الفتاوى المهدية
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك يا من أحكمت دينَك القويمَ أيَّ إحكام، وأطلعت في سماء الشريعة المطهرة كواكبَ الفتاوى والأحكام، ونشكرك على ما منحت من درر بحار أفضالك، وأنعمت من غرر جواهر كرمك ومحاسن نوالك.
ونصلي ونسلم على رسولك المخصوص بالمعراج، المبعوث إلينا بالهداية والسراج الوهاج، سيدنا محمد كنز الكمال، وشمس أفق الجمال والجلال، وعلى آله المحرزين قصب السبق إلى أقصى غاية، وأصحابه نجوم الهدى ومصابيح الدراية.
أما بعد:
فيقول الفقير إلى ربه اللطيف الحَفِيّ، محمد العباسي المهدي الحِفْنيّ الحَنَفيّ:
إنه من المعلوم، لدى ذوي الفهوم، أن من أجل العلوم قدرا، وأسناها حكمة وأدقها سرًّا، وأشمخها رتبة وأعلاها، وأعظمها قيمة وأغلاها، وأفضل ما تحلت به العلماء، وامتازت بروايته النبلاء، علم الفقه الذي يرقى به الإنسان، من حضيض الجهالة إلى أَوْج العرفان، كيف لا واقتباسه من مشكاة الكتاب المبين، وسنة الصادق الأمين، اتضحت به معالم الحلال والحرام، ورفعت به في الخافقين أعلام الإسلام، وكشف اللثام عن وجوه المحاسن الدينية، وأماط الحجاب عن مكنونات أسرار الحنيفية المرضية، وأرشد الأنام إلى سبل السداد، وما يؤديهم إلى صلاح أمورهم في المعاش والمعاد؛ إذ عليه مدار صحة العبادات، وإليه المرجع في استقامة المعاملات، فكان مدرأة للمفاسد، مجلبة للمصالح والفوائد، به تصل الحقوق لأربابها، وتُؤتى البيوت من أبوابها، وناهيك بفن أثنى عليه لسان النبوة، ونوه بذكره وأظهر شأنه وسموه، فقد قال خاتم النبيين: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين».
فيا لها من منقبة باهرة، ومزية سنية زاهرة، حرية أن يتحلى بعقدها الفريد كل فقيه، ويتنافس في الاتسام بها كل نبيل ونبيه، وقصارى القول أن هذا العلم جدير بالاقتناء خليق بالاعتبار والاعتناء بتقرير أصوله وتحرير فصوله.
ولما كان فن الفتوى من أكبر مزاياه الجليلة، وأنضر محاسنه الفائقة الجميلة، لم تزل الجهابذة في سائر القرون والأعصار وعامة البلاد والأمصار، ناشرين لواءه بين الأنام، قائمين بحمل أعبائه أحمد قيام، مثابرين على اقتناص شوارده، دائبين في إيضاح مصادره وموارده، باذلين الجهد في استخراج دره، منتهزين الفرصة في التقاط جواهره ودره، فلعمري إن هؤلاء العصابة، هم في الحقيقة أهل الإصابة؛ لعموم الحاجة إليه، واعتماد الخاصة والعامة في حوادثهم عليه، فجزاهم الله تعالى عن دينه أحسن جزائه، ووالى عليهم جليل إحسانه وجزيل نعمائه؛ حيث أوضحوا محجته، وأبرزوا حجته، وميزوا بين الغث والسمين، والصدف من الدر الثمين؛ خدمة منهم لتلك الخطة الشريفة، وقياما بواجب الشريعة المنيفة.
ولما أراد الله تعالى انتظامي في عقد نظمهم، وإن لم أبلغ مرامي مرامهم وغاية شأوهم، وأنى لمثلي أن ينحو نحوهم؟ وكيف وأنا قاصر عن مداناتهم في الكم والكيف؟ إذ كان سني حين هذا الانتظام، يبلغ أحدا وعشرين من الأعوام، وهي كافلة لعذري بالقبول، ولي أسوة حسنة بصاحب سلم المنطق، حيث يقول:
ولبني إحدى وعشرين سنة معذرة مقبولة مستحسنة
صدر لي الأمر العالي في النصف الأول من ذي القعدة الحرام، من سنة أربع وستين ومائتين وألف من هجرة سيد الأنام، بتقليدي وظيفة إفتاء الديار المصرية، لا زالت شموس الشريعة الغراء بها طالعة بهية، على مذهب إمام الأئمة، وسراج هذه الأمة، سابق حلبة المجتهدين، وناصر السنة والدين، من أشرقت كواكب فضله في سائر البلدان، الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، أمطره الله تعالى بهوامع رحمته ورضوانه، وأسكنه أعلى فراديس جنانه، من لدن صاحب العز والشهامة، والمجد الباذخ والزعامة، ذي المهابة والإجلال، والدولة والإقبال، الخديو الأعظم وعزيز مصر الأكرم، المرحوم إبراهيم باشا الذي فوضت إليه ولاية المملكة المصرية في حياة والده الجليل لكبر سن والده إذ ذاك، وتحليه بعقود الرشد الجميل، فورث المجد التليد والطارف، عن والده الذي جمل تاريخه بطرائف المحاسن ومطارف اللطائف، صاحب الهمة العلية، والمفاخر السنية الكسروية، محيي رفات العمار، معيد التمدن في القرى والأمصار، ذي المناقب الآصفية، والمهابة والسطوة الخديوية، من انتعشت به روح المعارف والعوارف انتعاشا، نزيل دار الرحمة محمد علي باشا، فامتثلت أمره الكريم، متلقيا ما قلدنيه بقلب سليم، حاملا أعباءه على عضدي وساعدي، مؤملا من فضله تعالى أن يكون معضدي ومساعدي؛ إذ لولا عناية الخالق، ما تسنى لي الولوج في تلك المضايق.
والذي قرَّب إليَّ ذلك، وسهَّلَ عليَّ ما هنالك، علمي بأن علامة دهره ونادرة عصره سيدي ووالدي الأستاذ الأعظم الشيخ محمد أمين المهدي رحمه الله وأرضاه، وحباه في دار قربه بما تقر به عيناه، كان في عصر المرحوم محمد علي باشا مفتي الديار المصرية مستمرًّا فيها إلى أن توفي سنة سبع وأربعين ومائتين وألف هجرية، وكنت حين وفاته صغيرا لم أبلغ سن التمييز، ثم نشأت صارفا الهمة في تحصيل العلوم بعون القوي العزيز، فاشتغلت بها متلقيا عن أساتذتي الأجلاء، إلى أن بلغت السن الذي قلدت فيه وظيفة الإفتاء، فأعانني الله تعالى على حملها، وهداني سواء سبيلها إلى عام سبع وثمانين ومائتين وألف من هجرة خير البشر، فقلدت مع وظيفة الإفتاء المذكورة مشيخة الجامع الأزهر، في عهد من أشرقت في مصر طوالع سعده، واقتفى في اقتناء محاسن الشيم سيرة والده وجده، صاحب المآثر الجليلة، والمفاخر السنية الجميلة، والمجد الأثيل الذي سحب أذياله على المجرة، والفضل الذي صار في جبين الدهر غرة، ذي القدر الجليل العلي، الخديو السابق إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي، بدلا عن الأستاذ الفاضل والنحرير اللوذعي الكامل الشيخ مصطفى محمد العروسي الشافعي -رحمة الله تعالى عليه- حين انفصاله عنها في التاريخ المومئ إليه.
وكنت حين تولية منصب الإفتاء أقيد غالب الفتاوى في مسودات، على حسب ما يرد لي من الحوادث والواقعات، سواء كانت المسألة واردة من جهة من جهات الحكومة المصرية، أو من جانب الأهالي أو من البلاد الأجنبية؛ صيانة لها عن الضياع، ومحافظة على سهولة الانتفاع، ولضرورة تقييدها على حسب الوقائع صارت مشتتة منثورة، غير مرتبة بحسب تراجم الفقه المشهورة.
وكان أول فتوى صدرت بعد التولية بأيام، ما ذكر في أول باب دعوى النسب من الجزء الرابع بتاريخ السابع عشر من ذي القعدة الحرام، فشرعت عام ثلاثمائة وألف في ترتيبها بترتيب التراجم الفقهية مع مراعاة تواريخها؛ لتكون أوقع نفعا، وأحسن أسلوبا وأحكم وضعا، وذلك في عهد من شرف مسند الخديوية الجليلة بمقامه السامي، وأفاض على رعيته غيث إحسانه الغزير الهامي، وابتهجت مصر بأنوار أنظاره السنية، واستنارت آفاقها بطوالع سيرته الحسنة المرضية، صاحب المآثر العديدة التي لا تخلَق على مدى الدهور، والمفاخر الحميدة التي لا تفي بحصرها الأقلام والسطور، ومعالي الشيم، وعزائم الهمم، المطبوع على شريف السجايا، ومحاسن الأخلاق وجميل المزايا، محيي دوارس العلوم والمعارف، ومسدي جليل المبرات واللطائف والعوارف، المجبول على تعظيم شعار الإسلام، وإقامة القواعد الدينية والأحكام، المتحلي من زينة التقوى بأجمل لباس وأبهاه، الباذل جهده فيما به رضا مولاه، الراقي إلى ذروة الصلاح والإصلاح، المثابر على ما به للرعية النجاح والفلاح، مَن زيَّنَهُ الله تعالى بقلائد التوفيق، الخديو المعظم محمد باشا توفيق، نضَّر الله تعالى أيامَه، ونشَرَ في الخافقين بالعزِّ أعلامَه، وأدام دولته، وأعلى كلمته، ولا زالت الأيام ناطقة بحسن ثنائه، والأنام شاكرة لجزيل مراحمه وآلائه.
هذا وكل ما تجدد من الفتاوى في أثناء تبييضها وجمعها، يلحق إن شاء الله تعالى في بابه إلى تمام طبعها، وإذا حدثت مسائل بعد التمام، فستجعل ذيلا لهذه الفتاوى بعون ذي الجلال والإكرام، وقد حذفت أغلب مكررات المسائل؛ إذ ليس في إثباتها كبير طائل، واجتنبت تعقيد العبارة، وغرابة الألفاظ وخفاء الإشارة، واضعًا معانيها على طرف التمام، معتمدًا فيها ما صححه الأئمة الأعلام، وربما وجدت الجواب محتاجًا إلى تأييد وسند، فأدعمه بالنص الذي عليه في المذهب المعوَّل والمعتمد.
وسميتها: «الفتاوى المهدية في الوقائع المصرية»، والله تعالى أسأل، وبرسوله أتوسل، أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وينفع بها النفع العميم، إنه سميع الدعاء قدير على ما يشاء.