بداية الصف خلف الإمام

من أين يبدأ الصف خلف الإمام؟ هل من اليمين أم من ورائه مباشرة؟

وقوف الإمام أمام الصف الأول واصطفاف المأمومين خلفه -بحيث يكون بإزاء وسط الصف- يكاد يكون معروفًا لدى عامة المصلين، ولكن الصف الناقص -خاصة إن بدأ بعد دخول الإمام في الصلاة- أحيانًا يبدأ أقصى اليمين؛ أخذًا بما ورد في فضل ميامين الصفوف.

وهذه المسألة تكلم عنها المحدثون والفقهاء في أبواب تسوية الصفوف، وحاولوا التوفيق بين أحاديث الباب.

والحكم في هذه المسألة أن الصفوف جميعها من حيث هيئتها خلف الإمام حكمها سواء، إلا أنه إن كان هناك نقص يكون في الصف الأخير.
وجميع الصفوف يستحب أن تبدأ خلف الإمام ويكون الإمام وسطهم، ولا يختلف الصف المقدم عن الأخير، فإن حدث خلاف ذلك في الصف صحت الصلاة، وفات المخالف فضيلة السنة.

ودليل ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه: أن جدته مليكة رضي الله عنها، دعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لطعام صنعته، فأكل منه، ثم قال: «قُومُوا فَأُصَلِّيَ لَكُمْ»، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: فقمت إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لبس، فنضحته بماء، فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين، ثم انصرف. متفق عليه.

ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل أنسًا رضي الله عنه واليتيم صفًّا خلفه، ولم يجعلهما عن يمينه، وهذا يدل على الاستحباب في أقل تقدير؛ لأن الأصل أنه يفعل الأفضل، خاصة إن واظب على ذلك.

ومن الأدلة أيضًا ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَسِّطوا الإمامَ، وسُدُّوا الخَلَلَ» أخرجه أبو داود وغيره.

قال العلامة البدر العيني في "شرح سنن أبي داود" (3/ 235، ط. مكتبة الرشد): [قوله: «وسطوا الإمام» من وسطت القوم -بالتشديد- بمعنى: توسطتهم إذا كنت في وسطهم، ويقال: وسطت القوم -أيضًا بالتخفيف- أسطهم وسطًا وسطةً، وفي بعض النسخ: «توسطوا» من توسطت، والمقصود من ذلك: أن تكون الجماعة فرقتين، فرقة عن يمين الإمام وفرقة عن يساره، ويكون الإمام وسطهم، وليس المعنى أن يقوم مساويًا معهم في وسطهم؛ لأن وظيفة الإمام التقدم على القوم... وحديث أبي هريرة محمول على الفضيلة دون الوجوب، حتى إذا قامت الجماعة كلهم عن يمين الإمام أو عن يساره تجوز صلاتهم، ولكن يكونون تاركين للسنة والفضيلة] اهـ.

وقال العلامة المناوي في "فيض القدير" (6/ 362، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [«وسطوا الإمام» بالتشديد: أي اجعلوه وسط الصف؛ لينال كل أحد عن يمينه وشماله حظه من نحو سماع وقرب، كما أن الكعبة وسط الأرض؛ لينال كل منها حظه من البركة] اهـ.

وأما بخصوص الصف الأخير، فلم يأتِ ما يخرجه عما تقدم، وإنما ورد أن يكون النقص فيه، ولم يتعرض للجهة؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّر» أخرجه أحمد وأبو داود.

قال العلامة شمس الحق العظيم آبادي في "عون المعبود" (2/ 260، ط. دار الكتب العلمية): [«أتموا الصف المقدم» أي الأول، «ثم الذي يليه» أي ثم أتموا الصف الذي يلي الصف الأول وهكذا، «فما كان» أي وجد، دل الحديث على جعل النقصان في الصف الأخير لكن لم يظهر منه موقف الصف الناقص، فظاهر حديث أبي هريرة: «وسطوا الإمام» أن يقف أهل الصف الناقص خلف الإمام عن يمينه وشماله. والله تعالى أعلم] اهـ.

وأما ما ورد في تفضيل جهة اليمين؛ فهذا إنما يكون بعد توسيط الإمام؛ لأن هذا يجمع بين الدليلين، والنص الوارد لا يتعارض مع هذا الجمع؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ» رواه أبو داود.
قال العلامة ابن علان في "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" (6/ 575، ط. دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع): [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ» أي الصفوف التي في ميمنة الإمام، ومنه أخذ أئمتنا أفضلية الوقوف عن يمين الإمام ولو تعارض مع القرب من الإمام على ما استوجهه أئمتنا، والمراد أنه يسن إذا وصل المأموم المسجد ووجد الناس متوسطين الإمام ووجد فرجة على يمينه وأخرى عن يساره أن يسد فرجة اليمين، فلا يلزم من تفضيل التيامن فوات سنة توسيط الإمام المطلوب أيضًا، ومحل طلب التيامن إذا كانت جهته تَسَعُ جميع الجائين، وإلا سن التسابق إليها، والباقون يصلون في اليسرى، كما أن السنة إتمام الصف الأول ثم الثاني وهكذا] اهـ.

وبنحو ما قلنا صرحت طائفة من الفقهاء:
قال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج" (1/ 493، ط. دار الكتب العلمية): [والسنة أن يوسطوا الإمام ويكتنفوه من جانبيه، وجهة يمينه أفضل. ويسن سد فرج الصفوف، وأن لا يشرع في صف حتى يتم الأول وأن يفسح لمن يريده، وهذا كله مستحب لا شرط، فلو خالفوا صحت صلاتهم مع الكراهة] اهـ.

وقال الإمام النووي في "المجموع شرح المهذب" (4/ 292، ط. دار الفكر): [إذا حضر إمام ومأمومان تقدم الإمام واصطفا خلفه سواء كانا رجلين أو صبيين أو رجلًا وصبيًّا، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافةً إلا عبد الله بن مسعود وصاحبيه علقمة والأسود، فإنهم قالوا: يكون الإمام والمأمومان كلهم صفًّا واحدًا] اهـ.

وقال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (1/ 159، ط. دار الكتب العلمية): [(وأفضل) مكان المأموم إذا كان رجلًا حيث يكون أقرب إلى الإمام؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها»، وإذا تساوت المواضع في القرب إلى الإمام فعن يمينه أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحب التيامن في الأمور] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (2/ 161، ط. مكتبة القاهرة): [ويستحب أن يقف الإمام في مقابلة وسط الصف؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وَسِّطُوا الْإِمَامَ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ» رواه أبو داود] اهـ.

ومما تقدم يتبين أن السنة المتبعة على سبيل الاستحباب في بدء الصف خلف الإمام أن يكون ذلك بإزاء الإمام من خلفه بحيث يتوسط الإمام جهة الصف، فمِن نقطة الوسط الموازية له تبدأ الصفوف، وسد فُرَجِ الصفوف عن ميامن الإمام أولى مِن مَيَاسِرِهِ، وفي حالة عدم اكتمال الصف يكون الأولى ترحيل هذا النقص إلى الصف الأخير.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

وقوف الإمام أمام الصف الأول واصطفاف المأمومين خلفه -بحيث يكون بإزاء وسط الصف- يكاد يكون معروفًا لدى عامة المصلين، ولكن الصف الناقص -خاصة إن بدأ بعد دخول الإمام في الصلاة- أحيانًا يبدأ أقصى اليمين؛ أخذًا بما ورد في فضل ميامين الصفوف.

وهذه المسألة تكلم عنها المحدثون والفقهاء في أبواب تسوية الصفوف، وحاولوا التوفيق بين أحاديث الباب.

والحكم في هذه المسألة أن الصفوف جميعها من حيث هيئتها خلف الإمام حكمها سواء، إلا أنه إن كان هناك نقص يكون في الصف الأخير.
وجميع الصفوف يستحب أن تبدأ خلف الإمام ويكون الإمام وسطهم، ولا يختلف الصف المقدم عن الأخير، فإن حدث خلاف ذلك في الصف صحت الصلاة، وفات المخالف فضيلة السنة.

ودليل ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه: أن جدته مليكة رضي الله عنها، دعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لطعام صنعته، فأكل منه، ثم قال: «قُومُوا فَأُصَلِّيَ لَكُمْ»، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: فقمت إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لبس، فنضحته بماء، فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين، ثم انصرف. متفق عليه.

ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل أنسًا رضي الله عنه واليتيم صفًّا خلفه، ولم يجعلهما عن يمينه، وهذا يدل على الاستحباب في أقل تقدير؛ لأن الأصل أنه يفعل الأفضل، خاصة إن واظب على ذلك.

ومن الأدلة أيضًا ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَسِّطوا الإمامَ، وسُدُّوا الخَلَلَ» أخرجه أبو داود وغيره.

قال العلامة البدر العيني في "شرح سنن أبي داود" (3/ 235، ط. مكتبة الرشد): [قوله: «وسطوا الإمام» من وسطت القوم -بالتشديد- بمعنى: توسطتهم إذا كنت في وسطهم، ويقال: وسطت القوم -أيضًا بالتخفيف- أسطهم وسطًا وسطةً، وفي بعض النسخ: «توسطوا» من توسطت، والمقصود من ذلك: أن تكون الجماعة فرقتين، فرقة عن يمين الإمام وفرقة عن يساره، ويكون الإمام وسطهم، وليس المعنى أن يقوم مساويًا معهم في وسطهم؛ لأن وظيفة الإمام التقدم على القوم... وحديث أبي هريرة محمول على الفضيلة دون الوجوب، حتى إذا قامت الجماعة كلهم عن يمين الإمام أو عن يساره تجوز صلاتهم، ولكن يكونون تاركين للسنة والفضيلة] اهـ.

وقال العلامة المناوي في "فيض القدير" (6/ 362، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [«وسطوا الإمام» بالتشديد: أي اجعلوه وسط الصف؛ لينال كل أحد عن يمينه وشماله حظه من نحو سماع وقرب، كما أن الكعبة وسط الأرض؛ لينال كل منها حظه من البركة] اهـ.

وأما بخصوص الصف الأخير، فلم يأتِ ما يخرجه عما تقدم، وإنما ورد أن يكون النقص فيه، ولم يتعرض للجهة؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّر» أخرجه أحمد وأبو داود.

قال العلامة شمس الحق العظيم آبادي في "عون المعبود" (2/ 260، ط. دار الكتب العلمية): [«أتموا الصف المقدم» أي الأول، «ثم الذي يليه» أي ثم أتموا الصف الذي يلي الصف الأول وهكذا، «فما كان» أي وجد، دل الحديث على جعل النقصان في الصف الأخير لكن لم يظهر منه موقف الصف الناقص، فظاهر حديث أبي هريرة: «وسطوا الإمام» أن يقف أهل الصف الناقص خلف الإمام عن يمينه وشماله. والله تعالى أعلم] اهـ.

وأما ما ورد في تفضيل جهة اليمين؛ فهذا إنما يكون بعد توسيط الإمام؛ لأن هذا يجمع بين الدليلين، والنص الوارد لا يتعارض مع هذا الجمع؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ» رواه أبو داود.
قال العلامة ابن علان في "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" (6/ 575، ط. دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع): [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ» أي الصفوف التي في ميمنة الإمام، ومنه أخذ أئمتنا أفضلية الوقوف عن يمين الإمام ولو تعارض مع القرب من الإمام على ما استوجهه أئمتنا، والمراد أنه يسن إذا وصل المأموم المسجد ووجد الناس متوسطين الإمام ووجد فرجة على يمينه وأخرى عن يساره أن يسد فرجة اليمين، فلا يلزم من تفضيل التيامن فوات سنة توسيط الإمام المطلوب أيضًا، ومحل طلب التيامن إذا كانت جهته تَسَعُ جميع الجائين، وإلا سن التسابق إليها، والباقون يصلون في اليسرى، كما أن السنة إتمام الصف الأول ثم الثاني وهكذا] اهـ.

وبنحو ما قلنا صرحت طائفة من الفقهاء:
قال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج" (1/ 493، ط. دار الكتب العلمية): [والسنة أن يوسطوا الإمام ويكتنفوه من جانبيه، وجهة يمينه أفضل. ويسن سد فرج الصفوف، وأن لا يشرع في صف حتى يتم الأول وأن يفسح لمن يريده، وهذا كله مستحب لا شرط، فلو خالفوا صحت صلاتهم مع الكراهة] اهـ.

وقال الإمام النووي في "المجموع شرح المهذب" (4/ 292، ط. دار الفكر): [إذا حضر إمام ومأمومان تقدم الإمام واصطفا خلفه سواء كانا رجلين أو صبيين أو رجلًا وصبيًّا، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافةً إلا عبد الله بن مسعود وصاحبيه علقمة والأسود، فإنهم قالوا: يكون الإمام والمأمومان كلهم صفًّا واحدًا] اهـ.

وقال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (1/ 159، ط. دار الكتب العلمية): [(وأفضل) مكان المأموم إذا كان رجلًا حيث يكون أقرب إلى الإمام؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها»، وإذا تساوت المواضع في القرب إلى الإمام فعن يمينه أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحب التيامن في الأمور] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (2/ 161، ط. مكتبة القاهرة): [ويستحب أن يقف الإمام في مقابلة وسط الصف؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وَسِّطُوا الْإِمَامَ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ» رواه أبو داود] اهـ.

ومما تقدم يتبين أن السنة المتبعة على سبيل الاستحباب في بدء الصف خلف الإمام أن يكون ذلك بإزاء الإمام من خلفه بحيث يتوسط الإمام جهة الصف، فمِن نقطة الوسط الموازية له تبدأ الصفوف، وسد فُرَجِ الصفوف عن ميامن الإمام أولى مِن مَيَاسِرِهِ، وفي حالة عدم اكتمال الصف يكون الأولى ترحيل هذا النقص إلى الصف الأخير.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

بداية الصف خلف الإمام

من أين يبدأ الصف خلف الإمام؟ هل من اليمين أم من ورائه مباشرة؟

وقوف الإمام أمام الصف الأول واصطفاف المأمومين خلفه -بحيث يكون بإزاء وسط الصف- يكاد يكون معروفًا لدى عامة المصلين، ولكن الصف الناقص -خاصة إن بدأ بعد دخول الإمام في الصلاة- أحيانًا يبدأ أقصى اليمين؛ أخذًا بما ورد في فضل ميامين الصفوف.

وهذه المسألة تكلم عنها المحدثون والفقهاء في أبواب تسوية الصفوف، وحاولوا التوفيق بين أحاديث الباب.

والحكم في هذه المسألة أن الصفوف جميعها من حيث هيئتها خلف الإمام حكمها سواء، إلا أنه إن كان هناك نقص يكون في الصف الأخير.
وجميع الصفوف يستحب أن تبدأ خلف الإمام ويكون الإمام وسطهم، ولا يختلف الصف المقدم عن الأخير، فإن حدث خلاف ذلك في الصف صحت الصلاة، وفات المخالف فضيلة السنة.

ودليل ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه: أن جدته مليكة رضي الله عنها، دعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لطعام صنعته، فأكل منه، ثم قال: «قُومُوا فَأُصَلِّيَ لَكُمْ»، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: فقمت إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لبس، فنضحته بماء، فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين، ثم انصرف. متفق عليه.

ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل أنسًا رضي الله عنه واليتيم صفًّا خلفه، ولم يجعلهما عن يمينه، وهذا يدل على الاستحباب في أقل تقدير؛ لأن الأصل أنه يفعل الأفضل، خاصة إن واظب على ذلك.

ومن الأدلة أيضًا ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَسِّطوا الإمامَ، وسُدُّوا الخَلَلَ» أخرجه أبو داود وغيره.

قال العلامة البدر العيني في "شرح سنن أبي داود" (3/ 235، ط. مكتبة الرشد): [قوله: «وسطوا الإمام» من وسطت القوم -بالتشديد- بمعنى: توسطتهم إذا كنت في وسطهم، ويقال: وسطت القوم -أيضًا بالتخفيف- أسطهم وسطًا وسطةً، وفي بعض النسخ: «توسطوا» من توسطت، والمقصود من ذلك: أن تكون الجماعة فرقتين، فرقة عن يمين الإمام وفرقة عن يساره، ويكون الإمام وسطهم، وليس المعنى أن يقوم مساويًا معهم في وسطهم؛ لأن وظيفة الإمام التقدم على القوم... وحديث أبي هريرة محمول على الفضيلة دون الوجوب، حتى إذا قامت الجماعة كلهم عن يمين الإمام أو عن يساره تجوز صلاتهم، ولكن يكونون تاركين للسنة والفضيلة] اهـ.

وقال العلامة المناوي في "فيض القدير" (6/ 362، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [«وسطوا الإمام» بالتشديد: أي اجعلوه وسط الصف؛ لينال كل أحد عن يمينه وشماله حظه من نحو سماع وقرب، كما أن الكعبة وسط الأرض؛ لينال كل منها حظه من البركة] اهـ.

وأما بخصوص الصف الأخير، فلم يأتِ ما يخرجه عما تقدم، وإنما ورد أن يكون النقص فيه، ولم يتعرض للجهة؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّر» أخرجه أحمد وأبو داود.

قال العلامة شمس الحق العظيم آبادي في "عون المعبود" (2/ 260، ط. دار الكتب العلمية): [«أتموا الصف المقدم» أي الأول، «ثم الذي يليه» أي ثم أتموا الصف الذي يلي الصف الأول وهكذا، «فما كان» أي وجد، دل الحديث على جعل النقصان في الصف الأخير لكن لم يظهر منه موقف الصف الناقص، فظاهر حديث أبي هريرة: «وسطوا الإمام» أن يقف أهل الصف الناقص خلف الإمام عن يمينه وشماله. والله تعالى أعلم] اهـ.

وأما ما ورد في تفضيل جهة اليمين؛ فهذا إنما يكون بعد توسيط الإمام؛ لأن هذا يجمع بين الدليلين، والنص الوارد لا يتعارض مع هذا الجمع؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ» رواه أبو داود.
قال العلامة ابن علان في "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" (6/ 575، ط. دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع): [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ» أي الصفوف التي في ميمنة الإمام، ومنه أخذ أئمتنا أفضلية الوقوف عن يمين الإمام ولو تعارض مع القرب من الإمام على ما استوجهه أئمتنا، والمراد أنه يسن إذا وصل المأموم المسجد ووجد الناس متوسطين الإمام ووجد فرجة على يمينه وأخرى عن يساره أن يسد فرجة اليمين، فلا يلزم من تفضيل التيامن فوات سنة توسيط الإمام المطلوب أيضًا، ومحل طلب التيامن إذا كانت جهته تَسَعُ جميع الجائين، وإلا سن التسابق إليها، والباقون يصلون في اليسرى، كما أن السنة إتمام الصف الأول ثم الثاني وهكذا] اهـ.

وبنحو ما قلنا صرحت طائفة من الفقهاء:
قال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج" (1/ 493، ط. دار الكتب العلمية): [والسنة أن يوسطوا الإمام ويكتنفوه من جانبيه، وجهة يمينه أفضل. ويسن سد فرج الصفوف، وأن لا يشرع في صف حتى يتم الأول وأن يفسح لمن يريده، وهذا كله مستحب لا شرط، فلو خالفوا صحت صلاتهم مع الكراهة] اهـ.

وقال الإمام النووي في "المجموع شرح المهذب" (4/ 292، ط. دار الفكر): [إذا حضر إمام ومأمومان تقدم الإمام واصطفا خلفه سواء كانا رجلين أو صبيين أو رجلًا وصبيًّا، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافةً إلا عبد الله بن مسعود وصاحبيه علقمة والأسود، فإنهم قالوا: يكون الإمام والمأمومان كلهم صفًّا واحدًا] اهـ.

وقال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (1/ 159، ط. دار الكتب العلمية): [(وأفضل) مكان المأموم إذا كان رجلًا حيث يكون أقرب إلى الإمام؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها»، وإذا تساوت المواضع في القرب إلى الإمام فعن يمينه أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحب التيامن في الأمور] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (2/ 161، ط. مكتبة القاهرة): [ويستحب أن يقف الإمام في مقابلة وسط الصف؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وَسِّطُوا الْإِمَامَ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ» رواه أبو داود] اهـ.

ومما تقدم يتبين أن السنة المتبعة على سبيل الاستحباب في بدء الصف خلف الإمام أن يكون ذلك بإزاء الإمام من خلفه بحيث يتوسط الإمام جهة الصف، فمِن نقطة الوسط الموازية له تبدأ الصفوف، وسد فُرَجِ الصفوف عن ميامن الإمام أولى مِن مَيَاسِرِهِ، وفي حالة عدم اكتمال الصف يكون الأولى ترحيل هذا النقص إلى الصف الأخير.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

وقوف الإمام أمام الصف الأول واصطفاف المأمومين خلفه -بحيث يكون بإزاء وسط الصف- يكاد يكون معروفًا لدى عامة المصلين، ولكن الصف الناقص -خاصة إن بدأ بعد دخول الإمام في الصلاة- أحيانًا يبدأ أقصى اليمين؛ أخذًا بما ورد في فضل ميامين الصفوف.

وهذه المسألة تكلم عنها المحدثون والفقهاء في أبواب تسوية الصفوف، وحاولوا التوفيق بين أحاديث الباب.

والحكم في هذه المسألة أن الصفوف جميعها من حيث هيئتها خلف الإمام حكمها سواء، إلا أنه إن كان هناك نقص يكون في الصف الأخير.
وجميع الصفوف يستحب أن تبدأ خلف الإمام ويكون الإمام وسطهم، ولا يختلف الصف المقدم عن الأخير، فإن حدث خلاف ذلك في الصف صحت الصلاة، وفات المخالف فضيلة السنة.

ودليل ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه: أن جدته مليكة رضي الله عنها، دعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لطعام صنعته، فأكل منه، ثم قال: «قُومُوا فَأُصَلِّيَ لَكُمْ»، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: فقمت إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لبس، فنضحته بماء، فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين، ثم انصرف. متفق عليه.

ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل أنسًا رضي الله عنه واليتيم صفًّا خلفه، ولم يجعلهما عن يمينه، وهذا يدل على الاستحباب في أقل تقدير؛ لأن الأصل أنه يفعل الأفضل، خاصة إن واظب على ذلك.

ومن الأدلة أيضًا ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَسِّطوا الإمامَ، وسُدُّوا الخَلَلَ» أخرجه أبو داود وغيره.

قال العلامة البدر العيني في "شرح سنن أبي داود" (3/ 235، ط. مكتبة الرشد): [قوله: «وسطوا الإمام» من وسطت القوم -بالتشديد- بمعنى: توسطتهم إذا كنت في وسطهم، ويقال: وسطت القوم -أيضًا بالتخفيف- أسطهم وسطًا وسطةً، وفي بعض النسخ: «توسطوا» من توسطت، والمقصود من ذلك: أن تكون الجماعة فرقتين، فرقة عن يمين الإمام وفرقة عن يساره، ويكون الإمام وسطهم، وليس المعنى أن يقوم مساويًا معهم في وسطهم؛ لأن وظيفة الإمام التقدم على القوم... وحديث أبي هريرة محمول على الفضيلة دون الوجوب، حتى إذا قامت الجماعة كلهم عن يمين الإمام أو عن يساره تجوز صلاتهم، ولكن يكونون تاركين للسنة والفضيلة] اهـ.

وقال العلامة المناوي في "فيض القدير" (6/ 362، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [«وسطوا الإمام» بالتشديد: أي اجعلوه وسط الصف؛ لينال كل أحد عن يمينه وشماله حظه من نحو سماع وقرب، كما أن الكعبة وسط الأرض؛ لينال كل منها حظه من البركة] اهـ.

وأما بخصوص الصف الأخير، فلم يأتِ ما يخرجه عما تقدم، وإنما ورد أن يكون النقص فيه، ولم يتعرض للجهة؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّر» أخرجه أحمد وأبو داود.

قال العلامة شمس الحق العظيم آبادي في "عون المعبود" (2/ 260، ط. دار الكتب العلمية): [«أتموا الصف المقدم» أي الأول، «ثم الذي يليه» أي ثم أتموا الصف الذي يلي الصف الأول وهكذا، «فما كان» أي وجد، دل الحديث على جعل النقصان في الصف الأخير لكن لم يظهر منه موقف الصف الناقص، فظاهر حديث أبي هريرة: «وسطوا الإمام» أن يقف أهل الصف الناقص خلف الإمام عن يمينه وشماله. والله تعالى أعلم] اهـ.

وأما ما ورد في تفضيل جهة اليمين؛ فهذا إنما يكون بعد توسيط الإمام؛ لأن هذا يجمع بين الدليلين، والنص الوارد لا يتعارض مع هذا الجمع؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ» رواه أبو داود.
قال العلامة ابن علان في "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" (6/ 575، ط. دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع): [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ» أي الصفوف التي في ميمنة الإمام، ومنه أخذ أئمتنا أفضلية الوقوف عن يمين الإمام ولو تعارض مع القرب من الإمام على ما استوجهه أئمتنا، والمراد أنه يسن إذا وصل المأموم المسجد ووجد الناس متوسطين الإمام ووجد فرجة على يمينه وأخرى عن يساره أن يسد فرجة اليمين، فلا يلزم من تفضيل التيامن فوات سنة توسيط الإمام المطلوب أيضًا، ومحل طلب التيامن إذا كانت جهته تَسَعُ جميع الجائين، وإلا سن التسابق إليها، والباقون يصلون في اليسرى، كما أن السنة إتمام الصف الأول ثم الثاني وهكذا] اهـ.

وبنحو ما قلنا صرحت طائفة من الفقهاء:
قال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج" (1/ 493، ط. دار الكتب العلمية): [والسنة أن يوسطوا الإمام ويكتنفوه من جانبيه، وجهة يمينه أفضل. ويسن سد فرج الصفوف، وأن لا يشرع في صف حتى يتم الأول وأن يفسح لمن يريده، وهذا كله مستحب لا شرط، فلو خالفوا صحت صلاتهم مع الكراهة] اهـ.

وقال الإمام النووي في "المجموع شرح المهذب" (4/ 292، ط. دار الفكر): [إذا حضر إمام ومأمومان تقدم الإمام واصطفا خلفه سواء كانا رجلين أو صبيين أو رجلًا وصبيًّا، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافةً إلا عبد الله بن مسعود وصاحبيه علقمة والأسود، فإنهم قالوا: يكون الإمام والمأمومان كلهم صفًّا واحدًا] اهـ.

وقال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (1/ 159، ط. دار الكتب العلمية): [(وأفضل) مكان المأموم إذا كان رجلًا حيث يكون أقرب إلى الإمام؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها»، وإذا تساوت المواضع في القرب إلى الإمام فعن يمينه أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحب التيامن في الأمور] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (2/ 161، ط. مكتبة القاهرة): [ويستحب أن يقف الإمام في مقابلة وسط الصف؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وَسِّطُوا الْإِمَامَ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ» رواه أبو داود] اهـ.

ومما تقدم يتبين أن السنة المتبعة على سبيل الاستحباب في بدء الصف خلف الإمام أن يكون ذلك بإزاء الإمام من خلفه بحيث يتوسط الإمام جهة الصف، فمِن نقطة الوسط الموازية له تبدأ الصفوف، وسد فُرَجِ الصفوف عن ميامن الإمام أولى مِن مَيَاسِرِهِ، وفي حالة عدم اكتمال الصف يكون الأولى ترحيل هذا النقص إلى الصف الأخير.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;