سد الذرائع مصطلح أصولي يكثر تداوله في الأمور الفقهية وفي الحياة بصفة عامة خارج الإطار الفقهي، وهو مصطلح له شروط وضوابط وأقسام، وفي السطور التالية تعريف به وبأهم ما يتعلق به من أحكام.
تعريف سد الذرائع:
السد في اللغة: إغلاق الخلل، والذريعة: الوسيلة إلى الشيء يقال: تذرع فلان بذريعة أي توسل بها إلى مقصده، والجمع ذرائع.
وفي الاصطلاح: هي الأشياء التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل المحظور، أو ما تكون وسيلة وطريقًا إلى الشيء الممنوع شرعًا، ومعنى سد الذريعة: منع الطرق المؤدية إلى المفسدة دفعًا لها إذا كان الفعل الخالي من المفسدة وسيلة لها([1]).
والأصل في اعتبار سد الذرائع شرعًا قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام:108]، قالوا: نهى تبارك وتعالى عن سب آلهة الكفار لئلا يكون ذلك ذريعة إلى سب الله تعالى، ونهى الله سبحانه عن كلمة (راعنا) بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة:104]، لئلا يكون ذلك ذريعة لليهود إلى سب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن كلمة (راعنا) في لغتهم سب للمخاطَب.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات: كراع يرعى حول الحمى، يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه) رواه البخاري.
قال ابن القيم([2]): لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها.. فإذا حرَّم الرَّبُّ تعالى شيئًا وله طرقٌ ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقًا لتحريمه، وتثبيتًا له، ومنعا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضًا للتحريم، وإغراء للنفوس به، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء.
وقال ابن رشد([3]): إن أبواب الذرائع في الكتاب والسنة يطول ذكرها ولا يمكن حصرها.
فمن سَدِّ الذرائع إلى الزنى: تحريم النظر المقصود إلى المرأة، وتحريم الخلوة بها، وتحريم إظهارها للزينة الخفية، وتحريم النظر إلى العورات، ووجوب الاستئذان عند الدخول إلى البيوت، وكثير من الأحكام الواردة في الكتاب والسنة مما يتعلق بذلك.
ومن سَدِّ الذرائع إلى شرب المسكر: تحريم القليل منه ولو قطرة، كما في حديث وفد عبد القيس حيث طلب الأشج من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له في الخمر، فأومأ رسول الله بكفيه وقال: يا أشج إن رخصت لكم في مثل هذه (وقال بكفيه هكذا) شربته في مثل هذه (وفرج يديه وبسطها) يعني أعظم منها([4]).
وكثير من منهيات الصلاة ومكروهاتها مرجعها إلى هذا الأصل، كالنهي عن الصلاة عند شروق الشمس وعند زوالها وعند غروبها، وكراهة الصلاة إلى الصورة، أو النار، أو وجه إنسان، وكالنهي عن البيع بعد نداء الجمعة؛ لأن البيع وسيلة إلى التخلف عن الجمعة أو فوات بعضها، وفي فسخ البيع إن وقع في وقت النهي خلاف.
وجعل سب الرجل أبا غيره وأمه سبًّا لوالديه؛ لأنه وسيلة إليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه) رواه البخاري.
وحكم الفقهاء بتوريث المطلقة بائنًا في مرض الموت؛ لأن الطلاق في هذه الحالة ذريعة إلى قصد حرمان المرأة من الميراث، بعد أن تعلق حقها بالمال بسبب المرض.
وسد الذرائع أصل أخذ به الفقهاء جميعًا، وإن بدرجات متفاوتة في مقدار الأخذ به، فكان مذهب الإمام مالك أكثر المذاهب التي توسعت في الأخذ بسد الذرائع، وكذا الحنابلة.
أقسام الذرائع:
وقد قسم القرافي: الذرائع إلى الفساد ثلاثة أقسام([5]) نذكرها مشفوعة ببعض الأمثلة الواقعية:
1- قسم أجمعت الأمة على سَدِّه ومنعه وحَسْمِه؛ لأن أداءه إلى المفسدة قطعي، فلا خلاف في أنه يسد، كبيع السلاح وقت الفتن للظالم المعتدي ويُخشى منه الضرر، وحفر الآبار في طرق المسلمين، ومثله إجراء أعمال الحفر في الطرق العامة دون تنبيه المارين وقائدي المركبات والحافلات على وجودها.
2- وقسم أجمعت الأمة على عدم منعه، وأنه ذريعة لا تُسَدُّ، ووسيلة لا تحسم، كالمنع من زراعة العنب خشية أن تعصر منه الخمر فإنه لم يقل به أحد، وكالمنع من المجاورة في البيوت خشية الزنى، وكتسيير البواخر في البحر والطائرات في الجو، فإن ذلك قد يفضي إلى الغرق أو إلى السقوط، ولكنه ليس بالكثير فلا يمنع، وكذلك كل فعل فيه منفعة راجحة وإن كان يترتب عليه في بعض الحالات ضرر.
3- وقسم اختلف فيه العلماء هل يسد أم لا، وهو ما كان أداؤه إلى المفسدة كثيرا لكنه ليس غالبا، فهذا موضع الخلاف، ، كبيوع الآجال عند المالكية التي تتخذ ذريعة للربا، كمن باع سلعة إلى شهر بمائة جنيه، ثم اشتراها نقدا بتسعين قبل آخر الشهر.
فيرى المالكية أنه أخرج من يده تسعين الآن وأخذ مائة آخر الشهر، ويعتبرون هذا وسيلة لسلف تسعين بمائة ويجعلون صورة البيع ستارًا لذلك، في حين ينظر الشافعية إلى صورة البيع ويحملون الأمر على ظاهره فيجوزون ذلك، قال القرافي: وهذه البيوع تصل إلى ألف مسألة اختص بها مالك وخالفه فيها الشافعي.
ومن ذلك مسألة قضاء القاضي بعلمه، حيث اختلف الفقهاء في صحة هذا القضاء؛ لأن هذا القضاء متردد بين أن يكون وسيلة إلى حفظ الحق إذا لم تقم عليه بَيِّنَة، وأن يكون وسيلة إلى مفسدة الجور في القضاء لمن ضعف سلطان الإيمان في نفسه، ولهذا اختلف العلماء فيه فمنهم من أجازه ومنهم من منعه سدًّا لذريعة الفساد.
ومنها مسألة تأجيل المهر: فيكره عند المالكية تأجيل المهر ولو إلى أجل معلوم كسنة مثلا إن كان المؤجل الصداق كله، لئلا يتذرع الناس إلى النكاح بغير مهر، ويظهروا أن هناك صداقا مؤجلا.
وكالصيام قبل رمضان بيوم أو يومين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه، فليصم ذلك اليوم) رواه البخاري، وذلك لئلا يظن أنه زيادة على صوم رمضان إذا اعتادوا ذلك، وعن هذا قال أبو يوسف: يكره وصل رمضان بست من شوال.
هل يعتبر سد الذرائع دليلا شرعيًّا؟
وعلى الرغم من ذكر العديد من الأصوليين لسد الذرائع على أنه أحد الأدلة الشرعية المختلف فيها، لكن من يمعن النظر يجده شيئًا آخر غير الأدلة؛ لأن سد الذريعة معناه منع الفعل المباح الموصل إلى المحرم، وهذا المنع هو الحكم، والحكم غير الدليل، فيكون سد الذرائع أشبه بالقواعد الفقهية، التي يطبق حكمها على جزئياتها، فكأن الشارع قال: الشيء الممنوع إذا اتخذ وسيلة إلى غير المشروع امنعوه.
ومع ذلك فهو أصل عظيم في باب التشريع، فبواسطته يستطيع ولي الأمر الذي يحكم بشريعة الله أن يمنع من بعض المباحات التي اتخذها الناس وسائل إلى المفاسد والأضرار بالمجتمع ويسد عليهم أبوابها، ويكون عمله هذا عملا شرعيًّا مستندًا إلى أصل من أصول الشريعة.
فتح الذرائع:
والشريعة لم تقف بالذرائع عند وسائل الفساد فسدَّتها، بل جاوزت ذلك إلى وسائل المصالح ففتحتها، يقول القرافي([6]): اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتكره وتندب وتباح فإن الذريعة هي الوسيلة فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة، كالسعي للجمعة والحج، وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل وإلى ما يتوسط متوسطة ومما يدل على حسن الوسائل الحسنة قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ [التوبة:120] فأثابهم الله على الظمأ والنصب وإن لم يكونا من فعلهم بسبب أنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو وسيلة لإعزاز الدين وصون المسلمين فيكون الاستعداد وسيلة الوسيلة.
وعلى المفتي حين تعرض عليه المسائل المستفتَى فيها أن ينظر في منافع ومضار الأخذ بالذرائع وتركها ويراجح بينهما، حتى يحقق المصلحة التي يتغيَّاها الشارع ويبتعد عن المضار التي يتوخاها.
فينبغي أن لا يُتوسَّع في الأخذ بالذرائع حتى لا يؤدي الأخذ بها إلى الامتناع عن أمر مباح أو مندوب أو واجب خشية الوقوع في ظلم كامتناع بعض أهل الفضل والصلاح عن تولي أموال اليتامى أو أموال الأوقاف خشية التهمة من الناس أو خشية على أنفسهم من أن يقعوا في الظلم، فتضيع هذه الأموال ولا تجد من يرعاها حق رعايتها، أو منع المرأة من قيادة السيارات خوفًا من الفتنة ونزع الحجاب وتمرد المرأة على أهلها، أو منع زيارة قبور الصالحين سدًّا لذريعة الشرك، وهي معانٍ بعيدة في واقع الأمر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- الموسوعة الفقهية الكويتية، مصطلح سد الذرائع، بتصرف.
[2] - ابن قيم الجوزية: إعلام الموقعين، ج 4 ص 553، ط دار ابن الجوزي.
[3] - ابن رشد: المقدمات الممهدات، ج 2 ص 41، ط دار الغرب الإسلامي.
[4] - مسند أحمد: ج 29 ص 366، 17831.
[5] - القرافي: الفروق، ج 2 ص 59 ، 60، بتصرف، ط دار الكتب العلمية ـ بيروت.
[6] - الفروق: ج 2، ص 61.