ما السِّر في مجيء كلمة "الظلمات" جمعًا وإفراد كلمة "النور" في صدر سورة الأنعام: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾، وكذلك في جميع القرآن الكريم؟
السِّر في جَمْع كلمة "الظلمات" وإفراد كلمة "النُّور" في الآية المذكورة ممَّا تنوعت فيه كلمةُ العلماء مِن أنه كان اتباعًا للاستعمال، لأن لفظ (الظلمات) بالجمع أخف، ولفظ (النُّور) بالإفراد أخف، وهما معًا دالان على الجنس، والتعريف الجنسي يستوي فيه المفرد والجمع، أو أنَّ السبب في تعدد الظلمات راجع إلى كون الباطل له وجوه كثيرة متعددة ومتنوعة، بخلاف النُّور فهو مفردٌ متحدٌ، أو أن في ذلك إشارة إلى جنس كلٍّ منهما، فالنُّور له جنسٌ واحدٌ وهو النار، والظلمات كثيرة؛ ولأن كلَّ جِرْمٍ له ظِلٌّ، والظِّلُ هو الظلمة، ومنهم مَن يرى أن النُّور يتعدى إلى غيره بخلاف الظلمة فهي جامدة لا تتعدى؛ فنَاسب المتعدي أن يكون مفردًا، وغير المتعدي أن يكون جَمْعًا.
المحتويات
سورة الأنعام لها من الفضل العظيم والقدر الجليل ما لا يخفى، ومن ذلك: أنه قد نزل يُشيعها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمينُ الوحي جبريل عليه السلام ومعه سبعون ألف مَلَكٍ، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: لما نزلت سورة الأنعام سبَّح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: «لَقَدْ شَيَّعَ هَذِهِ السُّورَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا سَدَّ الْأُفُقَ» رواه الحاكم في "المستدرك"، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ وَمَعَهَا مَوْكِبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ سَدَّ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ، وَالْأَرْضُ بِهِمْ تَرْتَجُّ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ» ثلاثَ مراتٍ، رواه البيهقي في "شعب الإيمان"، و"السنن الصغرى".
قال الإمام الفخر الرازي في "مفاتيح الغيب" (12/ 471، ط. دار إحياء التراث): [قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنها مكية نزلت جملة واحدة، فامتلأ منها الوادي، وشيَّعها سبعون ألف ملك، ونزلت الملائكة فملؤوا ما بين الأخشبين، فدعا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الكُتَّاب وكتبوها من ليلتهم إلا ست آيات، فإنها مدنيات: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: 151] إلى آخر الآيات الثلاث، وقوله: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: 91] الآية، وقوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الأنعام: 93]] اهـ.
قد وردت كلمتا ﴿الظُّلُمَاتِ﴾ و﴿النُّورَ﴾ مجتمعتين في القرآن الكريم في مواضع متعددة تزيد على العشر، وأُفِرد كلٌّ منهما بالذكر مراتٍ كثيرة؛ لمناسبة كلِّ موضعٍ ودلالته على معنًى آخر، فهما من الثنائيات في القرآن الكريم التي يرتبط بعضها مع بعض بعلائق إما لفظية أو معنوية.
وللعلماء في معنَى الظلمات والنُّور في قول الله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ من سورة الأنعام معانٍ، فمنهم مَن يرى أن المقصود بالظلمات: الليل، وبالنُّور: النهار، ومنهم مَن يرى أنَّ المقصود بالظلمات: الجهل، وبالنُّور: العلم، ومنهم مَن يرى أن المراد بالظلمات: المعصية، وأن المراد بالنُّور: الطاعة، ومنهم مَن يرى غير ذلك.
قال الطبري في "جامع البيان" (11/ 247، ط. مؤسسة الرسالة): [القول في تأويل قوله: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾، قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وأظلم الليل، وأنار النهار] اهـ.
وقال الإمام أبو المظفر السمعاني في "تفسيره" (2/ 86، ط. دار الوطن): [وقيل: أراد بالظلمات: الجهل، وبالنُّور: العلم، وقيل: أراد بالظلمات: المعصية، وبالنُّور: الطاعة] اهـ.
فحقيقة النُّور هو ما تنكشف به الحجب وغيرها من الأمور المستورة، فيُشرق القلب كلما اخترقه جزءٌ من النُّور، فيزيل عنه الظلام، ويدحض عنه الشَّك.
قال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (3/ 129، ط. دار الوفاء): [حقيقة النُّور: أنه الذي به تنكشف الأمور، وتظهر المخبآت، وتنكشف الحجب والسواتر به، وهو معنى يقوم بالأجسام، وربما سميت الأجسام الملازمة بالوصف بهذه الأوصاف أنوارًا، إذ لا تخلو منها، فهو كله خَلْق من خَلْق الله وفعل من أفعاله، فهو منوِّر الآفاق بهذه الأنوار، فيزيل عنها الظلام، ويكشف اللبس والعشا من الأبصار، فيسلكون به سبلهم، ويهتدون به إلى شؤونهم، فيُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وسُمِّيَ القرآن بذلك؛ لهداية قلوب المؤمنين، وكشف الريب والشك، وإيضاح سبل الحقِّ وطرق الهدى والرشد] اهـ.
وأما الحكمة في إفراد لفظ "النُّور"، وجَمْع "الظلمات" في الآية المذكورة فلأمور متعددة منها: إيضاح ما بينهما من فوارق من حيث المصدر والمبدأ لهما، ومن حيث اللفظ والمعنى، وقد أكثر في ذكر تفسير ذلك العلماء، منها ما يلي:
- أن في إفراد النُّور وجَمْع الظلمات علاقة عكسية وإشارة إلى جنس كلٍّ منهما، فالنُّور له جنسٌ واحدٌ وهو النار، والظلمات كثيرة؛ لأن كلَّ جرم له ظل، والظل هو الظلمة.
قال الإمام الزمخشري في "الكشاف" (2/ 3-4، ط. دار الكتاب العربي): [فإن قلت: لم أفرد النُّور؟ قلت: للقصد إلى الجنس، كقوله تعالى: ﴿وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا﴾ [الحاقة: 17]، أو لأن الظلمات كثيرة، لأن ما من جنس من أجناس الأجرام إلا وله ظل، وظله هو الظلمة، بخلاف النُّور، فإنه من جنسٍ واحدٍ وهو النار] اهـ.
قال الطاهر ابن عاشور في "التحرير والتنوير" (7/ 127-128، ط. الدار التونسية): [وخص بالذكر من الجواهر والأعراض عرضين عظيمين، وهما: الظلمات والنور، فقال: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ لاستواء جميع الناس في إدراكهما والشعور بهما. وبذكر هذه الأمور الأربعة حصلت الإشارة إلى جنسي المخلوقات من جواهر وأعراض. فالتفرقة بين فعل (خلق) وفعل (جعل) هنا معدود من فصاحة الكلمات. وإن لكلِّ كلمة مع صاحبتها مقامًا.. وقدم ذكر الظلمات مراعاة للترتب في الوجود؛ لأن الظلمة سابقة النُّور، فإن النُّور حصل بعد خلق الذوات المضيئة، وكانت الظلمة عامة. وإنما جَمَع الظلمات وأَفْرَد النُّور؛ اتباعًا للاستعمال، لأن لفظ (الظلمات) بالجمع أخف، ولفظ (النُّور) بالإفراد أخف، ولذلك لم يرد لفظ (الظلمات) في القرآن إلا جمعًا، ولم يرد لفظ (النُّور) إلا مفردًا. وهما معًا دالان على الجنس، والتعريف الجنسي يستوي فيه المفرد والجمع، فلم يبق للاختلاف سبب لاتباع الاستعمال، خلافًا لما في "الكشاف"] اهـ.
- أن لفظ "النُّور" أُفْرِد لكونه شيئًا واحدًا وإن تعدَّد مصدره، وهو يكون قويًّا ويكون ضعيفًا، وأما لفظ "الظلمة" فقد جُمع؛ لأنَّ الظلمة هي كل ما يحجب النُّور من الأجسام غير النيرة، وهي كثيرة جدًّا.
قال الإمام النيسابوري في "غرائب القرآن" (3/ 47-48، ط. دار الكتب العلمية): [قيل: لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة، والنُّور من النار، ولهذا جمع الظلمات إذ لكلِّ جرمٍ ظل، والظل ظلمة.
ووَحَّدَ النُّور؛ لأن النار واحد وهو منها، والظلمة والنُّور هاهنا هما الأمران المحسوسان بالبصر؛ لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة، والقرينة ذكر السماوات والأرض.. وجمع الظلمات ووحد النُّور؛ لأن النُّور عبارة عن تلك الكيفية الكاملة القوية، ثم إنها تقبل التناقص قليلًا قليلًا وتلك المراتب كثيرة أو لأنه قصد بالنُّور الجنس.. ولأنَّ الحقَّ واحد، والباطل أكثر من أن يحصى] اهـ.
- أن النُّور يتعدى إلى غيره، بخلاف الظلمة فهي جامدة لا تتعدى، فناسب المتعدي أن يكون مفردًا، وغير المتعدي أن يكون جمعًا.
نقل الإمام أبو إسحاق الثعلبي في "الكشف والبيان" (4/ 132، ط. دار إحياء التراث العربي) قول قتادة في الحكمة من وراء هذا الجمع: [وإنما جمع الظلمات ووحد النُّور؛ لأن النُّور يتعدى، والظلمة لا تتعدى] اهـ.
- أن السبب في تعدد الظلمات كون الباطل له وجوه كثيرة متعددة ومتنوعة، بخلاف النُّور فهو مفردٌ متحدٌ.
قال العلامة أبو السعود في "إرشاد العقل السليم" (7/ 149، ط. دار إحياء التراث العربي): [وجَمَع الظلمات مع أفرادِ النُّورِ لتعدُّدِ فنونِ الباطلِ واتِّحاد الحقِّ] اهـ.
وقال نظام الدِّين النيسابوري في "غرائب القرآن" (3/ 47، ط. دار الكتب العلمية): [وعلى الثاني: فذلك لأن الحقَّ واحدٌ، والباطل أكثر من أن يحصى] اهـ.
بناءً على ذلك: فإنَّ السِّر في جَمْع كلمة "الظلمات" وإفراد كلمة "النُّور" في الآية المذكورة ممَّا تنوعت فيه كلمةُ العلماء مِن أنه كان اتباعًا للاستعمال؛ لأن لفظ (الظلمات) بالجمع أخف، ولفظ (النُّور) بالإفراد أخف، وهما معًا دالان على الجنس، والتعريف الجنسي يستوي فيه المفرد والجمع، أو أنَّ السبب في تعدد الظلمات راجع إلى كون الباطل له وجوه كثيرة متعددة ومتنوعة، بخلاف النُّور فهو مفردٌ متحدٌ، أو أن في ذلك إشارة إلى جنس كلٍّ منهما، فالنُّور له جنسٌ واحدٌ وهو النار، والظلمات كثيرة؛ ولأن كلَّ جِرْمٍ له ظِلٌّ، والظِّلُ هو الظلمة، ومنهم مَن يرى أن النُّور يتعدى إلى غيره بخلاف الظلمة فهي جامدة لا تتعدى؛ فنَاسب المتعدي أن يكون مفردًا، وغير المتعدي أن يكون جَمْعًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
برجاء التكرم بإفادتنا؛ هل يجوز إعطاء زكاة المال والصدقات لصالح أحد المراكز المتخصصة للاكتشاف المبكر وعلاج سرطان السيدات بالمجَّان، على أن يتم إنفاق تلك الزكاة والصدقات في مجالات تجهيز المركز وتشغيله؟
ما حكم إخراج زكاة الفطر مالًا نقديا؟ حيث تعمل جمعية في منطقة فقيرة، بل مُعدَمة، واحتياجات الفقراء فيها كثيرة جدًّا، فهم يحتاجون إلى الطعام والكساء والمال لتدبير كثير من احتياجاتهم اليومية، ومع حلول شهر رمضان تتجدد مشكلة زكاة الفطر السنوية؛ وذلك لوجود مجموعة من الشباب تنشر بين جمهور أهالي المنطقة فكرةَ عدمِ جواز إخراج زكاة الفطر إلا حبوبًا، بل تهاجم القائمين على إدارة الجمعية وتطالبهم بشراء حبوب بكل المال من الصندوق المخصص لزكاة الفطر.
نرجو منكم بيان نصاب زكاة المال والمقدار الواجب شرعًا في إخراجها.
للسائل صديق لديه كمية من الأسهم ليست للمضاربة ولكنها مدخرة كرصيد بدلًا من وضعها في البنك، ويسأل: هل يتم استخراج قيمة الزكاة من قيمة الأسهم الحالية، أم عن أصل قيمة الأسهم وقت الشراء؟ أم عن الأرباح من وقت شراء الأسهم؟
نرجو منكم توضيح ما ورد من أقوال العلماء في بيان المراد بمصرف "في سبيل الله" من مصارف الزكاة والاستفادة منه في واقعنا المعاصر.
ما حكم الزكاة في المال الموقوف على جهة عامة؟ حيث تمتلك لجنة زكاةٍ بمسجدٍ مشروعَ مستشفًى خيري ملحق به صيدلية داخلية للتيسير على أهالي المنطقة، ويترتب على هذا المشروع عائدٌ ماليٌّ يُنفَق منه على احتياجات المستشفى وتطويره بالأجهزة الحديثة، ويتبقى من هذا العائد مبلغ يتجاوز النِّصاب، ويحُولُ عليه الحَوْل، فهل على هذا المال زكاة؟
وتقوم لجنة الزكاة بالمسجد بالإنفاق لتجهيز دارٍ للمناسبات العامَّة للتيسير على الأهالي، كما قامت اللجنة بشراء بعض الأجهزة الطبية للمساعدة في سدِّ العجز بالمستشفى العام، وهذا الإنفاق يتمُّ من عائد مشروع المستشفى الخيري والصيدلية الملحقة به والمشار إليها سابقًا.
فهل تعتبر قيمة هذه الأجهزة المتبرَّع بها إلى المستشفى المذكورة، والمبالغ التي أُنفقت على تجهيز دار المناسبات العامة من زكاة المال المستحقَّة على عائد تلك المشروعات إذا كان في عائدها زكاة؟