هل يجوز للطبيب أن يفشي سر المريض إذا خشي الضرر على الآخرين؟
الأصل حرمة إفشاء الطبيب أسرار مرضاه التي اطلع عليها بحكم مهنته ما لم توجد ضرورة تستوجب ذلك، فإن وجدت ضرورة بأن تيقّن وقوع ضرر جسيم يتعدى إلى الغير فيجب عليه إبلاغ السلطات المعنية برفع ذلك، ولا يكون بذلك خائنًا للأمانة التي اؤتمن عليها في حفظ أسرار مرضاه، مع مراعاة ألا يتعدى في الإفشاء إلى غيرهم، وإلا عُد خائنًا للأمانة آثمًا.
المحتويات
من أجلِّ القيم التي اشتملت عليها الشريعة الإسلامية الأمانة، فبها تُصان حقوق الله وحقوق العباد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعرف قبل البعثة بالصادق الأمين، وقد مدح الله عباده المؤمنين وأثنى عليهم بحفظهم الأمانات؛ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ [المؤمنون: 8]، ونهى سبحانه وتعالى عن خيانة الأمانة؛ فقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27]، ومفهوم الأمانة يشمل كل ما يتوجب حفظه وأداؤه، فتشمل حفظ الودائع، والأمانة في العمل، وحفظ الأسرار وهي أوكدها وأعظمها.
قال الإمام أبو البقاء الكفوي الحنفي في "الكليات" في تعريف الأمانة (ص: 187، ط. مؤسسة الرسالة) [كل ما افترض على العباد فهو أمانة كصلاة وزكاة وصيام وأداء دين، وأوكدها الودائع، وأوكد الودائع كتم الأسرار] اهـ.
والسر هو ما يُخفى ويُكتم، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: 7] قال الإمام الطبري في "تفسيره" (16/ 16، ط. دار هجر): [قال ابن زيد في قوله: ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ يعلم أسرار العباد، وأخفى سره فلا يُعلم. قال أبو جعفر: وكأن الذين وجهوا ذلك إلى أن السر هو ما حدث به الإنسان غيره سرًّا] اهـ.
وحفظ سر الغير أمانة واجبة، ثوابها يعدل ثواب ستر العورات؛ فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ...، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» رواه الشيخان.
كما أن إفشاء الأسرار من خيانة الأمانة التي هي من خصال المنافقين؛ فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ، كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» متفق عليه.
وإن كانت النصوص ظاهرة في تأكيد حفظ الأمانة، ومنها حفظ سر الغير، إلا أنها تتأكد وتجب عند من يتعرض لأسرار الناس بحكم عمله ووظيفته، كعمل الطبيب وهي الحالة المسؤول عنها، حيث تقتضي مهنته الاطلاع على أحوال المريض عند الفحص والتشخيص.
يجب على الطبيب أن يحافظ على أسرار مرضاه، ويحرم عليه إفشاؤها؛ حيث إن في إفشائها وقوعًا في الغيبة المحرمة؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة الحجرات: 12].
قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (16/ 337، ط. دار الكتب المصرية): [لا خلاف أنَّ الغيبة من الكبائر، وأنَّ مَن اغتاب أحدًا عليه أن يتوبَ إلى الله عز وجل] اهـ.
وجه الدلالة: أن إفشاء سر المريض -والذي لا يحب لأحد أن يطلع عليه- وجه من وجوه الغيبة؛ لأنه فيه ذكر للمريض بما يكره وهو عين الغيبة المحرمة.
وقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27].
قال الإمام الفخر الرازي في "مفاتيح الغيب" (10/ 109، ط. دار إحياء التراث) [واعلم أن معاملة الإنسان إما أن تكون مع ربه أو مع سائر العباد، أو مع نفسه، ولا بد من رعاية الأمانة في جميع هذه الأقسام الثلاثة. أما رعاية الأمانة مع الرب: فهي في فعل المأمورات وترك المنهيات...، وأما القسم الثاني: وهو رعاية الأمانة مع سائر الخلق فيدخل فيها رد الودائع، ويدخل فيه ترك التطفيف في الكيل والوزن، ويدخل فيه أن لا يفشي على الناس عيوبهم] اهـ.
والأمر بأداء الأمانات يدخل فيه كل ما يؤتمن عليه الشخص، والطبيب مؤتمن على ما يطلع عليه من أسرار مرضاه، وحفظه لها من قبيل أداء الأمانات، فيحرم عليه إفشاؤها وإذاعتها ما لم يكن هناك ضرورة في ذلك، وإذا فعل ذلك عد خائنا للأمانة مضيعًا لها.
ولأن في إفشائها هتكًا لستر الغير، والنصوص آمرة بوجوب ستر المسلم لأخيه المسلم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لا يستر الله على عبد في الدنيا، إلا ستره الله يوم القيامة» رواه الإمام مسلم.
وقال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (8/ 61، ط. دار الوفاء): [قوله: "[لا يستر الله عبدًا] في الدنيا إلا ستره يوم القيامة ": يكون ستره له ستر عيوبه ومعاصيه عن إذاعتها على أهل المحشر، وقد يكون ترك محاسبته عليها وذكرها له. والأول أظهر] اهـ.
وقال ابن الحاج المالكي في " المدخل" (4/ 135، ط. دار التراث): [وينبغي أن يكون الطبيب أمينا على أسرار المرضى فلا يُطلع أحدًا على ما ذكره المريض؛ إذ إنه لم يأذن له في اطلاع غيره على ذلك، ولو أذن فينبغي أن لا يفعل ذلك معه] اهـ.
وقال العالم الطبيب ابن أبي أصيبعة في "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" في بيان قسم أبقراط (45، ط. دار مكتبة الحياة]: [أما الأشياء التي أعاينها في أوقات علاج المرضى أو أسمعها في غير أوقات علاجهم في تصرف الناس من الأشياء التي لا ينطق بها خارجا؛ فأمسك عنها، وأرى أن أمثالها لا ينطق به] اهـ.
ونقل ابن أبي أصيبعة عن الطبيب المصري علي ابن رضوان في "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" (ص: 564-565): [ومن كلامه نقلته من خطه، قال: الطبيب على رأي بقراط هو الذي اجتمعت فيه سبع خصال: ... الثالثة أن يكون كتوما لأسرار المرضى لا يبوح بشيء من أمراضهم] اهـ.
لا يجوز للطبيب ومن في حكمه إفشاءُ أسرار المريض وإلا عُد خائنًا للأمانة آثما، وهذا هو الأصل، إلا أنه قد يطرأ بعض الاستثناءات لبعض الحالات يسوغ فيها للطبيب البوح بأسرار المريض دون أن يكون مخلًّا بالتزام الحفاظ على سر المريض، وكان يترتب على ذلك تحقيق مصلحة أو درء مفسدة، ومنها الخوف على الآخرين وهو محل السؤال، كأن يكون المريض مصابًا بمرض وبائي يخشى معه الانتقال إلى الغير وتفشي المرض في المجتمع، أو يكون المريض قد قام بعمل إجرامي وأصيب أثناء القيام بهذا العمل ولجأ إلى الطبيب ليعالجه، وغير ذلك من الحالات التي يتيقن فيها وقوع الضرر على الغير، ففي مثل هذه الحالات يجب على الطبيب أن يخبر الجهات المختصة بذلك لاتخاذ التدابير اللازمة للحد من وقوع الضرر على الغير، ولا يعد ذلك إخلالًا بالالتزام بحفظ أسرار المرضى ولا خيانة للأمانة؛ وذلك عملًا بقاعدة: يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام؛ قال العلامة ابن نجيم الحنفي في "الأشباه والنظائر" (ص: 74، ط. دار الكتب العلمية) [يتحمل الضرر الخاص لأجل دفع ضرر العام] اهـ.
وحيث إن تبليغ الطبيب بمثل هذه الأمور فيه حفظ لأمن واستقرار المجتمع، والذي يعد الإخلال بهما ضررًا عامًّا تجب إزالته، وإفشاء سر المريض في مثل هذه الحالات ضرر خاص وهو أدنى من العام، فلا يلزم مراعاته بتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
والإبلاغ بحالة المريض في هذه الحالة للجهات المختصة فيه مصلحة شرعية معتبرة؛ لأنه يتعلق بالمصلحة العامة، وفيه درء للمفاسد، وقد جوَّز الفقهاء ذكر مساوئ الغير إذا كان ذلك فيه إزالة ضرر كبير، وجلب مصلحة عظيمة، ولا يكون ذلك وقوعا في الغيبة المحرمة.
قال الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (2/ 113، ط. دار إحياء التراث): [وكل هذا المذكور في النميمة إذا لم يكن فيها مصلحة شرعية، فإن دعت حاجة إليها فلا منع منها؛ وذلك كما إذا أخبره بأن إنسانا يريد الفتك به أو بأهله أو بماله أو أخبر الإمام أو من له ولاية بأن إنسانا يفعل كذا ويسعى بما فيه مفسدة، ويجب على صاحب الولاية الكشف عن ذلك وإزالته، فكل هذا وما أشبهه ليس بحرام، وقد يكون بعضه واجبا وبعضه مستحبا على حسب المواطن والله أعلم] اهـ.
ونصت المادة (5) من لائحة مهنة الأطباء في مصر لعام 2003م برقم 238 أن على: [الطبيب أن يبلغ السلطات الصحية المختصة عند الاشتباه في مرض وبائي حتى تتخذ الإجراءات الوقائية لحماية المجتمع] اهـ.
كما نصت المادة (30) من لائحة آداب مهنة الأطباء في مصر الصادرة برقم 238 لعام 2003م على أنه: [لا يجوز للطبيب إفشاء أسرار مريضه التي اطلع عليها بحكم مهنته إلا إذا كان ذلك بناء على قرار قضائي أو في حالة إمكان وقوع ضرر جسيم ومتيقن يصيب الغير أو في الحالات الأخرى التي يحددها القانون] اهـ.
كما نصت المادة (33) من لائحة آداب المهنة في مصر على أنه: [يجب على الطبيب إبلاغ الجهات المختصة عن الإصابات والحوادث ذات الشبهة الجنائية مثل حالات الإصابة بأعيرة نارية أو جروح نافذة أو قطعية أو غيرها مع كتابة تقرير طبي مفصل عن الحالة وقت عرضها عليه، ويمكن للطبيب دعوة زميل آخر للمشاركة في مناظرة الحالة وكتابة التقرير] اهـ.
ويجب التنبيه أنه في مثل هذه الحالات وغيرها التي يسوغ فيها الإخبار عن أسرار وحالة المريض، أن يكون الإخبار قاصرًا على الجهات المعنية بذلك دون أن يتعدى إلى غيرها؛ لأن إفشاء سر المريض في هذه الحالة من باب الحاجة، والحاجة تنزل منزلة الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، ومن ثمَّ إذا أفشى الطبيب أسرار المريض لغير الجهات المعنية بذلك، عُد خائنًا للأمانة، ومخلًّا بواجبه بعدم التزامه حفظ أسرار مرضاه، ومعرضا نفسه للمسؤولية.
بناء على ذلك وفي السؤال: فإن الأصل حرمة إفشاء الطبيب أسرار مرضاه التي اطلع عليها بحكم مهنته ما لم توجد ضرورة تستوجب ذلك، فإن وجدت بأن تيقن وقوع ضرر جسيم يتعدى إلى الغير فيجب عليه إبلاغ السلطات المعنية برفع ذلك، ولا يكون بذلك مخلًّا بالتزامه الأمانة في حفظ أسرار مرضاه، مع مراعاة ألا يتعدى في الإفشاء إلى غيرهم، وإلا عُد خائنًا للأمانة آثمًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
ما حكم التبرع بالدم؟
ما حكم حقن البوتكس (Botox) واستخدامه في أغراض التجميل والزينة؟
ما الحكم الشرعي في قيام بعض الصيادلة بالاتجار غير المشروع في بعض أنواع الأدوية المؤثرة على الحالة النفسية التي تستخدم في العلاج من بعض الأمراض لتحقيق أرباح طائلة؟
ما حكم الشرع في القيام بإنشاء مركز أطفال الأنابيب؟
يقول السائل: خلقنا المولى سبحانه وتعالى مختلفين، ووجَّه الشرع الشريف اهتمامه وعنايته بكل فئة من فئات المجتمع، ومن هذه الفئات (ذوي الهمم)؛ فنرجو من فضيلتكم بيان اهتمام الشرع الشريف ورعايته لهم بتخفيفه عنهم في جانب التكليفات، وبيان حقوقهم بصفة خاصة.