حديث رهن درع النبي ﷺ عند يهودي - الفتاوى - دار الإفتاء المصرية - دار الإفتاء

حديث رهن درع النبي ﷺ عند يهودي

سمعت من بعض الناس أن حديث رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي، هو حديث منكر لا يقبله العقل، فلما سألت عنه بعض طلبة العلم أخبرني بأن هذا الحديث في البخاري، فهل هذا الحديث في البخاري؟ وكيف يخرج البخاري حديثا منكرا؟!

يتصور بعض الناس أنه يستطيع أن يحكم على الأحاديث النبوية الشريفة بمجرد تخيله، وليس عنده من علوم العقل أو النقل ما يمكنه من ذلك، وقد يكون بعض ذلك من شبهات يسمعها أو يقرأها وليس عنده من العلم ما يستطيع أن يفرق بين الغث والسمين.
وهذا الأمر لا يستطيعه إلا أهل العلم ممن درس علوم الحديث الشريف وتمرس فيها، ونهل من باقي العلوم الشرعية ما يمكنه مما يعرف بمصطلح (نقد المتن).
والحكم الشرعي في هذا الأمر: هو حرمة الاعتداء على الحديث الشريف بمجرد الخاطر ومن غير العلماء، بل الواجب في هذه المسألة هو طلب الفتوى من أهل العلم بالحديث النبوي الشريف، والذين أفنوا أعمارهم في خدمته.
والدليل على ذلك أن الحديث الشريف الأصل فيه أنه من الوحي، فإذا قيل إن هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالجواب: أن أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم حجة، وهي إما بالوحي، أو بإقرار الوحي له، ولذلك قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:21]، فلو كان يفعل ما لا يجوز شرعًا لما تأتّت منه الأسوة الحسنة.
ومَن أشكل عليه حديثٌ وجب عليه سؤال العلماء؛ لقول الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء:7].
أما بخصوص التخريج: فالحديث أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من أهل الحديث مِن طُرُقٍ عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ". وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم أئمة ثقات مشاهير أعلام.
وقد ورد الحديث أيضًا من طريق أخرى عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أخرجه البخاري وغيره.
وأما بخصوص معناه: فليس في متن الحديث ما يُستنكر، والرهن عند اليهودي وغيره من غير المسلمين جائز، وقد تعامل النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم في عدة معاملات، والدليل الذي استأجره في الهجرة كان مشركًا.
كما أن تركه للرهن عند بعض أصحابه غير مستنكر، فالرهن هنا كان مقابل الطعام وهو الشعير، وقد يستحيي الصحابي من أخذ رهن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما استحيا جابر رضي الله عنه في حديث الجمل لما عرض عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم شراءه منه، فوافق استحياءً؛ لكون الجمل ناضحًا لهم يستقون عليه الماء، كما ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزواج من نساء الأنصار؛ من أجل شدة غيرتهن، مع كونه أثنى عليهن، وتقول عائشة رضي الله عنها: «نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ»، وحديثها في "البخاري".
وينبغي للسائل أن ينتبه إلى أن هناك فئة تريد الطعن في السنة عن طريق الطعن في الجزء لإسقاط الكل، وهذا ليس جديدًا، وإنما ينظرون في التاريخ ليستخرجوا منه طعن أسلافهم مما يساعدهم على ذلك، وقد ذكر أبو محمد ابن قتيبة رحمه الله طعن بعض الناس في هذا الحديث، فنقل عنهم قولهم: وكيف يجوع مَن وقف سبع حوائط متجاورة بالعالية، ثم لا يجد -مع هذا- من يقرضه أصواعًا من شعير حتى يرهن درعه؟!! قال أبو محمد: ونحن نقول: إنه ليس في هذا ما يُستعظم، بل ما يُنكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يؤثِر على نفسه بأمواله، ويفرقها على المستحقين من أصحابه، وعلى الفقراء والمساكين، وفي النوائب التي تنوب المسلمين، ولا يرد سائلًا، ولا يعطي إذا وجد إلا كثيرًا، ولا يضع درهمًا فوق درهم.
وأخذ يتكلم عن زهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: وقد يأتي على البخيل الموسر تارات لا يحضره فيها مال، وله الضيعة والأثاث والديون، فيحتاج إلى أن يقترض، وإلى أن يرهن، فكيف بمن لا يبقى له درهم، ولا يفضل عن مواساته ونوائبه زاد؟!! وكيف يعلم المسلمون وأهل اليسار من صحابته بحاجته إلى الطعام، وهو لا يُعلمهم، ولا ينشط في وقته ذلك إليهم. وقد نجد هذا بعينه في أنفسنا وأشباهنا من الناس. ونرى الرجل يحتاج إلى الشيء، فلا ينشط فيه إلى ولده، ولا إلى أهله ولا إلى جاره ويبيع العلق ويستقرض من الغريب والبعيد. وإنما رهن درعه عند يهودي؛ لأن اليهود في عصره كانوا يبيعون الطعام ولم يكن المسلمون يبيعونه، لنهيه عن الاحتكار. فما الذي أنكروه من هذا، حتى أظهروا التعجب منه، وحتى رمى بعض المرقة الأعمش بالكذب من أجله؟! ينظر: "تأويل مختلف الحديث" (ص: 216-220، ط. المكتب الإسلامي، مؤسسة الإشراق).
ولمّا أخرج ابن حبان هذا الحديث في "صحيحه" (3/ 19، ط. مؤسسة الرسالة) ترجم له بقوله: ذِكرُ خبرٍ قد شَنَّع به بعض المُعطلة على أهل الحديث؛ حيث حُرِمُوا التوفيقَ لإدراك معناه.
هذا، ولمّا كان الإمام البخاري رحمه الله تعالى قد أعطاه الله الفقه مع الحديث فقد ترجم له تراجم أظهرت كثيرًا من الفوائد الفقهية المستنبطة من هذا الحديث، فقد أخرجه في عدة مواضع من كتابه "الصحيح"، منها قوله: حدثنا معلى بن أسد، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الأعمش، قال: ذكرنا عند إبراهيم الرهن في السلم، فقال: حدثني الأسود، عن عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ".
ومن التراجم البديعة لهذا الحديث:
(باب شراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنسيئة)، و(باب شراء الطعام إلى أجل)؛ والفرق بينهما دفع توهم الخصوصية، أو بأن الشراء بالأجَل يقدح في المروءة.
و(باب من اشترى بالدَّيْن وليس عنده ثمنه، أو ليس بحضرته) وهي واضحة، وقد ترجم النسائي: (الرجل يشتري الطعام إلى أجل ويسترهن البائع منه بالثمن رهنًا).
و(باب الرهن في الحضر)، وهذا يحتاج إليه الفقيه؛ لأن الآية التي ذكرت الرهن قيدته بالسفر؛ كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ [البقرة: 283]، أما الحديث فهو دليلٌ على إباحة الرهن في الحضر أيضًا، ومعلوم أن في هذا توسعةً في الأحكام الشرعية؛ إذ إن معظم التعاملات تكون في الحضر. وقد ترجم الإمام النووي لهذا الحديث عند شرحه لــ"صحيح مسلم" بقوله: (باب الرهن وجوازه في الحضر كالسفر).
و(باب من رهن درعه) وهذه الترجمة تبين جواز رهن ما يكون من جنس السلاح، وأنه ليس محرمًا.
و(باب الرهن عند اليهود وغيرهم) وهذه الترجمة تبين جواز التعامل مع غير المسلم. وقد ترجم له الإمام النسائي: (مبايعة أهل الكتاب).
هذه بعض تراجم الإمام البخاري واستنباطاته الفقهية، وهناك أيضًا فائدة بيان زهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا أخرجه الإمام أحمد في أوائل كتاب "الزهد" له. وترجم له أبو الشيخ الأصبهاني: [باب: ذكر زهده صلى الله عليه وآله وسلم، وإيثاره الأموال على نفسه، وتفريقها على المستحقين من أصحابه؛ إذ الكرم طبعه، والبلغة من شأنه، والقناعة سجيته، واختياره الباقي على الفاني، وأنه من عادته ألا يرد سائلًا، ولا يمنع طالبًا، صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أزواجه] اهـ. راجع: "أخلاق النبي وآدابه" (4/ 138، ط. دار المسلم للنشر والتوزيع).
وقد ذكر الشراح كثيرًا من الفوائد لهذا الحديث، منها قول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (5/ 140، ط. دار المعرفة): [وقوله: (في الحضر) إشارة إلى أن التقييد بالسفر في الآية خرج للغالب؛ فلا مفهوم له لدلالة الحديث على مشروعيته في الحضر كما سأذكره، وهو قول الجمهور، واحتجوا له من حيث المعنى بأن الرهن شُرِع توثقة على الدَّين؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [البقرة: 83] فإنه يشير إلى أن المراد بالرهن الاستيثاق، وإنما قيده بالسفر؛ لأنه مظنة فقد الكاتب فأخرجه مخرج الغالب، وخالف في ذلك مجاهد والضحاك فيما نقله الطبري عنهما فقالا: لا يشرع إلا في السفر حيث لا يوجد الكاتب، وبه قال داود وأهل الظاهر. وقال الإمام ابن حزم: إن شرَطَ المرتهنُ الرهنَ في الحضر لم يكن له ذلك، وإن تبرَّع به الراهن جاز، وحمل حديث الباب على ذلك. وقد أشار البخاري إلى ما ورد في بعض طرقه كعادته، وقد تقدم الحديث في (باب شراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنسيئة) في أوائل البيوع من هذا الوجه بلفظ: "ولقد رهن درعًا له بالمدينة عند يهودي"، وعرف بذلك الرد على من اعترض بأنه ليس في الآية والحديث تعرض للرهن في الحضر] اهـ.
وقال أيضًا في (5/ 141): [وفي الحديث جواز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم عين المُتعامَل فيه وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم، واستنبط منه جواز معاملة مَن أكثر ماله حرام، وفيه جواز بيع السلاح ورهنه وإجارته وغير ذلك من الكافر ما لم يكن حربيًا، وفيه ثبوت أملاك أهل الذمة في أيديهم، وجواز الشراء بالثمن المؤجل، واتخاذ الدروع والعدد وغيرها من آلات الحرب وأنه غير قادح في التوكل وأن قنية آلة الحرب لا تدل على تحبيسها، قاله ابن المنير، وأن أكثر قوت ذلك العصر الشعير، قاله الداودي، وأن القول قول المرتهن في قيمة المرهون مع يمينه، حكاه ابن التين، وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التواضع والزهد في الدنيا والتقلل منها مع قدرته عليها، والكرم الذي أفضى به إلى عدم الادخار حتى احتاج إلى رهن درعه والصبر على ضيق العيش، والقناعة باليسير، وفضيلة لأزواجه؛ لصبرهن معه على ذلك، وفيه غير ذلك مما مضى ويأتي، قال العلماء: الحكمة في عدوله صلى الله عليه وآله وسلم عن معاملة مياسير الصحابة إلى معاملة اليهود: إما لبيان الجواز؛ أو لأنهم لم يكن عندهم إذ ذاك طعام فاضل عن حاجتهم، أو خشي أنهم لا يأخذون منه ثمنًا أو عوضًا فلم يرد التضييق عليهم؛ فإنه لا يبعد أن يكون فيهم إذ ذاك من يقدر على ذلك وأكثر منه، فلعله لم يطلعهم على ذلك، وإنما أطلع عليه من لم يكن موسرًا به ممن نقل ذلك، والله أعلم] اهـ.
ويضاف إلى ما سبق حاجة المسلمين لهذا الحديث في عصرنا هذا، إذ المدقق في الحديث يستطيع أن يستنبط منه فوائد عصرية، منها: سلاح الاقتصاد قد يكون أقوى من السلاح العسكري، وسلاح اليهود المال، ومن لا يملك طعامه لا يملك سلاحه، وغير ذلك مما لو فقهه المسلمون لما أصابهم ما أصابهم من ذلة ومسكنة.
وعليه: فليس في الحديث نكارة، وهو صحيح أخرجه البخاري وغيره، والإنكار والنكارة في الحديث تكون بالعلم لا بالخيالات الموهمة الضعيفة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

يتصور بعض الناس أنه يستطيع أن يحكم على الأحاديث النبوية الشريفة بمجرد تخيله، وليس عنده من علوم العقل أو النقل ما يمكنه من ذلك، وقد يكون بعض ذلك من شبهات يسمعها أو يقرأها وليس عنده من العلم ما يستطيع أن يفرق بين الغث والسمين.
وهذا الأمر لا يستطيعه إلا أهل العلم ممن درس علوم الحديث الشريف وتمرس فيها، ونهل من باقي العلوم الشرعية ما يمكنه مما يعرف بمصطلح (نقد المتن).
والحكم الشرعي في هذا الأمر: هو حرمة الاعتداء على الحديث الشريف بمجرد الخاطر ومن غير العلماء، بل الواجب في هذه المسألة هو طلب الفتوى من أهل العلم بالحديث النبوي الشريف، والذين أفنوا أعمارهم في خدمته.
والدليل على ذلك أن الحديث الشريف الأصل فيه أنه من الوحي، فإذا قيل إن هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالجواب: أن أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم حجة، وهي إما بالوحي، أو بإقرار الوحي له، ولذلك قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:21]، فلو كان يفعل ما لا يجوز شرعًا لما تأتّت منه الأسوة الحسنة.
ومَن أشكل عليه حديثٌ وجب عليه سؤال العلماء؛ لقول الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء:7].
أما بخصوص التخريج: فالحديث أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من أهل الحديث مِن طُرُقٍ عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ". وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم أئمة ثقات مشاهير أعلام.
وقد ورد الحديث أيضًا من طريق أخرى عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أخرجه البخاري وغيره.
وأما بخصوص معناه: فليس في متن الحديث ما يُستنكر، والرهن عند اليهودي وغيره من غير المسلمين جائز، وقد تعامل النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم في عدة معاملات، والدليل الذي استأجره في الهجرة كان مشركًا.
كما أن تركه للرهن عند بعض أصحابه غير مستنكر، فالرهن هنا كان مقابل الطعام وهو الشعير، وقد يستحيي الصحابي من أخذ رهن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما استحيا جابر رضي الله عنه في حديث الجمل لما عرض عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم شراءه منه، فوافق استحياءً؛ لكون الجمل ناضحًا لهم يستقون عليه الماء، كما ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزواج من نساء الأنصار؛ من أجل شدة غيرتهن، مع كونه أثنى عليهن، وتقول عائشة رضي الله عنها: «نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ»، وحديثها في "البخاري".
وينبغي للسائل أن ينتبه إلى أن هناك فئة تريد الطعن في السنة عن طريق الطعن في الجزء لإسقاط الكل، وهذا ليس جديدًا، وإنما ينظرون في التاريخ ليستخرجوا منه طعن أسلافهم مما يساعدهم على ذلك، وقد ذكر أبو محمد ابن قتيبة رحمه الله طعن بعض الناس في هذا الحديث، فنقل عنهم قولهم: وكيف يجوع مَن وقف سبع حوائط متجاورة بالعالية، ثم لا يجد -مع هذا- من يقرضه أصواعًا من شعير حتى يرهن درعه؟!! قال أبو محمد: ونحن نقول: إنه ليس في هذا ما يُستعظم، بل ما يُنكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يؤثِر على نفسه بأمواله، ويفرقها على المستحقين من أصحابه، وعلى الفقراء والمساكين، وفي النوائب التي تنوب المسلمين، ولا يرد سائلًا، ولا يعطي إذا وجد إلا كثيرًا، ولا يضع درهمًا فوق درهم.
وأخذ يتكلم عن زهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: وقد يأتي على البخيل الموسر تارات لا يحضره فيها مال، وله الضيعة والأثاث والديون، فيحتاج إلى أن يقترض، وإلى أن يرهن، فكيف بمن لا يبقى له درهم، ولا يفضل عن مواساته ونوائبه زاد؟!! وكيف يعلم المسلمون وأهل اليسار من صحابته بحاجته إلى الطعام، وهو لا يُعلمهم، ولا ينشط في وقته ذلك إليهم. وقد نجد هذا بعينه في أنفسنا وأشباهنا من الناس. ونرى الرجل يحتاج إلى الشيء، فلا ينشط فيه إلى ولده، ولا إلى أهله ولا إلى جاره ويبيع العلق ويستقرض من الغريب والبعيد. وإنما رهن درعه عند يهودي؛ لأن اليهود في عصره كانوا يبيعون الطعام ولم يكن المسلمون يبيعونه، لنهيه عن الاحتكار. فما الذي أنكروه من هذا، حتى أظهروا التعجب منه، وحتى رمى بعض المرقة الأعمش بالكذب من أجله؟! ينظر: "تأويل مختلف الحديث" (ص: 216-220، ط. المكتب الإسلامي، مؤسسة الإشراق).
ولمّا أخرج ابن حبان هذا الحديث في "صحيحه" (3/ 19، ط. مؤسسة الرسالة) ترجم له بقوله: ذِكرُ خبرٍ قد شَنَّع به بعض المُعطلة على أهل الحديث؛ حيث حُرِمُوا التوفيقَ لإدراك معناه.
هذا، ولمّا كان الإمام البخاري رحمه الله تعالى قد أعطاه الله الفقه مع الحديث فقد ترجم له تراجم أظهرت كثيرًا من الفوائد الفقهية المستنبطة من هذا الحديث، فقد أخرجه في عدة مواضع من كتابه "الصحيح"، منها قوله: حدثنا معلى بن أسد، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الأعمش، قال: ذكرنا عند إبراهيم الرهن في السلم، فقال: حدثني الأسود، عن عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ".
ومن التراجم البديعة لهذا الحديث:
(باب شراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنسيئة)، و(باب شراء الطعام إلى أجل)؛ والفرق بينهما دفع توهم الخصوصية، أو بأن الشراء بالأجَل يقدح في المروءة.
و(باب من اشترى بالدَّيْن وليس عنده ثمنه، أو ليس بحضرته) وهي واضحة، وقد ترجم النسائي: (الرجل يشتري الطعام إلى أجل ويسترهن البائع منه بالثمن رهنًا).
و(باب الرهن في الحضر)، وهذا يحتاج إليه الفقيه؛ لأن الآية التي ذكرت الرهن قيدته بالسفر؛ كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ [البقرة: 283]، أما الحديث فهو دليلٌ على إباحة الرهن في الحضر أيضًا، ومعلوم أن في هذا توسعةً في الأحكام الشرعية؛ إذ إن معظم التعاملات تكون في الحضر. وقد ترجم الإمام النووي لهذا الحديث عند شرحه لــ"صحيح مسلم" بقوله: (باب الرهن وجوازه في الحضر كالسفر).
و(باب من رهن درعه) وهذه الترجمة تبين جواز رهن ما يكون من جنس السلاح، وأنه ليس محرمًا.
و(باب الرهن عند اليهود وغيرهم) وهذه الترجمة تبين جواز التعامل مع غير المسلم. وقد ترجم له الإمام النسائي: (مبايعة أهل الكتاب).
هذه بعض تراجم الإمام البخاري واستنباطاته الفقهية، وهناك أيضًا فائدة بيان زهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا أخرجه الإمام أحمد في أوائل كتاب "الزهد" له. وترجم له أبو الشيخ الأصبهاني: [باب: ذكر زهده صلى الله عليه وآله وسلم، وإيثاره الأموال على نفسه، وتفريقها على المستحقين من أصحابه؛ إذ الكرم طبعه، والبلغة من شأنه، والقناعة سجيته، واختياره الباقي على الفاني، وأنه من عادته ألا يرد سائلًا، ولا يمنع طالبًا، صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أزواجه] اهـ. راجع: "أخلاق النبي وآدابه" (4/ 138، ط. دار المسلم للنشر والتوزيع).
وقد ذكر الشراح كثيرًا من الفوائد لهذا الحديث، منها قول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (5/ 140، ط. دار المعرفة): [وقوله: (في الحضر) إشارة إلى أن التقييد بالسفر في الآية خرج للغالب؛ فلا مفهوم له لدلالة الحديث على مشروعيته في الحضر كما سأذكره، وهو قول الجمهور، واحتجوا له من حيث المعنى بأن الرهن شُرِع توثقة على الدَّين؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [البقرة: 83] فإنه يشير إلى أن المراد بالرهن الاستيثاق، وإنما قيده بالسفر؛ لأنه مظنة فقد الكاتب فأخرجه مخرج الغالب، وخالف في ذلك مجاهد والضحاك فيما نقله الطبري عنهما فقالا: لا يشرع إلا في السفر حيث لا يوجد الكاتب، وبه قال داود وأهل الظاهر. وقال الإمام ابن حزم: إن شرَطَ المرتهنُ الرهنَ في الحضر لم يكن له ذلك، وإن تبرَّع به الراهن جاز، وحمل حديث الباب على ذلك. وقد أشار البخاري إلى ما ورد في بعض طرقه كعادته، وقد تقدم الحديث في (باب شراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنسيئة) في أوائل البيوع من هذا الوجه بلفظ: "ولقد رهن درعًا له بالمدينة عند يهودي"، وعرف بذلك الرد على من اعترض بأنه ليس في الآية والحديث تعرض للرهن في الحضر] اهـ.
وقال أيضًا في (5/ 141): [وفي الحديث جواز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم عين المُتعامَل فيه وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم، واستنبط منه جواز معاملة مَن أكثر ماله حرام، وفيه جواز بيع السلاح ورهنه وإجارته وغير ذلك من الكافر ما لم يكن حربيًا، وفيه ثبوت أملاك أهل الذمة في أيديهم، وجواز الشراء بالثمن المؤجل، واتخاذ الدروع والعدد وغيرها من آلات الحرب وأنه غير قادح في التوكل وأن قنية آلة الحرب لا تدل على تحبيسها، قاله ابن المنير، وأن أكثر قوت ذلك العصر الشعير، قاله الداودي، وأن القول قول المرتهن في قيمة المرهون مع يمينه، حكاه ابن التين، وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التواضع والزهد في الدنيا والتقلل منها مع قدرته عليها، والكرم الذي أفضى به إلى عدم الادخار حتى احتاج إلى رهن درعه والصبر على ضيق العيش، والقناعة باليسير، وفضيلة لأزواجه؛ لصبرهن معه على ذلك، وفيه غير ذلك مما مضى ويأتي، قال العلماء: الحكمة في عدوله صلى الله عليه وآله وسلم عن معاملة مياسير الصحابة إلى معاملة اليهود: إما لبيان الجواز؛ أو لأنهم لم يكن عندهم إذ ذاك طعام فاضل عن حاجتهم، أو خشي أنهم لا يأخذون منه ثمنًا أو عوضًا فلم يرد التضييق عليهم؛ فإنه لا يبعد أن يكون فيهم إذ ذاك من يقدر على ذلك وأكثر منه، فلعله لم يطلعهم على ذلك، وإنما أطلع عليه من لم يكن موسرًا به ممن نقل ذلك، والله أعلم] اهـ.
ويضاف إلى ما سبق حاجة المسلمين لهذا الحديث في عصرنا هذا، إذ المدقق في الحديث يستطيع أن يستنبط منه فوائد عصرية، منها: سلاح الاقتصاد قد يكون أقوى من السلاح العسكري، وسلاح اليهود المال، ومن لا يملك طعامه لا يملك سلاحه، وغير ذلك مما لو فقهه المسلمون لما أصابهم ما أصابهم من ذلة ومسكنة.
وعليه: فليس في الحديث نكارة، وهو صحيح أخرجه البخاري وغيره، والإنكار والنكارة في الحديث تكون بالعلم لا بالخيالات الموهمة الضعيفة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

حديث رهن درع النبي ﷺ عند يهودي

سمعت من بعض الناس أن حديث رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي، هو حديث منكر لا يقبله العقل، فلما سألت عنه بعض طلبة العلم أخبرني بأن هذا الحديث في البخاري، فهل هذا الحديث في البخاري؟ وكيف يخرج البخاري حديثا منكرا؟!

يتصور بعض الناس أنه يستطيع أن يحكم على الأحاديث النبوية الشريفة بمجرد تخيله، وليس عنده من علوم العقل أو النقل ما يمكنه من ذلك، وقد يكون بعض ذلك من شبهات يسمعها أو يقرأها وليس عنده من العلم ما يستطيع أن يفرق بين الغث والسمين.
وهذا الأمر لا يستطيعه إلا أهل العلم ممن درس علوم الحديث الشريف وتمرس فيها، ونهل من باقي العلوم الشرعية ما يمكنه مما يعرف بمصطلح (نقد المتن).
والحكم الشرعي في هذا الأمر: هو حرمة الاعتداء على الحديث الشريف بمجرد الخاطر ومن غير العلماء، بل الواجب في هذه المسألة هو طلب الفتوى من أهل العلم بالحديث النبوي الشريف، والذين أفنوا أعمارهم في خدمته.
والدليل على ذلك أن الحديث الشريف الأصل فيه أنه من الوحي، فإذا قيل إن هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالجواب: أن أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم حجة، وهي إما بالوحي، أو بإقرار الوحي له، ولذلك قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:21]، فلو كان يفعل ما لا يجوز شرعًا لما تأتّت منه الأسوة الحسنة.
ومَن أشكل عليه حديثٌ وجب عليه سؤال العلماء؛ لقول الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء:7].
أما بخصوص التخريج: فالحديث أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من أهل الحديث مِن طُرُقٍ عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ". وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم أئمة ثقات مشاهير أعلام.
وقد ورد الحديث أيضًا من طريق أخرى عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أخرجه البخاري وغيره.
وأما بخصوص معناه: فليس في متن الحديث ما يُستنكر، والرهن عند اليهودي وغيره من غير المسلمين جائز، وقد تعامل النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم في عدة معاملات، والدليل الذي استأجره في الهجرة كان مشركًا.
كما أن تركه للرهن عند بعض أصحابه غير مستنكر، فالرهن هنا كان مقابل الطعام وهو الشعير، وقد يستحيي الصحابي من أخذ رهن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما استحيا جابر رضي الله عنه في حديث الجمل لما عرض عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم شراءه منه، فوافق استحياءً؛ لكون الجمل ناضحًا لهم يستقون عليه الماء، كما ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزواج من نساء الأنصار؛ من أجل شدة غيرتهن، مع كونه أثنى عليهن، وتقول عائشة رضي الله عنها: «نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ»، وحديثها في "البخاري".
وينبغي للسائل أن ينتبه إلى أن هناك فئة تريد الطعن في السنة عن طريق الطعن في الجزء لإسقاط الكل، وهذا ليس جديدًا، وإنما ينظرون في التاريخ ليستخرجوا منه طعن أسلافهم مما يساعدهم على ذلك، وقد ذكر أبو محمد ابن قتيبة رحمه الله طعن بعض الناس في هذا الحديث، فنقل عنهم قولهم: وكيف يجوع مَن وقف سبع حوائط متجاورة بالعالية، ثم لا يجد -مع هذا- من يقرضه أصواعًا من شعير حتى يرهن درعه؟!! قال أبو محمد: ونحن نقول: إنه ليس في هذا ما يُستعظم، بل ما يُنكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يؤثِر على نفسه بأمواله، ويفرقها على المستحقين من أصحابه، وعلى الفقراء والمساكين، وفي النوائب التي تنوب المسلمين، ولا يرد سائلًا، ولا يعطي إذا وجد إلا كثيرًا، ولا يضع درهمًا فوق درهم.
وأخذ يتكلم عن زهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: وقد يأتي على البخيل الموسر تارات لا يحضره فيها مال، وله الضيعة والأثاث والديون، فيحتاج إلى أن يقترض، وإلى أن يرهن، فكيف بمن لا يبقى له درهم، ولا يفضل عن مواساته ونوائبه زاد؟!! وكيف يعلم المسلمون وأهل اليسار من صحابته بحاجته إلى الطعام، وهو لا يُعلمهم، ولا ينشط في وقته ذلك إليهم. وقد نجد هذا بعينه في أنفسنا وأشباهنا من الناس. ونرى الرجل يحتاج إلى الشيء، فلا ينشط فيه إلى ولده، ولا إلى أهله ولا إلى جاره ويبيع العلق ويستقرض من الغريب والبعيد. وإنما رهن درعه عند يهودي؛ لأن اليهود في عصره كانوا يبيعون الطعام ولم يكن المسلمون يبيعونه، لنهيه عن الاحتكار. فما الذي أنكروه من هذا، حتى أظهروا التعجب منه، وحتى رمى بعض المرقة الأعمش بالكذب من أجله؟! ينظر: "تأويل مختلف الحديث" (ص: 216-220، ط. المكتب الإسلامي، مؤسسة الإشراق).
ولمّا أخرج ابن حبان هذا الحديث في "صحيحه" (3/ 19، ط. مؤسسة الرسالة) ترجم له بقوله: ذِكرُ خبرٍ قد شَنَّع به بعض المُعطلة على أهل الحديث؛ حيث حُرِمُوا التوفيقَ لإدراك معناه.
هذا، ولمّا كان الإمام البخاري رحمه الله تعالى قد أعطاه الله الفقه مع الحديث فقد ترجم له تراجم أظهرت كثيرًا من الفوائد الفقهية المستنبطة من هذا الحديث، فقد أخرجه في عدة مواضع من كتابه "الصحيح"، منها قوله: حدثنا معلى بن أسد، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الأعمش، قال: ذكرنا عند إبراهيم الرهن في السلم، فقال: حدثني الأسود، عن عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ".
ومن التراجم البديعة لهذا الحديث:
(باب شراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنسيئة)، و(باب شراء الطعام إلى أجل)؛ والفرق بينهما دفع توهم الخصوصية، أو بأن الشراء بالأجَل يقدح في المروءة.
و(باب من اشترى بالدَّيْن وليس عنده ثمنه، أو ليس بحضرته) وهي واضحة، وقد ترجم النسائي: (الرجل يشتري الطعام إلى أجل ويسترهن البائع منه بالثمن رهنًا).
و(باب الرهن في الحضر)، وهذا يحتاج إليه الفقيه؛ لأن الآية التي ذكرت الرهن قيدته بالسفر؛ كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ [البقرة: 283]، أما الحديث فهو دليلٌ على إباحة الرهن في الحضر أيضًا، ومعلوم أن في هذا توسعةً في الأحكام الشرعية؛ إذ إن معظم التعاملات تكون في الحضر. وقد ترجم الإمام النووي لهذا الحديث عند شرحه لــ"صحيح مسلم" بقوله: (باب الرهن وجوازه في الحضر كالسفر).
و(باب من رهن درعه) وهذه الترجمة تبين جواز رهن ما يكون من جنس السلاح، وأنه ليس محرمًا.
و(باب الرهن عند اليهود وغيرهم) وهذه الترجمة تبين جواز التعامل مع غير المسلم. وقد ترجم له الإمام النسائي: (مبايعة أهل الكتاب).
هذه بعض تراجم الإمام البخاري واستنباطاته الفقهية، وهناك أيضًا فائدة بيان زهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا أخرجه الإمام أحمد في أوائل كتاب "الزهد" له. وترجم له أبو الشيخ الأصبهاني: [باب: ذكر زهده صلى الله عليه وآله وسلم، وإيثاره الأموال على نفسه، وتفريقها على المستحقين من أصحابه؛ إذ الكرم طبعه، والبلغة من شأنه، والقناعة سجيته، واختياره الباقي على الفاني، وأنه من عادته ألا يرد سائلًا، ولا يمنع طالبًا، صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أزواجه] اهـ. راجع: "أخلاق النبي وآدابه" (4/ 138، ط. دار المسلم للنشر والتوزيع).
وقد ذكر الشراح كثيرًا من الفوائد لهذا الحديث، منها قول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (5/ 140، ط. دار المعرفة): [وقوله: (في الحضر) إشارة إلى أن التقييد بالسفر في الآية خرج للغالب؛ فلا مفهوم له لدلالة الحديث على مشروعيته في الحضر كما سأذكره، وهو قول الجمهور، واحتجوا له من حيث المعنى بأن الرهن شُرِع توثقة على الدَّين؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [البقرة: 83] فإنه يشير إلى أن المراد بالرهن الاستيثاق، وإنما قيده بالسفر؛ لأنه مظنة فقد الكاتب فأخرجه مخرج الغالب، وخالف في ذلك مجاهد والضحاك فيما نقله الطبري عنهما فقالا: لا يشرع إلا في السفر حيث لا يوجد الكاتب، وبه قال داود وأهل الظاهر. وقال الإمام ابن حزم: إن شرَطَ المرتهنُ الرهنَ في الحضر لم يكن له ذلك، وإن تبرَّع به الراهن جاز، وحمل حديث الباب على ذلك. وقد أشار البخاري إلى ما ورد في بعض طرقه كعادته، وقد تقدم الحديث في (باب شراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنسيئة) في أوائل البيوع من هذا الوجه بلفظ: "ولقد رهن درعًا له بالمدينة عند يهودي"، وعرف بذلك الرد على من اعترض بأنه ليس في الآية والحديث تعرض للرهن في الحضر] اهـ.
وقال أيضًا في (5/ 141): [وفي الحديث جواز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم عين المُتعامَل فيه وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم، واستنبط منه جواز معاملة مَن أكثر ماله حرام، وفيه جواز بيع السلاح ورهنه وإجارته وغير ذلك من الكافر ما لم يكن حربيًا، وفيه ثبوت أملاك أهل الذمة في أيديهم، وجواز الشراء بالثمن المؤجل، واتخاذ الدروع والعدد وغيرها من آلات الحرب وأنه غير قادح في التوكل وأن قنية آلة الحرب لا تدل على تحبيسها، قاله ابن المنير، وأن أكثر قوت ذلك العصر الشعير، قاله الداودي، وأن القول قول المرتهن في قيمة المرهون مع يمينه، حكاه ابن التين، وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التواضع والزهد في الدنيا والتقلل منها مع قدرته عليها، والكرم الذي أفضى به إلى عدم الادخار حتى احتاج إلى رهن درعه والصبر على ضيق العيش، والقناعة باليسير، وفضيلة لأزواجه؛ لصبرهن معه على ذلك، وفيه غير ذلك مما مضى ويأتي، قال العلماء: الحكمة في عدوله صلى الله عليه وآله وسلم عن معاملة مياسير الصحابة إلى معاملة اليهود: إما لبيان الجواز؛ أو لأنهم لم يكن عندهم إذ ذاك طعام فاضل عن حاجتهم، أو خشي أنهم لا يأخذون منه ثمنًا أو عوضًا فلم يرد التضييق عليهم؛ فإنه لا يبعد أن يكون فيهم إذ ذاك من يقدر على ذلك وأكثر منه، فلعله لم يطلعهم على ذلك، وإنما أطلع عليه من لم يكن موسرًا به ممن نقل ذلك، والله أعلم] اهـ.
ويضاف إلى ما سبق حاجة المسلمين لهذا الحديث في عصرنا هذا، إذ المدقق في الحديث يستطيع أن يستنبط منه فوائد عصرية، منها: سلاح الاقتصاد قد يكون أقوى من السلاح العسكري، وسلاح اليهود المال، ومن لا يملك طعامه لا يملك سلاحه، وغير ذلك مما لو فقهه المسلمون لما أصابهم ما أصابهم من ذلة ومسكنة.
وعليه: فليس في الحديث نكارة، وهو صحيح أخرجه البخاري وغيره، والإنكار والنكارة في الحديث تكون بالعلم لا بالخيالات الموهمة الضعيفة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

يتصور بعض الناس أنه يستطيع أن يحكم على الأحاديث النبوية الشريفة بمجرد تخيله، وليس عنده من علوم العقل أو النقل ما يمكنه من ذلك، وقد يكون بعض ذلك من شبهات يسمعها أو يقرأها وليس عنده من العلم ما يستطيع أن يفرق بين الغث والسمين.
وهذا الأمر لا يستطيعه إلا أهل العلم ممن درس علوم الحديث الشريف وتمرس فيها، ونهل من باقي العلوم الشرعية ما يمكنه مما يعرف بمصطلح (نقد المتن).
والحكم الشرعي في هذا الأمر: هو حرمة الاعتداء على الحديث الشريف بمجرد الخاطر ومن غير العلماء، بل الواجب في هذه المسألة هو طلب الفتوى من أهل العلم بالحديث النبوي الشريف، والذين أفنوا أعمارهم في خدمته.
والدليل على ذلك أن الحديث الشريف الأصل فيه أنه من الوحي، فإذا قيل إن هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالجواب: أن أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم حجة، وهي إما بالوحي، أو بإقرار الوحي له، ولذلك قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:21]، فلو كان يفعل ما لا يجوز شرعًا لما تأتّت منه الأسوة الحسنة.
ومَن أشكل عليه حديثٌ وجب عليه سؤال العلماء؛ لقول الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء:7].
أما بخصوص التخريج: فالحديث أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من أهل الحديث مِن طُرُقٍ عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ". وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم أئمة ثقات مشاهير أعلام.
وقد ورد الحديث أيضًا من طريق أخرى عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أخرجه البخاري وغيره.
وأما بخصوص معناه: فليس في متن الحديث ما يُستنكر، والرهن عند اليهودي وغيره من غير المسلمين جائز، وقد تعامل النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم في عدة معاملات، والدليل الذي استأجره في الهجرة كان مشركًا.
كما أن تركه للرهن عند بعض أصحابه غير مستنكر، فالرهن هنا كان مقابل الطعام وهو الشعير، وقد يستحيي الصحابي من أخذ رهن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما استحيا جابر رضي الله عنه في حديث الجمل لما عرض عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم شراءه منه، فوافق استحياءً؛ لكون الجمل ناضحًا لهم يستقون عليه الماء، كما ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزواج من نساء الأنصار؛ من أجل شدة غيرتهن، مع كونه أثنى عليهن، وتقول عائشة رضي الله عنها: «نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ»، وحديثها في "البخاري".
وينبغي للسائل أن ينتبه إلى أن هناك فئة تريد الطعن في السنة عن طريق الطعن في الجزء لإسقاط الكل، وهذا ليس جديدًا، وإنما ينظرون في التاريخ ليستخرجوا منه طعن أسلافهم مما يساعدهم على ذلك، وقد ذكر أبو محمد ابن قتيبة رحمه الله طعن بعض الناس في هذا الحديث، فنقل عنهم قولهم: وكيف يجوع مَن وقف سبع حوائط متجاورة بالعالية، ثم لا يجد -مع هذا- من يقرضه أصواعًا من شعير حتى يرهن درعه؟!! قال أبو محمد: ونحن نقول: إنه ليس في هذا ما يُستعظم، بل ما يُنكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يؤثِر على نفسه بأمواله، ويفرقها على المستحقين من أصحابه، وعلى الفقراء والمساكين، وفي النوائب التي تنوب المسلمين، ولا يرد سائلًا، ولا يعطي إذا وجد إلا كثيرًا، ولا يضع درهمًا فوق درهم.
وأخذ يتكلم عن زهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: وقد يأتي على البخيل الموسر تارات لا يحضره فيها مال، وله الضيعة والأثاث والديون، فيحتاج إلى أن يقترض، وإلى أن يرهن، فكيف بمن لا يبقى له درهم، ولا يفضل عن مواساته ونوائبه زاد؟!! وكيف يعلم المسلمون وأهل اليسار من صحابته بحاجته إلى الطعام، وهو لا يُعلمهم، ولا ينشط في وقته ذلك إليهم. وقد نجد هذا بعينه في أنفسنا وأشباهنا من الناس. ونرى الرجل يحتاج إلى الشيء، فلا ينشط فيه إلى ولده، ولا إلى أهله ولا إلى جاره ويبيع العلق ويستقرض من الغريب والبعيد. وإنما رهن درعه عند يهودي؛ لأن اليهود في عصره كانوا يبيعون الطعام ولم يكن المسلمون يبيعونه، لنهيه عن الاحتكار. فما الذي أنكروه من هذا، حتى أظهروا التعجب منه، وحتى رمى بعض المرقة الأعمش بالكذب من أجله؟! ينظر: "تأويل مختلف الحديث" (ص: 216-220، ط. المكتب الإسلامي، مؤسسة الإشراق).
ولمّا أخرج ابن حبان هذا الحديث في "صحيحه" (3/ 19، ط. مؤسسة الرسالة) ترجم له بقوله: ذِكرُ خبرٍ قد شَنَّع به بعض المُعطلة على أهل الحديث؛ حيث حُرِمُوا التوفيقَ لإدراك معناه.
هذا، ولمّا كان الإمام البخاري رحمه الله تعالى قد أعطاه الله الفقه مع الحديث فقد ترجم له تراجم أظهرت كثيرًا من الفوائد الفقهية المستنبطة من هذا الحديث، فقد أخرجه في عدة مواضع من كتابه "الصحيح"، منها قوله: حدثنا معلى بن أسد، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الأعمش، قال: ذكرنا عند إبراهيم الرهن في السلم، فقال: حدثني الأسود، عن عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ".
ومن التراجم البديعة لهذا الحديث:
(باب شراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنسيئة)، و(باب شراء الطعام إلى أجل)؛ والفرق بينهما دفع توهم الخصوصية، أو بأن الشراء بالأجَل يقدح في المروءة.
و(باب من اشترى بالدَّيْن وليس عنده ثمنه، أو ليس بحضرته) وهي واضحة، وقد ترجم النسائي: (الرجل يشتري الطعام إلى أجل ويسترهن البائع منه بالثمن رهنًا).
و(باب الرهن في الحضر)، وهذا يحتاج إليه الفقيه؛ لأن الآية التي ذكرت الرهن قيدته بالسفر؛ كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ [البقرة: 283]، أما الحديث فهو دليلٌ على إباحة الرهن في الحضر أيضًا، ومعلوم أن في هذا توسعةً في الأحكام الشرعية؛ إذ إن معظم التعاملات تكون في الحضر. وقد ترجم الإمام النووي لهذا الحديث عند شرحه لــ"صحيح مسلم" بقوله: (باب الرهن وجوازه في الحضر كالسفر).
و(باب من رهن درعه) وهذه الترجمة تبين جواز رهن ما يكون من جنس السلاح، وأنه ليس محرمًا.
و(باب الرهن عند اليهود وغيرهم) وهذه الترجمة تبين جواز التعامل مع غير المسلم. وقد ترجم له الإمام النسائي: (مبايعة أهل الكتاب).
هذه بعض تراجم الإمام البخاري واستنباطاته الفقهية، وهناك أيضًا فائدة بيان زهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا أخرجه الإمام أحمد في أوائل كتاب "الزهد" له. وترجم له أبو الشيخ الأصبهاني: [باب: ذكر زهده صلى الله عليه وآله وسلم، وإيثاره الأموال على نفسه، وتفريقها على المستحقين من أصحابه؛ إذ الكرم طبعه، والبلغة من شأنه، والقناعة سجيته، واختياره الباقي على الفاني، وأنه من عادته ألا يرد سائلًا، ولا يمنع طالبًا، صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أزواجه] اهـ. راجع: "أخلاق النبي وآدابه" (4/ 138، ط. دار المسلم للنشر والتوزيع).
وقد ذكر الشراح كثيرًا من الفوائد لهذا الحديث، منها قول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (5/ 140، ط. دار المعرفة): [وقوله: (في الحضر) إشارة إلى أن التقييد بالسفر في الآية خرج للغالب؛ فلا مفهوم له لدلالة الحديث على مشروعيته في الحضر كما سأذكره، وهو قول الجمهور، واحتجوا له من حيث المعنى بأن الرهن شُرِع توثقة على الدَّين؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [البقرة: 83] فإنه يشير إلى أن المراد بالرهن الاستيثاق، وإنما قيده بالسفر؛ لأنه مظنة فقد الكاتب فأخرجه مخرج الغالب، وخالف في ذلك مجاهد والضحاك فيما نقله الطبري عنهما فقالا: لا يشرع إلا في السفر حيث لا يوجد الكاتب، وبه قال داود وأهل الظاهر. وقال الإمام ابن حزم: إن شرَطَ المرتهنُ الرهنَ في الحضر لم يكن له ذلك، وإن تبرَّع به الراهن جاز، وحمل حديث الباب على ذلك. وقد أشار البخاري إلى ما ورد في بعض طرقه كعادته، وقد تقدم الحديث في (باب شراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنسيئة) في أوائل البيوع من هذا الوجه بلفظ: "ولقد رهن درعًا له بالمدينة عند يهودي"، وعرف بذلك الرد على من اعترض بأنه ليس في الآية والحديث تعرض للرهن في الحضر] اهـ.
وقال أيضًا في (5/ 141): [وفي الحديث جواز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم عين المُتعامَل فيه وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم، واستنبط منه جواز معاملة مَن أكثر ماله حرام، وفيه جواز بيع السلاح ورهنه وإجارته وغير ذلك من الكافر ما لم يكن حربيًا، وفيه ثبوت أملاك أهل الذمة في أيديهم، وجواز الشراء بالثمن المؤجل، واتخاذ الدروع والعدد وغيرها من آلات الحرب وأنه غير قادح في التوكل وأن قنية آلة الحرب لا تدل على تحبيسها، قاله ابن المنير، وأن أكثر قوت ذلك العصر الشعير، قاله الداودي، وأن القول قول المرتهن في قيمة المرهون مع يمينه، حكاه ابن التين، وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التواضع والزهد في الدنيا والتقلل منها مع قدرته عليها، والكرم الذي أفضى به إلى عدم الادخار حتى احتاج إلى رهن درعه والصبر على ضيق العيش، والقناعة باليسير، وفضيلة لأزواجه؛ لصبرهن معه على ذلك، وفيه غير ذلك مما مضى ويأتي، قال العلماء: الحكمة في عدوله صلى الله عليه وآله وسلم عن معاملة مياسير الصحابة إلى معاملة اليهود: إما لبيان الجواز؛ أو لأنهم لم يكن عندهم إذ ذاك طعام فاضل عن حاجتهم، أو خشي أنهم لا يأخذون منه ثمنًا أو عوضًا فلم يرد التضييق عليهم؛ فإنه لا يبعد أن يكون فيهم إذ ذاك من يقدر على ذلك وأكثر منه، فلعله لم يطلعهم على ذلك، وإنما أطلع عليه من لم يكن موسرًا به ممن نقل ذلك، والله أعلم] اهـ.
ويضاف إلى ما سبق حاجة المسلمين لهذا الحديث في عصرنا هذا، إذ المدقق في الحديث يستطيع أن يستنبط منه فوائد عصرية، منها: سلاح الاقتصاد قد يكون أقوى من السلاح العسكري، وسلاح اليهود المال، ومن لا يملك طعامه لا يملك سلاحه، وغير ذلك مما لو فقهه المسلمون لما أصابهم ما أصابهم من ذلة ومسكنة.
وعليه: فليس في الحديث نكارة، وهو صحيح أخرجه البخاري وغيره، والإنكار والنكارة في الحديث تكون بالعلم لا بالخيالات الموهمة الضعيفة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;