل إن عقله حاصلٌ، غير أنه عُرضَ له ما أفسده وعطَّل أثره؛ ولذلك كان من شروط التكليف بجانب العقل: فهم الخِطاب:
قال الإمام التقي السبكي في "إبراز الحكم من حديث رفع القلم" (ص: 97): [«الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ»، يظهر أنَّ المغلوب على عقله بيانٌ للمجنون أو تأكيد، وفيه إشارة إلى أن العقل حاصلٌ ولكن غلب عليه، وهو أولى من قول الفقهاء: إنه يزيل العقل، والعقل صفة غريزية في الإنسان، لكن يطرأ لها فساد، فسمَّى الفقهاء ذلك زوالًا، وما أشار إليه الحديث هو الصواب] اهـ.
وقال الإمام نجم الدين الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (1/ 180، ط. مؤسسة الرسالة): [من شروط المكلف: العقل، وفهم الخطاب أي: يكون عاقلًا يفهم الخطاب، ولا بد منهما جميعًا؛ إذ لا يلزم من العقل فهم الخطاب، لجواز أن يكون عاقلًا لا يفهم الخطاب؛ كالصبي، والناسي، والسكران، والمغمى عليه، فإنهم في حكم العقلاء مطلقًا أو من بعض الوجوه، وهما لا يفهمان] اهــ.
والخِصال الواردة في الأحاديث وإن تعددت صُوَرُها إلَّا أنها ترجع إلى ثلاثة معانٍ لا يتعلق بها الخطاب التكليفي؛ قال الإمام تقي الدين السبكي في "إبراز الحكم" (ص: 97-98): [والمعنى واحد، وهم ثلاثة في كل رواية.. ولا يفوت الحصر بذلك إذا نظرنا إلى المعنى؛ فهم في الصورة خمسة؛ الصبي، والنائم، والمغمى عليه، والمجنون، والخَرِف، وفي المعنى ثلاثة] اهـ.
غير أنه يمكن أن يُقاس على هذه الخصال غيرُها، فيدخل في معناها ويأخذ حكمها؛ كقياس حكم المُغمى عليه على حكم النائم، وقياس حكم الخرف والعته على حكم المجنون؛ بل قِيس على المجنون كلُّ من زال عقله بسبب يُعذَرُ فيه، سواء قل زمنه أو طال:
قال العلامة ابن الرفعة في "كفاية النبيه في شرح التنبيه" (2/ 299، ط. دار الكتب العلمية): [من زال عقله بجنونٍ أو مرضٍ لا تجب عليه (أي: الصلاة) أيضًا، أما الجنون: فللخبر، وأما من زال عقله بمرضٍ؛ كالمغمى عليه، والمبرسم، ونحوهما: فلأنه في معناه؛ فألحق به] اهـ.
وقال الإمام السبكي في "إبراز الحكم" (ص: 98): [وأما سقوط التكليف عن الخَرِف الذي زال عقله: فلا شك فيه، وإن كان الحديث الوارد فيه منقطعًا؛ لأنَّ القاسم لم يدرك عليًّا، لكنه في معنى المجنون؛ كما أن المغمى عليه في معنى النائم] اهـ.
وقال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (1/ 314، ط. دار الكتب العلمية): [فورد النص في المجنون، وقيس عليه كل من زال عقله بسبب يعذر فيه، وسواء قلَّ زمن ذلك أو طال] اهـ.
والمغلوب على عقله: عامٌّ بين السكران، والمجنون، والنائم، والمريض الذي زال عقلُهُ بالمرض، والمُغْمَى عليه، ونحو ذلك؛ قال الإمام المظهري في "مفاتيح المصابيح" (4/ 103، ط. النوادر): [(المغلوب على عقله): عامٌّ بين السَّكران، والمجنون، والنائم، والمريض الذي زال عقلُهُ بالمرض، والمُغْمَى عليه] اهـ.

حالات مرض الزهايمر التي يرفع فيها التكليف

الحالتان الثانية والثالثة هما نوعان من الأمراض التي تغلِبُ العقل –كما ذكرنا-؛ فتُفسد آثاره وتُعَطِّلُ أفعاله، وهو سببٌ يُعذر فيه صاحب هذا المرض، فيمكن قياسه على بعض الخِصال الواردة في الأحاديث، والمقتضية رفع التكليف عن صاحبها؛ كالجنون، والنسيان، والعَتَهِ، ونحو ذلك، بجامع فساد العقل وغياب المحل في كل هذه الآفات، وقد نص العلماء على أن كل حالة تنافي العلم بتوجيه الخِطاب تنافي تحقيق التكليف؛ لأن من شرط تعلق الخطاب إمكانَ فهمه، وفاقدُ العقلِ لا يفهم الخطاب:
قال العلامة علاء الدين البخاري الحنفي في "كشف الأسرار" (4/ 263، ط. دار الكتاب الإسلامي): [لا يتصور فهم الخطاب والعلم به بدون العقل، والقدرة على الأداء لا تتحقق بدون العلم؛ لأن العلم أخص أوصاف القدرة، فتفوت القدرة بفوته، وبفوت القدرة يفوت الأداء، وإذا فات الأداءُ عُدِمَ الوجوب؛ إذ لا فائدة في الوجوب بدون الأداء] اهـ.
وقال إمام الحرمين الجويني في "التلخيص في أصول الفقه" (1/ 135، ط. دار البشائر): [ما صار إليه المحققون: خروج النائم، والمجنون، والمغلوب على عقله، والسكران الخارج عن حد التمييز عن قضية التكليف، والجملة في ذلك: أن كل حالة تنافي العلم بتوجيه الأمر تنافي تحقيق التكليف] اهـ.
وقال حجة الإسلام الغزالي في "المستصفى" (ص: 67، ط. دار الكتب العلمية): [وشرطه –أي المكلف-: أن يكون عاقلًا يفهم الخطاب؛ فلا يصح خطاب الجماد والبهيمة، بل خطاب المجنون والصبي الذي لا يميز؛ لأن التكليف مقتضاه الطاعة والامتثال، ولا يمكن ذلك إلا بقصد الامتثال، وشرطُ القصدِ: العلمُ بالمقصودِ والفهمُ للتكليف، فكلُّ خطابٍ متضمِّنٍ للأمر بالفهم، فمن لا يفهم كيف يقال له: افهم! ومن لا يسمع الصوت؛ كالجماد كيف يُكَلَّم! وإن سمع الصوت؛ كالبهيمة ولكنه لا يفهم، فهو كمن لا يسمع، ومن يسمع وقد يفهم فهمًا ما لكنه لا يعقل ولا يثبت؛ كالمجنون وغير المميز: فمخاطبته ممكنة، لكن اقتضاء الامتثال منه -مع أنه لا يصح منه قصدٌ صحيحٌ- غيرُ ممكن] اهـ.
وقال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (1/ 442، ط. دار ابن عفان): [زوال العقل بنومٍ، أو جنونٍ، أو غيرهما، وهو مانع من أصل الطلب جملة؛ لأن مِن شرط تعلق الخطاب إمكانَ فهمه؛ لأنه إلزامٌ يقتضي التزامًا، وفاقد العقل لا يمكن إلزامه] اهـ.
والزهايمر في هاتين الحالتين مرضٌ من أمراض الَخرَفِ؛ بل هو أشيعها وأكثرها انتشارًا –كما سبق نقله عن المتخصصين-، غير أنه لا يمكن حصره في خرف الشيخوخة؛ لأن الزهايمر وإن كان يُصيب المُسنِّينَ بالدرجة الأولى، ويُفقدهم استقلاليتهم، إلَّا أنه لا يُعَدُّ جزءًا طبعيًّا من الشيخوخة؛ كما ذكرنا.
والعلماء إنما يطلقون الخرف على الشيخوخة من باب التغليب؛ لأنَّها مظنة الخَرَف، وإلَّا فهناك من كبرت سِنُّهُ وهو في جودة الذهن والإدراك والقوة والنشاط:
وقال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (20/ 242، ط. إحياء التراث العربي): [لو كان المراد من أرذل العمر هو زوال العقل: لصار الشيء عين الغاية المطلوبة منه، وإنه باطل] اهـ.
وقال العلامة الصنعاني في "التنوير شرح الجامع الصغير" (8/12، ط. دار السلام): [(وإذا بلغَ ثمانين سنةً) قال الشارح: وهو الخَرَف؛ كأنه يريد مظنة الخرف وهو فساد العقل، وإلا فلا يقال: للثمانين خَرَفًا] اهـ.

الفرق بين النسيان ومرض الزهايمر في رفع التكليف

مرض الزهايمر وإن كان من أوّل أعراضه النسيان إلَّا أنه لا يمكن تسميته نسيانًا بما يعرض للإنسان الطبيعي، فيشتركان في أنَّ الناسي غير مكلف حال النسيان، لكن عدم تكليفه للإنسان الطبيعي فبسبب نسيانه، أمَّا لمريض الزهايمر فبسبب عجزه؛ لأنه يصبح كالطفل الصغير؛ قال الإمام ابن عبد البر في "التمهيد" (16/ 139، ط. أوقاف المغرب): [قال الطبري: والمغلوب على عقله في حكم الطفل] اهـ.

الصلاة لمريض الزهايمر في الحالتين الثانية والثالثة

يدخل ضمن رفع التكليف على مريض الزهايمر في الحالتين؛ الثانية والثالثة: الصلاة؛ فقد اتفق العلماء على أن مريض العقل لا يلزمه العبادة في الحال؛ بل نقل بعضهم اتفاق العلماء على ذلك:
قال العلامة ابن أمير حاج الحنفي في "التقرير والتحبير" (2/ 172): [(ولا تجب العبادات عليه) –أي المعتوه- كما لا يجب على الصبي العاقل أيضًا؛ كما هو اختيار عامة المتأخرين] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين الحنفي في حاشيته "رد المحتار" (3/ 243، ط. دار الفكر): [وصرح الأصوليون بأن حكمه -أي المعتوه-؛ كالصبي، إلا أن الدَّبوسي قال تجب عليه العبادات احتياطًا. وردَّهُ صدرُ الإسلام بأن العته نوعُ جنونٍ فيمنع وجوب أداء الحقوق] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "مجموع الفتاوى" (11/ 191، ط. مجمع الملك فهد): [وأما المجنون الذي رفع عنه القلم فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء] اهـ.
وقال أيضًا في "منهاج السنة النبوية" (6/ 49، ط. جامعة محمد بن سعود): [اتفق العلماء على أن المجنون والصغير الذي ليس بمميز ليس عليه عبادة بدنية؛ كالصلاة والصيام والحج] اهـ.

قضاء الصيام لمريض الزهايمر

أما قضاء الصوم: فجمهور الفقهاء على أن المغلوب على عقله بجنونٍ أو عته أو سكر أو نحوهما، لا يلزمه قضاء الصيام إذا أفاق:
قال العلامة علاء الدين البخاري الحنفي في "كشف الأسرار" (4/ 263): [ثم القياس في الجنون أن يكون مسقطًا للعبادات كلها أي مانعًا لوجوبها أصليًّا كان أو عارضًا قليلًا كان أو كثيرًا، وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله حتى قالا: لو أفاق المجنون في بعض شهر رمضان لم يجب عليه قضاء ما مضى كالصبي إذا بلغ أو الكافر إذا أسلم في خلال الشهر، وكذا إذا أفاق قبل تمام يوم وليلة لم يجب عليه قضاء ما فاته من الصلاة عندهما؛ وذلك لأن الجنون ينافي القدرة، لأنها تحصل بقوة البدن والعقل، والجنون يزيل العقل.. وحاصله: أن أهلية الأداء تفوت بزوال العقل وبدون الأهلية لا يثبت الوجوب فلا يجب القضاء، والدليل عليه أن الصبي أحسن حالًا من المجنون فإنه ناقص العقل في بعض أحواله عديم العقل في بعض أحواله.. وإذا كان الصغر يمنع الوجوب حتى لم يلزم الصبي قضاء ما مضى من الشهر إذا بلغ في خلال الشهر فالجنون أولى] اهـ.
وقال الإمام النووي في "المجموع" (6/ 254): [وإذا أفاق لا يلزمه قضاء ما فاته في الجنون، سواء قل أو كثر، وسواء أفاق بعد رمضان أو في أثنائه، هذا هو المذهب والمنصوص، وبه قطع المصنف والجمهور] اهـ.
وقال العلامة محمد الهاشِمي الحنبلي في "الإرشاد إلى سبيل الرشاد" (ص: 151، ط. مؤسسة الرسالة): [فأما المجنون فلا يقضي ما فاته من الصيام في حال زوال عقله في الصحيح من المذهب] اهـ.
ويقاس على المجنون كل مَن زال عقله بسبب يعذر فيه؛ كالمعتوه والسكران، ونحوهما، سواء قل زمن ذلك أو طال؛ قال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (1/ 314، ط. دار الكتب العلمية): [(ولا) قضاء على شخص ذي (جنونٍ أو إغماء) إذا أفاق، ومثلهما المبرسم، والمعتوه، والسكران، بلا تَعَدٍّ في الجميع؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه الحاكم: «رُفعَ القلمُ عن ثلاث: عَن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يَبْرأ»، فورد النص في المجنون، وقيس عليه كل من زال عقله بسبب يعذر فيه، وسواء قل زمن ذلك أو طال] اهـ.

الخلاصة

بناء على ذلك: فإنَّ مريض الزهايمر يمر بمراحل ثلاث؛ تظهر فيها الأعراض بشكل تدريجي، وهي وإن اشتركت في معنى النسيان والتِّيه ونقص الإدراك، إلَّا أنها تتفاوت في درجة المرض ومراتب الإدراك والقدرة على التحكم في الذات.
والمرحلة الأولى منها: يتعلق بها الحكم التكليفي في أداء الصيام، غير أن الحكم فيها منوطٌ بالقدرة والاستطاعة، لما تقرر أن "الميسور لا يسقط بالمعسور"، وقد يستخدم المصاب بجانب العلاج بعض الوسائل المُعينة له على التذكر وإتمام العبادات.
أما الحالتان؛ الثانية والثالثة: فتدخلان تحت الأمراض العقلية المنصوص عليها، التي تغلب العقل فتفسد أثره وتُعطّل فعله، والتي اتفق العلماء على أن المُصابَ بها لا يلزمه الصيام، ولكن لو برئ من مرضه أثناء شهر رمضان تعلق به التكليف حينئذٍ ولزمه الخطاب، فيجب عليه الصيام، وأمَّا ما فاته من صيامٍ أثناء المرض: فالجمهور على أنه لا يقضيه، سواء قلَّ أم كثر، والنص وإن ورد في المجنون والمعتوه، إلَّا أنه قيس عليهما مَن زال عقلُهُ بسببٍ يعذر فيه.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا