حكم الطواف بإحرام متسخ

حكم الطواف بإحرام متسخ

ما حكم الطواف بإحرام متسخ؛ فبعد أن انتهيت من الطواف للعمرة أخبرني أحد المعتمرين أن ملابس إحرامي متسخة بعض الشيء، وقال لي: كيف تؤدي العبادة على هذا النحو، فقمت بتغييرها، وأكملت باقي المناسك، فهل طوافي بإحرام متسخ صحيح؟

السُّنَّة في حقِّ المحرم هي لبس ثوبين نظيفين؛ جديدين أو غسيلين، والأولى أن يكونا أبيضين؛ فإذا أصابهما الاتساخ بما هو نجس أو غيره، وعلم بذلك وقدر عليه؛ بادر بتغييرهما لتحصيل الأفضلية وخروجًا من الخلاف، وإن طاف به دون تغيير فلا شيء عليه تقليدًا لمن أجاز ذلك من الفقهاء.

وفي واقعة السؤال: فإن ملابسك إذا كانت متسخة بما هو نجس وعلمتَ بذلك بعد الانتهاء من الطواف، وقمتَ بتغييرها؛ فإن طوافك صحيح، وإن كان الأولى إعادة الطواف خروجًا من الخلاف، وأخذًا بالاحتياط.

أما وإن كانت ملابسك متسخة بما هو ليس بنجس كتراب ونحوه؛ فطوافك صحيح أيضًا، والأولى المبادرة بنزعها وتغييرها؛ لتحصيل السُّنَّة من كون ثياب الإحرام نظيفة بيضاء من جهة، وعدم الإضرار بالآخرين من جهة ثانية، وللحفاظ على نظافة المسجد الحرام وعدم تلويثه من جهة ثالثة.

التفاصيل ....

المحتويات

 

ما ورد في السنة في صفة ثياب الإحرام

وردت السُّنَّة النبوية المطهرة في حقِّ مَن يريد الإحرام بالحج أو العمرة هي لبس ثوبين نظيفين؛ جديدين أو غسيلين، والأولى أن يكونا أبيضين؛ لكون الثوب الأبيض من أفضل الثياب؛ كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: «خَيْرُ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضُ، فَأَلْبِسُوهَا أَحْيَاءَكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» أخرجه الأئمة: الشافعي في "المسند"، وابن ماجه في "سننه"، وصححه الحاكم في "المستدرك" من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

قال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 257، ط. مكتبة القاهرة): [(ويلبس ثوبين نظيفين) يعني: إزارًا ورداءً؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «وَلْيُحْرِمْ أَحَدُكُمْ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ».. ويستحب أن يكونا نظيفين؛ إما جديدين، وإما غسيلين؛ لأننا أحببنا له التنظف في بدنه، فكذلك في ثيابه، والأولى أن يكونا أبيضين] اهـ.

آراء المذاهب الفقهية الأربعة في حكم الطواف بإحرام متسخ بنجس

الطواف بملابس الإحرام المتسخة يتوقف الحكم عليه باعتبار النظر إلى نوع الاتساخ وماهيته، فقد يكون الاتساخ بما هو نجس، وقد يكون بما ليس بنجس كالتراب والغبار ونحوه.

فأما إذا كان الاتساخ بما هو نجس؛ فإن جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة على اشتراط الطهارة من الحدث والخبث في البدن والثوب والمطاف، فلو طاف المحرم وعلى ثوبه أو بدنه نجاسة فإن الطواف لا يصح؛ لاشتراط الطهارة للطواف عندهم؛ كالصلاة، وهو قولٌ عند الحنفية.

قال الإمام الحصكفي الحنفي في "الدر المختار" (2/ 469، ط. دار الفكر، ومعه "حاشية ابن عابدين"): [(والطهارة فيه) من النجاسة الحكمية على المذهب، قيل: والحقيقية من ثوب وبدن ومكان طواف] اهـ.

قال العلامة ابن عابدين مُحَشِّيًا عليه: [(قوله: من النجاسة الحكمية) أي: الحدث الأكبر والأصغر وإن اختلفا في الإثم والكفارة، (قوله: على المذهب) وهو الصحيح، وقال ابن شجاع: إنها سنة "شرح اللباب" للقاري (قوله: من ثوب) الأولى لثوب أو في ثوب (قوله: ومكان طواف) لم ينقل في "شرح اللباب" التصريح بالقول بوجوبه، وإنما قال: وأما طهارة المكان فذكر العز ابن جماعة عن صاحب "الغاية" أنه لو كان في مكان طوافه نجاسة لا يبطل طوافه، وهذا يفيد نفي الشرط والفرضية واحتمال ثبوت الوجوب والسنية اهـ] اهـ.

وقال الإمام ابن رشد الجد المالكي في "البيان والتحصيل" (4/ 7، ط. دار الغرب الإسلامي): [حكم الطواف بالبيت حكم الصلاة في أنه لا تكون إلا على طهارة، فكذلك يكون حكمه حكمها في طهارة الثوب والبدن من النجاسة] اهـ.

وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب" (1/ 477، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(فصل: وواجبات الطواف) بأنواعه (خمسة: الأول: الطهارتان) طهارتا الحدث والخبث في بدنه وثوبه ومطافه، (والستر) للعورة؛ كما في الصلاة؛ ولخبر: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ»] اهـ.

وقال العلامة ابن مفلح الحنبلي في "المبدع في شرح المقنع" (3/ 201، ط. دار الكتب العلمية): [(وإن طاف محدثًا أو نجسًا أو عريانًا لم يجزئه) في ظاهر المذهب.. ولأنها عبادة تتعلق بالبيت فكانت الطهارة والسترة شرطًا فيها كالصلاة، بخلاف الوقوف. قال القاضي وغيره: الطواف كالصلاة في جميع الأحكام إلا في إباحة النطق] اهـ.

بينما ذهب أكثر الحنفية والإمام أحمد في رواية إلى أن الطهارة من الحدث والخبث في البدن والثوب والمطاف سُنَّة مؤكدة، وعدم اشتراطها للطواف؛ فلو طاف المحرم وعلى ثوبه نجاسة فإن الطواف يصح، ولا شيء عليه عند الحنفية، ويجبره بدم في رواية الإمام أحمد.

قال الإمام الحصكفي الحنفي في "الدر المختار" (2/ 469) في الطهارة في الطواف: [والأكثر على أنه سنة مؤكدة] اهـ.

قال العلامة ابن عابدين مُحَشِّيًا عليه: [(قوله: والأكثر على أنه) أي: هذا النوع من الطهارة في الثوب والبدن سنة مؤكدة "شرح اللباب"] اهـ.

وقال العلامة ابن مفلح الحنبلي في "المبدع في شرح المقنع" (3/ 201): [(وعنه: يجزئه)؛ لأن الطواف عبادة لا يشترط فيها الاستقبال فلم يشترط فيها ذلك كالسعي (ويجبره بدم)؛ لأنه إذا لم يكن شرطًا فهو واجب، وتركه يوجبه] اهـ.

بينما نص بعض الحنفية على جواز صحة الطواف لمن كان على ثوبه نجاسة وإن كانت أكثر من قدر الدرهم، إلا أنه يكره ذلك؛ لما يترتب عليه من تلويث المسجد الحرام.

قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 129، ط. دار الكتب العلمية): [فأما الطهارة عن النجس فليست من شرائط الجواز بالإجماع فلا يفترض تحصيلها، ولا تجب أيضًا لكنه سنة؛ حتى لو طاف وعلى ثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم جاز، ولا يلزمه شيء إلا أنه يكره] اهـ.

وقال العلامة أبو بكر الزَّبِيدِي الحنفي في "الجوهرة النيرة" (1/ 159، ط. المطبعة الخيرية): [وإن طاف وفي ثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم كره له ذلك ولا شيء عليه، وإن طاف وقد انكشف من عورته قدر ما لا تجوز معه الصلاة أجزأه الطواف وعليه دم، والفرق أن النجاسة لم يمنع منها لمعنى يختص بالطواف، وإنما منع منه؛ لأنه تلويث للمسجد] اهـ، والمراد بـ"قدر الدرهم" من حيث المساحة: ما كان منبسطًا في الثياب عرض الكف، كما أفاده العلامة عبد الغني النابلسي الحنفي. ينظر: "حاشية ابن عابدين" (1/ 318).

وحُكي عند الحنفية قولٌ بالتفرقة في مقدار النجاسة؛ فإذا كان مقدار ما يوازي العورة طاهر والباقي نجس: جاز الطواف، وإلا فلا.

قال العلامة ابن عابدين الحنفي في "منحة الخالق" (2/ 354، ط. دار الكتاب الإسلامي، مع "البحر الرائق" لابن نجيم): [قال في "اللباب":.. وقيل: قدر ما يستر عورته من الثوب واجب أي طهارته؛ فلو طاف وعليه قدر ما يواري العورة طاهر والباقي نجس: جاز، وإلا فهو بمنزلة العريان] اهـ. أي يجب عليه إعادة الطواف، وإلا لزمه دم.

خلاصة أقوال الفقهاء في هذه المسألة

ومقتضاه أنه لو طاف المحرم وعلى ثيابه نجاسة غير معفو عنها، مع القدرة على إزالتها: لم يصح طوافه عند جمهور الفقهاء، وصح عند الحنفية والإمام أحمد في رواية ثانية، إلا أنه يجبر عنده بدم، ولا شيء عليه عند الحنفية.

ما يفعله الطائف إذا علم بوجود نجاسه على ملابسه أثناء الطواف

الأولى له إن علم بأمر النجاسة أن يزيلَها أو أن يُغيِّرَ ملابس إحرامه ويبني على ما مضى من طوافه، والأفضل أن يعيد الطواف.

قال الإمام الحطاب المالكي في "مواهب الجليل" (3/ 79، ط. دار الفكر): [ص (أو علم بنجس) ش: يعني أن من علم بنجاسة في ثوبه أو بدنه، وهو في أثناء الطواف، فإنه يزيلها، ويبني على ما مضى من طوافه] اهـ.

وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب" (1/ 477): [فلو أحدث أو تنجس) بدنه أو ثوبه أو مطافه بنجس غير معفو عنه (أو عري) مع القدرة على الستر في أثناء الطواف (تطهر وستر) عورته، وبنى على طوافه ولو تعمد ذلك.. (ويستحب أن يستأنف) الطواف خروجًا من خلاف مَن أوجب الاستئناف] اهـ.

فإن كان على غير علم بأمر النجاسة صحَّ طوافه ولم يجب عليه دم.

قال الإمام ابن رشد الجد المالكي [المتوفى: 520هـ] في "البيان والتحصيل" (4/ 7): [فإن طاف بثوب نجس وهو لا يعلم به، ثم علم بعد إكمال الطواف قبل الركعتين فصلى الركعتين بثوب طاهر: فلا إعادة عليه، فإن لم يعلم حتى صلى الركعتين: أعادهما بالقرب؛ ما لم ينتقض وضوؤه، ولم يعد الطواف] اهـ.

حكم الطواف بإحرام متسخ بما هو طاهر

أما إذا كان الاتساخ بما ليس بنجس كالتراب والغبار ونحوه، ممَّا هو معفو عنه، ويشقّ الاحتراز منه؛ صح طوافه بلا خلاف؛ لأن الطواف في الحكم كالصلاة، وتصح الصلاة بالثياب المتسخة ممَّا هو معفو عنه.

قال العلامة سعيد بن محمد الحضرمي الشافعي في "شرح المقدمة الحضرمية" (ص: 622، ط. دار المنهاج): [(فصل: واجبات الطواف) بأنواعه من قدوم وركن وتحلل ووداع، واجبٍ، أو مندوب، أو نذر، أو تطوُّع. والمراد بالواجبات هنا: ما يشمل الشرط والركن، فالركن النية، والطوافات وغيرهما شروط (ثمانية) بل أحد عشر، فالثلاثة الأول: (ستر العورة، وطهارة الحدث) الأصغر والأكبر، (و) طهارة (النجس) بتفصيلهما السابق في الصلاة؛ لأنه صلاة كما صح به الخبر، وصح أيضًا: "لا يطوف بالبيت عريان". فلو أحدث أو تنجس بدنه أو ثوبه أو مطافه بغير معفو عنه أو عري شيء من عورته مع القدرة على ستره أثناء الطواف.. تطهر وتستر وبنى وإن تعمد ذلك وطال الفصل كالوضوء، وقيل: يستأنف كالصلاة. ويعفى عما يشق الاحتراز عنه في المطاف من ذرق الطيور وغيرها، حيث لا رطوبة، ولم يتعمده] اهـ.

والأولى والكمال للمحرم تغيير ملابس إحرامه المتسخة، وخاصة إذا كان يترتب عليها ضرر أو أذى بالآخرين من الحجاج والمعتمرين كرائحة كريهة أو احتمال نقل عدوى؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَار» أخرجه الحاكم في "المستدرك"، وصَحَّحه.

والضرر المنهي عنه في الحديث هو قليل الضرر وكثيره؛ حيث إنه لفظ عام يشمل كل أنواع الضرر إلا ما دلَّ الشرع على إباحته لمصلحة شرعية تزيد في مصلحتها على المفسدة المترتبة:

قال الإمام ابن عبد البر في "الاستذكار" (7/ 191، ط. دار الكتب العلمية): [قال ابن حبيب: الضرر عند أهل العربية الاسم والضرار الفعل، قال: والمعنى لا يدخل على أحد ضررًا.. وهو لفظ عام متصرف في أكثر أمور الدنيا ولا يكاد أن يحاط بوصفه].

الخلاصة

بناء على ذلك: فإن السُّنَّة في حقِّ المحرم هي لبس ثوبين نظيفين؛ جديدين أو غسيلين، والأولى أن يكونا أبيضين؛ فإذا أصابهما الاتساخ بما هو نجس أو غيره، وعلم بذلك وقدر عليه؛ بادر بتغييرهما لتحصيل الأفضلية وخروجًا من الخلاف، وإن طاف به دون تغيير فلا شيء عليه تقليدًا لمن أجاز ذلك من الفقهاء.

وفي واقعة السؤال: فإن ملابسك إذا كانت متسخة بما هو نجس وعلمتَ بذلك بعد الانتهاء من الطواف، وقمتَ بتغييرها؛ فإن طوافك صحيح، وإن كان الأولى إعادة الطواف خروجًا من الخلاف، وأخذًا بالاحتياط.

أما وإن كانت ملابسك متسخة بما هو ليس بنجس كتراب ونحوه؛ فطوافك صحيح أيضًا، والأولى المبادرة بنزعها وتغييرها؛ لتحصيل السُّنَّة من كون ثياب الإحرام نظيفة بيضاء من جهة، وعدم الإضرار بالآخرين من جهة ثانية، وللحفاظ على نظافة المسجد الحرام وعدم تلويثه من جهة ثالثة.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا