المعيار الدقيق لمعرفة البر والإثم - الفتاوى - دار الإفتاء المصرية - دار الإفتاء
الرئيسية >هذا ديننا >المعيار الدقيق لمعرفة البر والإثم

المعيار الدقيق لمعرفة البر والإثم

المعيار الدقيق لمعرفة البر والإثم


عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ».

تكمن عظمة هذا الدين في تشريعاته الدقيقة التي تنظِّم حياة الناس وتعالج مشكلاتهم، ومن طبيعة هذا المنهج الرباني أنه يشتمل على قواعد وأسس تحدد موقف الناس تجاه كل ما هو موجود في الحياة، فمن جهة: أباح الله للناس الطيبات، وعرَّفهم بكل ما هو خير لهم، وفي المقابل: حرَّم عليهم الخبائث، ونهاهم عن الاقترابِ منها، وجعل لهم من الخير ما يُغنيهم عن الحرام.

وإذا كان الله تعالى قد أمر عباده المؤمنين باتباع الشريعة بما تحتوي عليه من مجامع الآداب والأخلاق، فإن أول هذا الطريق ولُبَّه: تمييزُ ما يحبه الله مِن غيره، ومعرفة المعيار الدقيق الواضح في ذلك. وفي ظل هذه الحاجة أورد الإمام النووي ضمن الأربعين النووية هذا الحديثَ الذي اشتمل على تعريف البر والإثم، وتوضيح علامات كلٍّ منهما.

يضافُ إلى ذلكَ أنه من الصعب حصر ما هو برٌّ مِنَ الآداب، ومن العسير حصر ما هو إثم وذنب من المعاصي، فسُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مضمون الكلمتين، وكيف يعرف المسلم ما هو برٌّ ليفعله، وما هو إثم ليتجنبه، مما لا قطع فيه، فوَكَلَه صلى الله عليه وسلم إلى قلبه ليستفتيه حين لم يجد أحدًا منَ المتخصصين يفتيه في ذلكَ بناءً على قولِه تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43]؛ فأصابته الحيرةُ، فإنَّ ما ضاقَ به صدرًا، وخاف من الناس وعيبِهم عليه إذا علموه قد فعله، فهو الإثم، وإن ما اطمأنت إليه النفس، ولم يخشَ فيه نقد الناس لاندراجه في حسن الخلق، فهو البر.


فأما البر: فهي اللفظة الجامعة التي ينطوي تحتها كل أفعال الخير وخصاله، وجاء تفسيره في الحديث بأنه حسن الخلق، وعُبَّر عنه في حديث آخر لوابصةَ بأنه ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، وهذا الاختلاف في تفسيره لبيان أنواعه.

فالبرُّ مع الخَلْق إنما يكون بالإحسان في معاملتهم، وذلك قوله: «البرُّ حسن الخلق»، وحسن الخلق هو بذل الندى، وكفُّ الأذى، والعفو عن المسيء، والتواصل معهم بالمعروف، كما قال ابن عمر رضي الله عنه: "البرُّ شيء هيِّن: وجه طليق، وكلام ليِّن".

وأما البر مع الخالق فهو يشمل جميع أنواع الطاعات الظاهرة والباطنة، كما قال الله تعالى في كتابه: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177]، فيُطلق على العبد بأنه من الأبرار إذا امتثل تلك الأوامر، ووقف عند حدود الله وشرعه.

ثم عرَّف النبي صلى الله عليه وسلم الإثم بقوله: «والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس»، فجعل للإثم علامتين: علامة ظاهرة، وعلامة باطنة، فأما العلامة الباطنة: فهي ما يشعر به المرء من قلق واضطراب في نفسه عند ممارسة هذا الفعل، وما يحصل له من التردد في ارتكابه، فهذا دليل على أنه إثم في الغالب، وأما علامته الظاهرة: أن تكره أن يطلع على هذا الفعل الأفاضل من الناس، والصالحون منهم، بحيث يكون الباعثُ على هذه الكراهية الدينَ، لا مجرَّد الكراهية العادية، وفي هذا المعنى يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأَوْه سيئًا فهو عند الله سيئ".

وإرجاع الأمر إلى طمأنينة النفس أو اضطرابها يدل على أن الله سبحانه وتعالى قد فطر عباده على السكون إلى الحق والطمأنينة إليه، وتلك الحساسية المرهفة والنظرة الدقيقة إنما هي للقلوب المؤمنة التي لم تطمسها ظلمات المعصية ورغبات النفس الأمارة بالسوء.

إن تعامل الإنسان المسلم مع ما يمر به من المسائل على هذا النحو، ليدل دلالة واضحة على عظمة هذا الدين، فقد حرص على إذكاء معاني المراقبة لله في كل الأحوال، وتنمية وازع الورع في النفس البشرية، وبذاك يتحقق معنى الإحسان في عبادة الله تعالى.

 

اقرأ أيضا
;