من علامات الدخول في مقام الإحسان - الفتاوى - دار الإفتاء المصرية - دار الإفتاء
الرئيسية >هذا ديننا >من علامات الدخول في مقام الإحسان

من علامات الدخول في مقام الإحسان

من علامات الدخول في مقام الإحسان

عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله عنه أَن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآله وسَلَّم لَقِيَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ حَارِثَةُ رضي الله عنه فِي بَعْضِ سِكَكِ المدينة، فقال: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟» فَقَالَ أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا بِاللهِ تَعَالَى حَقًّا، قَالَ: «انْظُرْ إِلَى مَا تَقُولُ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً؟» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، فَكَأَنِّي بِعَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَعَاوُونَ فِيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ: «أَبْصَرْتَ فَالْزَمْ -وَفِي رِوَايَةٍ: أَصَبْتَ فَالْزَمْ-، عَبْدٌ نَوَّرَ اللهُ تَعَالَى الإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ» أخرجه الإمام الطبراني "في الكبير".
يرى أغلب الفقهاء أنَّ حديثنا الذي بين أيدينا يتحدَّث عن بدايات الدخول في مقام الإحسان الذي هو مرتبة أعلى من الإسلام والإيمان بالمعنى الأخصِّ، وإلا فإنَّ الإسلام يشمل الإيمانَ والإحسانَ بالمعنى الأعمِّ.
فقول حارثة رضي الله عنه: "أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا"، إنما هو تعبيرٌ عن بداية الدخول في مقام الإحسان؛ ذلك أنَّ نهاياتِ مقام الإيمان هي بدايات مقام الإحسان، وقوله: "مُؤْمِنًا حَقًّا" إيذانٌ باستكمال الإيمان ومن ثم بداية الطريق إلى الإحسان.
وهنا أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يستيقن من وصوله إلى تلك المرتبة العُليا من الإيمان، فسأله عن حقيقة إيمانه، وعندما أجابه بالدلائل التي تدل على الوصول إلى تلك الدرجة قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «عرفت فَالْزَمْ، عَبْدٌ نَوَّرَ اللهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ»، أي: أنَّ الإيمان قد تمكَّنَ منه ووصل منه إلى القلب، فكان مستعدًّا وقابلًا للارتفاع إلى درجة الإحسان.
وهذه المقامات الثلاث: الإسلام، والإيمان، والإحسان يشملُها اسمُ الدِّين؛ فمن استقام عَلَى الإسلام إلى موته عصمه الإسلام من الخلود فِي النار، وإن دخلها بذنوبه، ومن استقام عَلَى الإحسان إلى الموت وَصَلَ إلى الله عز وجل؛ قَالَ تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26]، وَقَدْ فسّر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم الزيادة بالنَّظر إلى وجه الله. خرَّجه مسلم منْ حديث صهيبٍ رضي الله عنه.
- فما هو الإحسان؟ وما حقيقته؟
يجيب على ذلك الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى بقوله: "وأما الإحسانُ ففسَّره بنفوذ البصائر فِي الملكوت حَتَّى يصير الخبر للبصيرة كالعيان، فهذه أعلى درجات الإيمان، ومراتبه، ويتفاوت المؤمنون، والمحسنون فِي تحقيق هَذَا المقام تفاوتًا كثيرًا بحسب تفاوتهم فِي قوة الإيمان والإحسان، وَقَدْ أشار النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك هاهنا بقوله: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».
قيل: المراد أنَّ نهاية مقام الإحسان أن يعبد المؤمن ربَّه كأنَّه يراه بقلبه، فيكون مستحضرًا ببصيرته وفكرته لهذا المقام، فإن عجز عنه، وشقَّ عليه انتقل إلى مقامٍ آخر، وهو أن يعبد الله عَلَى أن الله يراه، ويطَّلع عَلَى سرِّه، وعلانيَتِه، ولا يخفى عليه شيءٌ منْ أمره.
وَقَدْ وصَّى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم طائفة منْ أصحابه أن يعبدوا الله كأنَّهم يرونه؛ منهم ابن عمر، وأبو ذرٍّ رضي الله عنهما، ووصَّى معاذًا رضي الله عنه أن يستحيي منْ الله كما يستحيي منْ رجلٍ ذي هيبة منْ أهله.
قَالَ بعضُ السَّلفِ: مَنْ عمل لله عَلَى المشاهدة، فهو عارفٌ، ومن عمل عَلَى مشاهدة الله إياه فهو مخلِص.
فهذان مقامان:
- أحدهما: مقامُ المراقبة، وهو أن يستحضر العبد قرب الله منه، واطِّلاعَه عليه، فيتخايل أنه لا يزال بين يدي الله تعال، فيراقبه فِي حركاته، وسكناته، وسرِّه، وعلانيتِه، فهذا مقام المراقبين المخلصين، وهو أدنى مقام الإحسان.
- والثاني: أن يشهد العبد بقلبه ذلك شهادة، فيصير كأنَّه يرى الله، ويُشاهده، وهذا نهاية مقامِ الإحسان، وهو مقام العارفين، وحديث حارثة رضي الله عنه هو مِنْ هَذَا المعنى، فإنَّه قَالَ: كأنِّي أنظر إلى عرشِ ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتعاوون فيها، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «عرفت فالزم، عبدٌ نوَّر الله الإيمانَ فِي قلبه».
- والسؤال الآن، كيف يصل الإنسان إلى درجة الإحسان؟
ويجيب على ذلك صاحب كتاب "حجَّة الله البالغة" بقوله: "وَبِالْجُمْلَةِ: إِذا آمن الرجل بِكِتَاب الله تَعَالَى، أَو بِمَا جَاءَ بِهِ نبيه صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه من بَيَانه إِيمَانًا يستتبع جَمِيع قواه القلبية والنفسية، ثمَّ اشْتغل بالعبودية حقَّ الِاشْتِغَال ذكرًا بِاللِّسَانِ وتفكرًا بالجنان وأدبًا بالجوارح، ودام على ذَلِك مُدَّة مديدة شرب كل وَاحِد من هَذِه اللطائف الثَّلَاث حَظه من الْعُبُودِيَّة، وَكَانَ الْأَمر شَبِيهًا بالدوحة الْيَابِسَة تسقى المَاء الغزير، فَيدْخل الرِّيّ كل غُصْنٍ من أَغْصَانهَا وكل ورقة من أوراقها، ثمَّ ينْبت مِنْهَا الأزهار وَالثِّمَار، فَكَذَلِك تدخل الْعُبُودِيَّة فِي هَذِه اللطائف الثَّلَاث وَتغَير صفاتها الطبيعية الخسيسة إِلَى الصِّفَات الملكية الفاضلة.
فَتلك الصِّفَات إِن كَانَت ملكات راسخة تستمر أفاعيلها على نهجٍ وَاحِدٍ وأنهاج مُتَقَارِبَة، فَهِيَ المقامات، وَإِن كَانَت بوارق تبدو تَارَة، وتنمحي أُخْرَى، وَلما تَسْتَقِر بعد، أَو هِيَ أُمُور لَيْسَ من شَأْنهَا الِاسْتِقْرَار؛ كالرؤيا والهواتف وَالْغَلَبَة تسمى أحوالًا وأوقاتًا.
وَلما كَانَ مُقْتَضى الْعقل فِي غلواء الطبيعة البشرية التَّصْدِيق بِأُمُور ترد عَلَيْهِ مناسباتها صَار من مُقْتَضَاهُ بعد تهذيبه الْيَقِين بِمَا جَاءَ بِهِ الشَّرْع كَأَنَّهُ يُشَاهد كل ذَلِك عيَانًا كَمَا أخبر حَارِثَة حِين قَالَ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «لكل حقٍّ حَقِيقَةٌ فَمَا حَقِيقَة إيمانك؟ فَقَالَ كَأَنِّي أنظرُ إِلَى عرش الرَّحْمَن بارزًا".
ويقول الإمام المروزي: "فحقيقة الإيمان واستكماله لا يجوز إلا بأداء الأعمال المفترضة، واجتناب المحارم، فأمَّا اسم الإيمان وحكمه فإنه يلزم بالدخول في الإيمان، وإن لم يكن يستكمله، وكذلك جميع الأعمال إذا دخل الناس فيها استحقُّوا اسمها عند ابتدائها والدخول فيها، ثم يتفاضلون في استكمالها بالازدياد في الأعمال، فمن ذلك القوم يصلون، فمن بين مستفتح للصلاة قائمٌ وراكعٌ وساجدٌ وجالسٌ، فيقال لهم جميعًا: مصلُّون، قد لزمهم الاسم بالدخول في الصلاة، وإن لم يستكملوها، وكذلك الصيام والحج وسائر الأعمال، لو أن نفرًا أمروا أن يدخلوا دارًا فدخلها أحدهم، فلما تغيب الباب أقام مكانه، وجاوزه الثاني بخطىً، ومضى الثالث إلى وسطها، والرابع إلى منتهاها، لقيل لهم جميعًا: داخلون، وإن كان بعضهم أكثر دخولًا من بعض، وهذا لا يدفعه أحدٌ يعرف كلام العرب، فكذلك الإيمان الدخول فيه في سائر الأعمال".
وتصبُّ الإجابتان في اتجاه استكمال الإيمان والذي يعد الطريق والضمانة للدخول في مقامات الإحسان، وهو مغزى الحديث الذي بين أيدينا الذي يتحدث عن دلائل استكمال هذا الإيمان وآفاق الوصول من ثم إلى مقام الإحسان.
رزقنا الله نيل المأمول ولذة الوصول.
 

اقرأ أيضا
;