البدعة والابتداع


التعريف اللغوي:

جاء في لسان العرب: بدَع الشيءَ يَبْدَعُه بَدْعاً وابْتَدَعَه: أَنشأَه وبدأَه. والبِدْعةُ: الحَدَث وَمَا ابْتُدِعَ مِنَ الدِّينِ بَعْدَ الإِكمال. والبِدْعةُ كلُّ مُحْدَثةٍ. المبتدع الذي يأتي أمرًا على شَبَهٍ لم يكن ابتدأَه إِيَّاه، وَفُلَانٌ بِدْعٌ فِي هَذَا الأَمر أَي أَوّلٌ لَمْ يَسْبِقْه أَحد، بل ابتدأه هو. وأبدع وابتدع وتبدّع: أتى ببدعة،وبدَّعه: نسبه إلى البدعة، وأبدعت الشيء: اخترعتُه لا على مثال([1]).

اتجاهات العلماء في المراد بالبدعة:
للعلماء في فهم كلمة "البدعة" الواردة في الشرع وكتبهم مذهبان رئيسان:
الاتجاه الأول:
استعمل أصحاب هذا الاتجاه مفهوم البدعة استعمالا موسعًا على كل حادث لم يوجد في الكتاب والسُّنة، سواء أكان في العبادات أم العادات، وسواء أكان مذمومًا أم غير مذموم. ومن القائلين بهذا الإمام الشافعي، ومن أتباعه العز بن عبد السلام، والنووي، وأبو شامة. ومن المالكية: القرافي، والزرقاني. ومن الحنفية: ابن عابدين. ومن الحنابلة: ابن الجوزي. ومن الظاهرية: ابن حزم([2]).

ويتمثل هذا الاتجاه في تعريف العز بن عبد السلام للبدعة وهو: أنها فعل ما لم يُعهد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهي منقسمة إلى بدعة واجبة، وبدعة محرَّمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة([3]).

أدلة هذا القول:
وعلى هذا التقسيم حملوا ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مرفوعًا قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "من سنَّ سُنَّةً حسنةً، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ سُنَّةً سيئةً، فعليه وِزرها وَوِزر من عمل بها إلى يوم القيامة"([4]).

واستدلوا أيضًا بحديثٍ عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهطُ، فقال عمر: «إني أرى لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحد، لكان أمثل» ثم عزم، فجمعهم على أُبَيِّ بن كعب، ثم خرجتُ معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: «نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون»، يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله([5]).

الاتجاه الثاني:
اتجه فريق من العلماء إلى ذم البدعة، وقرروا أن البدعة كلها ضلالة، سواء في العادات أو العبادات. ومن القائلين بهذا الإمام مالك والشاطبي والطرطوشي. ومن الحنفية: الإمام الشُّمُنِّي، والعيني([6]).

وقد عرف هذا الفريق "البدعة" بقوله: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية([7]).
وبهذا التعريف تدخل العاداتُ في البدع إذا ضاهت الطريقة الشرعية، كالناذر للصيام قائمًا لا يقعد متعرضًا للشمس لا يستظل، والاقتصار في المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علة.

أدلة أصحاب هذا القول:
استدلوا بحديث العرباض بن سارية: "وَعَظَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم موعظةً بليغةً، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقال قائل: يا رسول الله كأنها موعظة مودِّعٍ فما تعهد إلينا. فقال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لولاة الأمر، وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنه من يعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بِسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثاتِ الأمور. فإن كلَّ محدَثةٍ بدعةٌ، وكلّ بدعةٍ ضلالة"([8]).

ومن المصطلحات المقاربة: المصلحة المرسلة:
المصلحة - لغةً - كالمنفعة وزنًا ومعنًى، فهي مصدر بمعنى الصلاح، أو هي اسم للواحد من المصالح.
والمصلحة المرسلة اصطلاحًا هي: المحافظة على مقصود الشرع المنحصر في الضروريات الخمس، كما قال الإمام الغزالي رحمه الله، أو هي اعتبار المناسب الذي لا يشهد له أصل معيّن كما عند الشاطبي، أو هي أن يرى المجتهد أن هذا الفعل فيه منفعة راجحة وليس في الشرع ما ينفيه كما عند ابن تيمية، أو هي أن يناط الأمر باعتبارٍ مناسبٍ لم يدل الشرع على اعتباره ولا إلغائه إلا أنه ملائم لتصرفات الشرع([9]).

حكم البدعة التكليفي:
مما تقدم يتبين أن لفظ البدعة يُفهم عند العلماء بمعنيين؛ ومن ثم يُحكم عليه بحكمين:
1. فذهب الإمام الشافعي والعز بن عبد السلام وأبو شامة، والنووي من الشافعية، والإمام القرافي والزرقاني من المالكية، وابن الجوزي من الحنابلة، وابن عابدين من الحنيفة إلى تقسيم البدعة تبعًا للأحكام الخمسة إلى: واجبة أو محرمة أو مندوبة أو مكروهة أو مباحة([10]).
2. وأما أصحاب القول الثاني فإنهم لا يرون هذا التقسيم ولكنهم يرون البدعة مذمومة على كل حال.
أمثلة للبدعة بأقسامها المتعددة:
• البدعة الواجبة: كالاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله ورسوله، وذلك واجب؛ لأنه لابد منه لحفظ الشريعة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
• والبدعة المحرمة من أمثلتها: مذهب القدرية، والجبرية، والمرجئة، والخوارج.
• والبدعة المندوبة: مثل إحداث المدارس، وبناء القناطر، ومنها صلاة التراويح جماعة في المسجد بإمام واحد.
• والبدعة المكروهة: مثل تزويق المصاحف.
• والبدعة المباحة: مثل المصافحة عقب الصلوات، ومنها التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والملابس([11]).

البدعة في العادات:
وذهب قوم إلى أن الابتداع في العادات التي ليس لها تعلق بالعبادات جائز؛ لأنه لو جازت المؤاخذة في الابتداع في العادات لوجب أن تُعدَّ كل العادات التي حدثت بعد الصدر الأول - من المآكل والمشارب والملابس والمسائل النازلة - بدعًا مكروهاتٍ، والتالي باطل؛ لأنه لم يقل أحد بأن تلك العادات التي برزت بعد الصدر الأول مخالفة لهم ؛ ولأن العادات من الأشياء التي تدور مع الزمان والمكان.

علاقة مفهوم البدعة بمنظومة الإفتاء:
يُعدُّ مفهوم البدعة مفهومًا محوريًّا شديد الأهمية والخطورة في العملية الإفتائية؛ ذلك أنه يتداخل في كثير من قضايا الفقه والفتوى وتتنوع وتتعدد وتتشابك تطبيقاته في المسائل الفقهية؛ ومن ثم ينبني على تبني أحد الاتجاهين السابقين للعلماء في تحديد معنى البدعة وتقسيمها اختلاف كبير في المسائل الفرعية الفقهية.
وقد تعددت تعريفات البدعة وتنوعت؛ لاختلاف أنظار العلماء في مفهومها ومدلولها. فمنهم من وسع مدلولها، حتى أطلقها على كل مستحدث من الأشياء، ومنهم من ضيق ما تدل عليه، فتقلص بذلك ما يندرج تحتها من الأحكام بناء على ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) لسان العرب 8/6 .
([2]) الموسوعة الفقهية 8/21.
([3]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2/204.
([4]) صحيح مسلم 4/2059.
([5]) صحيح البخاري حديث رقم 2010.
([6]) الموسوعة الفقهية 8/23.
([7]) السابق.
([8]) سنن أبي داود 4/201، حديث رقم 4607.
([9]) الموسوعة الفقهية الكويتية 8/ 25.
([10]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2/205.
([11]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2/205.