مس المصحف للمحدث

لا يمكنني عادةً أن أحافظ على وضوئي لفترة طويلة، مما يحول بيني وبين الإكثار من تلاوة القرآن، ويضعف من عزيمتي في المثابرة على حفظه ومراجعته، فهل يجوز لي -إذا انتقض وضوئي أثناء تلاوة القرآن أو أثناء حفظه وتعلمه- أن أستمر في لمس المصحف وتقليب صفحاته حتى أنتهي من الجزء الذي حددته لنفسي؟

انتقاض الوضوء بما ليس من موجبات الغسل يندرج في مسمى الحدث الأصغر، والحدث في اللغة: الشيء الحادث، والحدوث هو كون الشيء ووقوعه بعد أن لم يكن. ينظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 278، مادة: "ح د ث"، ط. دار العلم للملايين، بيروت).

وفي الشرع: [يطلق الحدث على أمرٍ اعتباري يقوم بالأعضاء يمنع من صحَّة الصلاة حيث لا مرخص. كما يطلق على الأسباب التي ينتهي بها الطهر، وعلى المنع المترتب على ذلك] اهـ. "مغني المحتاج" (1/ 115، ط. دار الكتب العلمية).

والمشهور لدى عامة العلماء: أن الحدث ينقسم إلى حدث أكبر: وهو ما يوجب الغسل، وإلى حدث أصغر: وهو ما يوجب الوضوء. ينظر: "المنثور في القواعد" للزركشي (2/ 41، ط. وزارة الأوقاف الكويتية).

وبعض العلماء قسَّم الحدث إلى: أكبر وأوسط وأصغر باعتبار الممنوعات المترتبة على الحدث، فالحدث الأكبر: الحيض والنفاس، والحدث الأوسط: الجنابة، والحدث الأصغر: كالنوم وخروج الريح والبول وغير ذلك مما ينقض الوضوء ولا يوجب الغسل.

قال العز بن عبد السلام في "القواعد الكبرى" (2/ 179، ط. دار القلم، دمشق) -وينظر: "تحفة المحتاج" (1/ 65، ط. دار إحياء التراث العربي)-: [أما الحدث الأصغر فسببٌ لتحريم الصلاة والطواف وسجدة الشكر والسهو والتلاوة، ومس المصحف وحمله، ويزيد عليه حدث الجنابة -وهو الحدث الأوسط- بتحريم قراءة القرآن والإقامة في المساجد، ويزيد عليه الحيض -وهو الحدث الأكبر- بتحريم الصوم والوطء والطلاق]. اهـ بتصرف.

واستظهر العلامة الزركشي تقسيم الحدث إلى أربعة أقسام: أكبر، وكبير، وصغير، وأصغر، وهذا بحسب ما ظهر له من تصرف الشافعية في فروعهم؛ قال في كتابه "المنثور في القواعد" (2/ 41-42): [والذي يظهر من تصرفهم أنه مراتب: أكبر: وهو ما يوجب الوضوء والغسل، وكبير: وهو ما يوجب الغسل فقط، وصغير: وهو ما يوجب الوضوء فقط، وأصغر: وهو ما يوجب غسل الرجلين فقط في نزع الخف]. اهـ.

ويحرم على المكلف إذا كان محدثًا حدثًا أكبر أو أصغر أن يمسَّ المصحف حتى يتطهَّر من حدثه؛ لقوله عز وجل: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ۞ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ۞ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ۞ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ﴾ [الواقعة: 77-80].

ففي هذه الآيات دلالة ظاهرة على تحريم مس المصحف إلا للطاهر؛ فقوله تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ نهي يقتضي التحريم وإن كان لفظُه لفظَ الخبر؛ لأن خبر الباري تعالى لا يكون بخلاف الواقع، فلو كان المراد الإخبار لا النهي لكان هذا مصادمًا للواقع؛ إذ نحن نشاهد من يمسه وهو على غير طهارة. انظر: "المنتقى شرح الموطأ" (1/ 343، ط. دار الكتاب الإسلامي).

والتعبير بالخبر عن النهي أبلغُ من صريح الأمر والنهي كما يقول علماء البيان؛ لأن المتكلم لشدة تأكد طلبه نزل المطلوب منزلة الواقع لا محالة. انظر: "شرح الكوكب المنير" للفتوحي (ص: 59، ط. السنة المحمدية)-، وقوله تعالى: ﴿تَنْزِيلٌ﴾ ظاهر في إرادة المصحف، فلا يحمل على غيره إلا بدليل، والمتوضئ يوصف بأنه مُطهَّر ومُتَطَهِّر. انظر: "المجموع" (2/ 72، ط. دار الفكر)، فلا يقال بأنه لو قصد البشر لقال: لا يمسه إلا المتطهرون.

وعلى التسليم بأن المراد في هذه الآيات: أن القرآن الكريم مدوَّن في اللوح المحفوظ الذي لا يمسه إلا الملائكة المطهرون، يصحُّ أيضًا الاستدلال بالآية- كما قال الإمام الطيبي- لأن المعنى هو أن هذا الكتاب كريم على الله تعالى، ومن كرمه أنه أثبته عنده في اللوح المحفوظ وعظَّم شأنه بأن حكم بأنه لا يمسه إلا الملائكة المقربون، وصانه عن غير المقربين، فيجب أن يكون حكمه عند الناس كذلك؛ بناءً على أن ترتب الحكم على الوصف المناسب يشعر بالعلية؛ لأن سياق الكلام لتعظيم شأن القرآن. انظر: "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" (1/ 211، ط. دار الكتاب الإسلامي).


وجاء في كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم رضي الله عنه: «لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» رواه مالك وابن حبان والحاكم والبيهقي والدارمي، وشهرة كتاب عمرو بن حزم وتلقي الأمة له بالقبول يغنيان عن طلب الإسناد فيه. وقال فيه الإمام أحمد: "لا شك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتبه له". انظر: "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (1/ 280، ط. دار الكتب العلمية).

وقال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (17/ 396، 397، ط. وزارة عموم الأوقاف والشئون الإسلامية، المغرب): [وقد ذكرنا أن كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم رضي الله عنه إلى أهل اليمن في السنن، والفرائض، والديات- كتابٌ مشهورٌ عند أهل العلم، معروف يستغني بشهرته عن الإسناد... والدليلُ على صحَّة كتاب عمرو بن حزم رضي الله عنه: تلقِّي جمهور العلماء له بالقبول]. اهـ.

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَمَسّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرًا» رواه الطبراني في معجمَيْه "الكبير" و"الصغير"، والدارقطني في "سننه"، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 616، ط. دار الفكر): "رجاله موثقون". وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 361، ط. دار الكتب العلمية): "إسناده لا بأس به، ذكر الأثرم أن أحمد احتج به".

فقوله: «إِلَّا طَاهِرًا» بالنصب حال، والمعنى أن الإنسان لا يمس القرآن إلا في حالة طهره دون الحالات الأخرى التي تعرض له وينتقض فيها طهره، وهذا يدل على أن الطهارة هنا عبارة عن حالة تقابل حالةً معتادًا عروضُها لكل إنسان، وهي حالة الحدث، ومن البعيد أن يكون المراد بالطهارة هنا الإيمان المقابل للكفر؛ لأن الإيمان في عُرف الشرع ليس بحالة عارضة تقابل حالة أخرى معتادة في حياة الإنسان، وإنما الإيمان حالةٌ راسخةٌ كشجرةٍ طيبةٍ أصلُها ثابتٌ وفرعها في السماء، والكفر حالةٌ شاذةٌ خارجةٌ عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: وفدنا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجدني أفضلهم أخذًا للقرآن، وقد فضلتهم بسورة البقرة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «قَدْ أَمَّرْتُكَ عَلَى أَصْحَابِكَ، وَأَنْتَ أَصْغَرُهُمْ، فَإِذَا أَمَمْتَ قَوْمًا فَأُمَّهُمْ بِأَضْعَفِهِمْ، فَإِنَّ وَرَاءَكَ الْكَبِيرَ وَالصَّغِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ، وَإِذَا كُنْتَ مُصَدِّقًا فَلَا تَأْخُذِ الشَّافِعَ- وَهِي الْمَاخِضُ- وَلَا الرُّبَّى وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ، وَحَزْرَةُ الرَّجُلِ هُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْكَ، وَلَا تَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا وَأَنْتَ طَاهِرٌ». رواه الطبراني في "الكبير"، وفيه إسماعيل بن رافع ضعفه يحيى بن معين والنسائي، وقال البخاري: "ثقة مقارب الحديث". اهـ. "مجمع الزوائد" (1/ 277)، قال الهيثمي: "فيه هشام بن سليمان، وقد ضعفه جماعةٌ من الأئمة، ووثقه البخاري" اهـ. "مجمع الزوائد" (3/ 74)، والشاهد منه قوله عليه الصلاة والسلام مخاطبًا أحد أصحابه: «لَا تَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا وَأَنْتَ طَاهِرٌ»، فإنه يدل على أن للمخاطَب حالَيْن من المعتاد أن يَعْرِضَا له، وهما حال الطهر وحال ارتفاع الطهر، وقد نهاه النبي عليه الصلاة والسلام عن مس المصحف في حال ارتفاع طهره، فدلَّ هذا على أن ارتفاع الطهر هنا يراد به الحدث لا الكفر؛ إذ إن المخاطب هنا هو أحد الصحابة الكرام، وإلا كان المعنى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول للصحابي ما معناه: لا تمس القرآن إلا حينما تعرض لك حالة الإيمان، أما حينما تعرض لك حالة الكفر فلا تمسه، ولا يخفى فسادُ هذا المعنى وبُعْدُه عن المعهود في نصوص الشارع الحكيم.

إذن فالحديث صحيحٌ من رواية عمرو بن حزم بمفردها، وعلى تقدير عدم صحة الكتاب -وهو بعيد- فالضعف في باقي طرق الحديث يسير يَنْجَبِرُ بمجموع الطرق كما تقرَّر في علم الحديث، والحديث يدلُّ دلالةً واضحةً على المنع من مسِّ القرآن واللامس على غير طهر كما جاء التصريح به في رواية الإمام عبد الرزاق الصنعاني في "مصنفه" (1/ 341، ط. المكتب الإسلامي) عن معمر، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه قال: في كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم رضي الله عنه: «لَا يُمَسُّ الْقُرْآنُ إِلَّا عَلَى طُهْرٍ»، وليس معنى أن المؤمن لا ينجس أنه لا يقع منه الحدث المستدعي لتجديد الطهارة، وإلا لكان تكليفه بالطهارة تكليفًا بتحصيل الحاصل، وهو محال، ومن المعهود في نصوص الشرع الشريف أن يقصد بالطهارة رفع الحدث كما في قوله تعالى مخاطبًا المؤمنين: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة : 6]، وقوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ﴾ [البقرة : 222].

وقد نُقِل عن عددٍ من الصحابة القولُ بمنع المحدث من مس القرآن ولم يعرف لهم مخالف في هذا، فكان إجماعًا؛ يقول الإمام النووي في "المجموع" (2/ 82): [واستدل أصحابنا بالحديث المذكور وبأنه قول علي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر رضي الله عنهم، ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة]. اهـ.

وأجاب الشيخ ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (1/ 280) من سأله: هل يجوز مس المصحف بغير وضوء أم لا؟ فقال: [مذهب الأئمة الأربعة أنه لا يمس إلا طاهر... وهو أيضًا قول سلمان الفارسي، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وغيرهما، ولا يعلم لهما من الصحابة مخالف]. اهـ.

والمعهود من نصوص الشريعة هو تعظيم كتاب الله عز وجل وبيان فضله على سائر الكتب الإلهية السابقة، ووصفه بصفات التقديس والإجلال؛ قال تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ۞ رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ۞ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ [البينة: 1–3]، وقال عز وجل: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾ [الحجر: 87]، وقال سبحانه:﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾ [الحشر: 21]، وقال: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: 23]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾ [الأعراف: 204]، وقال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۞ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف: 3، 4]، وتعظيم ما عظمه الله تعالى حقٌّ واجب، وحرمة القرآن الكريم أعظم عند الله سبحانه وتعالى من المساجد التي يشيدها البشر، والجنب والحائض ممنوعان من دخول المسجد، فمنعهما من مس المصحف يكون من باب أولى، ويقتضي كمال التعظيم والتنزيه أيضًا منع المحدث حدثًا أصغر من مس القرآن حتى يتطهر من حدثه؛ إجلالًا لكلام الله تعالى وكتابه المجيد.

وقد اتفق على ذلك جمهور علماء الأمة في مختلف العصور؛ قال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (17/ 397): [ولم يختلف فقهاء الأمصار بالمدينة والعراق والشام أن المصحف لا يمسه إلا الطاهر على وضوء، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وأبي عبيد، وهؤلاء أئمة الفقه والحديث في أعصارهم، وروي ذلك عن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وطاوس والحسن والشعبي والقاسم بن محمد وعطاء رضي الله عنهم، قال إسحاق بن راهويه: لا يقرأ أحد في المصحف إلا وهو متوضئ] اهـ.

ويقول ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (1/ 357): [أما مس المصحف فالصحيح أنه يجب له الوضوء، كقول الجمهور، وهذا هو المعروف عن الصحابة: سعد، وسلمان، وابن عمر رضي الله عنهم]. اهـ.

ولا يصح التذرُّع بأن القصد لحفظ كتاب الله وتعلمه وكثرة تدبره، يقتضي التهاون في شأن الطهارة من الحدث الأصغر لتحفيز الكسالى للقيام بهذه الأعمال الصالحة؛ لأن الله سبحانه هو الذي تعهد بحفظ كتابه، والقرآن كتاب نور وهداية، فمن أراد أن يكون من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته فليطرح الكسل جانبًا، ولينشطْ للسير على نهج الصحابة الكرام وآل البيت الأطهار الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حُبِّ كتاب الله عز وجل وتقديسه والامتثال لأوامره ونواهيه، هذا وقد توفرت الآن العديدُ من الوسائل التكنولوجية التي يمكن الاستفادة منها في حفظ القرآن ومراجعته وتكرار آياته وتدبر معانيه في شتى الأوقات والأحوال سواء أكان السامع على طهر أم لا، فلا حاجة إذن تقتضي التساهل في مسِّ المصحف على غير طهر.

وفي "المجموع" (3/ 361): إن حفظ جميع سور القرآن الكريم ليس بواجب على كل مسلم، وإنما هو مستحب، سوى أن حفظ فاتحة الكتاب واجب على كل قادر؛ لكون قراءتها ركنًا من أركان الصلاة عند جمهور الفقهاء.

ويرى الحنفية: أن القدر الواجب على كل مسلم حفظه هو الفاتحة وسورة معها؛ لأن قراءة ذلك من واجبات الصلاة عندهم. انظر: "الدر المختار بحاشية ابن عابدين" (1/ 538، ط. دار الكتب العلمية).

ويقول ابن حزم في كتاب "مراتب الإجماع" (1/ 156، ط. دار الكتب العلمية): [اتفقوا على أن حفظ شيء من القرآن واجب، ولم يتفقوا على ماهية ذلك الشيء ولا كميته بما يمكن ضبط إجماع فيه، إلا أنهم اتفقوا على أن من حفظ أم القرآن بسم الله الرحمن الرحيم كلها وسورة أخرى معها؛ فقد أدَّى فرض الحفظ وأنه لا يلزمه حفْظُ أكثر من ذلك، واتفقوا على استحسان حفظ جميعه، وأن ضبط جميعه على جميع الأمة واجب على الكفاية لا مُتَعَيِّن]. اهـ.

وقال ابن مفلح الحنبلي في "الفروع" (1/ 525، ط. عالم الكتب): [يجب من القرآن ما يجزي الصلاة، وهو الفاتحة على المذهب]. اهـ.

وذهب داود وابن حزم من الظاهرية إلى جواز مسِّ المحدث للقرآن مطلقًا، سواء أكان حدثه أكبر أم أصغر. انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 94، ط. دار الفكر).

وروي عن الحكم وحماد القولُ بجواز المسِّ بظاهر الكفِّ دون باطنه، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى هرقل كتابًا فيه قرآن وهرقل محدث، يمسه وأصحابه، ولأن الصبيان يحملون الألواح محدثين بلا إنكار، ولأنه إذا لم تحرم القراءة فالمس أولى، وقاسوا حمله على حمله في متاع.

وأجيب عن قصة هرقل: "بأن ذلك الكتاب كان فيه آية ولا يسمى مصحفًا، وأبيح حمل الصبيان الألواح للضرورة، وأبيحت القراءة للحاجة وعسر الوضوء لها كل وقت، وحمله في المتاع؛ لأنه غير مقصود". اهـ. "المجموع" (2/ 72)، والتفرقة بين باطن الكف وظاهره لا دليلَ عليها، فكل شيء لاقى شيئًا فقد مسَّه. انظر: "المغني" (1/ 199، ط. دار إحياء التراث العربي).

فالراجح في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء؛ لقوة ما استدلوا به في مقابل ما تمسَّك به المخالفون.

وفي واقعة السؤال وبناءً على ما سبق: فإنه لا يجوز للمسلم المكلَّف إذا لم يكن على طهارة تامة من الحدثين الأكبر والأصغر أن يمسَّ المصحف وإن عاقه ذلك عن الإكثار من التلاوة أو الحفظ أو المراجعة؛ لتيسُّر العديدِ من السبل والوسائل التي يمكنه الاستفادة منها في الإكثار من سماع القرآن الكريم وتكرار آياته وترديدها وحفظها ومراجعتها بالسماع دون إلزامه حينئذ بالطهارة التامة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

انتقاض الوضوء بما ليس من موجبات الغسل يندرج في مسمى الحدث الأصغر، والحدث في اللغة: الشيء الحادث، والحدوث هو كون الشيء ووقوعه بعد أن لم يكن. ينظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 278، مادة: "ح د ث"، ط. دار العلم للملايين، بيروت).

وفي الشرع: [يطلق الحدث على أمرٍ اعتباري يقوم بالأعضاء يمنع من صحَّة الصلاة حيث لا مرخص. كما يطلق على الأسباب التي ينتهي بها الطهر، وعلى المنع المترتب على ذلك] اهـ. "مغني المحتاج" (1/ 115، ط. دار الكتب العلمية).

والمشهور لدى عامة العلماء: أن الحدث ينقسم إلى حدث أكبر: وهو ما يوجب الغسل، وإلى حدث أصغر: وهو ما يوجب الوضوء. ينظر: "المنثور في القواعد" للزركشي (2/ 41، ط. وزارة الأوقاف الكويتية).

وبعض العلماء قسَّم الحدث إلى: أكبر وأوسط وأصغر باعتبار الممنوعات المترتبة على الحدث، فالحدث الأكبر: الحيض والنفاس، والحدث الأوسط: الجنابة، والحدث الأصغر: كالنوم وخروج الريح والبول وغير ذلك مما ينقض الوضوء ولا يوجب الغسل.

قال العز بن عبد السلام في "القواعد الكبرى" (2/ 179، ط. دار القلم، دمشق) -وينظر: "تحفة المحتاج" (1/ 65، ط. دار إحياء التراث العربي)-: [أما الحدث الأصغر فسببٌ لتحريم الصلاة والطواف وسجدة الشكر والسهو والتلاوة، ومس المصحف وحمله، ويزيد عليه حدث الجنابة -وهو الحدث الأوسط- بتحريم قراءة القرآن والإقامة في المساجد، ويزيد عليه الحيض -وهو الحدث الأكبر- بتحريم الصوم والوطء والطلاق]. اهـ بتصرف.

واستظهر العلامة الزركشي تقسيم الحدث إلى أربعة أقسام: أكبر، وكبير، وصغير، وأصغر، وهذا بحسب ما ظهر له من تصرف الشافعية في فروعهم؛ قال في كتابه "المنثور في القواعد" (2/ 41-42): [والذي يظهر من تصرفهم أنه مراتب: أكبر: وهو ما يوجب الوضوء والغسل، وكبير: وهو ما يوجب الغسل فقط، وصغير: وهو ما يوجب الوضوء فقط، وأصغر: وهو ما يوجب غسل الرجلين فقط في نزع الخف]. اهـ.

ويحرم على المكلف إذا كان محدثًا حدثًا أكبر أو أصغر أن يمسَّ المصحف حتى يتطهَّر من حدثه؛ لقوله عز وجل: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ۞ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ۞ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ۞ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ﴾ [الواقعة: 77-80].

ففي هذه الآيات دلالة ظاهرة على تحريم مس المصحف إلا للطاهر؛ فقوله تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ نهي يقتضي التحريم وإن كان لفظُه لفظَ الخبر؛ لأن خبر الباري تعالى لا يكون بخلاف الواقع، فلو كان المراد الإخبار لا النهي لكان هذا مصادمًا للواقع؛ إذ نحن نشاهد من يمسه وهو على غير طهارة. انظر: "المنتقى شرح الموطأ" (1/ 343، ط. دار الكتاب الإسلامي).

والتعبير بالخبر عن النهي أبلغُ من صريح الأمر والنهي كما يقول علماء البيان؛ لأن المتكلم لشدة تأكد طلبه نزل المطلوب منزلة الواقع لا محالة. انظر: "شرح الكوكب المنير" للفتوحي (ص: 59، ط. السنة المحمدية)-، وقوله تعالى: ﴿تَنْزِيلٌ﴾ ظاهر في إرادة المصحف، فلا يحمل على غيره إلا بدليل، والمتوضئ يوصف بأنه مُطهَّر ومُتَطَهِّر. انظر: "المجموع" (2/ 72، ط. دار الفكر)، فلا يقال بأنه لو قصد البشر لقال: لا يمسه إلا المتطهرون.

وعلى التسليم بأن المراد في هذه الآيات: أن القرآن الكريم مدوَّن في اللوح المحفوظ الذي لا يمسه إلا الملائكة المطهرون، يصحُّ أيضًا الاستدلال بالآية- كما قال الإمام الطيبي- لأن المعنى هو أن هذا الكتاب كريم على الله تعالى، ومن كرمه أنه أثبته عنده في اللوح المحفوظ وعظَّم شأنه بأن حكم بأنه لا يمسه إلا الملائكة المقربون، وصانه عن غير المقربين، فيجب أن يكون حكمه عند الناس كذلك؛ بناءً على أن ترتب الحكم على الوصف المناسب يشعر بالعلية؛ لأن سياق الكلام لتعظيم شأن القرآن. انظر: "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" (1/ 211، ط. دار الكتاب الإسلامي).


وجاء في كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم رضي الله عنه: «لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» رواه مالك وابن حبان والحاكم والبيهقي والدارمي، وشهرة كتاب عمرو بن حزم وتلقي الأمة له بالقبول يغنيان عن طلب الإسناد فيه. وقال فيه الإمام أحمد: "لا شك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتبه له". انظر: "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (1/ 280، ط. دار الكتب العلمية).

وقال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (17/ 396، 397، ط. وزارة عموم الأوقاف والشئون الإسلامية، المغرب): [وقد ذكرنا أن كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم رضي الله عنه إلى أهل اليمن في السنن، والفرائض، والديات- كتابٌ مشهورٌ عند أهل العلم، معروف يستغني بشهرته عن الإسناد... والدليلُ على صحَّة كتاب عمرو بن حزم رضي الله عنه: تلقِّي جمهور العلماء له بالقبول]. اهـ.

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَمَسّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرًا» رواه الطبراني في معجمَيْه "الكبير" و"الصغير"، والدارقطني في "سننه"، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 616، ط. دار الفكر): "رجاله موثقون". وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 361، ط. دار الكتب العلمية): "إسناده لا بأس به، ذكر الأثرم أن أحمد احتج به".

فقوله: «إِلَّا طَاهِرًا» بالنصب حال، والمعنى أن الإنسان لا يمس القرآن إلا في حالة طهره دون الحالات الأخرى التي تعرض له وينتقض فيها طهره، وهذا يدل على أن الطهارة هنا عبارة عن حالة تقابل حالةً معتادًا عروضُها لكل إنسان، وهي حالة الحدث، ومن البعيد أن يكون المراد بالطهارة هنا الإيمان المقابل للكفر؛ لأن الإيمان في عُرف الشرع ليس بحالة عارضة تقابل حالة أخرى معتادة في حياة الإنسان، وإنما الإيمان حالةٌ راسخةٌ كشجرةٍ طيبةٍ أصلُها ثابتٌ وفرعها في السماء، والكفر حالةٌ شاذةٌ خارجةٌ عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: وفدنا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجدني أفضلهم أخذًا للقرآن، وقد فضلتهم بسورة البقرة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «قَدْ أَمَّرْتُكَ عَلَى أَصْحَابِكَ، وَأَنْتَ أَصْغَرُهُمْ، فَإِذَا أَمَمْتَ قَوْمًا فَأُمَّهُمْ بِأَضْعَفِهِمْ، فَإِنَّ وَرَاءَكَ الْكَبِيرَ وَالصَّغِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ، وَإِذَا كُنْتَ مُصَدِّقًا فَلَا تَأْخُذِ الشَّافِعَ- وَهِي الْمَاخِضُ- وَلَا الرُّبَّى وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ، وَحَزْرَةُ الرَّجُلِ هُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْكَ، وَلَا تَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا وَأَنْتَ طَاهِرٌ». رواه الطبراني في "الكبير"، وفيه إسماعيل بن رافع ضعفه يحيى بن معين والنسائي، وقال البخاري: "ثقة مقارب الحديث". اهـ. "مجمع الزوائد" (1/ 277)، قال الهيثمي: "فيه هشام بن سليمان، وقد ضعفه جماعةٌ من الأئمة، ووثقه البخاري" اهـ. "مجمع الزوائد" (3/ 74)، والشاهد منه قوله عليه الصلاة والسلام مخاطبًا أحد أصحابه: «لَا تَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا وَأَنْتَ طَاهِرٌ»، فإنه يدل على أن للمخاطَب حالَيْن من المعتاد أن يَعْرِضَا له، وهما حال الطهر وحال ارتفاع الطهر، وقد نهاه النبي عليه الصلاة والسلام عن مس المصحف في حال ارتفاع طهره، فدلَّ هذا على أن ارتفاع الطهر هنا يراد به الحدث لا الكفر؛ إذ إن المخاطب هنا هو أحد الصحابة الكرام، وإلا كان المعنى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول للصحابي ما معناه: لا تمس القرآن إلا حينما تعرض لك حالة الإيمان، أما حينما تعرض لك حالة الكفر فلا تمسه، ولا يخفى فسادُ هذا المعنى وبُعْدُه عن المعهود في نصوص الشارع الحكيم.

إذن فالحديث صحيحٌ من رواية عمرو بن حزم بمفردها، وعلى تقدير عدم صحة الكتاب -وهو بعيد- فالضعف في باقي طرق الحديث يسير يَنْجَبِرُ بمجموع الطرق كما تقرَّر في علم الحديث، والحديث يدلُّ دلالةً واضحةً على المنع من مسِّ القرآن واللامس على غير طهر كما جاء التصريح به في رواية الإمام عبد الرزاق الصنعاني في "مصنفه" (1/ 341، ط. المكتب الإسلامي) عن معمر، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه قال: في كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم رضي الله عنه: «لَا يُمَسُّ الْقُرْآنُ إِلَّا عَلَى طُهْرٍ»، وليس معنى أن المؤمن لا ينجس أنه لا يقع منه الحدث المستدعي لتجديد الطهارة، وإلا لكان تكليفه بالطهارة تكليفًا بتحصيل الحاصل، وهو محال، ومن المعهود في نصوص الشرع الشريف أن يقصد بالطهارة رفع الحدث كما في قوله تعالى مخاطبًا المؤمنين: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة : 6]، وقوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ﴾ [البقرة : 222].

وقد نُقِل عن عددٍ من الصحابة القولُ بمنع المحدث من مس القرآن ولم يعرف لهم مخالف في هذا، فكان إجماعًا؛ يقول الإمام النووي في "المجموع" (2/ 82): [واستدل أصحابنا بالحديث المذكور وبأنه قول علي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر رضي الله عنهم، ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة]. اهـ.

وأجاب الشيخ ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (1/ 280) من سأله: هل يجوز مس المصحف بغير وضوء أم لا؟ فقال: [مذهب الأئمة الأربعة أنه لا يمس إلا طاهر... وهو أيضًا قول سلمان الفارسي، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وغيرهما، ولا يعلم لهما من الصحابة مخالف]. اهـ.

والمعهود من نصوص الشريعة هو تعظيم كتاب الله عز وجل وبيان فضله على سائر الكتب الإلهية السابقة، ووصفه بصفات التقديس والإجلال؛ قال تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ۞ رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ۞ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ [البينة: 1–3]، وقال عز وجل: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾ [الحجر: 87]، وقال سبحانه:﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾ [الحشر: 21]، وقال: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: 23]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾ [الأعراف: 204]، وقال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۞ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف: 3، 4]، وتعظيم ما عظمه الله تعالى حقٌّ واجب، وحرمة القرآن الكريم أعظم عند الله سبحانه وتعالى من المساجد التي يشيدها البشر، والجنب والحائض ممنوعان من دخول المسجد، فمنعهما من مس المصحف يكون من باب أولى، ويقتضي كمال التعظيم والتنزيه أيضًا منع المحدث حدثًا أصغر من مس القرآن حتى يتطهر من حدثه؛ إجلالًا لكلام الله تعالى وكتابه المجيد.

وقد اتفق على ذلك جمهور علماء الأمة في مختلف العصور؛ قال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (17/ 397): [ولم يختلف فقهاء الأمصار بالمدينة والعراق والشام أن المصحف لا يمسه إلا الطاهر على وضوء، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وأبي عبيد، وهؤلاء أئمة الفقه والحديث في أعصارهم، وروي ذلك عن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وطاوس والحسن والشعبي والقاسم بن محمد وعطاء رضي الله عنهم، قال إسحاق بن راهويه: لا يقرأ أحد في المصحف إلا وهو متوضئ] اهـ.

ويقول ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (1/ 357): [أما مس المصحف فالصحيح أنه يجب له الوضوء، كقول الجمهور، وهذا هو المعروف عن الصحابة: سعد، وسلمان، وابن عمر رضي الله عنهم]. اهـ.

ولا يصح التذرُّع بأن القصد لحفظ كتاب الله وتعلمه وكثرة تدبره، يقتضي التهاون في شأن الطهارة من الحدث الأصغر لتحفيز الكسالى للقيام بهذه الأعمال الصالحة؛ لأن الله سبحانه هو الذي تعهد بحفظ كتابه، والقرآن كتاب نور وهداية، فمن أراد أن يكون من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته فليطرح الكسل جانبًا، ولينشطْ للسير على نهج الصحابة الكرام وآل البيت الأطهار الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حُبِّ كتاب الله عز وجل وتقديسه والامتثال لأوامره ونواهيه، هذا وقد توفرت الآن العديدُ من الوسائل التكنولوجية التي يمكن الاستفادة منها في حفظ القرآن ومراجعته وتكرار آياته وتدبر معانيه في شتى الأوقات والأحوال سواء أكان السامع على طهر أم لا، فلا حاجة إذن تقتضي التساهل في مسِّ المصحف على غير طهر.

وفي "المجموع" (3/ 361): إن حفظ جميع سور القرآن الكريم ليس بواجب على كل مسلم، وإنما هو مستحب، سوى أن حفظ فاتحة الكتاب واجب على كل قادر؛ لكون قراءتها ركنًا من أركان الصلاة عند جمهور الفقهاء.

ويرى الحنفية: أن القدر الواجب على كل مسلم حفظه هو الفاتحة وسورة معها؛ لأن قراءة ذلك من واجبات الصلاة عندهم. انظر: "الدر المختار بحاشية ابن عابدين" (1/ 538، ط. دار الكتب العلمية).

ويقول ابن حزم في كتاب "مراتب الإجماع" (1/ 156، ط. دار الكتب العلمية): [اتفقوا على أن حفظ شيء من القرآن واجب، ولم يتفقوا على ماهية ذلك الشيء ولا كميته بما يمكن ضبط إجماع فيه، إلا أنهم اتفقوا على أن من حفظ أم القرآن بسم الله الرحمن الرحيم كلها وسورة أخرى معها؛ فقد أدَّى فرض الحفظ وأنه لا يلزمه حفْظُ أكثر من ذلك، واتفقوا على استحسان حفظ جميعه، وأن ضبط جميعه على جميع الأمة واجب على الكفاية لا مُتَعَيِّن]. اهـ.

وقال ابن مفلح الحنبلي في "الفروع" (1/ 525، ط. عالم الكتب): [يجب من القرآن ما يجزي الصلاة، وهو الفاتحة على المذهب]. اهـ.

وذهب داود وابن حزم من الظاهرية إلى جواز مسِّ المحدث للقرآن مطلقًا، سواء أكان حدثه أكبر أم أصغر. انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 94، ط. دار الفكر).

وروي عن الحكم وحماد القولُ بجواز المسِّ بظاهر الكفِّ دون باطنه، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى هرقل كتابًا فيه قرآن وهرقل محدث، يمسه وأصحابه، ولأن الصبيان يحملون الألواح محدثين بلا إنكار، ولأنه إذا لم تحرم القراءة فالمس أولى، وقاسوا حمله على حمله في متاع.

وأجيب عن قصة هرقل: "بأن ذلك الكتاب كان فيه آية ولا يسمى مصحفًا، وأبيح حمل الصبيان الألواح للضرورة، وأبيحت القراءة للحاجة وعسر الوضوء لها كل وقت، وحمله في المتاع؛ لأنه غير مقصود". اهـ. "المجموع" (2/ 72)، والتفرقة بين باطن الكف وظاهره لا دليلَ عليها، فكل شيء لاقى شيئًا فقد مسَّه. انظر: "المغني" (1/ 199، ط. دار إحياء التراث العربي).

فالراجح في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء؛ لقوة ما استدلوا به في مقابل ما تمسَّك به المخالفون.

وفي واقعة السؤال وبناءً على ما سبق: فإنه لا يجوز للمسلم المكلَّف إذا لم يكن على طهارة تامة من الحدثين الأكبر والأصغر أن يمسَّ المصحف وإن عاقه ذلك عن الإكثار من التلاوة أو الحفظ أو المراجعة؛ لتيسُّر العديدِ من السبل والوسائل التي يمكنه الاستفادة منها في الإكثار من سماع القرآن الكريم وتكرار آياته وترديدها وحفظها ومراجعتها بالسماع دون إلزامه حينئذ بالطهارة التامة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

مس المصحف للمحدث

لا يمكنني عادةً أن أحافظ على وضوئي لفترة طويلة، مما يحول بيني وبين الإكثار من تلاوة القرآن، ويضعف من عزيمتي في المثابرة على حفظه ومراجعته، فهل يجوز لي -إذا انتقض وضوئي أثناء تلاوة القرآن أو أثناء حفظه وتعلمه- أن أستمر في لمس المصحف وتقليب صفحاته حتى أنتهي من الجزء الذي حددته لنفسي؟

انتقاض الوضوء بما ليس من موجبات الغسل يندرج في مسمى الحدث الأصغر، والحدث في اللغة: الشيء الحادث، والحدوث هو كون الشيء ووقوعه بعد أن لم يكن. ينظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 278، مادة: "ح د ث"، ط. دار العلم للملايين، بيروت).

وفي الشرع: [يطلق الحدث على أمرٍ اعتباري يقوم بالأعضاء يمنع من صحَّة الصلاة حيث لا مرخص. كما يطلق على الأسباب التي ينتهي بها الطهر، وعلى المنع المترتب على ذلك] اهـ. "مغني المحتاج" (1/ 115، ط. دار الكتب العلمية).

والمشهور لدى عامة العلماء: أن الحدث ينقسم إلى حدث أكبر: وهو ما يوجب الغسل، وإلى حدث أصغر: وهو ما يوجب الوضوء. ينظر: "المنثور في القواعد" للزركشي (2/ 41، ط. وزارة الأوقاف الكويتية).

وبعض العلماء قسَّم الحدث إلى: أكبر وأوسط وأصغر باعتبار الممنوعات المترتبة على الحدث، فالحدث الأكبر: الحيض والنفاس، والحدث الأوسط: الجنابة، والحدث الأصغر: كالنوم وخروج الريح والبول وغير ذلك مما ينقض الوضوء ولا يوجب الغسل.

قال العز بن عبد السلام في "القواعد الكبرى" (2/ 179، ط. دار القلم، دمشق) -وينظر: "تحفة المحتاج" (1/ 65، ط. دار إحياء التراث العربي)-: [أما الحدث الأصغر فسببٌ لتحريم الصلاة والطواف وسجدة الشكر والسهو والتلاوة، ومس المصحف وحمله، ويزيد عليه حدث الجنابة -وهو الحدث الأوسط- بتحريم قراءة القرآن والإقامة في المساجد، ويزيد عليه الحيض -وهو الحدث الأكبر- بتحريم الصوم والوطء والطلاق]. اهـ بتصرف.

واستظهر العلامة الزركشي تقسيم الحدث إلى أربعة أقسام: أكبر، وكبير، وصغير، وأصغر، وهذا بحسب ما ظهر له من تصرف الشافعية في فروعهم؛ قال في كتابه "المنثور في القواعد" (2/ 41-42): [والذي يظهر من تصرفهم أنه مراتب: أكبر: وهو ما يوجب الوضوء والغسل، وكبير: وهو ما يوجب الغسل فقط، وصغير: وهو ما يوجب الوضوء فقط، وأصغر: وهو ما يوجب غسل الرجلين فقط في نزع الخف]. اهـ.

ويحرم على المكلف إذا كان محدثًا حدثًا أكبر أو أصغر أن يمسَّ المصحف حتى يتطهَّر من حدثه؛ لقوله عز وجل: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ۞ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ۞ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ۞ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ﴾ [الواقعة: 77-80].

ففي هذه الآيات دلالة ظاهرة على تحريم مس المصحف إلا للطاهر؛ فقوله تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ نهي يقتضي التحريم وإن كان لفظُه لفظَ الخبر؛ لأن خبر الباري تعالى لا يكون بخلاف الواقع، فلو كان المراد الإخبار لا النهي لكان هذا مصادمًا للواقع؛ إذ نحن نشاهد من يمسه وهو على غير طهارة. انظر: "المنتقى شرح الموطأ" (1/ 343، ط. دار الكتاب الإسلامي).

والتعبير بالخبر عن النهي أبلغُ من صريح الأمر والنهي كما يقول علماء البيان؛ لأن المتكلم لشدة تأكد طلبه نزل المطلوب منزلة الواقع لا محالة. انظر: "شرح الكوكب المنير" للفتوحي (ص: 59، ط. السنة المحمدية)-، وقوله تعالى: ﴿تَنْزِيلٌ﴾ ظاهر في إرادة المصحف، فلا يحمل على غيره إلا بدليل، والمتوضئ يوصف بأنه مُطهَّر ومُتَطَهِّر. انظر: "المجموع" (2/ 72، ط. دار الفكر)، فلا يقال بأنه لو قصد البشر لقال: لا يمسه إلا المتطهرون.

وعلى التسليم بأن المراد في هذه الآيات: أن القرآن الكريم مدوَّن في اللوح المحفوظ الذي لا يمسه إلا الملائكة المطهرون، يصحُّ أيضًا الاستدلال بالآية- كما قال الإمام الطيبي- لأن المعنى هو أن هذا الكتاب كريم على الله تعالى، ومن كرمه أنه أثبته عنده في اللوح المحفوظ وعظَّم شأنه بأن حكم بأنه لا يمسه إلا الملائكة المقربون، وصانه عن غير المقربين، فيجب أن يكون حكمه عند الناس كذلك؛ بناءً على أن ترتب الحكم على الوصف المناسب يشعر بالعلية؛ لأن سياق الكلام لتعظيم شأن القرآن. انظر: "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" (1/ 211، ط. دار الكتاب الإسلامي).


وجاء في كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم رضي الله عنه: «لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» رواه مالك وابن حبان والحاكم والبيهقي والدارمي، وشهرة كتاب عمرو بن حزم وتلقي الأمة له بالقبول يغنيان عن طلب الإسناد فيه. وقال فيه الإمام أحمد: "لا شك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتبه له". انظر: "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (1/ 280، ط. دار الكتب العلمية).

وقال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (17/ 396، 397، ط. وزارة عموم الأوقاف والشئون الإسلامية، المغرب): [وقد ذكرنا أن كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم رضي الله عنه إلى أهل اليمن في السنن، والفرائض، والديات- كتابٌ مشهورٌ عند أهل العلم، معروف يستغني بشهرته عن الإسناد... والدليلُ على صحَّة كتاب عمرو بن حزم رضي الله عنه: تلقِّي جمهور العلماء له بالقبول]. اهـ.

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَمَسّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرًا» رواه الطبراني في معجمَيْه "الكبير" و"الصغير"، والدارقطني في "سننه"، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 616، ط. دار الفكر): "رجاله موثقون". وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 361، ط. دار الكتب العلمية): "إسناده لا بأس به، ذكر الأثرم أن أحمد احتج به".

فقوله: «إِلَّا طَاهِرًا» بالنصب حال، والمعنى أن الإنسان لا يمس القرآن إلا في حالة طهره دون الحالات الأخرى التي تعرض له وينتقض فيها طهره، وهذا يدل على أن الطهارة هنا عبارة عن حالة تقابل حالةً معتادًا عروضُها لكل إنسان، وهي حالة الحدث، ومن البعيد أن يكون المراد بالطهارة هنا الإيمان المقابل للكفر؛ لأن الإيمان في عُرف الشرع ليس بحالة عارضة تقابل حالة أخرى معتادة في حياة الإنسان، وإنما الإيمان حالةٌ راسخةٌ كشجرةٍ طيبةٍ أصلُها ثابتٌ وفرعها في السماء، والكفر حالةٌ شاذةٌ خارجةٌ عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: وفدنا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجدني أفضلهم أخذًا للقرآن، وقد فضلتهم بسورة البقرة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «قَدْ أَمَّرْتُكَ عَلَى أَصْحَابِكَ، وَأَنْتَ أَصْغَرُهُمْ، فَإِذَا أَمَمْتَ قَوْمًا فَأُمَّهُمْ بِأَضْعَفِهِمْ، فَإِنَّ وَرَاءَكَ الْكَبِيرَ وَالصَّغِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ، وَإِذَا كُنْتَ مُصَدِّقًا فَلَا تَأْخُذِ الشَّافِعَ- وَهِي الْمَاخِضُ- وَلَا الرُّبَّى وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ، وَحَزْرَةُ الرَّجُلِ هُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْكَ، وَلَا تَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا وَأَنْتَ طَاهِرٌ». رواه الطبراني في "الكبير"، وفيه إسماعيل بن رافع ضعفه يحيى بن معين والنسائي، وقال البخاري: "ثقة مقارب الحديث". اهـ. "مجمع الزوائد" (1/ 277)، قال الهيثمي: "فيه هشام بن سليمان، وقد ضعفه جماعةٌ من الأئمة، ووثقه البخاري" اهـ. "مجمع الزوائد" (3/ 74)، والشاهد منه قوله عليه الصلاة والسلام مخاطبًا أحد أصحابه: «لَا تَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا وَأَنْتَ طَاهِرٌ»، فإنه يدل على أن للمخاطَب حالَيْن من المعتاد أن يَعْرِضَا له، وهما حال الطهر وحال ارتفاع الطهر، وقد نهاه النبي عليه الصلاة والسلام عن مس المصحف في حال ارتفاع طهره، فدلَّ هذا على أن ارتفاع الطهر هنا يراد به الحدث لا الكفر؛ إذ إن المخاطب هنا هو أحد الصحابة الكرام، وإلا كان المعنى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول للصحابي ما معناه: لا تمس القرآن إلا حينما تعرض لك حالة الإيمان، أما حينما تعرض لك حالة الكفر فلا تمسه، ولا يخفى فسادُ هذا المعنى وبُعْدُه عن المعهود في نصوص الشارع الحكيم.

إذن فالحديث صحيحٌ من رواية عمرو بن حزم بمفردها، وعلى تقدير عدم صحة الكتاب -وهو بعيد- فالضعف في باقي طرق الحديث يسير يَنْجَبِرُ بمجموع الطرق كما تقرَّر في علم الحديث، والحديث يدلُّ دلالةً واضحةً على المنع من مسِّ القرآن واللامس على غير طهر كما جاء التصريح به في رواية الإمام عبد الرزاق الصنعاني في "مصنفه" (1/ 341، ط. المكتب الإسلامي) عن معمر، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه قال: في كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم رضي الله عنه: «لَا يُمَسُّ الْقُرْآنُ إِلَّا عَلَى طُهْرٍ»، وليس معنى أن المؤمن لا ينجس أنه لا يقع منه الحدث المستدعي لتجديد الطهارة، وإلا لكان تكليفه بالطهارة تكليفًا بتحصيل الحاصل، وهو محال، ومن المعهود في نصوص الشرع الشريف أن يقصد بالطهارة رفع الحدث كما في قوله تعالى مخاطبًا المؤمنين: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة : 6]، وقوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ﴾ [البقرة : 222].

وقد نُقِل عن عددٍ من الصحابة القولُ بمنع المحدث من مس القرآن ولم يعرف لهم مخالف في هذا، فكان إجماعًا؛ يقول الإمام النووي في "المجموع" (2/ 82): [واستدل أصحابنا بالحديث المذكور وبأنه قول علي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر رضي الله عنهم، ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة]. اهـ.

وأجاب الشيخ ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (1/ 280) من سأله: هل يجوز مس المصحف بغير وضوء أم لا؟ فقال: [مذهب الأئمة الأربعة أنه لا يمس إلا طاهر... وهو أيضًا قول سلمان الفارسي، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وغيرهما، ولا يعلم لهما من الصحابة مخالف]. اهـ.

والمعهود من نصوص الشريعة هو تعظيم كتاب الله عز وجل وبيان فضله على سائر الكتب الإلهية السابقة، ووصفه بصفات التقديس والإجلال؛ قال تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ۞ رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ۞ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ [البينة: 1–3]، وقال عز وجل: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾ [الحجر: 87]، وقال سبحانه:﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾ [الحشر: 21]، وقال: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: 23]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾ [الأعراف: 204]، وقال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۞ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف: 3، 4]، وتعظيم ما عظمه الله تعالى حقٌّ واجب، وحرمة القرآن الكريم أعظم عند الله سبحانه وتعالى من المساجد التي يشيدها البشر، والجنب والحائض ممنوعان من دخول المسجد، فمنعهما من مس المصحف يكون من باب أولى، ويقتضي كمال التعظيم والتنزيه أيضًا منع المحدث حدثًا أصغر من مس القرآن حتى يتطهر من حدثه؛ إجلالًا لكلام الله تعالى وكتابه المجيد.

وقد اتفق على ذلك جمهور علماء الأمة في مختلف العصور؛ قال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (17/ 397): [ولم يختلف فقهاء الأمصار بالمدينة والعراق والشام أن المصحف لا يمسه إلا الطاهر على وضوء، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وأبي عبيد، وهؤلاء أئمة الفقه والحديث في أعصارهم، وروي ذلك عن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وطاوس والحسن والشعبي والقاسم بن محمد وعطاء رضي الله عنهم، قال إسحاق بن راهويه: لا يقرأ أحد في المصحف إلا وهو متوضئ] اهـ.

ويقول ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (1/ 357): [أما مس المصحف فالصحيح أنه يجب له الوضوء، كقول الجمهور، وهذا هو المعروف عن الصحابة: سعد، وسلمان، وابن عمر رضي الله عنهم]. اهـ.

ولا يصح التذرُّع بأن القصد لحفظ كتاب الله وتعلمه وكثرة تدبره، يقتضي التهاون في شأن الطهارة من الحدث الأصغر لتحفيز الكسالى للقيام بهذه الأعمال الصالحة؛ لأن الله سبحانه هو الذي تعهد بحفظ كتابه، والقرآن كتاب نور وهداية، فمن أراد أن يكون من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته فليطرح الكسل جانبًا، ولينشطْ للسير على نهج الصحابة الكرام وآل البيت الأطهار الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حُبِّ كتاب الله عز وجل وتقديسه والامتثال لأوامره ونواهيه، هذا وقد توفرت الآن العديدُ من الوسائل التكنولوجية التي يمكن الاستفادة منها في حفظ القرآن ومراجعته وتكرار آياته وتدبر معانيه في شتى الأوقات والأحوال سواء أكان السامع على طهر أم لا، فلا حاجة إذن تقتضي التساهل في مسِّ المصحف على غير طهر.

وفي "المجموع" (3/ 361): إن حفظ جميع سور القرآن الكريم ليس بواجب على كل مسلم، وإنما هو مستحب، سوى أن حفظ فاتحة الكتاب واجب على كل قادر؛ لكون قراءتها ركنًا من أركان الصلاة عند جمهور الفقهاء.

ويرى الحنفية: أن القدر الواجب على كل مسلم حفظه هو الفاتحة وسورة معها؛ لأن قراءة ذلك من واجبات الصلاة عندهم. انظر: "الدر المختار بحاشية ابن عابدين" (1/ 538، ط. دار الكتب العلمية).

ويقول ابن حزم في كتاب "مراتب الإجماع" (1/ 156، ط. دار الكتب العلمية): [اتفقوا على أن حفظ شيء من القرآن واجب، ولم يتفقوا على ماهية ذلك الشيء ولا كميته بما يمكن ضبط إجماع فيه، إلا أنهم اتفقوا على أن من حفظ أم القرآن بسم الله الرحمن الرحيم كلها وسورة أخرى معها؛ فقد أدَّى فرض الحفظ وأنه لا يلزمه حفْظُ أكثر من ذلك، واتفقوا على استحسان حفظ جميعه، وأن ضبط جميعه على جميع الأمة واجب على الكفاية لا مُتَعَيِّن]. اهـ.

وقال ابن مفلح الحنبلي في "الفروع" (1/ 525، ط. عالم الكتب): [يجب من القرآن ما يجزي الصلاة، وهو الفاتحة على المذهب]. اهـ.

وذهب داود وابن حزم من الظاهرية إلى جواز مسِّ المحدث للقرآن مطلقًا، سواء أكان حدثه أكبر أم أصغر. انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 94، ط. دار الفكر).

وروي عن الحكم وحماد القولُ بجواز المسِّ بظاهر الكفِّ دون باطنه، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى هرقل كتابًا فيه قرآن وهرقل محدث، يمسه وأصحابه، ولأن الصبيان يحملون الألواح محدثين بلا إنكار، ولأنه إذا لم تحرم القراءة فالمس أولى، وقاسوا حمله على حمله في متاع.

وأجيب عن قصة هرقل: "بأن ذلك الكتاب كان فيه آية ولا يسمى مصحفًا، وأبيح حمل الصبيان الألواح للضرورة، وأبيحت القراءة للحاجة وعسر الوضوء لها كل وقت، وحمله في المتاع؛ لأنه غير مقصود". اهـ. "المجموع" (2/ 72)، والتفرقة بين باطن الكف وظاهره لا دليلَ عليها، فكل شيء لاقى شيئًا فقد مسَّه. انظر: "المغني" (1/ 199، ط. دار إحياء التراث العربي).

فالراجح في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء؛ لقوة ما استدلوا به في مقابل ما تمسَّك به المخالفون.

وفي واقعة السؤال وبناءً على ما سبق: فإنه لا يجوز للمسلم المكلَّف إذا لم يكن على طهارة تامة من الحدثين الأكبر والأصغر أن يمسَّ المصحف وإن عاقه ذلك عن الإكثار من التلاوة أو الحفظ أو المراجعة؛ لتيسُّر العديدِ من السبل والوسائل التي يمكنه الاستفادة منها في الإكثار من سماع القرآن الكريم وتكرار آياته وترديدها وحفظها ومراجعتها بالسماع دون إلزامه حينئذ بالطهارة التامة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

انتقاض الوضوء بما ليس من موجبات الغسل يندرج في مسمى الحدث الأصغر، والحدث في اللغة: الشيء الحادث، والحدوث هو كون الشيء ووقوعه بعد أن لم يكن. ينظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 278، مادة: "ح د ث"، ط. دار العلم للملايين، بيروت).

وفي الشرع: [يطلق الحدث على أمرٍ اعتباري يقوم بالأعضاء يمنع من صحَّة الصلاة حيث لا مرخص. كما يطلق على الأسباب التي ينتهي بها الطهر، وعلى المنع المترتب على ذلك] اهـ. "مغني المحتاج" (1/ 115، ط. دار الكتب العلمية).

والمشهور لدى عامة العلماء: أن الحدث ينقسم إلى حدث أكبر: وهو ما يوجب الغسل، وإلى حدث أصغر: وهو ما يوجب الوضوء. ينظر: "المنثور في القواعد" للزركشي (2/ 41، ط. وزارة الأوقاف الكويتية).

وبعض العلماء قسَّم الحدث إلى: أكبر وأوسط وأصغر باعتبار الممنوعات المترتبة على الحدث، فالحدث الأكبر: الحيض والنفاس، والحدث الأوسط: الجنابة، والحدث الأصغر: كالنوم وخروج الريح والبول وغير ذلك مما ينقض الوضوء ولا يوجب الغسل.

قال العز بن عبد السلام في "القواعد الكبرى" (2/ 179، ط. دار القلم، دمشق) -وينظر: "تحفة المحتاج" (1/ 65، ط. دار إحياء التراث العربي)-: [أما الحدث الأصغر فسببٌ لتحريم الصلاة والطواف وسجدة الشكر والسهو والتلاوة، ومس المصحف وحمله، ويزيد عليه حدث الجنابة -وهو الحدث الأوسط- بتحريم قراءة القرآن والإقامة في المساجد، ويزيد عليه الحيض -وهو الحدث الأكبر- بتحريم الصوم والوطء والطلاق]. اهـ بتصرف.

واستظهر العلامة الزركشي تقسيم الحدث إلى أربعة أقسام: أكبر، وكبير، وصغير، وأصغر، وهذا بحسب ما ظهر له من تصرف الشافعية في فروعهم؛ قال في كتابه "المنثور في القواعد" (2/ 41-42): [والذي يظهر من تصرفهم أنه مراتب: أكبر: وهو ما يوجب الوضوء والغسل، وكبير: وهو ما يوجب الغسل فقط، وصغير: وهو ما يوجب الوضوء فقط، وأصغر: وهو ما يوجب غسل الرجلين فقط في نزع الخف]. اهـ.

ويحرم على المكلف إذا كان محدثًا حدثًا أكبر أو أصغر أن يمسَّ المصحف حتى يتطهَّر من حدثه؛ لقوله عز وجل: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ۞ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ۞ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ۞ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ﴾ [الواقعة: 77-80].

ففي هذه الآيات دلالة ظاهرة على تحريم مس المصحف إلا للطاهر؛ فقوله تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ نهي يقتضي التحريم وإن كان لفظُه لفظَ الخبر؛ لأن خبر الباري تعالى لا يكون بخلاف الواقع، فلو كان المراد الإخبار لا النهي لكان هذا مصادمًا للواقع؛ إذ نحن نشاهد من يمسه وهو على غير طهارة. انظر: "المنتقى شرح الموطأ" (1/ 343، ط. دار الكتاب الإسلامي).

والتعبير بالخبر عن النهي أبلغُ من صريح الأمر والنهي كما يقول علماء البيان؛ لأن المتكلم لشدة تأكد طلبه نزل المطلوب منزلة الواقع لا محالة. انظر: "شرح الكوكب المنير" للفتوحي (ص: 59، ط. السنة المحمدية)-، وقوله تعالى: ﴿تَنْزِيلٌ﴾ ظاهر في إرادة المصحف، فلا يحمل على غيره إلا بدليل، والمتوضئ يوصف بأنه مُطهَّر ومُتَطَهِّر. انظر: "المجموع" (2/ 72، ط. دار الفكر)، فلا يقال بأنه لو قصد البشر لقال: لا يمسه إلا المتطهرون.

وعلى التسليم بأن المراد في هذه الآيات: أن القرآن الكريم مدوَّن في اللوح المحفوظ الذي لا يمسه إلا الملائكة المطهرون، يصحُّ أيضًا الاستدلال بالآية- كما قال الإمام الطيبي- لأن المعنى هو أن هذا الكتاب كريم على الله تعالى، ومن كرمه أنه أثبته عنده في اللوح المحفوظ وعظَّم شأنه بأن حكم بأنه لا يمسه إلا الملائكة المقربون، وصانه عن غير المقربين، فيجب أن يكون حكمه عند الناس كذلك؛ بناءً على أن ترتب الحكم على الوصف المناسب يشعر بالعلية؛ لأن سياق الكلام لتعظيم شأن القرآن. انظر: "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" (1/ 211، ط. دار الكتاب الإسلامي).


وجاء في كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم رضي الله عنه: «لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» رواه مالك وابن حبان والحاكم والبيهقي والدارمي، وشهرة كتاب عمرو بن حزم وتلقي الأمة له بالقبول يغنيان عن طلب الإسناد فيه. وقال فيه الإمام أحمد: "لا شك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتبه له". انظر: "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (1/ 280، ط. دار الكتب العلمية).

وقال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (17/ 396، 397، ط. وزارة عموم الأوقاف والشئون الإسلامية، المغرب): [وقد ذكرنا أن كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم رضي الله عنه إلى أهل اليمن في السنن، والفرائض، والديات- كتابٌ مشهورٌ عند أهل العلم، معروف يستغني بشهرته عن الإسناد... والدليلُ على صحَّة كتاب عمرو بن حزم رضي الله عنه: تلقِّي جمهور العلماء له بالقبول]. اهـ.

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَمَسّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرًا» رواه الطبراني في معجمَيْه "الكبير" و"الصغير"، والدارقطني في "سننه"، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 616، ط. دار الفكر): "رجاله موثقون". وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 361، ط. دار الكتب العلمية): "إسناده لا بأس به، ذكر الأثرم أن أحمد احتج به".

فقوله: «إِلَّا طَاهِرًا» بالنصب حال، والمعنى أن الإنسان لا يمس القرآن إلا في حالة طهره دون الحالات الأخرى التي تعرض له وينتقض فيها طهره، وهذا يدل على أن الطهارة هنا عبارة عن حالة تقابل حالةً معتادًا عروضُها لكل إنسان، وهي حالة الحدث، ومن البعيد أن يكون المراد بالطهارة هنا الإيمان المقابل للكفر؛ لأن الإيمان في عُرف الشرع ليس بحالة عارضة تقابل حالة أخرى معتادة في حياة الإنسان، وإنما الإيمان حالةٌ راسخةٌ كشجرةٍ طيبةٍ أصلُها ثابتٌ وفرعها في السماء، والكفر حالةٌ شاذةٌ خارجةٌ عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: وفدنا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجدني أفضلهم أخذًا للقرآن، وقد فضلتهم بسورة البقرة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «قَدْ أَمَّرْتُكَ عَلَى أَصْحَابِكَ، وَأَنْتَ أَصْغَرُهُمْ، فَإِذَا أَمَمْتَ قَوْمًا فَأُمَّهُمْ بِأَضْعَفِهِمْ، فَإِنَّ وَرَاءَكَ الْكَبِيرَ وَالصَّغِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ، وَإِذَا كُنْتَ مُصَدِّقًا فَلَا تَأْخُذِ الشَّافِعَ- وَهِي الْمَاخِضُ- وَلَا الرُّبَّى وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ، وَحَزْرَةُ الرَّجُلِ هُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْكَ، وَلَا تَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا وَأَنْتَ طَاهِرٌ». رواه الطبراني في "الكبير"، وفيه إسماعيل بن رافع ضعفه يحيى بن معين والنسائي، وقال البخاري: "ثقة مقارب الحديث". اهـ. "مجمع الزوائد" (1/ 277)، قال الهيثمي: "فيه هشام بن سليمان، وقد ضعفه جماعةٌ من الأئمة، ووثقه البخاري" اهـ. "مجمع الزوائد" (3/ 74)، والشاهد منه قوله عليه الصلاة والسلام مخاطبًا أحد أصحابه: «لَا تَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا وَأَنْتَ طَاهِرٌ»، فإنه يدل على أن للمخاطَب حالَيْن من المعتاد أن يَعْرِضَا له، وهما حال الطهر وحال ارتفاع الطهر، وقد نهاه النبي عليه الصلاة والسلام عن مس المصحف في حال ارتفاع طهره، فدلَّ هذا على أن ارتفاع الطهر هنا يراد به الحدث لا الكفر؛ إذ إن المخاطب هنا هو أحد الصحابة الكرام، وإلا كان المعنى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول للصحابي ما معناه: لا تمس القرآن إلا حينما تعرض لك حالة الإيمان، أما حينما تعرض لك حالة الكفر فلا تمسه، ولا يخفى فسادُ هذا المعنى وبُعْدُه عن المعهود في نصوص الشارع الحكيم.

إذن فالحديث صحيحٌ من رواية عمرو بن حزم بمفردها، وعلى تقدير عدم صحة الكتاب -وهو بعيد- فالضعف في باقي طرق الحديث يسير يَنْجَبِرُ بمجموع الطرق كما تقرَّر في علم الحديث، والحديث يدلُّ دلالةً واضحةً على المنع من مسِّ القرآن واللامس على غير طهر كما جاء التصريح به في رواية الإمام عبد الرزاق الصنعاني في "مصنفه" (1/ 341، ط. المكتب الإسلامي) عن معمر، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه قال: في كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم رضي الله عنه: «لَا يُمَسُّ الْقُرْآنُ إِلَّا عَلَى طُهْرٍ»، وليس معنى أن المؤمن لا ينجس أنه لا يقع منه الحدث المستدعي لتجديد الطهارة، وإلا لكان تكليفه بالطهارة تكليفًا بتحصيل الحاصل، وهو محال، ومن المعهود في نصوص الشرع الشريف أن يقصد بالطهارة رفع الحدث كما في قوله تعالى مخاطبًا المؤمنين: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة : 6]، وقوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ﴾ [البقرة : 222].

وقد نُقِل عن عددٍ من الصحابة القولُ بمنع المحدث من مس القرآن ولم يعرف لهم مخالف في هذا، فكان إجماعًا؛ يقول الإمام النووي في "المجموع" (2/ 82): [واستدل أصحابنا بالحديث المذكور وبأنه قول علي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر رضي الله عنهم، ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة]. اهـ.

وأجاب الشيخ ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (1/ 280) من سأله: هل يجوز مس المصحف بغير وضوء أم لا؟ فقال: [مذهب الأئمة الأربعة أنه لا يمس إلا طاهر... وهو أيضًا قول سلمان الفارسي، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وغيرهما، ولا يعلم لهما من الصحابة مخالف]. اهـ.

والمعهود من نصوص الشريعة هو تعظيم كتاب الله عز وجل وبيان فضله على سائر الكتب الإلهية السابقة، ووصفه بصفات التقديس والإجلال؛ قال تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ۞ رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ۞ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ [البينة: 1–3]، وقال عز وجل: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾ [الحجر: 87]، وقال سبحانه:﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾ [الحشر: 21]، وقال: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: 23]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾ [الأعراف: 204]، وقال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۞ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف: 3، 4]، وتعظيم ما عظمه الله تعالى حقٌّ واجب، وحرمة القرآن الكريم أعظم عند الله سبحانه وتعالى من المساجد التي يشيدها البشر، والجنب والحائض ممنوعان من دخول المسجد، فمنعهما من مس المصحف يكون من باب أولى، ويقتضي كمال التعظيم والتنزيه أيضًا منع المحدث حدثًا أصغر من مس القرآن حتى يتطهر من حدثه؛ إجلالًا لكلام الله تعالى وكتابه المجيد.

وقد اتفق على ذلك جمهور علماء الأمة في مختلف العصور؛ قال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (17/ 397): [ولم يختلف فقهاء الأمصار بالمدينة والعراق والشام أن المصحف لا يمسه إلا الطاهر على وضوء، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وأبي عبيد، وهؤلاء أئمة الفقه والحديث في أعصارهم، وروي ذلك عن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وطاوس والحسن والشعبي والقاسم بن محمد وعطاء رضي الله عنهم، قال إسحاق بن راهويه: لا يقرأ أحد في المصحف إلا وهو متوضئ] اهـ.

ويقول ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (1/ 357): [أما مس المصحف فالصحيح أنه يجب له الوضوء، كقول الجمهور، وهذا هو المعروف عن الصحابة: سعد، وسلمان، وابن عمر رضي الله عنهم]. اهـ.

ولا يصح التذرُّع بأن القصد لحفظ كتاب الله وتعلمه وكثرة تدبره، يقتضي التهاون في شأن الطهارة من الحدث الأصغر لتحفيز الكسالى للقيام بهذه الأعمال الصالحة؛ لأن الله سبحانه هو الذي تعهد بحفظ كتابه، والقرآن كتاب نور وهداية، فمن أراد أن يكون من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته فليطرح الكسل جانبًا، ولينشطْ للسير على نهج الصحابة الكرام وآل البيت الأطهار الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حُبِّ كتاب الله عز وجل وتقديسه والامتثال لأوامره ونواهيه، هذا وقد توفرت الآن العديدُ من الوسائل التكنولوجية التي يمكن الاستفادة منها في حفظ القرآن ومراجعته وتكرار آياته وتدبر معانيه في شتى الأوقات والأحوال سواء أكان السامع على طهر أم لا، فلا حاجة إذن تقتضي التساهل في مسِّ المصحف على غير طهر.

وفي "المجموع" (3/ 361): إن حفظ جميع سور القرآن الكريم ليس بواجب على كل مسلم، وإنما هو مستحب، سوى أن حفظ فاتحة الكتاب واجب على كل قادر؛ لكون قراءتها ركنًا من أركان الصلاة عند جمهور الفقهاء.

ويرى الحنفية: أن القدر الواجب على كل مسلم حفظه هو الفاتحة وسورة معها؛ لأن قراءة ذلك من واجبات الصلاة عندهم. انظر: "الدر المختار بحاشية ابن عابدين" (1/ 538، ط. دار الكتب العلمية).

ويقول ابن حزم في كتاب "مراتب الإجماع" (1/ 156، ط. دار الكتب العلمية): [اتفقوا على أن حفظ شيء من القرآن واجب، ولم يتفقوا على ماهية ذلك الشيء ولا كميته بما يمكن ضبط إجماع فيه، إلا أنهم اتفقوا على أن من حفظ أم القرآن بسم الله الرحمن الرحيم كلها وسورة أخرى معها؛ فقد أدَّى فرض الحفظ وأنه لا يلزمه حفْظُ أكثر من ذلك، واتفقوا على استحسان حفظ جميعه، وأن ضبط جميعه على جميع الأمة واجب على الكفاية لا مُتَعَيِّن]. اهـ.

وقال ابن مفلح الحنبلي في "الفروع" (1/ 525، ط. عالم الكتب): [يجب من القرآن ما يجزي الصلاة، وهو الفاتحة على المذهب]. اهـ.

وذهب داود وابن حزم من الظاهرية إلى جواز مسِّ المحدث للقرآن مطلقًا، سواء أكان حدثه أكبر أم أصغر. انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 94، ط. دار الفكر).

وروي عن الحكم وحماد القولُ بجواز المسِّ بظاهر الكفِّ دون باطنه، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى هرقل كتابًا فيه قرآن وهرقل محدث، يمسه وأصحابه، ولأن الصبيان يحملون الألواح محدثين بلا إنكار، ولأنه إذا لم تحرم القراءة فالمس أولى، وقاسوا حمله على حمله في متاع.

وأجيب عن قصة هرقل: "بأن ذلك الكتاب كان فيه آية ولا يسمى مصحفًا، وأبيح حمل الصبيان الألواح للضرورة، وأبيحت القراءة للحاجة وعسر الوضوء لها كل وقت، وحمله في المتاع؛ لأنه غير مقصود". اهـ. "المجموع" (2/ 72)، والتفرقة بين باطن الكف وظاهره لا دليلَ عليها، فكل شيء لاقى شيئًا فقد مسَّه. انظر: "المغني" (1/ 199، ط. دار إحياء التراث العربي).

فالراجح في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء؛ لقوة ما استدلوا به في مقابل ما تمسَّك به المخالفون.

وفي واقعة السؤال وبناءً على ما سبق: فإنه لا يجوز للمسلم المكلَّف إذا لم يكن على طهارة تامة من الحدثين الأكبر والأصغر أن يمسَّ المصحف وإن عاقه ذلك عن الإكثار من التلاوة أو الحفظ أو المراجعة؛ لتيسُّر العديدِ من السبل والوسائل التي يمكنه الاستفادة منها في الإكثار من سماع القرآن الكريم وتكرار آياته وترديدها وحفظها ومراجعتها بالسماع دون إلزامه حينئذ بالطهارة التامة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;