حكم التبرك بذكر أسماء أهل بدر

حكم التبرك بذكر أسماء أهل بدر

سائل يقول: نعتاد على قراءة المنظومة البدرية "جالية الكدر" كلَّ عامٍ في مجالس الاحتفال بغزوة بدر الكبرى التي تعقد في ليلة السابع عشر من شهر رمضان، ويقال إنها من المجربات لقضاء الحاجة، لكونها تدور حول التبرك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالصحابة الكرام الذين شاركوا في غزوة بدر، فما حكم ذلك شرعًا؟

قراءة المنظومة البدرية المعروفة بـ "جالية الكَدَر" في ذكرى انتصار غزوة بدر، الموافقة ليلة السابع عشر من شهر رمضان في كلِّ عامٍ هجري من الأمور الجائزة، بل والمستحبة شرعًا؛ لما فيها من شكر نعمة الله تعالى بتذكر أيام الفضل والإنعام، مع ما فيها من زيادة التعلق بالجناب النبوي الشريف بمطالعة سيرته ومآثره صلى الله عليه وآله وسلم، مع ما في ذلك من الدعاء والتوسل به عليه الصلاة والسلام وبصحابته الكرام، وأهل بدر على الخصوص منهم، وهو من الأمور الحسنة التي ثبت نفعها بالتجربة وأقرها جمهور العلماء المعتبرين من السلف والخلف، وقد نصَّ العلماء في خصوص أهل بدر أن الدعاء بعد ذكرهم مستجاب.

التفاصيل ....

المحتويات

غزوة بدر الكبرى

من العلامات الفارقة في تاريخ الأمة الإسلامية غزوة بدر الكبرى، التي وقعت بين المسلمين والمشركين لـسبع عشرة ليلة خلتْ من شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وقد سمَّاها القرآن الكريم "يوم الفرقان"، ولذا أطلق عليها أصحابُ السِّيَر والمَغازي "غزوة الفرقان"؛ ذلك أن المتأمل لأحداثها يدرك ما فيها من تجليات قدسية، وفيوضات إلهية، وهَيْبَةٍ حقيقية، يمتلئ بها العاقل عبرة وعظة، يجعلانه يتذكرها ويتأسى بها مهما مرت به السنون والأحداث، فينغرس بداخله من معاني الثقة بالله تعالى أنه مهما اشتدَّ الباطلُ وقوِيتْ شوكتُه وعلا صوتُه، فسوف ينصر الله تعالى الحقَّ لا محالة، إذا ما صاحَبَه صدقٌ في العزم، وخلوصٌ في القصد، وإحسانٌ في التوجه إلى الله تعالى.

قال الإمام محب الدين الطبري في "خلاصة سير سيد البشر" (ص: 52، ط. مكتبة نزار مصطفى الباز): [غَزْوَة بدر لسنة خلت من الْهِجْرَة، وَثَمَانِية أشهر وَسبع عشرَة لَيْلَة خلتْ من رَمَضَان، وَأَصْحَابه يَوْمئِذٍ ثَلَاثمائَة وَبضْعَة عشر رجلًا، وَالْمُشْرِكُونَ بَين التسعمائة وَالْألف، وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْفرْقَان فرق الله فِيهِ بَين الْحق وَالْبَاطِل، وَفِيه أمده الله تَعَالَى بِخَمْسَة آلَاف من الْمَلَائِكَة مسومين] اهـ.

المصنفات والمؤلفات التي تناولت أحداث غزوة بدر الكبرى

ولمكانة غزوة بدر وأهميتها؛ كثُرت المصنفات والمؤلفات التي تناولتها وسردت أحداثها ومآثرها نظمًا ونثرًا، وعنيت جميعها بذِكر أسماء من شهدها من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين؛ للوقوف على فضلهم والتوسل بهم في أوقات الشدة والضيق، ومن ذلك:

- "أسماء من شهد غزوة بدر" للعلامة ابن سيد الناس [ت: 734هـ]، وهو منقول من "عيون الأثر" للمؤلف نفسه.

- "هالة البدر في عدد أهل بدر" للحافظ شمس الدين الذهبي [ت: 748هـ].

- "إشراق البدر في عدد أهل بدر" للعلامة أحمد بن علي البوسعيدي السوسي [ت: 1046هـ].

- "هالة البدر في نظم أسماء أهل بدر" للعلامة أبي سالم بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر العياشي [ت: 1090هـ].

- "أرجوزة في التوسل بأهل بدر" للعلامة عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي [ت: 1096هـ].

- "إسفار البدر عن رجال أهل بدر" للعلامة محمد المهدي الفاسي [ت: 1109هـ].

- "رجاء الإجابة بالبدريين من الصحابة" للعلامة عبد السلام بن الطيب القادري [ت: 1110هـ].

- "شرح الصدر في التوسل بأهل بدر" للعلامة أحمد بن عبد العزيز السجلماسي [ت: 1175هـ].

- "التوسل بأهل بدر" للعلامة محمد بن أبي القاسم السجلماسي [ت: 1214هـ].

-"الشافية من الأسقام في أسماء أهل بدر الكرام" للعلامة حسين بن سليم الحسيني الدجاني [ت: 1274هـ].

- "سيف النصر بالسادة الكرام أهل بدر" للعلامة إبراهيم بن إدريس السنوسي [ت: 1304هـ].

- "بهجة الجنان وتنوير الصدر بقصة يوم الفرقان وشرح أهل بدر" للعلامة محمد بن عبد المجيد بن عبد الرحمن أقصبي [ت: 1364هـ].

التعريف بالمنظومة البدرية "جالية الكدر"

ومن هذه المؤلفات أيضًا "جالية الكدر" أو "البدرية" للعلامة زين العابدين جعفر بن حسن بن عبد الكريم الشهرزوري الشهير بالبرزنجي مفتي الشافعية بالمدينة المنورة [ت: 1177هـ]، وهي منظومة رائية اشتملت على أسماء أصحاب سيد المرسلين والبشر من أهل بدر وشهداء أحد، وقد لاقت قبولًا واسعًا وانتشارًا كبيرًا لدى المسلمين فحرصوا على قراءتها في ذكرى يوم وقوع غزوة بدر مِن كلِّ عام؛ وذلك بقصد إحياء ذكراها، والاتعاظ بأحداثها، وشكرِ اللهِ تعالى على ما أنعم به على المسلمين من النصر فيها، إذ هي يوم من أيام الله تعالى أعزَّ فيه الإسلامَ ونصر المسلمين، وقد قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ[إبراهيم: 5].

فعن مجاهد: قوله تعالى: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ، قال: "بالنعم التي أنعم بها عليهم" ذكره الطبري في "جامع البيان" (16/ 521، ط. مؤسسة الرسالة).

وقال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس: 58]، ولا شك أن نصر الله لعباده المؤمنين من أعظم مظاهر فضله وآثارِ رحمتِه.

وقد عَدَّدت هذه المنظومة أسماء الصحابة الذين شهدوا غزوة بدر جميعًا، والذين استُشهِدوا فقط في غزوة أحد؛ حرصًا على ذكر فضلهم، وتوسلًا إلى الله تعالى بجميل صنعهم في خصوص هذين الغزوتين، إضافة إلى عموم فضل صحبتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك أنَّ من مآثرهم ما أثبته الله تعالى لهم من الحياة المحققة المنعمة في الجنة؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[آل عمران: 169].

قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (4/ 269، ط. دار الكتب المصرية): [قال أبو الضحى: نزلت هذه الآية في أهل أُحُدٍ خاصة.. وقال بعضهم: نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلا، ثمانية من الأنصار، وستة من المهاجرين.. وبالجملة وإن كان يحتمل أن يكون النزول بسبب المجموع فقد أخبر الله تعالى فيها عن الشهداء أنهم أحياء في الجنة يرزقون، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب، وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين، وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم. وقد اختلف العلماء في هذا المعنى. فالذي عليه المعظم هو ما ذكرناه، وأن حياة الشهداء محققة] اهـ.

إضافة إلى أنَّ الله تعالى قد نظر لأهل بدر نظرة محبة وكرم فغفر بها لهم جميعًا ما قدموا وما أخروا، وثبت لهم بها الأفضلية والخيرية على مَنْ لم يشهدها من الصحابة؛ فعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَعَلَّ الله أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» أخرجه الشيخان.

وعن رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ، أَوْ مَلَكٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَليْهِ وآله وسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا تَعُدُّونَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا فِيكُمْ؟ قَالُوا: خِيَارَنَا، قَالَ: كَذَلِكَ هُمْ عِنْدَنَا خِيَارُ الْمَلاَئِكَةِ" أخرجه ابن ماجه في "السنن".

قال الإمام ابن رشد الجد في "البيان والتحصيل" (17/ 507، ط. دار الغرب الإسلامي): [وهذا نهاية في الفضل لأهل بدر] اهـ.

إحياء ذكرى غزوة بدر بقراءة منظومة "جالية الكدر"

هذا، وما قد نالته هذه المنظومة -جالية الكدر- من قبول لدى عامة المسلمين ومداومة على قراءتِها وإحياء ليلة ذكرى موقعة بدر بها، من الأفعال الجائزة المستحسنة شرعًا لعدة أمور:

أولًا: أن في ذلك حرصًا وإقبالًا على قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتذكر أخباره الشريفة ومآثره المنيفة، وهو ممَّا يزيد قلوبَ المؤمنين تعلقًا بالجناب النبوي العظيم وشوقًا إليه وإلى صحبه الكرام رضي الله عنهم أجمعين، فيزداد المؤمن بذلك إيمانًا، ويزداد فؤاده ثباتًا على محبته صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد تواردت النصوص على أنَّ تذكّر أحوال السابقين ومآثرهم ممَّا ينتفع به الإنسان بلا شك في عاجل أمره، فكيف إذا كانت أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم؛ قال تعالى: ﴿وكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ[هود: 120].

قال الإمام الماتريدي في "تأويلات أهل السنة" (6/ 201، ط. دار الكتب العلمية): [قص عليه أنباء الرسل واحدًا بعد واحد؛ ليثبت به فؤاده ليعلم كيفية معاملتهم قومهم، وماذا لقوا من قومهم، وكيف صبروا على أذاهم ليصبر هو على ما صبر أُولَئِكَ، وليعامل هو قومه بمثل معاملتهم، ويشبه أن يكون قوله: ﴿مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ بنبإ بعد نبإ؛ لتنظر وتتفكر في كل نبأ وخبر، وتعرف ما فيه، فيكون ذلك أثبت في قلبه] اهـ.

وقال العلامة الواحدي في "التفسير الوسيط" (2/ 598، ط. دار الكتب العلمية): [﴿وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ يريد: أنهم يتعظون إذا سمعوا هذه السورة وما نزل بالأمم فتلين قلوبهم، ويتذكرون الخير والشر] اهـ.

ثانيًا: أن الحرص على إحياء ليلة بدر بتذكر أحداثها ورجالها، امتثالٌ لما حث عليه القرآن الكريم في غير موضع بتذكر أحداثها وشكر الله تعالى على نعمته بالنصر فيها، وما يلزم عن ذلك من التأسي والاتعاظ بها مهما مرت الأيام والسنون؛ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران: 123].

قال العلامة مكي بن أبي طالب في "الهداية إلى بلوغ النهاية" (2/ 1112، ط. جامعة الشارقة): [قوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ هذا تذكير من الله لنبيه عليه السلام وللمؤمنين بنصره لهم في بدر، فالمعنى: فكذلك ينصركم فيما بقي] اهـ.

ثالثًا: أن أهل بدر قد فضلهم الله تعالى بها، وخصهم بأن غفر لهم ما قدموا وما أخروا، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب السابق ذكره، فامتازوا بها بخصيصة جعلتهم ممَّن يحبهم الله تعالى ويقربهم، إضافة إلى ثبوت الحياة الحقيقية لمَن استشهد منهم؛ كما في قوله: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، حتى يتحتَّم الاعتقاد بأنهم من أفضل الناس الذين خلقهم الله تعالى بعد الخلفاء الأربعة والمهاجرين والعشرة المبشرين بالجنة.

قال العلامة القرافي في "الذخيرة" (13/ 233، ط. دار الغرب الإسلامي): [قال ابن يونس: وأن يعتقد أن خير القرون الصحابة رضي الله عنهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما أخبر عليه السلام وأن أفضلهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليٌّ، وقيل ثم عثمان وعلي ولا يفضل بينهما، وروي عن مالك القولان وأن المهاجرين أفضل عصره عليه السلام وأن أفضلهم العشرة وأفضل العشرة الأئمة الأربعة ثم أهل بدر] اهـ.

وقال العلامة الخادمي في "بريقة محمودية" (1/ 215، ط. مطبعة الحلبي): [صريح كلام بعض المشايخ في ترتيب تفضيل الخلفاء الأربعة على ترتيبهم ثم باقي العشرة المبشرة ثم أهل بدر ثم أهل أحد ثم أهل بيعة الرضوان] اهـ.

رابعًا: أن العلماء قد نصُّوا في خصوص أهل بدر أن الدعاء بعد ذكرهم مستجاب.

قال العلامة جلال الدين الدواني في "حاشيته على العقائد العضدية" (1/ 447، ط. دار الكتب العلمية، مع "حاشية الكلنبوي"): [وأهل بدر وهم الذين حاربوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقريب قليب بدر، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر شخصًا، والكفار تسعمائة وخمسين، وقد تعاضدت الأحاديث الصحيحة في شأنهم أنهم من أهل الجنة، وقد عدَّهم الإمام البخاري رحمه الله تعالى في "جامع الصحيح"، وقد سمعنا من مشايخ الحديث أن الدعاء عند ذكرهم على ما في "البخاري" مستجاب. وقد جُرب ذلك، وكذا فاطمة وخديجة والحسن والحسين وعائشة رضي الله عنها من سائر أزواج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ورضي الله عنهن] اهـ، ونقله عنه جماعة من العلماء المحققين مقررين له، منهم:

العلامة الديار بكري في "تاريخ الخميس" (1/ 371، ط. دار صادر)، والحلبي في "السيرة الحلبية" (2/ 202، ط. دار الكتب العلمية)، والعلامة الزرقاني في "شرحه على المواهب اللدنية" (2/ 259، ط. دار الكتب العلمية)، والعلامة عبد الملك العصامي في "سمط النجوم العوالي" (2/ 93، ط. دار الكتب العلمية)، والعلامة الخادمي في "بريقة محمودية" (1/ 215).

فكان ذلك مدعاة لأَنْ يحرص المسلم على أن يرجو من الله أن يُشَفِّعَ فيه محبَّتَه لهم، وأن يقبل توسله بهم فيما يرجوه من جلب خير أو دفع ضر، ولا تخلو منظومة "جالية الكدر" -المسؤول عنها- عن كونها إحياءً لذكرى هذه الليلة مع التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبمَن شهدها من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وأيضًا بمَن لم يشهدها منهم.

حكم التوسل بالنبي وبالصحابة والأولياء والصالحين

وقد تواردت النصوص على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالصحابة والأولياء والصالحين، بل وعلى استحسان ذلك.

والتَّوَسُّل: تَفَعُّلٌ من الوسيلة، والوسيلة في الأصل: ما يُتَوَصَّلُ به إلى الشيء ويُتَقَرَّبُ به، كما قال العلامة ابن الأثير في "النهاية" (5/ 185، ط. المكتبة العلمية).

وقضية المسلم في حياته: أن يتقرب إلى الله ويُحَصِّل رضاه وثوابه، ومن رحمة الله بنا أن شرع لنا العبادات وفتح لنا باب القربة إليه؛ فالمسلم يتقرب إلى الله بشتى أنواع القربات والطاعات.
 وقد أجمع المسلمون أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم هو الوسيلة العظمى، واتفقت الأمة على التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم من غير خلاف من أحد يُعتَدُّ به.

يقول الإمام المجتهد تقي الدين السبكي في كتابه "شفاء السقام" (ص: 119، ط. دائرة المعارف النظامية): [اعْلَمْ أنه يجوز ويَحسُنُ التوسلُ والاستغاثة والتشفعُ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى، وجوازُ ذلك وحسنُه من الأمور المعلومة لكلِّ ذي دِين، المعروفةِ مِن فعل الأنبياء والمرسلين، وسِيَر السلف الصالحين، والعلماء والعوامِّ من المسلمين، ولم يُنكِر أحدٌ ذلك مِن أهل الأديان، ولا سُمِع به في زمنٍ مِن الأزمان، حتى جاء ابنُ تيمية؛ فتكلَّم في ذلك بكلام يُلَبِّسُ فيه على الضعفاء الأغمار، وابتدع ما لم يُسبَقْ إليه في سائر الأعصار] اهـ.

وأما جواز التوسل بالصحابة والصالحين وأهل الفضل، فقد روى البخاري في "صحيحه" عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: «اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا»، قال: فيسقون. وأخرجه الأئمة: ابن شبة في "تاريخ المدينة"، وابن خزيمة في "صحيحه"، وابن حبان في "صحيحه"، والطبراني في "الدعاء" من حديث أنس رضي الله عنه.

وأخرج الطبراني في "الدعاء"، والحاكم في "المستدرك" عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج يستسقي للناس عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقال: "اللهم إن هذا عمُّ نبيك عليه السلام نتوجَّه به إليك فاسقنا" فما برحوا حتى سقاهم الله عزَّ وجلَّ، فخطب عمر الناس فقال: "أيها الناس إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد، ويعظمه ويفخمه، فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عمه العباس واتخذوه وسيلة إلى الله فيما نزل بكم".

وفي رواية لأبي بكر الخلال في "السُّنَّة" عن موسى بن عمر، قال: أصاب الناس قحط فخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستسقي وأخذ العباس فاستقبل القبلة، فقال: "هذا عم نبيك، جئنا نتوصل به إليك، فاسقنا به" فما رجعوا حتى سُقُوا.

أقوال الأئمة والعلماء في مشروعية التوسل بالأنبياء والصالحين

ولقد نصَّ أئمة المذاهب المتبوعة وعلماء المسلمين عبر العصور على مشروعية التوسل بالأنبياء والصالحين، وعدُّوه من المستحبات الشرعية، ووشَّوا به كتبهم وزينوها. ومن النُّقول في ذلك:
قال العلامة السيد الشريف الجرجاني الحنفي في "حاشيته على شرح المطالع" (ص: 14، ط. دار الطباعة العامرة) موجهًا نفع التوسل بالصالحين وزيارة مراقدهم بعد وفاتهم: [فإن قيل: هذا التوسل إنما يُتَصَوَّرُ إذا كانوا متعلقين بالأبدان، وأما إذا تجردوا عنها فلا؛ إذ لا جهة مقتضية للمناسبة. قلنا: يكفيه أنهم كانوا متعلقين بها متوجهين إلى تكميل النفوس الناقصة بهمة عالية، فإنَّ أثر ذلك باقٍ فيهم، ولذلك كانت زيارة مراقدهم مُعَدَّةً لفيضان أنوار كثيرة منهم على الزائرين؛ كما يشاهده أصحاب البصائر ويشهدون به] اهـ.

وصنف علامةُ زمانه المحدِّثُ السيدُ محمد مرتضى الزبيدي الحنفيُّ رسالةً سمَّاها: "تحفة أهل الزُّلْفة، في التوسل بأهل الصُّفَّة"؛ كما ذكر في كتابه "تاج العروس" (24/ 26، ط. دار الهداية).

وقال بدر الدين العيني الحنفي في "شرح صحيح البخاري" (4/ 170، ط. دار إحياء التراث العربي): [فيه التبرك بمصلى الصالحين ومساجد الفاضلين. وفيه أن من دعا من الصلحاء إلى شيء يتبرك به منه فله أن يجيب إليه إذا أمن العجب] اهـ.

وقال الإمام الخادمي في "بريقة محمودية" (1/ 203): [نقل عن الزيلعي: ويجوز التوسل إلى الله تعالى والاستغاثة بالأنبياء والصالحين بعد موتهم؛ لأن المعجزة والكرامة لا تنقطع بموتهم.

وعن الرملي أيضًا بعدم انقطاع الكرامة بالموت. وعن إمام الحرمين: ولا ينكر الكرامة ولو بعد الموت إلا رافضي. وعن الأجهوري: الولي في الدنيا كالسيف في غمده فإذا مات تجرد منه فيكون أقوى في التصرف. كذا نقل عن "نور الهداية" لأبي علي السنجي] اهـ.

قال الإمام القرطبي المالكي في "التذكرة" (ص: 179، ط. مكتبة دار المنهاج): [نجانا الله من أهوال هذا اليوم بحق محمد نبي الرحمة وصحبه الكرام البررة، وجعلنا ممَّن حشر في زمرتهم ولا خالف بنا على طريقهم ومذهبهم] اهـ.

وقال الإمام ابن الحاج المالكي في "المدخل" (1/ 258، ط. دار التراث): [يُتوسل إلى الله تعالى بهم في قضاء مآربه ومغفرة ذنوبه، ويستغيث بهم ويطلب حوائجه منهم ويجزم بالإجابة ببركتهم ويقوي حسن ظنه في ذلك؛ فإنهم باب الله المفتوح، وجرت سنته سبحانه وتعالى في قضاء الحوائج على أيديهم وبسببهم، ومَن عجز عن الوصول إليهم فليرسل بالسلام عليهم وذكر ما يحتاج إليه من حوائجه ومغفرة ذنوبه وستر عيوبه إلى غير ذلك، فإنهم السادة الكرام، والكرام لا يردون من سألهم ولا مَن توسل بهم، ولا مَن قصدهم ولا مَن لجأ إليهم هذا الكلام في زيارة الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام عمومًا] اهـ.

أخرج الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (1/ 445، ط. دار الغرب الإسلامي) عن علي بن ميمون، قال: سمعت الشافعي، يقول: "إني لأتبرك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره في كل يوم، يعني زائرًا، فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين، وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما تبعد عني حتى تقضى".

وأخرج الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (51/ 323، ط. دار الفكر) عن الأصمعي قال: رأيتُ أمير المؤمنين المأمونَ سنة أربع عشرة ومائتين يقول: "لقد خص الله تعالى محمد بن إدريس الشافعي بالورع والعلم والفصاحة والأدب والصلاح والديانة، لقد سمعت أبي هارونَ يتوسل إلى الله به، والشافعي حيٌّ يُرزَق".

وقال الإمام النووي الشافعي في "الأذكار" (ص: 176): [يستحب إذا كان فيهم رجل مشهور بالصلاح أن يستسقوا به فيقولوا: "اللهم إنا نستسقي ونتشفع إليك بعبدك فلان"] اهـ.

وقال الإمام ابن الجزري الشافعي في "الحصن الحصين" المطبوع ضمن: "تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين" (ص: 60، ط. دار القلم): [ويتوسل إلى الله سبحانه بأنبيائه والصالحين] اهـ.

وقال الشهاب الرملي الشافعي في "فتاويه" (4/ 382، ط. المكتبة الإسلامية): [(سُئل) عما يقع من العامة من قولهم عند الشدائد: يا شيخ فلان يا رسول الله، ونحو ذلك من الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين، فهل ذلك جائزٌ أم لا؟ وهل للرسل والأنبياء والأولياء والصالحين والمشايخ إغاثة بعد موتهم؟ وماذا يرجح ذلك؟

(فأجاب) بأن الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين جائزة، وللرسل والأنبياء والأولياء والصالحين إغاثة بعد موتهم؛ لأن معجزة الأنبياء وكرامات الأولياء لا تنقطع بموتهم. أما الأنبياء فلأنهم أحياء في قبورهم يصلون ويحجون كما وردت به الأخبار وتكون الإغاثة منهم معجزة لهم. والشهداء أيضًا أحياء شوهدوا نهارًا جهارًا يقاتلون الكفار.

وأما الأولياء فهي كرامة لهم؛ فإن أهل الحق على أنه: يقع من الأولياء بقصدٍ وبغير قصدٍ أمورٌ خارقة للعادة يجريها الله تعالى بسببهم] اهـ.

قال أبو بكر بن أبي الخصيب: ذُكِرَ صفوانُ بنُ سُلَيْمٍ عند أحمدَ بنِ حنبل، فقال: هذا رجل يُستسقَى بحديثه، وينزل القطر من السماء بذكره" خرَّجه الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (24/ 134).

وقال العلامة ابن مفلح الحنبلي في "الفروع" (3/ 299، ط. مؤسسة الرسالة): [ويجوز التوسل بصالح، وقيل: يستحب] اهـ.

وقال الإمام المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (2/ 456، ط. دار إحياء التراث العربي): [يجوز التوسل بالرجل الصالح، على الصحيح من المذهب، وقيل: يستحب] اهـ.
وقال العلامة الصالحي الحنبلي في "الإقناع" (1/ 208، ط. دار المعرفة): [ولا بأس بالتوسل بالصالحين] اهـ.

وقال العلامة منصور البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع عن متن الإقناع" (2/ 68-69، ط. دار الكتب العلمية): [قال السامري، وصاحب "التلخيص": لا بأس بالتوسل في الاستسقاء بالشيوخ والعلماء المتقين. وقال في المذهب: يجوز أن يستشفع إلى الله برجل صالح، وقيل: يستحب. قال أحمد في "منسكه" الذي كتبه للمروذي: أنه يتوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه. وجزم به في "المستوعب" وغيره.. قال إبراهيم الحربي: الدعاء عند قبر معروف الترياق المجرب] اهـ.

الخلاصة

بناء على ذلك: فإنَّ قراءة منظومة البدرية المعروفة بـ "جالية الكَدَر" في ذكرى انتصار غزوة بدر، الموافقة ليلة السابع عشر من شهر رمضان في كلِّ عامٍ هجري من الأمور الجائزة، بل والمستحبة شرعًا؛ لما فيها من شكر نعمة الله تعالى بتذكر أيام الفضل والإنعام، مع ما فيها من زيادة التعلق بالجناب النبوي الشريف بمطالعة سيرته ومآثره صلى الله عليه وآله وسلم، مع ما في ذلك من الدعاء والتوسل به عليه الصلاة والسلام وبصحابته الكرام، وأهل بدر على الخصوص منهم، وهو من الأمور الحسنة التي ثبت نفعها بالتجربة وأقرها جمهور العلماء المعتبرين من السلف والخلف.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا