ما حكم كيِّ الماشية بالنار لتمييزها؟ فرجلٌ يملك عددًا كبيرًا من الماشية، ويقوم برعيها في الصحراء ومواطن الخُضرة، ويحتاج إلى تمييزها عن ماشية غيره خشية الاختلاط، فهل يجوز له وسمها بالكي بالنار لتمييزها عن غيرها؟
لا مانع شرعًا من وَسْم الرجل الماشية التي يملكها بإحداث علامة فيها عن طريق كيِّها بالنار إذا دعت الحاجةُ وتعيَّن لتمييزها أن تختلط بغيرها إن هي رعت معها في الصحراء ومواطن الخُضرة، وبشرط أن يكون هذا الوسم على قدر ما يتحقق به التمييز دون تجاوز ولا مبالغة، وألَّا يكون في الوجه، وإنما يكون في موضِعٍ صلبٍ، ظاهرٍ، غير حساسٍ، لا يَكثرُ فيه الشَّعر من جسد البهيمة، كالفخذ من البقر، والأذن من الغنم، وأن يكون ذلك بالرجوع إلى الأطباء البيطريين المختصين، مع مراعاة الرفق بالحيوان، والحرص على تقليل الأذى عنه في ذلك ما أمكن.
المحتويات
إن من أعظم ما امتاز به الشرع الحنيف العناية الشاملة بجميع المخلوقات والكائنات، واهتمامه البالغ بذلك، حتى شملت رحمته الإنسان والحيوان والجماد، فقرر مبدأ الإحسان في كل شيء، وأوصى بالرفق في جميع الأحوال، وجعل من الرحمة مقياسًا للتقوى، ومعيارًا للفضل، فقال تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195]، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ» أخرجه الإمام مسلم.
ومن هنا جاءت أحكام الشريعة متزنة، تراعي مصلحة الإنسان، مع صيانة كرامة الحيوان، وتُوازن بين الضرورة والحاجة، والرحمة والرفق، فتُجيز من التصرفات ما تدعو إليه الحاجة، وتنهى عن كل ما فيه تعذيب أو ظلم أو اعتداء.
الوَسْمُ هو: أثر الكي بالنار، وهو العلامة التي توضع على الشيء للتمييز بأي ضرب من الضروب، تَقول العرب: بعيرٌ مَوْسوم: أَي قد وُسِم بِسمَةٍ يُعرَف بهَا، إِمَّا كيَّةٌ أَو قَطْعٌ فِي أذُنه، أَو قَرْمَةٌ تكونُ عَلامَة لَهُ، كما في "تهذيب اللغة" للعلامة أبي منصور الهَرَوِي (13/ 77، ط. دار إحياء التراث العربي)، و"لسان العرب" للعلامة ابن مَنْظُور (12/ 635، ط. دار صادر).
من المقرر في الشرع الشريف جوازُ وسم البهائم عند الحاجة، من نحو تمييزها عن غيرها، أو لمعرفة أصحابها، وتيسير الاستدلال عليها واستردادها إذا هي ضاعت أو شردت أو اختلطت بغيرها.
والأصل في ذلك: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «وَهُوَ يَسِمُ الظَّهْرَ الَّذِي قَدِمَ عَلَيْهِ فِي الْفَتْحِ» متفق عليه. فأفاد الحديثُ جواز الوسم عند الحاجة إليه، من نحو تمييز الحيوان بعضه من بعض، كما في "شرح صحيح الإمام مسلم" للإمام النَّوَوِي (14/ 99، ط. دار إحياء التراث العربي).
وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
قال الإمام ابن نُجَيْم الحنفي في "البحر الرائق" (8/ 232، ط. دار الكتاب الإسلامي): [ولا بأس بكيِّ البهائم للعلامة] اهـ.
وقال الإمام النَّفَرَاوِي المالكي في "الفواكه الدواني" (2/ 345، ط. دار الفكر): [(ولا بأس به) أي: بالوسم (في غير ذلك) أي: في غير الوجه، كالجمل، والفرس، والبقرة... لئلَّا تختلط بغيرها، فَيَعرفُها مالكها بوسمِ اسمه عليها] اهـ.
وقال الإمام النَّوَوِي الشافعي في "روضة الطالبين" (2/ 336، ط. المكتب الإسلامي): [وسم النَّعَمِ جائزٌ في الجملة، ووسمُ نَعَمِ الزكاة والفيء لتتميز وليردَّها من وجدها ضالةً] اهـ.
وقال الإمام البُهُوتِي الحنبلي في "كشاف القناع" (5/ 581، ط. دار الكتب العلمية): [ويجوز وسم البهيمة في غير الوجه لغرض صحيحٍ] اهـ.
إلا أن ذلك مقيد بضوابط وشروط يجب مراعاتها:
1- أن يكون الوسم لغرض صحيح وحاجة معتبرة شرعًا، كالتمييز والعلامة خشية اختلاط الماشية بغيرها، وليس على سبيل العبث والتعذيب، حتى لا يكون مُثلة وتشويهًا للحيوان، وكلاهما منهي عنه شرعًا؛ لما فيه من الإيذاء والإيلام من غير حاجة، وقد صح عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه «كَانَ يَحُثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُثْلَةِ» أخرجه الإمام البخاري.
قال الإمام النَّوَوِي في "المجموع" (6/ 177، ط. دار الفكر): [الكي بالنار إن لم تَدْعُ إليه حاجةٌ حرام؛ لدخوله في عموم تغيير خلق الله، وفي تعذيب الحيوان] اهـ.
وقال العلامة البُجَيْرِمِي في "حاشيته على شرح المنهج" (3/ 319، ط. الحلبي) عند بيان حكم الوسم للبهائم التي ليست للصدقة ولا للجزية: [وقال (ع ن): قوله: فوسمهُ مباحٌ، أي: إذا كان لحاجةٍ، وإلا حَرُم] اهـ. والمقصود بـ(ع ن) هو الإمام العَنَانِي صاحب كتاب "فتح الكريم الوهاب على شرح تنقيح اللُّباب".
2- أن يكون الوسم على قدر الحاجة دون تجاوز ولا مبالغة، بأن يقتصر على العلامة الكافية للتمييز، فإن تجاوز ذلك إلى ما لا تدعو إليه الحاجة فإنه يدخل في دائرة العبث والتعذيب المنهي عنهما شرعًا، وقد تقرر في قواعد الشرع الشريف أن "ما جاز للضرورة يُقدَّر بقدرها".
قال العلامة البُجَيْرِمِي في "حاشيته على شرح المنهج" (3/ 318): [ينبغي ألَّا يزيدَ في الوسمِ على قدر الحاجة، فإذا حصلت بالوسم في موضعٍ لا يَسِمُون في موضِع آخر؛ لما فيه من التعذيب للحيوان بلا حاجة] اهـ.
3- أن يتعين الوسمُ طريقةً لتمييز الحيوان عن غيره إذا اختلطت الماشية، بحيث لا توجد طريقة أخرى لتمييزه لا يتعرض فيها للإيلام، كما في "الفروع" للعلامة ابن مُفلِحٍ (9/ 331، ط. مؤسسة الرسالة).
4- أن يكون الوسم بعيدًا عن الوجه؛ لما ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الضَّرْبِ فِي الْوَجْهِ، وَعَنِ الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ» أخرجه الإمام مسلم، وفي رواية أخرى عنه رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَيْهِ حِمَارٌ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: «لَعَنَ اللهُ الَّذِي وَسَمَهُ» أخرجها الإمام مسلم.
قال الإمام النَّوَوِي في "شرح صحيح الإمام مسلم" (14/ 97، ط. دار إحياء التراث العربي): [وأمَّا الوسمُ في الوجه فمنهي عنه بالإجماع للحديث] اهـ.
5- أن يكون الوسم في موضِعٍ صلبٍ من جسد البهيمة، غير حساسٍ، لا يَكثرُ فيه الشَّعر، بحيث يكون ظاهرًا ويُحقق غرض التمييز والعلامة المطلوبة دون إلحاق ضرر بالغٍ بالحيوان، كنحو الأذن للأغنام، والأفخاذ للبقر ونحوها، وذلك تقليلًا للألم، ورفعًا للضرر قدر الإمكان.
قال الإمام النَّفَرَاوِي في "الفواكه الدواني" (2/ 345) في بيان موضِع الوسم المباح للحاجة: [ويوسمُها في رقبتها أو جنبها، والعَنزُ في أُذنهَا] اهـ.
وقال الإمام النَّوَوِي في "روضة الطالبين" (2/ 336): [وليكن الوسمُ على موضعٍ صُلبٍ ظاهرٍ، لا يَكثرُ الشَّعر عليه، والأَولى في الغنم: الآذان، وفي الإبل والبقر: الأفخاذ] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدَامَة في "الكافي" (1/ 422، ط. دار الكتب العلمية): [ويَسمُ الإبل والبقر في أصول أفخاذها؛ لأنه موضِعٌ صلبٌ يَقل ألم الوسم فيه، وهو قليل الشَّعر، فتظهر السِّمةُ، ويَسمُ الغنم في آذانها] اهـ.
6- أن يكون ذلك بالرجوع إلى الأطباء البيطريين المختصين، باعتبارهم أهل الذكر في هذا الأمر، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بسؤال أهل الذكر كل في تخصصه، فقال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فلا حرج على الرجل المذكور في وَسْم ماشيته التي يملكها بإحداث علامة فيها عن طريق كيِّها بالنار إذا دعت الحاجةُ وتعيَّن لتمييزها أن تختلط بغيرها إن هي رعت معها في الصحراء ومواطن الخُضرة، وبشرط أن يكون هذا الوسم على قدر ما يتحقق به التمييز دون تجاوز ولا مبالغة، وألَّا يكون في الوجه، وإنما يكون في موضِعٍ صلبٍ، ظاهرٍ، غير حساسٍ، لا يَكثرُ فيه الشَّعر من جسد البهيمة، كالفخذ من البقر، والأذن من الغنم، وأن يكون ذلك بالرجوع إلى الأطباء البيطريين المختصين، مع مراعاة الرفق بالحيوان، والحرص على تقليل الأذى عنه في ذلك ما أمكن.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
ما حكم تحويل سقيا الماء المشترك؛ حيث سأل رجل فيما إذا كان لرجلٍ دارٌ جاريةٌ في ملكه لا ينازعه فيها أحد، وليس فيها شائبة وقف، يجري الماء من نهر عام في جدول خاص بتلك الدار إلى فسقية فيها، فيأخذ منه كفايته، وما فضل يجري إلى مسجد لصيق لها، يريد الرجل المذكور أن ينقل هذا الماء إلى محل آخر من داره ولو أكبر من الفسقية يكون أقرب إلى المسجد المذكور، فهل له ذلك؟ أفيدوا الجواب ولكم الثواب.
هل عندما أكون على ثقافة دينية أصبح مفتيًا في أمور بسيطة؟
ما حكم الاستيلاء على أموال غير المسلمين؟ حيث إنني أعيش في بلاد يكثر فيها غير المسلمين، وأسمع كثيرًا من المسلمين المقيمين في هذه البلاد يقولون: إن الاستيلاء على الأموال التي يتملكها غير المسلمين بالطرق المختلفة مباح أخذها؛ بحجة أنهم ليسوا على ديننا ومن كان كذلك فيجوز استحلال أموالهم، فما مدى صحة ذلك، وهل يجوز لي أخذها؟
ما حكم إلقاء القمامة والحيوانات النافقة في مياه النيل والترع؟
ما حكم حدوث الخلوة بين الكافل والمكفول، إذا كان المكفول شارف البلوغ، والكافل ليس كبيرًا في السن؟
ما حكم الكذب من أجل الحج؟ حيث يقوم بعض الناس بالكذب بشأن البيانات التي تطلب منهم من الجهات الرسمية، فيخبرون بغير الحقيقة من أجل السفر إلى الحج؛ كأن يخبر بأنه لم يسبق له الحج قبل ذلك، فهل الكذب في مثل هذه الحالات جائز؟ وهل يجوز لسائق مثلًا أن يدَّعي كذبًا أنه سبق له السفر إلى الحج من أجل الحصول على عقد للعمل كسائق خلال موسم الحج؟ وهل يجوز التخلف عن المدة المسموح بها لأداء الشعائر، والبقاء بالأراضي المقدسة من أجل العمل أو العبادة؟