إدراك الواقع وأثره في الفتوى


إدراك الواقع وأثره في الفتوى (1) 


من المقرر في الفقه الإسلامي أن النصوص متناهية(2) ومحصورة, والحوادث والوقائع غير متناهية ولا محصورة؛ لأنها متعلقة بالفعل البشري، وهو لا يتناهى إلى يوم القيامة , وعملية الإفتاء- أو الاختيار الفقهي- بيان للحكم الشرعي في واقعة عملية, وقد لوحظ- بحسب عدِّ بعض العلماء- أن الفقه الإسلامي يتضمن مليونا و175 ألف فرع فقهي(3) ، أي: جملة مفيدة فيها المسند إليه ( المبتدأ) فعل من أفعال المكلفين , والمسند (الخبر) حكم من الأحكام الشرعية التي تصف هذه الأفعال بالإباحة والكراهة والتحريم والوجوب والندب وغيرها من الأحكام الشرعية.

وهذا الكم الهائل- من هذه الفروع وغيرها- استنبطه الفقهاء من المصادر الشرعية التي منها التشريع. وأصل هذه المصادر: القرآن والسنة، وهما منبع التشريع، وليس من حق أحد التشريع؛ لعدم وجود فكرة الكهنوت أو رجال الدين الذين يشرعون للناس، بل عندنا علماء الدين الذين يبلغون للناس ما شرعه الله تعالى ورسوله: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ [يوسف: 40]، وحكم الله: إما أن يكون مدلولا عليه بالقرآن، أو السنة، وبقية الأدلة كاشفة عما ورد في القرآن والسنة وتابعة لهما، وكل الأئمة العظام الذين نقلت لنا أقوالهم (ما يقرب من 90 مذهبًا وإمامًا) كأبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل, والحمادَّيْن(4) , والسفيانين(5) , والأوزاعي، إلخ - تعاملوا مع هذه النصوص بفهم دقيق وعميق، وبملايين ساعات العمل في تقوى الله تعالى، وبدقة في تحري رضا الله تعالى عند بيان الحكم الشرعي، فنشأ من هذا الفهم هذا التراث الفقهي الضخم الذي يقارب المليون و200 ألف فرع تمثل كنزا ثريا، ومعينا عذبا للأخذ منه، وعلى الرغم من ذلك، إلا أن بعض جمله قد تأثرت بواقعها وزمانها , وهؤلاء الأئمة الأعلام أمرونا ألا نقف عند وقائعهم ومسائلهم، وأن نأخذ المناهج التي بنوا عليها استنباطهم للأحكام الشرعية ونستعملها لواقعنا نحن.

يقول الإمام القرافي في عبارة بليغة واضحة لا مزيد عليها: "فمهما تجدد من العرف؛ اعتبِرْه, ومهما سقط؛ أسقِطْه , ولا تجمُد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك؛ لا تُجرِه على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأجْرِه عليه، وأفته به دون عرف بلدك والمقررِّ في كتبك، فهذا هو الحق الواضح, والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين "(6).

فهذا الكلام من هذا الإمام الفذِّ ينبهنا إلي أهمية مسألة: (إدراك الواقع) كركن أساسي من أركان الإفتاء , وأن الذهاب إلى كتب الفروع الفقهية المختلفة وأخذ الأحكام الشرعية منها - وهي المتأثرة بواقع وعرف معين- ثم الإفتاء بها في واقع وعرف مختلف؛ هو من الضلال المبين والجهل الفاحش.

إذًا علينا في عملية الإفتاء:
أولاً: إدراك المصادر، وفهمها بإتقان على ما تقتضيه أصول اللغة والبلاغة والنحو والصرف، أو ما يسمى- عموما- بعلوم الآلة.
ثانيا: لابد من إدراك الواقع , وهذه الكلمة فضفاضة واسعة غير منضبطة , فأردنا أن نحددها, فوجدنا علماء الحضارة , كمالك بن نبي وغيره ، يحاولون ضبط هذا المفهوم فقالوا: هذا الواقع يمكن أن يقسم إلى عوالم ندركها في نفسها، وبالطبع كل عالَم له طريقة في إدراكه ، كما يجب علينا أن ندرك العلاقات البينية بين هذه العوالم، وهي: عالم الأشياء , وعالم الأشخاص , وعالم الأحداث، وعالم الأفكار , ويحيط بها ويربطها: عالم النظم، ليس هذا فحسب، بل جعلوا محور إدراك هذا الترتيب هو الثقافة، فمثلا: الفلاح البسيط اهتمامه منصب على عالم الأشياء: زرعه , حقله , منزله , أنعامه , مرضها صحتها، إنجابها، وهكذا، وأحيانا يهتم بالأشياء المرتبطة بالأشخاص: فلان سافر , فلان وصل , فلان اشترى منزلا , وهكذا، فإذا وصلنا لرجل المدينة وجدنا اهتمامه يرقى قليلا، فيهتم بالأشخاص، ثم الأحداث , المظاهرات , فلان قبض عليه، فلان فاز بالرئاسة النقابية، فلان خسر , وأحيانا يهتم بالأحداث ، كغلاء الأسعار , وكارتفاع أسعار العملات أو انخفاضها , الأزمات المالية , الحروب المجاعات .. إلخ، فإذا وصلنا إلى الأكاديميات الجامعية وقاعات البحث بدأ الاهتمام بالأفكار التي وراء هذه الأحداث وكيف نقرؤها.

وعلى المفتي- أثناء فتواه أو اختياره قولا معينا- أن يدرس هذه العوالم بمناهجها المختلفة , والعلاقات البينية، والمآلات التي تؤول إليها فتواه في الواقع.

فمثلا : في عالم الأشياء : عندما يأتي شخص ويسأل عن حكم الشرع في منتج أو سلعة معينة جديدة- فهذه السلعة من عالم الأشياء ، وتحتاج من المفتي إلى إدراك معين حتى يفتي بحكم الله فيها ، فلو أراد المفتي أن يبحث في الحكم الشرعي لخل التفاح مثلا ، فهو يتساءل: ما مشكلته , ما رائحته , ما مكوناته , ما تأثيره ، هل به كحول , هل يحتوي على شحم خنزير , وإذا كان يحتوي على كحول ما نوعه هل هو الإثيلي الذي يسبب الإسكار أو مثيلي وما ... وهذا الإدراك تهتم به مجموعة من العلوم ,كالكيمياء , والفيزياء , والتحليل الغذائي، بل والطب؛ لمعرفة مدي تأثير هذه المكونات على صحة الإنسان نفعا وضرا، وعلى المفتي أن يسأل الخبراء والمختصين، بل نقول : إن دقة فتواه تتوقف على مدى فهمه من الخبير لغته واصطلاحاته، بل وحتى طريقة عمله.

ثالثا: يتحدث الفقهاء الأقدمون عن الشخص الطبيعي وأهليته ... إلخ , لكن الواقع الآن أصبح فيه ما يسمى بالشخصية الاعتبارية المختلفة تماما عن الشخصية الطبيعية المحدودة القاصرة التي لها بداية ونهاية محددة، وتطرأ عليها عوارض الأهلية وهكذا , أما الاعتبارية فليس لها نفس ناطقة(7)، وهي ضخمة وذات أوجه مختلفة، بل وقد تكون في بلدين في وقت واحد، كأن يكون للشركة الواحدة أكثر من فرع، بل وربما كل فرع يعامل محاسبيا وضرائبيا بصورة مختلفة , وبل وربما يتم الاقتراض بين أكثر من فرع , وأحيانا تكون شركة قابضة تمتلك عدة شركات تعمل في مجالات مختلفة فشركة في الزراعة , وشركة في التجارة وشركة في الصناعة وهكذا رغم أنها شركة واحدة , وقد أشار الفقه الموروث إلى الوقف كشخص اعتباري وأعطاه أحكاما مختلفة عن الشخص الطبيعي كعدم ووجوب الزكاة فيه مثلا , وكذلك بيت المال , والمسجد والقناطر والرباطات وغيرها، وكلها أشخاص اعتبارية لها أحكام مختلفة عن الشخص الطبيعي، والآن انفصلت الشخصية الاعتبارية تماما عن ممثليها وحددت تحديدا دقيقا؛ لذا يجب علي المفتي أن يدرك هذا الواقع الجديد ولا يتعامل مع الشخص الاعتباري كما يتعامل مع الشخص الطبيعي , ولعل أشهر مثال لهذا اللغط وهذا اللبس ما حدث في فتاوى التعامل مع البنوك المعاصرة : ما بين محرم ومبيح وربما غاب عن كثيرين ما ذكرناه آنفا عن الشخص الاعتباري.

وهكذا في عالم الأحداث, وهكذا في عالم الأفكار. لكن لابد من التنبيه على مسألة غاية في الأهمية، وهي أن الفقيه أثناء إدراكه للواقع لا بد أن يضع على عينه نظارة المصادر والنصوص حتى يحسن الربط بينهما، أي: إيجاد الجسر الذي يربط ويضبط إنزال النصوص على الواقع، وهذا السقف لابد أن يشمل :

  1.  المقاصد الكلية للشريعة من حفظ النفس والعقل والدين والعرض والمال.
  2.  الإجماع، فلا بد للمفتي أن يراعي مواطن الإجماع، ولا يخرج عنها بحال.
  3. مراعاة اللغة العربية ودلالتها، فلا يصح أن يختار المفتي أو يضع دلالات أخرى لألفاظ اللغة غير الدلالات التي وردت لنا نقلا عن العرب؛ لأن المصادر الشرعية ما هي إلا نصوص عربية .
  4. لابد من مراعاة النموذج المعرفي الإسلامي ، وهو ما نسميه: العقيدة أو الرؤية الكلية .
  5.  لا بد- أثناء عملية الإفتاء وإدراك الواقع- من مراعاة القواعد الفقهية أو المبادئ العامة للشريعة من قبيل : (لا ضرر ولا ضرار)، و(لا تزر وازرة وزر أخرى)، وهكذا(8) .
     

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-  من محاضرات فضيلة الأستاذ الدكتور/ علي جمعة محمد، مفتي الديار المصرية.
2- المستصفى للغزالي جـ 2 صـ239
3- العناية شرح الهداية البابرتي جـ صـ7.
4- هما: حماد بن سلمة بن دينار البصري (ت 167هـ)، وحماد بن زيد بن درهم الأزدي (ت 179هـ).
5- هما: سفيان بن سعيد الثوري (ت 161هـ)، وسفيان بن عيينة بن أبي عمران (ت 198 هـ).
6-  الفروق ج1 صــ177 الفرق الثامن والعشرون
7-  راجع في التفرقة بين الشخصية الطبيعية والاعتبارية وخصائص كل منهما : الشخصية الاعتبارية في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي للدكتور سيد عبده بكر، رسالة بكلية دار العلوم- القاهرة 2007م
8-  راجع في ذلك: الطريق إلي التراث د/ علي جمعة مفتي الديار المصرية صـ20ــ ط: نهضة مصر، الطبعة الثانية 2005م.