القصد لغة: إتيان الشيء، واستقامة الطريق، والتوسط والاعتدال(1) .
والشريعة: الطريق، والمنهاج، والدين، وأصلها مورد الماء التي لا تنقطع يشرب منها الناس، وربما الأنعام(2) .
ومقاصد الشريعة: هي المعاني والأهداف الملحوظة للشرع في جميع أحكامه أو معظمها، أو هي الغاية من الشريعة، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها.
ومعرفتها أمر ضروري على الدوام ولكل الناس، للمجتهد عند استنباط الأحكام وفهم النصوص، ولغير المجتهد للتعرف على أسرار التشريع(3) .
واستقراء أدلة كثيرة من القرآن والسنة الصحيحة يوجب لنا اليقين بأن أحكام الشريعة الإسلامية منوطة بحكم وعلل راجعة للصلاح العام للمجتمع والأفراد.
وقد صرَّحَت النصوص الشرعية بذكر بعض مقاصد التشريع، مثل قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة:185] وقوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج:78] وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت:45] وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر..) رواه البخاري، وقوله: (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ) رواه ابن ماجه، وغير ذلك من النصوص التي تعَرَّضَتْ لذكر مقاصد الشريعة صراحة، لكن تشريعات الله سبحانه وتعالى التي وردت في القرآن والتي أخبرنا بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - يبصر الناظر الحصيف خيطًا ناظمًا متسقًا لمقاصدها وأهدافها وعللها، وإن لم تصرح به، وهو ما التفت له الصحابة رضوان الله عليهم ثم توالى الاهتمام بها جيلا بعد جيل حتى اعتنى بها العلماء في مصنفاتهم بصورة أكبر ووضعوا لها القواعد الضابطة، مثل إمام الحرمين الجويني والغزالي والرازي والآمدي والعز بن عبد السلام والقرافي وابن تيمية، ثم جاء الرجل الفذ الذي أفرد هذا الفن بالتدوين وهو أبو إسحق الشاطبي المالكي فاعتنى بالمقاصد اعتناءً كبيرًا، إذ عُني بإبرازه في القسم الثاني من كتابه (الموافقات)(4) ، وبعد ذلك صار علم المقاصد علما مستقلا ألَّف فيه العلماء المؤلفات الكثيرة القيمة، وفي العصر الحديث عُقدت له المؤتمرات ورصدت له المؤسسات.
أهمية المقاصد:
قديمًا قالوا: من عرف ما قصد، هان عليه ما وجد.
فالإنسان حين يُقْدِمُ على عمل وهو لا يدري لماذا هذا العمل، ولا يدري النتائج التي يسعى إلى بلوغها والفوائد التي يعمل لجنيها وتحصيلها، هذا الإنسان عادة ما يُصاب بتحير واضطراب، أو بكلل وملل..
نعم قد يتقوَّى الإنسان في عمله بثقته المبدئية والإجمالية فيمن كَلَّفَه بذلك العمل، كثقة المؤمن في حكمة الله تعالى ورحمته وثوابه، ولكنه - بكل تأكيد - يكون أقوى وأنشط وأقدر على متابعة العمل حين يعرف - بشيء من التحديد والتفصيل - مقاصد العمل وفوائده، وحين يصبح أكثر وضوحًا في الرؤية والبصيرة، وأكثر طمأنينة بالعلم والفهم، ألا ترى أن نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة:260] فأجاب الله دعوته، وأراه وعلَّمَه، وأفهمه وطمأنه.
فذكر العلل والمقاصد مع الأحكام فيه تفقيه الناس في أحكام دينهم وما تتضمَّنه من خيرهم ومصلحتهم، ولكنها في الوقت نفسه أسلوب من أساليب التحفيز والتحضيض على التزام تلك الأحكام وتحصيل مقاصدها المذكورة معها(5) .
أقسام المقاصد:
قسم العلماء المقاصد من التشريع إلى ثلاثة أقسام: ضرورية ـ حاجية ـ تحسينية.
1- يقول الشاطبي: فأما الضرورية فمعناها: أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجرِ مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج، وفَوْتِ حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين.. إلى أن يقول: ومجموع الضروريات خمسة، وهي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وقد قالوا: إنها مراعاة في كل ملة(6) .
وحفظ هذه الأمور يكون بتشريع ما يوجدها أولا، ثم تشريع ما يكفل بقاءها وصيانتها حتى لا تنعدم بعد وجودها أو تضيع ثمرتها المرجوة منها، فهي مراعاة من جانبي الوجود والعدم.
فإيجاد الدين: بوجوب الإيمان بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر والنطق بالشهادتين وأصول العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج.
والمحافظة عليه: بوجوب الجهاد في سبيل الله، وعقوبة الخارجين عليه والمرتدين والذين يصُدُّون عنه بوقوفهم في سبيل الدعوة إليه، والداعين إلى البدع ومانعي الزكاة، وكذلك الحجر على المفتي الماجن الذي يحلل الحرام ويحرم الحلال، وما شابه ذلك.
ولإيجاد النفس والنسل: شرع الزواج والتوالد، وحرم الزنى واللواطة.
وللمحافظة عليهما: أوجب الشارع تناول الضروري من طعام وشراب ولباس، وأوجب القصاص على القاتل عمدًا، والدية والكفارة على من يقتل خطأ، وعقوبة من يتعدَّى على الأطراف ويرتكب الزنى.
ولتكون الضروريات وافية بالغرض جاءت الشريعة مع أحكامها الأصلية بأحكام تكميلية تعتبر كالتتمَّة لها، فشرع مع الصلاة الأذان والإقامة وأداءها بجماعة لتكون أتمَّ وأكمل، وشرع مع الزواج اعتبار الكفاءة وحسن الاختيار ليتحقق الوفاق ويتم السكن المقصود من الزواج وليكون النسل صالحًا(7) ، وهكذا.
2- وأما الحاجيات: فهي المصالح التي يحتاج إليها الناس للتيسير عليهم ورفع الحرج عنهم، وإذا فقدت لا يختل نظام حياتهم كما في الضروريات ولكن يلحقهم الحرج والمشقة(8) .
فشرعت رخصة الفطر في السفر والمرض، والتيمم عند العجز عن استعمال الماء، وجعل الأرض مسجدًا، وأُبيح البيع والإجارة والهبة، وأُبيح كذلك فسخ العقود، وأُبيح الصيد والتمتع بالطيبات من الرزق من مأكل ومشرب وملبس ومسكن(9).
3- وأما التحسينات أو الكماليات، فمعناها: الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنُّب المدَنَّسَات التي تأنفُها العقول الراجحات، وإذا فُقِدَتْ لا يختلُّ نظام الحياة كما في الضروريات، ولا ينالهم الحرج كما في الحاجيات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق(10) .
فشرع الله - سبحانه وتعالى - الطهارات وستر العورات وأمر بأخذ الزينة عند الصلاة، ومنع من بيع النجاسات وبيع الإنسان على بيع أخيه، وكذلك خطبته على خطبة أخيه، وأمر بالرفق في معاشرة الزوجة ومنع الإسراف والتقتير في الإنفاق والطعام والشراب واللباس، وأوجب الوفاء بالعهد وحرم الغدر وقتل الشيوخ والأطفال والنساء في الحرب، ويُعَدُّ سَدُّ ذرائع الفساد من التحسيني فهو أحسن من انتظار التورُّط فيه(11) .
فالإسلام شرع الكثير من الأحكام من أجل تحقيق هذه المقاصد بدرجاتها المتفاوتة الرتبة، والمكملة لبعضها أيضًا، «فالضروريات تتكمل بالحاجات والتحسينات، والحاجيات تتكمل بالتحسينات، لكن الضروريات أصل للمقاصد الشرعية كلها، فهي أصل للحاجية والتحسينية، فمن أخَلَّ بها فقد أخَلَّ بما عداها حتمًا؛ لأنها كالفرائض، والحاجيات كالنوافل، والتحسينات كالأمور المهمة دون النوافل، أما من أخل بالحاجيات أو التحسينات، فإنه على وشك الإخلال بالضروريات؛ لأنه كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع في الحمى، فتصبح المحافظة على الحاجيات والتحسينات نوعًا من أنواع المحافظة على الضروريات»(12) .
المنهج المقاصدي:
ومما تجدر الإشارة إليه والتنبيه عليه، القول بأن المقاصد إنما تُمَثِّلُ في حقيقتها منهجًا وإطارًا للتفكير وإعمال العقل، ينبغي أن يتبنَّاه الفرد المسلم، فضلا عن الفقيه المجتهد الذي يجب عليه مراعاة المقاصد في استنباطه للأحكام.
ففائدة المقاصد لا تنحصر في الاجتهاد والمجتهدين، بل يمكن تحصيلها لكل من تشبَّع بهها أو تزوَّد بنصيب منها، وتكون فائدته بقدر علمه وفهمه لمقاصد الشريعة، وبقدر اعتماده لها واعتماده عليها في فكره ونظره.
فالفكر الإسلامي، لكي يكون فكرًا مقاصديًّا، بل ليكون فكرًا إسلاميًّا حقيقة، لا بد أن يسير وفق مقاصد الشرع في عقائده وشرائعه وأولوياته ومراتبه، ولا بد أن يحدِّدَ قضاياه وأهدافه بما تقتضيه المقاصد، وبما يتلاءم معها ويخدمها.
ثم إن المقاصد توفر للفكر نظرة شمولية متكاملة متناسقة، ينطلق منها ويهتدي بها في قضاياه واجتهاداته واختياراته، فلا يبقى مفتوحًا على جميع الاحتمالات، أو عرضة للتشتت بين النزعات والتيارات، كما يتخلص بفضل هذه الرؤية الشمولية المتناسقة، من ضيق الرؤى الجزئية والمعالجات الموضعية.
حين تكون للمفكر مثل هذه الرؤية، فسواء فكَّر في قضية سياسية أو اقتصادية أو قانونية أو تربوية، فلا بد أنه سيكون مستحضرًا لتلك المقاصد، وبذلك يعطي كل ذي حق حقه، ويحفظ لكل ذي حظ حظه، ويحترم لكل ذي مكانة مكانته.
وهو ما يفتقده أكثر الناس وكثير من المفكرين والمنظِّرين، فتجدهم يدافعون - مثلا - عن الاقتصاد والتنمية الاقتصادية، ويخربون البشر والتنمية البشرية، وتجد آخرين يدافعون عن الحريات والحقوق الفردية، وينسون حقوق الشعوب والمجتمعات، أو يدافعون عن الأرزاق ويخربون الأخلاق، وتجد تقديسًا متزايدًا لحرمة الوطن والطين، وإهدارًا متعمَّدًا لحرمة العقيدة والدين(13).
ويرى بعض المعاصرين أن من أهم المجالات التي تحتاج في تطويرها إلى الرؤية المقاصدية، مجال السياسة الشرعية، وذلك على مستويين: الأول- المستوى التنظيمي الذي يتم من خلال الدستور والقوانين واللوائح، والثاني- المستوى التنفيذي التطبيقي الذي يتم من خلال رسم السياسات والتخطيط والقرارات.
ونحن أحوج ما نكون إلى أن نحدِّدَ - أفرادًا وجماعات - رسالتنا في الحياة، ونحدِّدَ في ضوئها الأهداف البعيدة والقريبة، ونترجم هذه الأهداف إلى برامج عمل تنفيذية، وأن نربط كل ذلك بمقاصد الشريعة(14).
العملية الإفتائية ومقاصد الشريعة:
العلاقة بين الإفتاء والمقاصد علاقة وثيقة الصلة، وهي في صُلب العملية الإفتائية، إذ يتوجَّب على المفتي أن يراعي تحقيق مقاصد الشرع ويحافظ عليها في فتواه، بحيث يقدم الحفاظ على المقصد الضروري على ما يؤدي إلى المقصد الحاجي، ويقدم الحفاظ على المقصد الحاجي على ما يؤدي إلى المقصد التحسيني أو التكميلي، وبنظرته الثاقبة للواقع يستطيع التوصُّل إلى الرأي المناسب الذي يحقِّق مُرَاد الله ومقصدَه من شريعته الغرَّاء، وعلى هذا كان عمل أكابر علماء الأمة على مَرِّ العصور، فقد كانت أقضيتهم وفتاواهم تجسيدًا لروح هذا الشرع ومقاصده فضلا عن انضباطها بطرق استنباط الحكم وقواعده، وليست مجرد تطبيق حرفي جامد لنصوص تنبض بالحياة وتصلح لكل زمان ومكان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)مقاييس اللغة 5/95، مختار الصحاح ص 254، لسان العرب 3/353.
(2)لسان العرب 8/175.
(3)وهبة الزحيلي: أصول الفقه الإسلامي، ص 1017، ط دار الفكر ـ دمشق.
(4) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 180، 174، ط دار النفائس، ومحمد سعد اليوبي: مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية، ص 41 وما بعدها، ط دار الهجرة للنشر والتوزيع.
(5) أحمد الريسوني: الفكر المقاصدي.. قواعده وفوائده، ص 115-118، باختصار، كتاب الجيب - منشورات جريدة الزمن - الرباط.
(6)أبو إسحق الشاطبي: الموافقات، ج 2 ص 8-10، ط دار الفكر العربي، بتحقيق الشيخ دراز.
(7) محمد مصطفى شلبي: أصول الفقه الإسلامي، ص 525-527، ط الدار الجامعية للطباعة والنشر، والشاطبي: مرجع سابق، ج 2، ص 8 وما بعدها.
(8)الزحيلي: مرجع سابق، ص 1022.
(9)شلبي: مرجع سابق، ص 527-528، والزحيلي: مرجع سابق، ص 1022-1023.
(10)الشاطبي: مرجع سابق، ج 2 ص 11، والزحيلي: مرجع سابق، ص 1023.
(11)شلبي: مرجع سابق، ص 529، والزحيلي: مرجع سابق، ص 1024.
(12)الشاطبي: مرجع سابق، ج 2 ص 16، والزحيلي: مرجع سابق، ص 1026.
(13) الريسوني: مرجع سابق، ص 99-102، باختصار.
(14) جمال الدين عطية: نحو تفعيل مقاصد الشريعة، ص 233-234، باختصار، ط المعهد العالمي للفكر الإسلامي – دار الفكر، وانظر.. إسماعيل الحسني: نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، ص 407، ط المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
مقاصد الشريعة الإسلامية
مواقيت الصلاة
الفـجــر
الشروق
الظهر
العصر
المغرب
العشاء