هل يجوز فتح فتحات تهوية في المقابر لخروج روائح الميت من القبر؟
لا يجوز إحداث فتحةٍ في القبر بحجة إخراج الرائحة من داخله؛ بل إنَّ من تمام الدفن أن تُسَدَّ جميعُ فُرَجِ القبر وتُغلقَ منافذُه؛ صِيانةً لجسم الميت وكتمًا للرائحة؛ كما ورد في السنة، وفعَلَه السلفُ الصالح رضوان الله عليهم، وتواتر عليه عملُ المسلمين عبر العصور؛ وذلك لأنَّ كتم رائحة الميت داخل قبره مِن مقصود دفنه؛ منعًا من انتشارها المستلزم للتأذي بها.
المحتويات
شرَع الله تعالى دَفنَ الميت ومُوارَاة بَدَنِهِ إكرامًا للإنسان وصيانة لحرمته وحفظًا لأمانته؛ حتَّى تُمنَع رائحتُه وتُصانَ جُثَّتُه، وحتى لا تنهشه السباع، أو جوارح الطير؛ قال تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [طه: 55]، وقال تعالى في مَعرِض الِامتِنان: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا﴾ [المرسلات: 25-26]، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾ [عبس: 21]. ولِمَا ورد أنَّ الملائكة عليهم السلام أدخلوا آدم على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام في قبره، ووضعُوا عليه اللَّبِنَ، ثُمَّ حَثَوْا عليه التُّرَابَ، وَقَالُوا: «يَا بَنِي آدَمَ هَذِهِ سُنَّتُكُمْ» أخرجه الإمام أحمد في "المُسند"، والحاكم في "المُستدرك" وصححه، والبيهقي في "السنن الكبرى"، من حديث أُبيِّ بن كعب رضي الله عنه.
قال الإمام أبو منصور الماتُريدي في تفسيره "تأويلات أهل السُنَّة" (7/ 287، ط. دار الكتب العلمية): [قوله: ﴿وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾ إذا متم؛ أي: تقبرون فيها، فيخرج مخرج الامتنان علينا، وذلك لنا خاصة دون غيرنا من الحيوان؛ لئلا نتأذى بهم، كقوله: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾] اهـ.
وقال أيضًا في (10/ 445): [ففي ذكر هذا ذكرُ النعم، وهو أن الله تعالى جعل لِمَا يَخبُثُ ويتغير كِنًّا يَكِنُّ فيه فيستره عن الخلق؛ لئلا يعافوه ويستقذروه، لم يجعل ذلك لغيرهم، وجعل لأنفسهم إذا هم تغيرت أجسادهم بالموت وصارت بحيث تُستخبَث وتُستقذَر: كِنًّا تستتر فيها؛ لتغيب عن الخلق فلا يتأذوا بها، فذكرهم هذا ليشكروه] اهـ.
قد أَجمَعَ المسلمون على أنَّ دَفن الميت من الفروض الكِفائية المتعلقة بحق الإنسان على أخيه؛ قال الإمام أبو بكر بن المنذر في "الإجماع" (ص: 44، ط. دار المسلم): [وأجمعوا على أنَّ دفن الميت لازمٌ واجبٌ على الناس لا يسعهم تركه عند الإمكان، ومن قام به منهم سقط فرض ذلك على سائر المسلمين] اهـ.
القبر: مصدر يدل على ما يستتر به الشيء ويتطامنُ فيه؛ قال العلَّامة ابن فارس في "مقاييس اللغة" (5/ 47، ط. دار الفكر): [(قَبَرَ): القافُ والباءُ والرَّاءُ: أَصْلٌ صحيحٌ يدلُّ على غُمُوضٍ في شَيْءٍ وَتَطَامُنٍ، مِن ذلكَ: القبرُ؛ قَبْرُ الْمَيِّتِ] اهـ.
والمطلوب في القبر حتَّى يصلح للِدَفن سواء كان شَقًّا أو لَحْدًا أو غيرهما -كالفساقي إذا كان في أرضٍ رِخْوَة-: هو حُفرةٌ تُوَارِي الميت، وتَحفظهُ مِن الِاعتِداء عليه، وتَكتم رائحتَه، حتى جعل الفقهاء ذلك هو الأصل في المفاضلة بين اللحد والشق بما يصلح مع طبيعة الأرض، ونصوا على أنَّ ذلك هو أقل ما يحصل به دفن الميت؛ صِيانةً لجسمه، ومنعًا من انتشار رائحته:
قال العلَّامة ابن عابدين الحنفي في حاشيته "رد المحتار" (2/ 234، ط. دار الفكر)، عند بيان حدّ العمق داخل القبر: [والمقصود منه: المبالغةُ في منع الرَّائحة ونبش السباع] اهـ.
وقال العلَّامة خليل المالكي في "التوضيح" (2/ 168، ط. مركز نجيبويه): [فرعٌ: ولا بد في القبر من حفرةٍ تحرس الميت عن السباع وتكتم رائحته] اهـ.
وقال العلَّامة ابن حجر الهيتمي الشافعي في "المنهاج القويم" (ص: 215، ط. دار الكتب العلمية): [وأقل الدفن: حفرة تكتم رائحته، وتحرسه من السباع؛ لأن حكمة الدفن: صونُه عن انتهاك جسمه وانتشار رائحته المستلزم للتأذي بها واستقذار جيفته، فاشترطت حفرة تمنعهما] اهـ.
وقال العلَّامة البُهوتي الحنبلي في "كشَّاف القناع" (2/ 134، ط. دار الكتب العلمية): [(ويكفي ما) أي: التعميق (يمنع الرائحة والسباع)؛ لأنه لم يرد فيه تقدير، فيُرجَع فيه إلى ما يُحَصِّلُ المقصود] اهـ.
قد اتَّخذ الشرع الوسائل والإجراءات التي تحفظ جسم الميت في قبره وتكتم رائحته ما أمكن، فحثَّ على سدِّ خِلال اللَّبِن والحجارة ونحوهما مما تُتَّخَذُ في البناء على الميت؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "أُلْحِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَنُصِبَ عَلَيْهِ اللَّبِنُ نَصْبًا، وَرُفِعَ قَبْرُهُ مِنَ الْأَرْضِ نَحْوًا مِنْ شِبْرٍ" أخرجه ابن حِبَّان في "الصحيح"، والبيهقي في "السنن الكبرى".
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: لَمّا وُضِعَتْ أم كلثوم رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القبر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾»، ثم قال: لا أَدْرِي، أقال: بسم الله وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله، أم لا، فلما بنى عليها لحدها طفق يطرح إليهم الجيوب، ويقول: «سُدُّوا خِلَالَ اللَّبِنِ»، ثُمَّ قَالَ: «أَمَا إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَكِنْ يَطِيبُ بِنَفْسِ الْحَيِّ» أخرجه الإمام أحمد في "المُسند"، والحاكم في "المُستدرك"، والبيهقي في "السنن الكبرى"، وأبو نُعيم في "معرفة الصحابة".
وعن سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه قال: "اصْنَعُوا بِي كَمَا صَنَعْتُمْ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: انْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ وَأَهِيلُوا عَلَيَّ التُّرَابَ" أخرجه الإمام مسلم في "الصحيح".
ولذلك نصَّ فقهاء المذاهب المعتمدة على أنَّ مِن تمام الدفن: إحكامَ غلق القبر على صاحبه، وسدَّ ما فيه من منافذ وفتحات؛ لأنَّ ذلك أبلغ في كتم رائحة الميت، وصيانته من النبش ونحوه:
قال العلَّامة السُّغْدي الحنفي في "النُتَف في الفتاوى" (1/ 131، ط. دار الفرقان):
[أحوال الميت.. والرابع: أن يُسَدَّ اللحد عليه باللبن.
والخامس: أن يُهال التراب عليه بالأيدي ثم يُهال بالمساحي.
والسادس: أن يرش القبر بعد ما يفرغ من إهالة التراب عليه بالماء، وهو تمام الدفن] اهـ.
وقال الإمام بدر الدين العيني الحنفي في "البناية شرح الهداية" (3/ 248، ط. دار الكتب العلمية): [وفي "قاضي خان": ينبغي أن يفرش فيه التراب ويطين الطبقة العليا مما يلي الميت، ويجعل اللبن الخفيف على يمين الميت ويساره ليصير مثل اللحد، وفي "المحيط": واستحسن مشايخنا اتخاذ التابوت للنساء، فإنه أقرب إلى الستر والحرز عند الوضع في القبر] اهـ.
وقال العلَّامة ابن أبي زيد القيرواني المالكي في "النوادر والزيادات" (1/ 649، ط. دار الغرب الإسلامي): [ويُستحَبُّ سدُّ الخلل الذي بين اللَّبِنِ] اهـ.
وقال العلَّامة ابن الحاج المالكي في "المدخل" (3/ 261، ط. دار التراث): [ثم يسد عليه اللحد، وقد كره بعضهم أن يسد بالألواح، ولهم في اللبن اتساع إن كان طاهرًا، وطهارته اليوم معدومة في الغالب، وإذا كان ذلك كذلك: فالحجر يقوم مقامه، ثم يليس ما بين الحجرين بالتراب الطاهر المعجون بالماء الطاهر، وإن كان لا يغني عن الميت شيئًا لكن وردت السنة به فتتبع، ويسد الخلل حيث كان، إذا فرغ منه فقد تم لحده فيصعد إذ ذاك ويُهال عليه التراب] اهـ.
وقال العلَّامة زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب" (1/ 327، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(فرعٌ: ثم) بعد فراغه ممَّا مرَّ (يبنى اللحد) ندبًا (باللبن والطين) أو نحوهما؛ لقول سعد رضي الله عنه فيما مرَّ: "وانصبوا عليَّ اللبن نصبًا"؛ ولأنَّ ذلك أبلغ في صيانة الميت عن النبش.
ونقل النووي في "شرح مسلم": أنَّ اللبنات التي وضعت في قبره صلى الله عليه وآله وسلم تسعٌ، (وتسد فرجه) أي: اللحد بكسر اللبن مع الطين أو بالإذخر ونحوه مما يمنع التراب والهوام] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدامة الحنبلي في "المُغني" (2/ 372، ط. مكتبة القاهرة): [فإذا فرغوا نصبوا عليه اللبن نصبًا، ويسد خلله بالطين؛ لئلا يصل إليه التراب، وإن جعل مكان اللبن قصبًا، فحسن؛ لأن الشعبي قال: "جعل على لحد النبي صلى الله عليه وآله وسلم طن قصب، فإني رأيت المهاجرين يستحبون ذلك"] اهـ.
على ذلك: فلا يجوز إحداث فتحةٍ في القبر بحجة إخراج الرائحة من داخله؛ بل إنَّ من تمام الدفن أن تُسَدَّ جميعُ فُرَجِ القبر وتُغلقَ منافذُه؛ صِيانةً لجسم الميت وكتمًا للرائحة؛ كما ورد في السنة، وفعَلَه السلفُ الصالح رضوان الله عليهم، وتواتر عليه عملُ المسلمين عبر العصور؛ وذلك لأنَّ كتم رائحة الميت داخل قبره مِن مقصود دفنه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
ما حكم القنوت في الصلاة لصرف فيروس كورونا؛ فقد انتشر فيروس كورونا الذي اجتاح بعض مدن الصين وانتقل لدول أخرى، ومات بسببه الكثير من الأشخاص؛ من المسلمين وغيرهم: فما حكم القنوت في الصلاة لرفع هذا الفيروس الوبائي والشفاء منه، أو لدفعه وصرفه عن من لم يصل إليهم؟ وهل يشرع القنوت للبلاد التي وقع فيهم هذا الفيروس، أم أنه مشروع من عموم البلدان؟ وهل يجوز الدعاء لعموم الناس، أم لخصوص المسلمين؟
هل نحن مأمورون باتباع رأي الدولة في التعليمات والتوجيهات الخاصة بوباء كورونا؟ وهل نحن مأجورون على ذلك، خاصة لما فيها من تقييد لحرية الإنسان الخاصة؟
يشيع في الدراسات الفقهية الاستدلال بقاعدة: "للإمام تقييد المباح"، فما معنى هذه القاعدة؟ وهل هي على إطلاقها؟
ما حكم الإقامة في بلاد غير المسلمين؟ فلي شقيقة تعيش في أمريكا مع زوجها، وعندهم خمسة من الأولاد كلهم مسلمون ومحافظون على الدين الإسلامي ويعظمون أركانه، ويعيشون عيشة هادئة في مجتمع يتبادلون فيه مع من يتعاملون معهم من مجاملات وتهاني، إلى غير ذلك. فهل يعتبرون كفارًا لأنهم يعيشون في مجتمع غير إسلامي، رغم إيضاحنا لفضيلتكم أنهم على الدين الإسلامي، ويؤدون ما يفرضه عليهم الدين من الشهادتين وأداء الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والتعامل الحسن بما يرضي الله ورسوله، مع العلم أنَّه لا يوجد من يؤثر على دينهم أو يمسُّ أو يقترب من جوهر عقيدتهم أو يحول بينهم وبين القيام بتكاليف الدين الإسلامي؟
ما حكم التجنس بجنسية دولة غير إسلامية؟ فالسائل عربي مسلم مغربي الجنسية، وشاء القدر أن يقيم هو وأسرته المكوَّنة من زوجة وسبعة أولاد في فرنسا؛ لأن عمله الذي يتعيش منه هناك، ولأجل أن يتمتع هو وأسرته بالحقوق والمزايا التي يتمتع بها الفرنسيون فلا بد أن يتجنس هو وأسرته بالجنسية الفرنسية. وطلب السائل بيان الحكم الشرعي في هذا الموضوع، وهل تجنسه هو وأسرته بالجنسية الفرنسية حرام أم حلال؟
حكم قراءة صحيح البخاري وكتب السنة لرفع الوباء حيث ورد سؤال يقول صاحبه: في ظِلِّ ما يمرُّ به العالمُ من تفشِّي وباء كورونا يقومُ بعضُ العلماء وطلبة العلم بتنظيم قراءة "صحيح البخاري" بتقسيمه على من يحِبُّ المشاركةَ في ختمه، عن طريق وسائلِ التواصل الاجتماعي؛ تبرُّكًا وتوسُّلًا إلى الله تعالى لكشْف وباء كورونا، جريًا على ما اعتاده علماءُ الأزهر من قراءته في الملمَّات والنوازل: كدفع الوباء، وكشف البلاء، ومواجهة الغلاء.
لكن خرج بعضُ مدَّعي العلمِ على بعض المواقع زاعمًا أن التَّعبُّدَ بتلاوة صحيح البخاري لمجرد التِّلاوة بدعة، وأن التبرُّك والتوسُّل به حرام، وأنه لا فرقَ في ذلك بين "صحيح البخاري" و"مسلم" مثلًا، وأنها مجرَّد طقوس ابتدعها بعض الجهلة لمواجهة الأوبئة، وأنَّ توظيف "صحيح البخاري" للاستشفاء والتحصين لرفع البلاء أمرٌ متكلَّف، وأنَّ من ضرورياتِ الدين أنَّ المقصودَ مِن كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم هو العمل بِمَا فيهما مِن الأوامرِ والنَّواهي، والإيمان بِمَا فيهما مِن الأخبار، وليس المقصود مجرَّد تلاوتهما ألفاظًا وتعبُّدًا.. فبَيِّنوا لنا الصوابَ في ذلك مشكورين.
1- عادة إقراء "صحيح البخاري" عند النوازلِ من الكوارثِ والأوباء قديمة، جرت على لسان السراج البلقيني في اليقظة والمنام.
2- لعل أمر هذه الظاهرة يعودُ إلى أقدم من وباء الطاعون الذي عمَّ الدنيا سنة 749هـ، واشتهرت هذه الظاهرة عند قدوم تيمورلنك إلى بلاد المسلمين.
3- أشهر الإمام سراج الدين البلقيني العمل بها، ودوَّنتها كتب التراجم والتأريخ، ونقلنا ذلك عنه فيما مضى.
4- التحقيق أن هذا العمل ليس موصولًا بعصور السلف، وأنَّ شيوعَه وذيوعَه بحكم وقوعه ووجوده لا يعطيه الحجِّية، وأنه ما زال يحتاجُ للدليل، وأن مجرَّد رؤيةِ النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يأمرُ به لا يكفي مُستَدلًّا؛ فالمنامات يُسْتَأنس بها وليست -عند أهل السنة والجماعة- حجةً وبرهانًا، وأن الاتِّكاء عليها مع ترْك الأخْذ بالأسباب بدعةٌ في الدين، ومضادَّة لمقاصدِ الشريعة الكلية، والله المستعان وهو الواقي والعاصم.