.قد يحدث أحيانًا في صلاة الجماعة انقطاع الصوت لسبب أو لآخر؛ كانقطاع الكهرباء عن ماكينة تكبير الصوت؛ فيختفي صوت الإمام، ولا يكون هناك وسيلة للوقوف على حاله من قبل المأمومين.
وهذه المسألة قد تكلم عليها الفقهاء في مبحث "صلاة الجماعة"؛ حيث يذكرون شروط صحة الاقتداء بين الإمام والمأموم.
والحكم في مسألة الاقتداء: أنه يجوز للمأموم الاقتداء بالإمام إن كان يراه أو يرى بعض المأمومين، أو كان يسمع الإمام أو المبلغ عنه، أو وجد الأمران معًا.
فإن انقطع الأمران عن المأموم، فلا يجوز الائتمام حينئذ؛ لتعذر العلم بحال الإمام على المأموم، فعليه أن ينوي المفارقة، ويتم ما تبقى له من صلاته.
والدليل على جواز الائتمام بعلم بعض صلاة الإمام ما ورد عَنْ السيدة عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فِي حُجْرَتِهِ، وَجِدَارُ الحُجْرَةِ قَصِيرٌ، فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ، فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، فَأَصْبَحُوا فَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ، فَقَامَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ، فَقَامَ مَعَهُ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، صَنَعُوا ذَلِكَ لَيْلَتَيْنِ -أَوْ ثَلَاثًا- حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ فَلَمْ يَخْرُجْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ فَقَالَ: «إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ» أخرجه البخاري.
ووجه الدلالة: أن هؤلاء الصحابة لم يشاهدوا صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كاملة، وإنما كانوا يشاهدون بعضها، ومع ذلك أقرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فعلهم.
وكذلك ورد في بعض الآثار عن طائفة من السلف ما يدل على ذلك؛ قال الإمام أحمد البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (4/ 190، ط. جامعة الدراسات الإسلامية، كراتشي): [أخبرنا أبو زكريا وأبو بكر وأبو سعيد قالوا: حدثنا أبو العباس قال: أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا ابن أبي يحيى، عن صالح مولى التوأمة قال: "رأيت أبا هريرة رضي الله عنه يصلي فوق ظهر المسجد وحده بصلاة الإمام".
وفي رواية أبي سعيد في (كتاب الإمامة) قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد -وهو ابن أبي يحيى- قال: حدثني صالح مولى التوأمة: "أنه رأى أبا هريرة رضي الله عنه يصلي فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام في المسجد".
قال أحمد -وهو البيهقي-: تابعه ابن أبي ذئب، عن صالح. قال الشافعي في رواية أبي سعيد: "ورأيت من المؤذنين من يصلي بصلاة الإمام وهو فوق ظهر المسجد؛ فسألت عن ذلك مسلم بن خالد فقال: هو مجزئ عنهم، ولو صلوا في الأرض كان أحب إلي"؛ قال الشافعي: وكان ابن عباس رضي الله عنهما لا يرى بأسًا أن يصلي في رحبة المسجد والبلاط بصلاة الإمام] اهـ.
وأما دليل جواز قطع الائتمام وإكمال الصلاة: فهو ما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما "أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمُ الصَّلاَةَ، فَقَرَأَ بِهِمُ البَقَرَةَ، قَالَ: فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلاَةً خَفِيفَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا رضي الله عنه، فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ؛ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا، وَنَسْقِي بِنَوَاضِحِنَا، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا البَارِحَةَ، فَقَرَأَ البَقَرَةَ، فَتَجَوَّزْتُ، فَزَعَمَ أَنِّي مُنَافِقٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ -ثَلاَثًا-، اقْرَأْ: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾، وَ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾، وَنَحْوَهَا» أخرجه البخاري -واللفظ له- ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (2/ 194، ط. دار المعرفة): [وسائر الروايات تدل على أنه قطع القدوة فقط ولم يخرج من الصلاة، بل استمر فيها منفردًا، قال الرافعي في "شرح المسند" في الكلام على رواية الشافعي عن ابن عيينة في هذا الحديث: فتنحى رجل من خلفه فصلى وحده، هذا يحتمل من جهة اللفظ أنه قطع الصلاة وتنحى عن موضع صلاته واستأنفها لنفسه، لكنه غير محمول عليه؛ لأن الفرض لا يقطع بعد الشروع فيه. انتهى؛ ولهذا استدل به الشافعية على أن للمأموم أن يقطع القدوة ويتم صلاته منفردًا] اهـ.
وبنحو ما قلنا صرحت طوائف من أهل العلم في الجملة؛ قال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج" (1/ 494، ط. دار الكتب العلمية): [(و) الثاني من شروط الاقتداء: أنه (يشترط علمه)، أي: المأموم (بانتقالات الإمام)؛ ليتمكن من متابعته، (بأن يراه) المأموم (أو) يرى (بعض صف، أو يسمعه، أو مبلغًا)، وإن لم يكن مصليًا، وإن كان كلام الشيخ أبي محمد في "الفروق" يقتضي اشتراط كونه مصليًا، ويشترط أن يكون ثقة كما صرح به ابن الأستاذ في "شرح الوسيط" والشيخ أبو محمد في "الفروق"، وإن ذكر في "المجموع" في باب الأذان أن الجمهور قالوا: يقبل خبر الصبي فيما طريقه المشاهدة، أو بأن يهديه ثقة إذا كان أعمى أو أصم أو بصيرًا في ظلمة أو نحوها] اهـ.
وقال الشيخ الدردير في "الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي" (1/ 336، ط. دار الفكر): [(و) جاز (اقتداء ذوي سفن) متقاربة ولو سائرة (بإمام) واحد يسمعون تكبيره أو يرون أفعاله أو من يسمع عنده، ويستحب أن يكون في التي تلي القبلة، (و) جاز (فصل مأموم) عن إمامه (بنهر صغير) لا يمنع من سماع الإمام أو مأمومه أو رؤية فعل أحدهما (أو طريق)] اهـ.
وقال العلامة ابن قدامة في "المغني" (2/ 171، ط. مكتبة القاهرة): [وإن أحرم مأمومًا، ثم نوى مفارقة الإمام وإتمامها منفردًا لعذر جاز؛ لما روى جابر رضي الله عنه قال: كان معاذ رضي الله عنه يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة العشاء، ثم يرجع إلى قومه فيؤمهم، فأخر النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة العشاء؛ فصلى معه، ثم رجع إلى قومه فقرأ سورة البقرة؛ فتأخر رجل فصلى وحده، فقيل له: نافقت يا فلان. قال: ما نافقت، ولكن لآتين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له ذلك؛ فقال: «أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ» مرتين، «اقْرَأْ بِسُورَةِ كَذَا وَسُورَةِ كَذَا»، قال: «وَسُورَةَ ﴿ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾، ﴿وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى﴾، ﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ﴾، وَ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾» متفق عليه، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرجل بالإعادة، ولا أنكر عليه فعله، والأعذار التي يخرج لأجلها، مثل: المشقة بتطويل الإمام، أو المرض، أو خشية غلبة النعاس، أو شيء يفسد صلاته، أو خوف فوات مال أو تلفه، أو فوت رفقته، أو من يخرج من الصف لا يجد من يقف معه، وأشباه هذا، وإن فعل ذلك لغير عذر ففيه روايتان: إحداهما: تفسد صلاته؛ لأنه ترك متابعة إمامه لغير عذر، أشبه ما لو تركها من غير نية المفارقة.
والثانية: تصح؛ لأنه لو نوى المنفرد كونه مأمومًا لصح في رواية، فنية الانفراد أولى، فإن المأموم قد يصير منفردًا بغير نية، وهو المسبوق إذا سلم إمامه، وغيره لا يصير مأمومًا بغير نية بحال] اهـ.
وكذلك يمكن قياس هذه المسألة على نظائر لها في باب الإمامة، منها إذا أحدث الإمام فإن للمأمومين أن يكملوا فرادى إن لم يكن هناك استخلاف، والجامع بينهما هو تعذر الائتمام.
قال الإمام البهوتي في "كشاف القناع عن متن الإقناع" (1/ 322، ط. دار الكتب العلمية): [(فإن لم يستخلف الإمام) الذي سبقه الحدث (وصلوا) أي: المأمومون (وحدانا) بكسر الواو أي: فرادى (صح) ما صلوه، (وكذا إن استخلفوا) لأنفسهم من يتم بهم الصلاة؛ فيصح كما لو استخلفه الإمام)] اهـ.
وفي "شرح مختصر خليل" للعلامة الخرشي (2/ 36، ط. دار الفكر): [(ص) واقتداء ذوي سفن بإمام. (ش) يريد أنه يجوز لأهل السفن المتقاربة أن يقتدوا بإمام واحد إن كانوا بحيث يسمعون تكبيره ويرون أفعاله، وسواء كانوا في المرسى أو سائرين، على المشهور؛ لأن الأصل السلامة من طرو ما يفرقهم من ريح أو غيره، فلو فرقهم الريح استخلفوا، وإن شاءوا صلوا وحدانا، فلو اجتمعوا بعد ذلك رجعوا لإمامهم إلا أن يكونوا عملوا لأنفسهم عملًا فلا يرجعوا إليه ولا يلغو ما عملوا، بخلاف مسبوق ظن فراغ إمامه فقام للقضاء؛ فتبين خطأ ظنه فإنه يرجع ويلغي ما فعله في صلب الإمام، فلو استخلفوا ولم يعملوا عملًا فلا يرجعوا أيضًا، وقد خرجوا من إمامته؛ لأنهم لا يأمنون التفريق ثانيًا، قاله عبد الحق] اهـ.
ويقول الشيخ العدوي في "الحاشية" عليه (2/ 36): [قوله: (إلا أن يكونوا عملوا لأنفسهم) أي: كركوع لا كقراءة، فهم على مأموميتهم فيتبعونه وجوبًا، وإن كان هو قد عمل بعدهم عملًا، ويجتمع لهم حينئذ البناء والقضاء، والحاصل -كما كتبه بعض شيوخنا- أنهم إذا عملوا عملًا، أو استخلفوا وإن لم يعملوا شيئًا؛ لا يرجعون إليه، وإن رجعوا بطلت صلاتهم، وإن لم يعملوا شيئًا ولم يستخلفوا وجب رجوعهم إليه، وإن لم يرجعوا بطلت صلاتهم] اهـ.
ومما تقدم يُعلَم أنه يصح للمأموم الاقتداء بالإمام إن كان يراه أو يرى بعض المأمومين الذين لا يلتبس عليهم حال الإمام، أو كان يسمع الإمام أو المبلغ عنه، وإلا فلو انقطع الأمران عن المأموم فلا يجوز الائتمام حينئذ؛ لتعذر العلم بحال الإمام، وعلى المأموم في هذه الحالة أن ينوي المفارقة ويتم ما تبقى له من صلاته.
والله سبحانه وتعالى أعلم.