18 مايو 2022 م

الميثاق الغليظ

الميثاق الغليظ

أودع الله تعالى في الإنسان فطرة طبيعية تُولِّد بين كلا نوعيه -الذكر والأنثى- مَيْلًا إلى الآخَر؛ ومن ثَمَّ كان الرباط المخصوص والميثاق الغليظ الذى ينظِّم حياتهما معًا، حتى يكون أحدهما للآخر بمنزلة جُزئِه وبعضِه المُتَمِّم لوجودِه، ومن أجل المحافظة على الإنسان واستمرار نوعه، وتوفير حواضن اجتماعية يحقق فيها حاجاته الطبيعية.

إننا نجد عند التأمُّل في هذه الحالة التي يجعلها الله تعالى بين الرجل وامرأته أنَّ المرأة تُقبِل على الارتباط به وملازمته مع ثقةٍ يحوطها اليقين بأنَّ عيشها المستقبل سيكون أرغد عيشًا من الذي تحياه عند أبيها وأمِّها، ورباطها به أقوى من كلِّ رباطٍ؛ وذلك انطلاقًا مما جبل الله عليه الفطرة الإنسانية التي تعتبر أقوى ما يعتمد عليه الرجل في الاطمئنان إلى امرأة أجنبية عنه والأنس بها والرَّغبَة في قُربِها، وتستند إليها المرأة أيضًا في ترك حياتِها وتنفصل عن أهلها وخاصَّتِها والرضا بالاتصال برجلٍ أجنبيٍّ عنها؛ حيث يجمع بينهما ميثاقٌ غليظٌ على صورةٍ أقوى مما يحصل بين ذوي القربى من المودَّةِ والرَّحمَةِ.

ولا ريبَ أنَّ المرأة في تلك الحياة المستقبليَّةِ تساير فطرتها بضمانَةِ أنَّ الزَّواج هو الميثاق الذي تواثق به الرجل على انتظام حياتِهما معًا وفق إطارٍ حكيمٍ يستديم من خلاله كرامة الأسرة وعزَّتها، ويُبقِي لأطرافها المحبَّة والوئام.

ولقد اهتمَّ الشرع الشريف بأمر الأسرة منذ اللحظات الأولى لتكوينها، وجعل أساسها عقدًا مقدسًا؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 21].

كما أنَّه لم يقتصر على ما يُنشئُ تلك العلاقة فقط، بل امتدَّ اهتمامه لآدابه وبيان الحقوق والواجبات، وصولًا إلى الضَّوابط التي تحفظ الحقوق عند إرادة إنهاء تلك العلاقة من الطرفين أو من أحدهما؛ ومن ثَمَّ فإنَّ الزواج ليس مجرد إطار عادي يفعل كل فردٍ فيه محض حريته، بل هو سياجٌ محكمٌ بضوابط وآثار تُرَتِّبُ حقوقًا وواجبات على الزَّوجين على سبيل التَّقابل تجاه بعضهما أو تجاه أبنائهما.

لهذا نال عقدُ الزواج والفُرَقُ التي تنهيه عنايةَ التشريع والفقه؛ فعني الفقهاء بدراسة أحكام الأسرة على وجه العموم عناية فائقة دقيقة، رسمت من خلالها جملة أحكامه ومقاصده مما من شأنها ضبط هذه العلاقة، بحيث إذا ما روعي ذلك في المسيرة الزوجية، تمَّت هذه الحياة وظهرت في صورتها المخلوقة عليها، كاملة في جميع وجوهها، مؤدية مهمتها على النحو المرجو منها.

كما أنَّ الشرع الشريف أحاط هذا الميثاق الغليظ بسياجٍ من الآداب يجعل النصوص الشرعيَّة والأحكام المستنبطة منها لا يتم تناولها بطريقةٍ يبحث فيها كلٌّ من الزوجين عن حدود حقوقه وواجباته، أو تجعله دائمًا على صوابٍ والطرفَ الآخر على خطأٍ؛ فيتخذ من الدين والعرف وسيلةً للضغط على الطرف الآخر وجَعْلِهِ مُذعِنًا لرغباته من غير أداء الواجبات التي عليه هو.

ويضاف إلى ذلك وضعه عدَّة شروط تقيد حرية الزوجين في إنهاء هذا العقد بصورة تتناسب مع خطورة هذا الميثاق، فإذا كان الشرع يقصد إلى حفظ الإنسان واستمراره عن طريق هذا العقد، فلابد أن يساير إنهاء العقد هذا المقصود، ولهذا وجدت قيود كثيرة من شأنها الحد من حرية الزوجين في إنهاء هذا الميثاق الغليظ، بل لابد من وجود مبرر قوي لإنهائه.

وتؤكِّدُ جملة هذه السِّماتِ خطورة الزَّواج ومسئوليَّة كلا الزَّوجين في المحافظة عليه باعتباره ميثاقًا غليظًا، وبموجب هذا العقد يكون قيام العلاقة بينهما -على سبيل التَّقابُلِ- على الثقة والحب؛ حتى إذا ما أنعم الله عليهما بالأولاد انصرف اهتمامهما بالتراضي والاتفاق على حسن تربيتهم وتنشئتهم حتى يكونوا قرَّة عينٍ لهما، ويكون الوالدان أيضًا قدوةً صالحةً لأولادهما في الوفاق والمودة والإخلاص، والعمل والجد والاجتهاد؛ لينالوا جميعًا رضا الله في الدارين؛ فتحْصُل لهم السعادةُ والنجاحُ في الحياة الدنيا، والفوزُ في الآخرة.

*****

 

مر على زواجهما خمسة عشر عامًا، وعاشا معًا رحلة الحياة بحلوها ومرها، وسعدا بأطفالهما يكبران أمام أعينهما يومًا بعد يوم، ثم حدث الزلزال الذي قلب الحياة رأسًا على عقب؛ إذ لاحظت منذ عدة شهور تغيرًا ما في تصرفاته وتعاملاته معها، إذ أصبح لديه شيء من الغموض لم تعتدْه منه، بجانب بعض الفتور في علاقتهما بوجهٍ عام، وكثرة أسفاره بلا سبب مقبول، وتهربه من البيت كلما سنحت الفرصة، واختلائه بتليفونه المحمول أكثر من المعتاد، وحرصه على أن يكون في جيبه وأخذه معه في الحمام، أو الحديث بصوت هامس، أو الذهاب للبلكونة لإتمام المكالمات.


تزداد حاجة الزوجين في الحياة الأسرية إلى وجود الشفافية والمصارحة بينهما وصدق كُلِّ طرف منهما مع الآخر في سائر شئون هذه الحياة ذات الميثاق الغليظ وفقًا لما تقتضيه مسئولية كل واحد منهما في الأسرة؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ» متفقٌ عليه.


تتشابك الجذور الإنسانية والشرعية في جعل الوالديْن في مكانة عالية ودرجة رفيعة داخل الأسرة، فلا يوجد نظام اجتماعي عبر التاريخ غير متمسك بسريان الصلة بين الأبناء ووالديهما؛ فالعلاقة بينهما قائمة على الإنسانية المحْضة باعتبار الوالدَيْن مظهرًا كونيًّا تجلت فيه صفة الإيجاد والخلق للأبناء، والأولاد أيضًا زينة حياة الوالدين ومظهر كمالها واستقرارها؛ كما في قولِه تعالى: ﴿الْمَالُ والبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الْدُّنْيَا﴾ [الكهف: 46].


يُعَدُّ التعاون الصادق المثمر من أقوى دعائم الحياة الاجتماعية السليمة، بل إنه يحتل أولوية في المبادئ الأسرية الملحوظة في مفهوم الزواج قبل أن يكون واقعًا؛ حيث يقتضي الاجتماع الحاصل بقيام الزوجية التعاون بين الجانبين بالقدر الذي تقوم به حياتهما معًا مع الإبقاء على سعادتهما واستمرارها، فضلًا عن تقرير الحقوق والواجبات وتوزيعها.


فطر الله تعالى الكون على وجود ثنائياته من أجل أن تتكامل؛ فخلق الشمس والقمر، والليل والنهار، والسماء والأرض، وكذلك الذكر والأنثى، وهيأ سماتٍ خاصةً بكل جنس وما هو مخلوق لأجله على قدر طاقته وخصائصه، وتترتب على هذه السمات والخصائص مجموعة الوظائف، وفى ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الذاريات: 49]، وقال سبحانه أيضًا: ﴿سُبْحَانَ الَّذِى خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُون﴾ [يس: 36].


مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 01 مايو 2025 م
الفجر
4 :37
الشروق
6 :12
الظهر
12 : 52
العصر
4:29
المغرب
7 : 33
العشاء
8 :57