27 نوفمبر 2018 م

خلق السَّتر

خلق السَّتر

 

الله سبحانه وتعالى رفيقٌ بعباده؛ يحب منهم الطاعة التي أوجب عليهم، ويكره لهم المعصية التي حرَّم عليهم، يحب لهم النَّعيم الذي وعد به الصالحين، ويكره لهم النار التي توعَّد بها المفسدين، والله تعالى يَغَار، وغيرتُه تعالى أن ينتَهِكَ العبدُ ما حرَّم الله عليه.

ومن كمال رفقه تعالى ورحمته أنه مع كراهية المعصية أحب الستر لعباده المذنبين، وأراد من المؤمنين التخلُّق بهذا الخُلق الجميل، تعلُّقًا وتحقُّقًا بما اتَّصفَ به سبحانه وتعالى من صفات الجمال التي وصف بها نفسه وتضمَّنت معنى السَّتر على العباد؛ فهو سبحانه العفو الغفور الذي يستر ذنوب عباده في الدنيا فلا يفضحهم، ويغفرها لهم يوم القيامة فلا يؤاخذهم. وقد جاء في "الصحيح" نسبة الستر إلى المولى عز وجل: «لَا يَسْتُرُ اللهُ عَلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا، إِلَّا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([1])، وفي "الصحيح" كذلك: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُدْنِي مِنْهُ الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ»([2])، وفيه كذلك: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سَتِيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسِّتْرَ»([3]).

والمسلم يتخلَّقُ بخُلُقِ الستر في حقِّ نفسه، فإذا وقع في المعصية لا يجاهر بها ولا يهتك ستر نفسه؛ وفي ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ »([4])، وهذا وعيد للمجاهرين، وهم الذين جاهروا بمعاصيهم وأظهروها وكشفوا ما ستر الله تعالى عليهم، فيتحدَّثون بها لغير ضرورة ولا حاجة([5]).

وفي الحديث: «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ»([6]).

فإذا كان الجهر مذمومًا فالستر ممدوحٌ مندوبٌ، وليس هذا تحفيزًا للعبد على المعصية وإنما هو فتحٌ لباب التوبة من الله على العباد وتطهير للقلوب من التدنُّس بالإِصرار على المعصية؛ لأنَّ في الجهر بالمعصية استخفافًا بحقِّ الله ورسوله وبصالحي المؤمنين وفيه نوعٌ من العناد لهم، كما أنَّ فيه تسكينًا للقلب والجوارح على الرضا بمعصية الله، وأما الستر ففيه السلامةُ من الاستخفاف، وفيه تهيئة للنفس بالشعور بالندم والخوف من العقاب، والذي يجاهر يفوته ستر الدنيا فيفوته عفو الآخرة([7]).

والمسلم كذلك يتخلق بالستر في حق غيره؛ فقد قال النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ»([8])، ومعنى الستر هنا: أن يرى المسلم أخاه المسلم يفعل فعلًا قبيحًا فلا يُظْهِر هذا للناس؛ لأنَّ الله تعالى كَرِهَ أن تشيعَ الفاحشةُ في الناس، بالإضافة إلى ما في الستر من تأليفٍ بين القلوب، وتمكينٍ للعاصي من التوبة والإنابة، وإذا تمحَّض حق الله فهو أكرم الأكرمين ورحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستر الله العبد في الدنيا لم يفضحه في الآخرة.

ولا يعني هذا الرضا بالمعصية، بل إذا كانت المعصية مستمرة وجب على المسلم المبادرة بإنكارها على الفاعل ومنعه منها -إن قدر على المنع-، ويكون هذا فيما بينه وبينه؛ حفظًا للستر، مع مراعاة الالتزام بضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لا يؤدي تغيير المنكر إلى مفسدة أعظم.

وأول هذه الضوابط: أن يكون هذا المنكِر مُتَّفَقًا على إنكاره؛ فلا يكون محل اجتهاد واختلاف بين أهل العلم الموثوق بهم من ذَوِي الاختصاص، وهذا لا وقوف عليه إلا لمن نال حظًّا من العلم الشرعي.

كما يراعِي مراتب التغيير التي استنبطها العلماء من الكتاب والسنة، فليس كل أحدٍ يملك دائمًا سلطة الإنكار، فضلًا عن التغيير، وذلك لعظم خطره وشأنه([9])؛ قال الإمام القرطبي في "تفسيره": "قال العلماء: الأمر بالمعروف باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء، وبالقلب على الضعفاء؛ يعني: عوام الناس"([10]).

والستر لا يكون في حقِّ كلِّ أحدٍ، وإنما في حقِّ من لم يُعرَف بالفساد والأذى، فأما المعروف بذلك فيستحب أن لا يُسْتَر عليه، حتى لا يزداد في غيه، وهنا ينبغي أن يكون المسلم أيضًا حصيفًا حكيمًا حتى لا يترتَّب على فِعْلِه مفاسد أعظم.

ويدخل في الستر المندوب: مَنْ عَلِمَ عيبًا أو أمرًا قبيحًا في مسلمٍ ولو معصية قد انقضت ولم يتجاهر بفعلها؛فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ رَأَى عَوْرَةً فَسَتَرَهَا، كَانَ كَمَنْ أَحْيَا مَوْءُودَةً»([11])، أي: كان ثوابه كثواب من فعل ذلك؛ لأن السَّاتِر دفع عن المستور الفضيحةَ بين الناس التي هي كالموت فكأنَّه أحياه.

 


 

 

([1])  أخرجه الإمام مسلم في "الصحيح"، كتاب [البر والصلة والآداب، باب بشارة من ستر الله تعالى عيبه في الدنيا، بأن يستر عليه في الآخرة] (ح: 2590).

([2])  أخرجه الإمام البخاري في "الصحيح"، كتاب [المظالم والغصب، باب قول الله تعالى: ﴿أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 18] (ح: 2441).

 ([3])  أخرجه الأمام أبو داوود في "السنن" كتاب [الحمام، باب النهي عن التعرِّي] (ح: 4012).

 ([4])  "صحيح الإمام البخاري"، كتاب [الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه] (ح: 6069).

 ([5])  "شرح الإمام النووي على صحيح الإمام مسلم" (18/ 119).

 ([6])  أخرجه الإمام الحاكم في "المستدرك" وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرِّجاه" (ح: 7615).

  ([7])  انظر: "فتح الباري" للحافظ ابن حجر (10/ 477-488).

  ([8])  جزء من حديث أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه"، كتاب [المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه] (ح2442).

  ([9]) راجع: "موقع دار الإفتاء المصرية فقه تغيير المنكر، فتوى رقم: 4199، بعنوان "فقه تغيير المنكر"، بتاريخ: 3/1/2013م.

   ([10])"الجامع لأحكام القرآن"(4/ 49)، ط. دار الكتب المصرية.

   ([11])أخرجه الإمام أبو داود في "السنن"، وراجع: "عون المعبود".

 

 

الفأل هو قَول أَو فعل يُستبشرُ بِهِ، وهو انشراح قلب الإنسان وإحسانه الظَّنَّ، وتوقُّع الخير بما يسمعه من الكلام والحديث. والفأل فيه تقوية للعزائم، وباعث على الجدِّ والعمل، فقد تفاءل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في غزواته وحروبه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ صَوْتًا، فَأَعْجَبَهُ، فَقَالَ: «قَدْ أَخَذْنَا فَأْلَكَ مِنْ فِيكَ» رواه أحمد في "مسنده".


اليقين من الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها المسلم، وبه يزداد المسلم قربًا من الله تعالى متوكلًا عليه زاهدًا فيما عند الناس، كما أنه يجعل صاحبه عزيز النفس، صادقًا مع الله مخلصًا في عبادته، مترفعًا عن مواطن الذلة والهوان، ومن علاماته: قلة مخالطة الناس رغبة فيهم واحتياجا إليه، وترك مدحهم عند العطاء، وترك ذمهم عند المنع، والتوكل عليه سبحانه والرجوع إليه في كل أمر. وقد ورد في السنة النبوية المطهرة ما يدعونا إلى اليقين وأن ثوابه الجنة إن شاء الله، فعن شَداد بْن


التسامح من السمات الأخلاقية المهمة للإسلام، فقد حرَص الإسلام على توجيه أتباعه للتخلُّق بخلق التسامح، وحثهم على اللين والرفق والعفو، سواء فيما بين المسلمين أم مع غيرهم؛ قال تعالى عن أتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29]، وقال تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۞ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [الشعراء: 215-216]


مجالسة الناس أمر مباح في الإسلام إذا تحلت بالآداب الشرعية والأخلاق المرعية، وقد تكون مندوبة إذا قُصد بها تحصيل خير ندبه الشرع، وقد تصل إلى الوجوب إذا توقف عليها تحصيل واجب شرعي من جلب مصلحة أو دفع مفسدة؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم ينعزل عن أصحابه، ولم ينعزل عن مجتمعه، بل إنك لو راجعت سيرته العطرة صلى الله عليه وآله وسلم تجد أنفاسه الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم في كل حدث تفوح بين الناس بدلائل الخيرات.


التعاون من الأخلاق المهمة التي يجب على المسلمين أن يتمسكوا بها وأن يطبقوها في واقعهم العملي خاصة في هذا العصر الذي تسود في عالمه قوى وتيارات تؤمن بالفردية المطلقة، وتدعو لها بقوة، وتبث أفكارها المتعلقة بالفردية والذاتية في وسائل إعلامها بصور مختلفة.


مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 30 يوليو 2025 م
الفجر
4 :34
الشروق
6 :13
الظهر
1 : 1
العصر
4:38
المغرب
7 : 50
العشاء
9 :17