أقام الإسلام المعاملات بين الناس على مبدأ الرضا، فلابد من قبول أطراف المعاملة والرضا بموضوعها وطبيعتها وأوصافها، وذلك كله بما لا يُحل حرامًا أو يحرِّم حلالًا.
جعل الإسلام الإيجاب والقبول، أو صيغة التعاقد بين طرفي أي عقد إلى جانب وجود ما يتم التعاقد عليه، أركانًا يلزم توافرها عند إنشاء أي عقد وإلا كان باطلًا، فيعرض أحدُ العاقدين ويقبلُ الطرف الآخر ويصيغا إرادة التعاقد الحر في قالب لغوي يحدد الحقوق والواجبات والأوصاف الضرورية لموضوع العقد.
وقد شرع الإسلام عددًا من الضوابط التي تحيط بالعقد، والتي تُمَكِّن أطرافَ العقد من تحقيق الرضا التام بمضمونه وعدم الشعور بالظلم أو الغبن فيه، ومن هذه الضوابط "الخيارات" التي تُشكِّل إطارًا واضحًا لتحقيق الرضا.
ومعنى الخيار: أن يكون للمتعاقد الحق في إمضاء العقد أو فسخه، إن كان الخيار خيار شرط أو رؤية أو عيب، أو أن يختار أحد المبيعين إن كان الخيار خيار تعيين.
وهناك عدة أنواع من الخيارات، منها:
خيار الشرط: أن يكون لأحد العاقدين أو لكليها أو لغيرهما الحق في فسخ العقد، أو إمضائه خلال مدة معلومة، فمن حقِّ المشتري مثلًا أن يقول للبائع: اشتريتُ منك هذا الشيء على أني بالخيار مدة يوم أو ثلاثة أيام، وذلك حتى يتروَّى ويستوْثِق من تحقق مصلحته في هذه الصفقة ويشعر بالرضا، وللبائع أن يقبل أو يرفض وله أيضًا طلب الخيار.
خيار الرؤية: وهو لمن يشتري شيئًا دون أن يراه، فله الخيار إذا رآه، أن يمضي في البيع أو يفسخه، إذا لم يجد موضوعَ العقدِ مطابقًا للمواصفات التي تم الاتفاق عليها، لحديث: «مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ» أخرجه البيهقي.
خيار المجلس: الذي يبيح لأي من العاقدين أن يتراجع عن العقد ما داما في مجلس العقد لم يتفرقا، وذلك من أجل ضمان تحقيق الرضا في المعاملات التي تجري بين الناس، لحديث: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» متفق عليه.
خيار العيب: أن يكون لأحد العاقديْن الحق في فسخ العقد أو إمضائه إذا وَجَدَ أيٌّ من أطراف العقد عيبًا فيما أخذه من الآخر، ولم يكن صاحبُه عالمًا به وقت العقد، فإذا لم تتوافر السلامة اختلَّ رضا العاقد بالعقد، والرضا أساس العقود، فشُرع له الخيار لتدارك الخلل الحادث.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ إِلَّا بَيَّنَهُ لَهُ» رواه ابن ماجه، ومرَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل يبيع طعامًا، فأدخل يده فيه فإذا هو مبلول، فقال: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟» قال: "أصابتْه السماءُ يا رسولَ الله"، قال: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي» رواه مسلم
فالإسلام يرفض الغش والخداع، ويرتِّب على ذلك بطلان المعاملات التي تقوم عليهما في الكثير من الحالات، فمن اشترى شيئًا فاكتشف أنه خدع فيه بأن كان بغير المواصفات المتفق عليها، فإن هذه المعاملة باطلة ويلزم قبول رد السلعة وإعادة الحقوق المتوسَّل إليها بالغش والخداع لأصحابها.
وفي مقابل هذه الخيارات التي تحيط بالمعاملات التعاقدية، هناك أمور أخرى يرفضها الإسلام، ويبطل بسببها العقود والمعاملات المادية، لأنها لا توفِّر الرضا وتثير النزاع والشقاق وتُشعر أحد أطراف العقد بالظلم، ومن ذلك ما يلي:
الإكراه: وهو إجبار أو دفع شخص لفعل شيء يكره أن يقوم به، وواضح أن الإكراه ينافي الرضا الذي هو ركن في العقد، وقد جعل الله تعالى ما يترتب على الإكراه ساقطًا كأن لم يكن، قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: 106]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ قَدْ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» رواه ابن ماجه.
وذلك أن صيغَ العقودِ هي إخبارٌ عمَّا في النفسِ من المعنى الذي أراده الشارع، والأمور المقصودة في العقود معتبرة دون الألفاظ المجردة، التي لم تقصد بها معانيها وحقائقها أو قصد غيرها، والمكره إنما قصد دفع الأذى عن نفسه، فانتفى الحكم لانتفاء قصده.
ومن تطبيقات هذه الرؤية الإسلامية أن بيع المكرَه فاسدٌ، وطلاق المكرَه لا يقع، وسيدنا عليٌّ كرم الله وجهه قال: "لا طلاق لمكره"، وقال ابن عباس: "ليس على المكروه، ولا المضطهد طلاق".
ورُوي أن رجلًا تدلَّى يشتار (يجمع) عسلًا في زمن عمر رضي الله عنه، فجاءته امرأتُه فوقَفَتْ على الحبل، فحلفت لتقطعنَّه أو لتطلقني ثلاثًا، فذكَّرَها اللهَ والإسلامَ، فأَبَتْ إلا ذلك، فطلَّقَها ثلاثًا. فلما ظهر أتى عمر فذَكَرَ له ما كان منها إليه ومنه إليها، فقال: "ارجع إلى أهلك فليس هذا بطلاق".
فمن وقع تحت تهديد يعلم أن صاحبه قادر على تنفيذه ففعل ما يطلبه منه دون أن يؤذي أو يقتل غيره لينجو بنفسه، كأن وقَّعَ على عقد بيع شيء يملكه أو طلَّق امرأته وأشباه ذلك، فإن ما وقع تحت الإكراه لا يكون نافذًا.
الغش في المعاملات: يرفض الإسلام الغش والخداع، ويرتِّب على ذلك بطلان المعاملات التي تقوم عليهما، فمن اشترى شيئًا فاكتشف أنه خُدِعَ فيه بأنْ كان بغير المواصفات المتفق عليها فإنَّ هذه المعاملة باطلة، ويلزم قبول رد السلعة وإعادة الحقوق المتوسَّل إليها بالغش والخداع لأصحابها، وهو ممنوع منعًا مطلقًا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» رواه مسلم، إذ يهدم الثقة بين المتعاملين، ويجعل الحياة التجارية والاجتماعية في اضطراب.
التدليس، أو التغرير: هو إغراء العاقد وخديعته ليُقْدِمَ على العقد ظانًّا أنه في مصلحته، والواقع خلاف ذلك، والتغرير: إيهام خلاف الواقع بوسائل مغرية، أو وصف المبيع للمشتري بغير صفته الحقيقية.
كطلاء الأثاث القديم وبيعه على أنه جديد، أو التلاعب بعداد السيارة لتبدو غير مستهلكة بصورة كبيرة، أو الكذب بقول البائع عن سلعته: إنه لا يوجد مثلها في السوق، دفعًا للمشتري ليُتِمَّ الصفقة، أو بكتمان عيب فيها، حرام شرعاً باتفاق الفقهاء، فلا خلاف بين الفقهاء في أن كل تدليس يختلف الثمن لأجله في المعاملات يثبت به الخيار، ما دام لم يعلم بالعيب قبل العقد، ويثبت فيه للمدلس عليه ما يعرف بــ "خيار العيب" وهو: إعطاؤه حق الخيار، إن شاء فسخ العقد، وإن شاء أمضاه وللمشتري في هذه الحالة أن يفسخ العقد ويردَّ السلعة إلى البائع.
الغبن: أن يكون أحد العوضين غير متعادل مع الآخر، بأن يكون أقل من قيمته أو أكثر منها، وإذا كان الغبن يسيرًا، كأن اشترى شيئًا بعشرة وقيمته تسعة فالبيع جائز.
أما إذا كان الغبن فاحشًا فإنه يؤثر في رضا العاقد فيزيله، وقد انتبه الفقهاء أيضًا إلى أنه ليس كل غبن فاحش يقتضي فسخ العقد، إذ الناس تتفاوت أنظارهم في القيم، والمغبون مقصِّرٌ لعدم سؤاله أهل الخبرة والدراية، فإذا كان الغبن مجردًا عن الخديعة دون مكرٍ من البائع، لم يَجُزْ للمغبون فسخ العقد، لأن لكل إنسان أن يطلب المنفعة ما لم يضر الجماعة، كما في حالة الاحتكار.
فإذا انضم إليه تغرير كان المغبون معذورًا؛ لأن الرضا بالعقد كان على أساس عدم الغبن، فإذا ظهر الغبن لم يتوافر الرضا.
وقدَّر الفقهاء حال بعض الناس الذين ليس لديهم خبرة ولا يجدون من يُقدِّرون لهم القيمة الحقيقية للسلع أو العقارات أو غيرها، ويسمونه المسترسل: وهو الشخص الجاهل بقيمة الأشياء، ولا يحسن المساومة والفصال ويشتري مطمئنًّا إلى أمانة البائع، ثم يتبين أنه غُبِنَ غَبْنًا فاحشًا، فيثبت له الخيار بفسخ البيع.
بيع النَّجْش: وهو أن يزيد الرجل في السلعة، وليس له حاجة بها، إلا ليغلي ثمنها وينفع صاحبها.
تلقي الركبان أو الجلب: وهو مبادرة بعض أهل المدينة أو البلد لتلقي الآتين إليها، فيشتري منهم ما معهم، ثم يبيع كما يرى لأهل البلد. وهذا حرام عند الشافعية، ومكروه تحريماً عند الحنفية إن أضر بالأهالي، وإلا فلا يكره إذا لم يلبِّس السعر على الواردين لأنه إن فعل هذا كان فيه تغرير بهم. لنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تلقي الركبان.
بيع الحاضر للبادي: وهو ألا يبيع الواحد من أهل البلد (الحاضر) ما عنده من طعام ونحوه إلا لأهل البادية، طمعاً في زيادة الثمن، أو أن يتخصص شخص ببيع بضاعة الغريب على التدريج مع حاجة أهل البلد، بسعر أغلى، مع أن الغريب كان يريد البيع بسعر اليوم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَلَقَّوُا الرُّكْبَانُ لِبَيْعٍ، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ..» رواه البخاري.
الغلط: المراد به الغلط الواقع في المعقود عليه، كأن يظن العاقد أن المعقود عليه من جنس معين، فإذا به من جنس آخر، كأن يشتري ذهبًا ثم يتبيَّن أنه نحاس، أو قميصًا من القطن فإذا هو من الألياف الصناعية، وحكم هذا العقد المشتمل على غلط في جنس المعقود عليه: أنه باطلٌ من أساسه.
والعقد المشتمل على غلط في الوصف، كأن يشتري شيئًا على أنه أسود فإذا هو أزرق داكن، أو شاة على أنها حلوب فإذا هي غير حلوب، فإن هذا العقد غير لازم بالنسبة لمن وقع الغلط في جانبه، أي أن له الخيار بين إمضاء العقد وبين فسخه، لفوات الوصف المرغوب فيه المؤدي إلى اختلال الرضا.
وهكذا نرى كيف اعتمد التشريع الإسلامي مبدأ الرضا كأساس للمعاملات بين الناس، وكيف أحاط هذه المعاملات بالضمانات التي تكفل تحقق الرضا، مما ييسر معاملات الناس ويوفر لهم الاستقرار ويرفع النزاع والخلاف بشأنها، مع الأخذ في الاعتبار أن الرضا لا يحل حرامًا أو يحرم حلالًا.
المصادر:
- "الموسوعة الفقهية الكويتية".
- "موسوعة الفقه الإسلامي وأدلته" للدكتور وهبة الزحيلي.
قيام المعاملات على مبدأ الرضا
اقرأ أيضا
مواقيت الصلاة
الفـجــر
الشروق
الظهر
العصر
المغرب
العشاء