حكم الثناء على الميت أثناء الدفن

حكم الثناء على الميت أثناء الدفن

ما حكم الشهادة للميت والثناء عليه عند دفنه؟ فإنه عند حضوري لدفن أحد الأموات، قام أحدُ المُشَيِّعِين بعد الانتهاء مِن دفن الميت متوجِّهًا إلى الناس، وسألهم: ما قولُكم في هذا الرجل؟ وبأيِّ شيءٍ تَشهَدُون له؟ فأَثْنَوْا عليه خيرًا، وشَهِدُوا له بالصلاح وأعمال الخير.

اختص الله سبحانه وتعالى الأمة المحمدية على غيرها مِن الأمم السابقة ليكونوا شهداء الله في أرضه في الحياة الدنيا، وعند البعث بعد الموت يوم القيامة، وهذا ما تواردت عليه النصوص الشرعية، كما أن الثناءَ على الميت والشهادةَ له بالخير عند دَفْنِهِ سُنَّةٌ مستَحَبةٌ أقرَّها النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم وعَوَّل عليها، ونَصَّ العلماءُ على استحبابها، وأن ذلك يَنفعُ الميتَ ويَشفَع له، لا سيما إذا كانوا مِن أهل الفضل والصدق، فيغفر الله عَزَّ وَجَلَّ للميت بشهادتهم له.

التفاصيل ....

المحتويات

 

بعض من خصائص الأمة المحمدية وبيان فضلها

خَصَّ اللهُ تعالى الأمةَ المحمديةَ بجملةٍ مِن الخصائص، وشَرَّفها بمزيدٍ مِن المزايا والفضائل، فمنها ما انفَرَدَت به عن غيرها مِن الأمم السابقة، ومنها ما شارَكَها فيه غيرُها، وتميَّزَت عنهم فيه بالكمال والتمام، ومِن جملة ما اختَصَّ اللهُ به هذه الأمةَ دون غيرها مِن الأمم السابقة: أنهم شهداء الله في أرضه، فقال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143]، وقال سبحانه: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [الحج: 78].

والشهادة المخصوصة بها الأمةُ المحمدية: شهادتان: تتحقق الأُولى منهما في الآخرة بشهادة الأمة المحمدية على غيرها مِن الأمم السابقة بتبليغ أنبيائهم لهم، والأصل في ذلك ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيَقُولُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَتَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾، فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا»، وَالوَسَطُ: العَدْلُ. أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه".

وتتحقق الثانية في الحياة الدنيا بشهادة الناس بعضِهم على بعضٍ بالخير أو بالشَّرِّ عند الموت، والأصل في ذلك ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قَالَ: مُرَّ بجنازة، فأُثْنِيَ عليها خيرًا، فقال نبيُّ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ»، ومُرَّ بجنازة، فأُثْنِيَ عليها شرًّا، فقال نبيُّ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ»، قال عمر رضي الله عنه: فدى لك أبي وأمي، مُرَّ بجنازة، فأُثْنِيَ عليها خيرٌ، فقلتَ: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ»، ومُرَّ بجنازة، فأُثْنِيَ عليها شَرٌّ، فقلتَ: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ»؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ» أخرجه الشيخان.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَشْهَدُ لَهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَهْلِ أَبْيَاتِ جِيرَانِهِ الْأَدْنَيْنَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهُ إِلَّا خَيْرًا، إِلَّا قَالَ اللهُ تَعَالَى وَتَبَارَكَ: قَدْ قَبِلْتُ قَوْلَكُمْ -أَوْ قَالَ: شَهَادَتَكُمْ-، وَغَفَرْتُ لَهُ مَا لَا تَعْلَمُونَ» أخرجه الأئمة: أحمد في "المسند"، وأبو يعلى في "المعجم"، وابن حبان في "الصحيح"، والحاكم في "المستدرك" وصححه.

وقد سَخَّر اللهُ سبحانه وتعالى ملائكةً تَنْطِقُ على أَلْسِنَةِ الخَلْق بما في المَرْءِ مِن خيرٍ أو شَرٍّ، كما في الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ لِلهِ مَلَائِكَةً تَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَةِ بَنِي آدَمَ بِمَا فِي الْمَرْءِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ» أخرجه الإمام الحاكم في "المستدرك" وصححه.

وأحاديث الباب كثيرةٌ، حتى بَوَّب الأئمةُ الحُفَّاظ في كُتُبهم أبوابًا مخصوصة لذلك، فبَوَّب الإمامُ البخاري: (بَاب ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَى المَيِّتِ)، وبَوَّب الإمامُ مسلم: (بَاب فِيمَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ خَيْرٌ أَوْ شَرٌّ مِنَ الْمَوْتَى)، وبَوَّب الإمامُ ابن حبان: باب (ذِكْر مَغْفِرَةِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا ذُنُوبَ مَنْ شَهِدَ لَهُ جِيرَانُهُ بِالْخَيْرِ وَإِنْ عَلِمَ اللهُ مِنْهُ بِخِلَافِهِ)، وباب (ذِكْر إِيجَابِ الْجَنَّةِ لِمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ النَّاسُ بِالْخَيْرِ إِذْ هُمْ شُهُودُ اللهِ فِي الْأَرْضِ).

حكم الثناء على الميت أثناء الدفن

الحاصل أنَّ ثناء الناس على الميت بالخير يَشفع له عند ربه، سواء كانت أعمالُهُ الظاهرةُ تقتضي هذا الثناء أو لا؛ لأن فَضْلَ الله أَوْسَعُ مِن أنْ يُحْجَرَ أو يُمْنَعَ عن أحدٍ مِن خَلْقِه، وأنَّ الله سبحانه وتعالى يَتفضل على عباده فيأخذ بشهادتهم الظاهرة وبما يَرَوْنَهُ مِن الصلاح على هذا الميت وإن كان يُبْطِنُ خلاف ما يُظهِر، فيغفر اللهُ له بهذه الشهادة.

فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: كنتُ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنازةٍ فِينَا في بَنِي سَلِمَةَ، وأنا أَمْشِي إلى جَنْبِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رجلٌ: نِعْمَ المرءُ، ما عَلِمْنَا إنْ كان لَعَفِيفًا مُسلِمًا إنْ كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ؟»، قال: يا رسول الله، ذَاكَ بَدَا لَنَا، والله أَعْلَمُ بالسَّرَائِرِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَجَبَتْ»، قال: وكنا معه في جنازةِ رجلٍ مِن بَنِي حارِثَةَ -أو مِن بَنِي عبد الأَشْهَلِ- فقال رجلٌ: بئس المرءُ، ما عَلِمْنَا إنْ كان لَفَظًّا غَلِيظًا إنْ كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ؟»، قال: يا رسول الله، الله أَعْلَمُ بالسَّرَائِرِ، فأما الذي بَدَا لَنَا منه فَذَاكَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَجَبَتْ»، ثم تَلَا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾. أخرجه الإمام الحاكم في "المستدرك" وصححه.

قال الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (7/ 19، ط. دار إحياء التراث العربي): [الصحيح المختار أنه على عُمُومه وإطلاقه، وأنَّ كلَّ مسلم مات، فأَلْهَمَ اللهُ تعالى الناسَ أو مُعْظَمَهُمُ الثناءَ عليه، كان ذلك دليلًا على أنه مِن أهل الجنة، سواءٌ كانت أفعالُه تقتضي ذلك أم لا، وإن لم تكن أفعالُه تقتضيه فلا تحتم عليه العقوبة، بل هو في خَطَرِ المشيئة، فإذا أَلْهَمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الناسَ الثناءَ عليه، استَدْلَلْنَا بذلك على أنه سبحانه وتعالى قد شاء المغفرة له، وبهذا تَظهَر فائدةُ الثناء، وقولُه صلى الله عليه وآله وسلم: «وَجَبَتْ» وَ«أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ»، ولو كان لا يَنفعه ذلك إلا أن تكون أعماله تقتضيه لَم يكن للثناء فائدةٌ، وقد أَثْبَتَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم له فائدةً] اهـ.

مِن أجل ذلك نَصَّ جماعةٌ مِن الأئمة على استحباب الثناء على الميت وذِكْرِهِ بالخير وإظهار ما كان منه مِن المَحَاسِنِ.

قال حُجَّةُ الإسلام الإمامُ الغَزَالِي في "إحياء علوم الدين" (4/ 493، ط. دار المعرفة): [ويُستحب الثناءُ على الميت، وألَّا يُذكَر إلا بالجميل] اهـ.

وقال الإمام النووي في "الأذكار" (ص: 165، ط. دار الفكر): [ويُستحب الثناءُ على الميت وذِكْرُ مَحَاسِنِه] اهـ.

وقال الحافظ ابن حَجَرٍ العَسْقَلَانِي في "فتح الباري" (3/ 229، ط. دار المعرفة): [قوله: (باب ثناء الناس على الميت) أي: مشروعيته وجوازه مطلقًا، بخلاف الحي، فإنه منهيٌّ عنه إذا أفضى إلى الإطراء؛ خشيةً عليه مِن الزَّهْو، أشار إلى ذلك الزَّيْنُ بنُ المُنِيرِ] اهـ.

ومِن ثَمَّ كان مِن المستحب للمسلم أن يَغْتَنِمَ ذلك الفضلَ ويُحْسِنَ ظَنَّهُ بِرَبِّهِ، فيَسْتَجْلِبَ الرحمةَ والمغفرةَ لأخيه المسلم بالشهادة له بالخير عند موته، وقد جاء في الحديث القدسي أنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ قال: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ» أخرجه الأئمة: أحمد والطبراني في "المسند"، والدارمي في "السنن"، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "المستدرك" وصححه.

قال القاضي عِيَاض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (8/ 172، ط. دار الوفاء): [وقوله: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» قيل: معناه: بالغُفرانِ له إذا استَغْفَرَني، والقبولِ إذا أَنَابَ إِلَيَّ، والإجابةِ إذا دَعَاني، والكفايةِ إذا استَكْفَاني؛ لأنَّ هذه الصفاتِ لا تَظهَر مِن العبد إلا إذا أَحْسَنَ ظَنَّهُ باللهِ وقَوِيَ يَقِينُهُ] اهـ.

وقال العلامة المُبَارَكْفُورِي في "تحفة الأحوذي" (7/ 53، ط. دار الكتب العلمية): [قَوْلُهُ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» أي: أنا أُعَامِلُهُ على حسب ظَنِّهِ بي، وأَفْعَلُ به ما يَتَوَقَّعُهُ مني مِن خيرٍ أو شَرٍّ] اهـ.

ويُستحب أيضًا إذا انتهى المسلمُ مِن دفن أخيه المسلم أن يَحُثَّ الناسَ على ذِكْرِ ما كان في الميت مِن الخير والصلاح؛ ليكون ذلك شفاعةً له عند ربه، فتَعُمَّ الرحمةُ بين الخلق جميعًا، فإنَّ الرحيمَ مَن يَرْحَمُ غيرَه لا مَن لا يَرْحَمُ إلا نَفْسَه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا رَحِيمٌ»، قلنا: كلُّنا رحيمٌ يا رسول الله، قال: «لَيْسَتِ الرَّحْمَةُ أَنْ يَرْحَمَ أَحَدُكُمْ خَاصَّتَهُ حَتَّى يَرْحَمَ الْعَامَّةَ، وَيَتَوَجَّعَ لِلْعَامَّةِ» أخرجه الأئمة: ابن المبارك في "الزهد"، وعَبدُ بنُ حُمَيْد في "المسند" واللفظ له، مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

الخلاصة

بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنَّ الله سبحانه وتعالى قد اختص الأمة المحمدية على غيرها مِن الأمم السابقة ليكونوا شهداء الله في أرضه في الحياة الدنيا، وعند البعث بعد الموت يوم القيامة، وهذا ما تواردت عليه النصوص الشرعية، كما أن الثناءَ على الميت والشهادةَ له بالخير عند دَفْنِهِ سُنَّةٌ مستَحَبةٌ أقرَّها النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم وعَوَّل عليها، ونَصَّ العلماءُ على استحبابها، وأن ذلك يَنفعُ الميتَ ويَشفَع له، لا سيما إذا كانوا مِن أهل الفضل والصدق، فيغفر الله عَزَّ وَجَلَّ للميت بشهادتهم الظاهرة له.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا