قراءة القرآن في الركوع والسجود

ما توجيه حديث قراءة القرآن في الركوع والسجود وتعارضه مع النهي عن ذلك، وإشكالية عمل العلماء به؟

الحديث المسؤول عنه أخرجه الإمام البيهقي في "الدعوات الكبير" (2/ 18، ط. غراس للنشر والتوزيع، الكويت): [أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ مِنْ أَصْلِهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا عَامِرُ بْنُ خِدَاشٍ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ: «تُصَلِّي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ تَشَهَّدُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا جَلَسْتَ فِي آخِرِ صَلَاتِكَ فَأَثْنِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ كَبِّرْ وَاسْجُدْ، وَاقْرَأْ وَأَنْتَ سَاجِدٌ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكُ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِمَعَاقَدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِكَ، وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ مِنْ كِتَابِكَ، وَاسْمِكَ الْأَعْظَمِ، وَجَدِّكَ الْأَعْلَى، وَكَلِمَاتِكَ التَّامَّةِ، ثُمَّ تَسْأَلُ بَعْدُ حَاجَتَكَ، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ فَسَلِّمْ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ، وَاتَّقِ السُّفَهَاءَ أَنْ تُعَلِّمُوهَا فَيَدْعُونَ رَبَّهُمْ فَيُسْتَجَابَ لَهُمْ»] اهـ.
وأخرجه أبو القاسم إسماعيل بن محمد الملقب بقوام السنة في "الترغيب والترهيب" (3/ 34، ط. دار الحديث، القاهرة): [أخبرنا أحمد بن علي بن خلف، أنبأنا الحاكم أبو عبد الله، أنبأنا محمد بن القاسم بن عبد الرحمن العتكي، حدثنا محمد بن أشرس السلمي، حدثنا عامر بن خداش النيسابوري، حدثنا عمر بن هارون البلخي عن ابن جريج، عن داود بن أبي عاصم، عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اثنَتَا عَشْرة ركعة تصَلّيهنّ مِن ليلٍ أو نهار، وتشهد بين كل ركعتين فإذا تشهدت في آخر صلاتك فأثن على الله عز وجل، وصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واقرأ وأنت ساجد فاتحة الكتاب سبع مرات، وآية الكرسي سبع مرات، وقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير عشر مرات، ثم قل: اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، واسمك الأعظم وحدك وكلماتك التامة، ثم سل حاجتك، ثم ارفع رأسك، ثم سلم يمينًا وشمالًا، ولا تعلموها السفهاء؛ فإنهم يدعون بها فيستجاب».
قال الحاكم: وحدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري قال: حدثني إبراهيم بن علي الذهلي قال: حدثني أحمد بن حرب وكتبه لي بخطه، حدثنا عامر بن خداش فذكره بنحوه. وقال أحمد بن حرب: قد جربته فوجدته حقًا. وقال إبراهيم بن علي الذهلي: قد جربته فوجدته حقًا. وقال الحاكم: وقال لنا أبو زكريا: قد جربته فوجدته حقًا. قال الحاكم: قد جربته فوجدته حقًّا. قال الحاكم: تفرد به عامر بن خداش وهو ثقة مأمون] اهـ.
والحديث من نفس طريق البيهقي، لكن فيه زيادة التجربة بالعمل بالحديث؛ ومن أجل ذلك تذكر هذه الطريق في كتب التخريج. وليس هذا الحديث في "مستدرك الحاكم"، ولم نجد أحدًا خرجه من الحفاظ وعزاه إليه.
وقد انتقد بعض المحدثين هذا الحديث سندًا ومتنًا، فقد أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 142، ط. المكتبة السلفية، المدينة المنورة) من طريق الحاكم به، وقال: [هذا حديث موضوع بلا شك، وإسناده كما ترى، وفي إسناده عمر بن هارون، قال يحيى: كذاب. وقال ابن حبان: يروي عن الثقاة المعضلات ويدعي شيوخًا لم يرهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم النهى عن القراءة في السجود] اهـ.
وقد حاول الإمام السيوطي تخفيف الحكم بالوضع؛ فقال في "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" (2/ 57، ط. دار الكتب العلمية): [قلت: عمر روى له الترمذي وابن ماجه، وقال في "الميزان": كان من أوعية العلم على ضعفه وكثرة مناكيره، وما أظنه ممن يتعمد الباطل، انتهى. ووجدت للحديث طريقًا آخر، قال ابن عساكر: قرأت بخط أبي الفتيان عمر بن عبد الكريم الدهستاني، أنبأنا أبو الرضا الحسن بن الحسين بن جعفر بن أحمد بن داود بن المطهر التنوخي، أخبرتنا آمنة بنت الحسن بن إسحاق بن بلبل، حدثنا أبي القاضي أبو سعيد الحسن، حدثنا أبو عبيد الله محمد بن شيبة الوليد بن سعيد بن خالد بن يزيد بن تميم بن مالك، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثنا عبد الكريم بن يزيد الغساني عن أبي الحارث الحسين، عن أبيه الحسن بن يحيى الخشني، عن ابن جريج عن ابن رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن صَلَّى بَعدَ المَغْرِبِ اثنَتي عَشرةَ رَكْعَة؛ قَرَأ في السَّجْدَتَينِ بفَاتِحَةِ الكِتَابِ سَبعَ مَرَّاتٍ، و﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ وبآية الكُرْسِي سَبعَ مَرَّاتٍ وتقول: لَا إِلَهَ إلا الله وَحْدَهُ لا شَريكَ له الملكُ ولهُ الحَمْدُ بيَدِهِ الخيرُ وهُو عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ عَشرَ مَرَّاتٍ، ثمَّ سَجَدَ آخر سَجدةٍ لهُ فيقُولُ فِي سُجُودِهِ بعدَ تسْبِيحِهِ: الّلهُمّ إنّي أسْألُكَ بمعَاقد العزّ مِن عَرْشِكَ ومُنتَهَى الرَّحمَة مِن كِتَابكَ وباسْمِكَ العَظِيم وبحمْدِكَ الأعْظَم وكَلمَاتكَ التَّامة، ثمَّ يسألُ الله لَو كَانَ عليه مِن الذنُوب عَددَ رملِ عاَلج وأيَّام الدُّنيا لغَفَر اللهُ لهُ، لا تُعلِّمُوها سُفَهَاءكُم فيَدعُونَ بها لأمرٍ باطلٍ فيُسْتَجَابُ لهُم» والله أعلم] اهـ.
ولم يتكلم الإمام السيوطي على إسناد هذا الشاهد -وهو في "تاريخ دمشق" (36/ 471، ط. دار الفكر)- ولكن ابن عراق تكلم عليه وزاد فوائد، قال ابن عراق: وفيه الحسن بن يحيى الخشني، قال الذهبي في "المغني": تركوه، وقال في "الكاشف": وهاه جماعة، وقال دحيم وغيره: لا بأس به. وذكره الحافظ شمس الدين ابن الجزري في كتابه "الحصن الحصين" من رواية البيهقي ثم قال: قال البيهقي: إنه قد جرب فوجد سببًا لقضاء الحاجة قال: ورويناه في كتاب "الدعاء" للواحدي، وفي سنده غير واحد من أهل العلم، وذكر أنه قد جربه فوجده كذلك، قال: وأنا قد جربته فوجدته كذلك على أن في سنده من لا أعرفه، انتهى. ورواه الديلمي في "مسند الفردوس" مسلسلًا، يقول: كل من رواته جربته فوجدته حقًّا إلى ابن مسعود رضي الله عنه. وقال الديلمي: وأنا جربته فوجدته حقًّا. وقال العراقي في "شرح الترمذي" في الكلام على إسناد هذا الحديث وبيان ضعفه: وداود بن أبي عاصم لم يدرك ابن مسعود رضي الله عنه ولا يعرف له عنه رواية، والظاهر أن ذكر ابن مسعود رضي الله عنه فيه وهم من بعض رواته، وإنما هو عن داود بن أبي عاصم عن عروة بن مسعود مرسلًا، فجعَل بعضُ رواته مكانَ عروة عبدَ الله فوقع الوهم، ومع ذلك فهو شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة في نهيه عن القراءة في الركوع والسجود. انتهى. ينظر: "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة" (2/ 112، ط. دار الكتب العلمية).
والخلاصة في هذا الحديث أنه لا يصح من ناحية إسناده، وقد تكلم في نكارة متنه أيضًا لمخالفته النهي عن القراءة في الركوع والسجود، وهو ما ورد في "صحيح مسلم" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كشف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر، فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ؛ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ، أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ»، ومن حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، قال: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أقرأ راكعًا أو ساجدًا".
قال الإمام النووي في "شرح النووي على صحيح مسلم" (4/ 197، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» وفي حديث علي رضي الله عنه: «نَهَانِي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أَقْرَأَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا» فيه النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، وإنما وظيفة الركوع التسبيح ووظيفة السجود التسبيح والدعاء، فلو قرأ في ركوع أو سجود غير الفاتحة كره ولم تبطل صلاته، وإن قرأ الفاتحة ففيه وجهان لأصحابنا أصحهما أنه كغير الفاتحة فيكره، ولا تبطل صلاته، والثاني يحرم وتبطل صلاته، هذا إذا كان عمدًا فإن قرأ سهوًا لم يكره، وسواء قرأ عمدًا أو سهوًا يسجد للسهو عند الشافعي رحمه الله تعالى، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ» أي سبحوه ونزهوه ومجدوه، وقد ذكر مسلم بعد هذا الأذكارَ التي تقال في الركوع والسجود] اهـ.
وقال الملا علي القاري في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (2/ 711، ط. دار الفكر): [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ألا» كلمة تنبيه «إني نهيت» أي: في كراهة تنزيه لا تحريم؛ قاله ابن الملك. وقال ابن حجر: وعليه أكثر العلماء، وقيل: تحريمًا، وهو القياس، «أن أقرأ القرآن» أي: عن قراءته «راكعًا أو ساجدًا» أي: في هذين الحالين، قال الخطابي: لما كان الركوع والسجود، وهما غاية الذل والخضوع مخصوصين بالذكر والتسبيح، نهى عليه السلام عن القراءة فيهما، كأنه كره أن يجمع بين كلام الله تعالى وكلام الخلق في موضع واحد، فيكونان سواءً، ذكره الطيبي، وفيه أنه ينتقض بالجمع بينهما في حال القيام. وقال ابن الملك: وكأن حكمته أن أفضل أركان الصلاة القيام، وأفضل الأذكار القرآن، فجعل الأفضل للأفضل، ونهي عن جعله في غيره لئلا يوهم استواءه مع بقية الأذكار، وقيل: خصت القراءة بالقيام أو القعود عند العجز عنه؛ لأنهما من الأفعال العادية، ولا يتمحضان للعبادة، بخلاف الركوع والسجود؛ لأنهما بذواتهما يخالفان العادة ويدلان على الخضوع والعبادة، ويمكن أن يقال: إن الركوع والسجود حالان دالان على الذل ويناسبهما الدعاء والتسبيح، فنهي عن القراءة فيهما تعظيمًا للقرآن الكريم، وتكريمًا لقارئه القائم مقام الكليم، والله بكل شيء عليم. قال القاضي: نهي اللهِ تعالى رسولَه يدل على عدم جواز القراءة في الركوع والسجود، لكن لو قرأ لم تبطل صلاته، إلا إذا كان المقروء الفاتحة، فإن فيها خلافًا، يعني: عند الشافعية؛ لأنه زاد ركنًا، لكن لم يتغير به نظم صلاته] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (5/ 338، ط. دار الكتب العلمية): [وفي نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن قراءة القرآن في الركوع والسجود دليل على أن القرآن أشرف الكلام؛ إذ هو كلام الله، وحالة الركوع والسجود ذل وانخفاض من العبد، فمن الأدب منع كلام الله أن لا يقرأ في هاتين الحالتين، والانتظار أولى] اهـ.
ومما تقدم يتبين أنه ليس هناك إجماع على بطلان الصلاة في الحالة المذكورة، وأن الجمهور على حمل النهي على الكراهة، بل وهناك من السلف من رخص في القراءة في الركوع والسجود، خاصة في المكتوبة.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه "فتح الباري" (7/ 188-189، ط. مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة النبوية): [ورخصت طائفة في القراءة في الركوع والسجود. روي عن أبي الدرداء أنه كان يقرأ البقرة في سجوده. وعن سليمان بن ربيعة وعبيد بن عمير والمغيرة. وعن النخعي فيمن نسي الآية أو تركها، فذكرها وهو راكع، قال: يقرؤها وهو راكع. وعن المغيرة قال: كانوا يفعلون ذلك.
وسئل عطاء عن القراءة في الركوع والسجود فقال: رأيت عبيد بن عمير يقرأ وهو راكع في المكتوبة. ورخص بعضهم في ذلك في النفل دون الفرض؛ روى سليمان بن موسى عن نافع عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن القراءة في الركوع والسجود في الصلاة المكتوبة، فأما الصلاة في التطوع فلا جناح. خرجه الإسماعيلي، وإسناده منقطع، فإن نافعًا إنما يرويه عن ابن حنين عن أبيه عن علي رضي الله عنه كما سبق. وآخر الحديث لعلّه مدرج من قول بعض الرواة. وسليمان بن موسى مختلف فيه] اهـ.
كما أن التعليل بالمنع الذي قال به بعض العلماء من تنزيه القرآن عن قراءته في حال التذلل والخضوع بالسجود والركوع لا يقطع به، بل هو احتمال، فيمكن اعتباره حكمة لا علة، كما أن هناك من رأى حكمة أخرى غير ما سبق.
قال الإمام الشعراني في "العهود المحمدية" (ص: 55، ط. دار الكتب العلمية): [(أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) أن نصلي صلاة الحاجة؛ إظهارًا للفاقة، والحاجة كالهدية التي يرسلها الإنسان لمن له عنده حاجة قبل أن يجتمع به، وسمعت سيدي عليًّا الخواص رحمه الله يقول: ينبغي فعل صلاة التسبيح قبل صلاة الحاجة؛ لما ورد بأنها تكفر الذنوب كلها، وذلك من أكبر أسباب قضاء الحاجة؛ فإن تأخير قضاء الحوائج إنما يكون بسبب الذنوب في الغالب. وسمعته يقول أيضًا: ينبغي شدة الحضور في أذكار السجدة الأخيرة من صلاة الحاجة التي يسلم بعدها، وعلامة الحضور: أن يحس أن مفاصله كادت تتقطع وعظمه كاد يذوب من هيبة الله تعالى، وهناك ترجى الإجابة، وإيضاح ذلك أن قراءة القرآن على الله تعالى في السجود لا يطيقها أحد؛ لكون العبد في أقرب ما يكون من الله تعالى كما ورد] اهـ.
ويمكن في الإجابة أيضًا أن يكون ما يقرؤه المصلي لا يكون بنية القراءة، بل بنية الذكر، كما في نظائره، وقد تكلم الفقهاء على مثل هذه المسألة في حكمهم على قراءة الجنب للقرآن.
قال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج" (1/ 217، ط. دار الكتب العلمية): [(وتحل) لجنب (أذكاره) وغيرها؛ كمواعظه وأخباره وأحكامه (لا بقصد قرآن) كقوله عند الركوب: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ [الزخرف: 13] أي مطيقين، وعند المصيبة ﴿إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 156] ولا ما جرى به لسانه بلا قصد، فإن قصد القرآن وحده أو مع الذكر حرم، وإن أطلق فلا، كما نبه عليه في "الدقائق"؛ لعدم الإخلال بحرمته؛ لأنه لا يكون قرآنًا إلا بالقصد، قاله المصنف وغيره. وظاهر أن ذلك جار فيما يوجد نظمه في غير القرآن كالآيتين المتقدمتين، والبسملة والحمدلة، وما لا يوجد نظمه إلا فيه كسورة الإخلاص وآية الكرسي وهو كذلك، وإن قال الزركشي: لا شك في تحريم ما لا يوجد نظمه في غير القرآن، وتبعه على ذلك بعض المتأخرين كما شمل ذلك قول "الروضة"، أما إذا قرأ شيئًا منه لا على قصد القرآن فيجوز، ولو عبر المصنف بها هنا كان أولى؛ ليشمل ما قدرته، بل أفتى شيخي بأنه لو قرأ القرآن جميعه لا بقصد القرآن جاز] اهـ.
وليست النكارة فيما سبق فقط، بل قال ابن حجر: وظاهر السياق أنه يسجد بين التشهد والسلام سجدة زائدة يقول فيها ذلك ولا يخفى ما فيه. ينظر: "الدراية في تخريج أحاديث الهداية" (2/ 239).
ولم نجد من رد على هذه الشبهة، ولكن يمكن أن يقال: إن هذا بمنزلة سجدة التلاوة، كما أن الخروج في النفل عن الهيئة المعتادة قد قبل في صلاة التسابيح، فكذا يكون الأمر هنا، أو يحمل على السجدة الأخيرة. والله تعالى أعلم.
وقد حمل الإمام الشوكاني على هذا الحديث واعتبر متنه منكرًا لمخالفته للصحيح، ولكنه زاد في حملته على مسألة الثبوت بالتجربة، قال الإمام الشوكاني في "تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين" (ص: 214، ط. دار القلم، بيروت): [وأقول: السنة لا تثبت بمجرد التجربة، ولا يخرج بها الفاعل للشيء معتقدًا أنه سنة عن كونه مبتدعًا، وقبول الدعاء لا يدل على أن سبب القبول ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد يجيب الله الدعاء من غير توسل بسنة وهو أرحم الراحمين، وقد تكون الاستجابة استدراجًا، ومع هذا ففي هذا الذي يقال إنه حديث مخالفةٌ للسنة المطهرة، فقد ثبت في السنة -ثبوتًا صحيحًا لا شك فيه ولا شبهة- النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، فهذا من أعظم الدلائل على كون هذا المروي موضوعًا، ولا سيما وفي إسناده عمر بن هارون بن يزيد الثقفي البلخي المذكور، فإنه من المتروكين المتهمين وإن كان حافظًا، ولعل ثناء ابن مهدي عليه من جهة حفظه، وكذا تلميذه عامر بن خداش، فلعل هذا من مناكيره التي صار يرويها، والعجب من اعتماد مثل: الحاكم والبيهقي والواحدي ومن بعدهم على التجريب في أمر يعلمون جميعًا أنه مشتمل على خلاف السنة المطهرة وعلى الوقوع في مناهيها] اهـ.
وقال الإمام المنذري في كتابه "الترغيب والترهيب" (1/ 274، ط. دار الكتب العلمية): [أما عامر بن خداش هذا هو النيسابوري، قال شيخنا الحافظ أبو الحسن: كان صاحب مناكير، وقد تفرد به عن عمر بن هارون البلخي، وهو متروك متهم أثنى عليه ابن مهدي وحده فيما أعلم، والاعتماد في مثل هذا على التجربة لا على الإسناد. والله أعلم] اهـ.
والرد على مسألة عدم ثبوت السنة بالتجربة، أنه من باب العمل بالحديث الضعيف، ولنا فتوى في حكم العمل به.
كما أن هناك كثيرًا من الأحاديث نظر المحدثون في متنها وحكموا عليه بالصحة، إذ لا يلزم من ضعف السند ضعف المتن، ومثاله قول ابن القيم: وأما حديث أبي رزين الذي أشار إليه البخاري فهو حديثه الطويل، ونحن نسوقه بطوله نجمل به كتابنا، فعليه من الجلالة والمهابة ونور النبوة ما ينادي على صحته. ينظر: "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" (ص: 243، ط. مطبعة المدني، القاهرة).
وهناك أبواب أخرى صرح فيها العلماء بمسألة التجربة، مما يؤيد ما صرحت به طائفة المحدثين السابقين.
قال العلامة ابن القيم في "زاد المعاد في هدي خير العباد" (2/ 370، ط. مؤسسة الرسالة): [وروي عنه أنه قال: «أَذِيبُوا طَعَامَكُمْ بِذِكْرِ اللهِ عز وجل وَالصَّلَاةِ، وَلَا تَنَامُوا عَلَيْهِ فَتَقْسُوَا قُلُوبُكُمْ»، وأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحًا، والواقع في التجربة يشهد به] اهـ.
وقال الإمام البيهقي في "الآداب" (ص: 269، ط. مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت): [أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس هو الأصم، حدثنا عبد الملك بن عبد الحميد، حدثنا روح، حدثنا أسامة بن زيد، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إن لله ملائكةً في الأرض يكتبون ما يقع في الأرض من ورق الشجر، فإن أصابت أحدًا منكم عرجة أو احتاج إلى عون بفلاة من الأرض فليقل: أعينوا عباد الله رحمكم الله، فإنه يعان إن شاء الله". هذا موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما، مستعمل عند الصالحين من أهل العلم؛ لوجود صدقه عندهم فيما جربوا. وبالله التوفيق] اهـ.
وقال الإمام السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 568، ط. دار الكتاب العربي، بيروت) في تخريج حديث «مَاءُ زَمْزَمَ، لِمَا شُرِبَ لَهُ»: [بل قال شيخنا -يعني ابن حجر-: إنه حسن مع كونه موقوفًا، وأفرد فيه جزءًا، واستشهد له في موضع آخر بحديث أبي ذر رضي الله عنه رفعه: «إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ»، وأصله في "مسلم"، وهذا اللفظ عند الطيالسي قال: ومرتبة هذا الحديث أنه باجتماع هذه الطرق يصلح للاحتجاج به، وقد جربه جماعة من الكبار فذكروا أنه صح، بل صححه من المتقدمين ابن عيينة، ومن المتأخرين الدمياطي في جزء جمعه فيه، والمنذري، وضعفه النووي] اهـ.
وقال الإمام ابن عابدين في "حاشية ابن عابدين" (4/ 286، ط. دار الفكر): [فائدة: ذكر ابن حجر في "حاشية الإيضاح" عن بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم ما نصه: إذا ضاع منك شيء فقل: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، اجمع بيني وبين كذا، ويسميه باسمه، فإنه مجرب. قال الإمام النووي: وقد جربته فوجدته نافعًا لوجود الضالة عن قرب غالبًا. ونقل عن بعض مشايخه مثل ذلك اهـ. والله سبحانه أعلم] اهـ.
فهذه طائفة من أهل العلم صرحت بالعمل بالتجربة فيما ورد من الأحاديث التي لم تصح من ناحية السند.
ومما تقدم يتبين ضعف طرق الحديث الدال على مشروعية قراءة القرآن الكريم في الركوع والسجود، وتعارض متنه ومعناه مع ما هو أقوى وأثبت منه من الأحاديث الدالة على النهي عن ذلك، ومع ذلك فقد ذهب طائفة من أهل العلم إلى مشروعية هذا العمل في الصلاة المكتوبة وفي الصلاة النافلة، إلا أن الراجح في هذا هو عدم المشروعية، ولا يلزم من هذا بطلان صلاة من فعل ذلك كما ذهب إليه الجمهور من حمل النهي على الكراهة، ولا ينكر على من فعل هذه الصلاة مقلدًا من جوزها من أهل العلم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

الحديث المسؤول عنه أخرجه الإمام البيهقي في "الدعوات الكبير" (2/ 18، ط. غراس للنشر والتوزيع، الكويت): [أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ مِنْ أَصْلِهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا عَامِرُ بْنُ خِدَاشٍ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ: «تُصَلِّي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ تَشَهَّدُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا جَلَسْتَ فِي آخِرِ صَلَاتِكَ فَأَثْنِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ كَبِّرْ وَاسْجُدْ، وَاقْرَأْ وَأَنْتَ سَاجِدٌ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكُ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِمَعَاقَدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِكَ، وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ مِنْ كِتَابِكَ، وَاسْمِكَ الْأَعْظَمِ، وَجَدِّكَ الْأَعْلَى، وَكَلِمَاتِكَ التَّامَّةِ، ثُمَّ تَسْأَلُ بَعْدُ حَاجَتَكَ، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ فَسَلِّمْ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ، وَاتَّقِ السُّفَهَاءَ أَنْ تُعَلِّمُوهَا فَيَدْعُونَ رَبَّهُمْ فَيُسْتَجَابَ لَهُمْ»] اهـ.
وأخرجه أبو القاسم إسماعيل بن محمد الملقب بقوام السنة في "الترغيب والترهيب" (3/ 34، ط. دار الحديث، القاهرة): [أخبرنا أحمد بن علي بن خلف، أنبأنا الحاكم أبو عبد الله، أنبأنا محمد بن القاسم بن عبد الرحمن العتكي، حدثنا محمد بن أشرس السلمي، حدثنا عامر بن خداش النيسابوري، حدثنا عمر بن هارون البلخي عن ابن جريج، عن داود بن أبي عاصم، عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اثنَتَا عَشْرة ركعة تصَلّيهنّ مِن ليلٍ أو نهار، وتشهد بين كل ركعتين فإذا تشهدت في آخر صلاتك فأثن على الله عز وجل، وصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واقرأ وأنت ساجد فاتحة الكتاب سبع مرات، وآية الكرسي سبع مرات، وقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير عشر مرات، ثم قل: اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، واسمك الأعظم وحدك وكلماتك التامة، ثم سل حاجتك، ثم ارفع رأسك، ثم سلم يمينًا وشمالًا، ولا تعلموها السفهاء؛ فإنهم يدعون بها فيستجاب».
قال الحاكم: وحدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري قال: حدثني إبراهيم بن علي الذهلي قال: حدثني أحمد بن حرب وكتبه لي بخطه، حدثنا عامر بن خداش فذكره بنحوه. وقال أحمد بن حرب: قد جربته فوجدته حقًا. وقال إبراهيم بن علي الذهلي: قد جربته فوجدته حقًا. وقال الحاكم: وقال لنا أبو زكريا: قد جربته فوجدته حقًا. قال الحاكم: قد جربته فوجدته حقًّا. قال الحاكم: تفرد به عامر بن خداش وهو ثقة مأمون] اهـ.
والحديث من نفس طريق البيهقي، لكن فيه زيادة التجربة بالعمل بالحديث؛ ومن أجل ذلك تذكر هذه الطريق في كتب التخريج. وليس هذا الحديث في "مستدرك الحاكم"، ولم نجد أحدًا خرجه من الحفاظ وعزاه إليه.
وقد انتقد بعض المحدثين هذا الحديث سندًا ومتنًا، فقد أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 142، ط. المكتبة السلفية، المدينة المنورة) من طريق الحاكم به، وقال: [هذا حديث موضوع بلا شك، وإسناده كما ترى، وفي إسناده عمر بن هارون، قال يحيى: كذاب. وقال ابن حبان: يروي عن الثقاة المعضلات ويدعي شيوخًا لم يرهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم النهى عن القراءة في السجود] اهـ.
وقد حاول الإمام السيوطي تخفيف الحكم بالوضع؛ فقال في "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" (2/ 57، ط. دار الكتب العلمية): [قلت: عمر روى له الترمذي وابن ماجه، وقال في "الميزان": كان من أوعية العلم على ضعفه وكثرة مناكيره، وما أظنه ممن يتعمد الباطل، انتهى. ووجدت للحديث طريقًا آخر، قال ابن عساكر: قرأت بخط أبي الفتيان عمر بن عبد الكريم الدهستاني، أنبأنا أبو الرضا الحسن بن الحسين بن جعفر بن أحمد بن داود بن المطهر التنوخي، أخبرتنا آمنة بنت الحسن بن إسحاق بن بلبل، حدثنا أبي القاضي أبو سعيد الحسن، حدثنا أبو عبيد الله محمد بن شيبة الوليد بن سعيد بن خالد بن يزيد بن تميم بن مالك، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثنا عبد الكريم بن يزيد الغساني عن أبي الحارث الحسين، عن أبيه الحسن بن يحيى الخشني، عن ابن جريج عن ابن رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن صَلَّى بَعدَ المَغْرِبِ اثنَتي عَشرةَ رَكْعَة؛ قَرَأ في السَّجْدَتَينِ بفَاتِحَةِ الكِتَابِ سَبعَ مَرَّاتٍ، و﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ وبآية الكُرْسِي سَبعَ مَرَّاتٍ وتقول: لَا إِلَهَ إلا الله وَحْدَهُ لا شَريكَ له الملكُ ولهُ الحَمْدُ بيَدِهِ الخيرُ وهُو عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ عَشرَ مَرَّاتٍ، ثمَّ سَجَدَ آخر سَجدةٍ لهُ فيقُولُ فِي سُجُودِهِ بعدَ تسْبِيحِهِ: الّلهُمّ إنّي أسْألُكَ بمعَاقد العزّ مِن عَرْشِكَ ومُنتَهَى الرَّحمَة مِن كِتَابكَ وباسْمِكَ العَظِيم وبحمْدِكَ الأعْظَم وكَلمَاتكَ التَّامة، ثمَّ يسألُ الله لَو كَانَ عليه مِن الذنُوب عَددَ رملِ عاَلج وأيَّام الدُّنيا لغَفَر اللهُ لهُ، لا تُعلِّمُوها سُفَهَاءكُم فيَدعُونَ بها لأمرٍ باطلٍ فيُسْتَجَابُ لهُم» والله أعلم] اهـ.
ولم يتكلم الإمام السيوطي على إسناد هذا الشاهد -وهو في "تاريخ دمشق" (36/ 471، ط. دار الفكر)- ولكن ابن عراق تكلم عليه وزاد فوائد، قال ابن عراق: وفيه الحسن بن يحيى الخشني، قال الذهبي في "المغني": تركوه، وقال في "الكاشف": وهاه جماعة، وقال دحيم وغيره: لا بأس به. وذكره الحافظ شمس الدين ابن الجزري في كتابه "الحصن الحصين" من رواية البيهقي ثم قال: قال البيهقي: إنه قد جرب فوجد سببًا لقضاء الحاجة قال: ورويناه في كتاب "الدعاء" للواحدي، وفي سنده غير واحد من أهل العلم، وذكر أنه قد جربه فوجده كذلك، قال: وأنا قد جربته فوجدته كذلك على أن في سنده من لا أعرفه، انتهى. ورواه الديلمي في "مسند الفردوس" مسلسلًا، يقول: كل من رواته جربته فوجدته حقًّا إلى ابن مسعود رضي الله عنه. وقال الديلمي: وأنا جربته فوجدته حقًّا. وقال العراقي في "شرح الترمذي" في الكلام على إسناد هذا الحديث وبيان ضعفه: وداود بن أبي عاصم لم يدرك ابن مسعود رضي الله عنه ولا يعرف له عنه رواية، والظاهر أن ذكر ابن مسعود رضي الله عنه فيه وهم من بعض رواته، وإنما هو عن داود بن أبي عاصم عن عروة بن مسعود مرسلًا، فجعَل بعضُ رواته مكانَ عروة عبدَ الله فوقع الوهم، ومع ذلك فهو شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة في نهيه عن القراءة في الركوع والسجود. انتهى. ينظر: "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة" (2/ 112، ط. دار الكتب العلمية).
والخلاصة في هذا الحديث أنه لا يصح من ناحية إسناده، وقد تكلم في نكارة متنه أيضًا لمخالفته النهي عن القراءة في الركوع والسجود، وهو ما ورد في "صحيح مسلم" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كشف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر، فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ؛ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ، أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ»، ومن حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، قال: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أقرأ راكعًا أو ساجدًا".
قال الإمام النووي في "شرح النووي على صحيح مسلم" (4/ 197، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» وفي حديث علي رضي الله عنه: «نَهَانِي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أَقْرَأَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا» فيه النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، وإنما وظيفة الركوع التسبيح ووظيفة السجود التسبيح والدعاء، فلو قرأ في ركوع أو سجود غير الفاتحة كره ولم تبطل صلاته، وإن قرأ الفاتحة ففيه وجهان لأصحابنا أصحهما أنه كغير الفاتحة فيكره، ولا تبطل صلاته، والثاني يحرم وتبطل صلاته، هذا إذا كان عمدًا فإن قرأ سهوًا لم يكره، وسواء قرأ عمدًا أو سهوًا يسجد للسهو عند الشافعي رحمه الله تعالى، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ» أي سبحوه ونزهوه ومجدوه، وقد ذكر مسلم بعد هذا الأذكارَ التي تقال في الركوع والسجود] اهـ.
وقال الملا علي القاري في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (2/ 711، ط. دار الفكر): [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ألا» كلمة تنبيه «إني نهيت» أي: في كراهة تنزيه لا تحريم؛ قاله ابن الملك. وقال ابن حجر: وعليه أكثر العلماء، وقيل: تحريمًا، وهو القياس، «أن أقرأ القرآن» أي: عن قراءته «راكعًا أو ساجدًا» أي: في هذين الحالين، قال الخطابي: لما كان الركوع والسجود، وهما غاية الذل والخضوع مخصوصين بالذكر والتسبيح، نهى عليه السلام عن القراءة فيهما، كأنه كره أن يجمع بين كلام الله تعالى وكلام الخلق في موضع واحد، فيكونان سواءً، ذكره الطيبي، وفيه أنه ينتقض بالجمع بينهما في حال القيام. وقال ابن الملك: وكأن حكمته أن أفضل أركان الصلاة القيام، وأفضل الأذكار القرآن، فجعل الأفضل للأفضل، ونهي عن جعله في غيره لئلا يوهم استواءه مع بقية الأذكار، وقيل: خصت القراءة بالقيام أو القعود عند العجز عنه؛ لأنهما من الأفعال العادية، ولا يتمحضان للعبادة، بخلاف الركوع والسجود؛ لأنهما بذواتهما يخالفان العادة ويدلان على الخضوع والعبادة، ويمكن أن يقال: إن الركوع والسجود حالان دالان على الذل ويناسبهما الدعاء والتسبيح، فنهي عن القراءة فيهما تعظيمًا للقرآن الكريم، وتكريمًا لقارئه القائم مقام الكليم، والله بكل شيء عليم. قال القاضي: نهي اللهِ تعالى رسولَه يدل على عدم جواز القراءة في الركوع والسجود، لكن لو قرأ لم تبطل صلاته، إلا إذا كان المقروء الفاتحة، فإن فيها خلافًا، يعني: عند الشافعية؛ لأنه زاد ركنًا، لكن لم يتغير به نظم صلاته] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (5/ 338، ط. دار الكتب العلمية): [وفي نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن قراءة القرآن في الركوع والسجود دليل على أن القرآن أشرف الكلام؛ إذ هو كلام الله، وحالة الركوع والسجود ذل وانخفاض من العبد، فمن الأدب منع كلام الله أن لا يقرأ في هاتين الحالتين، والانتظار أولى] اهـ.
ومما تقدم يتبين أنه ليس هناك إجماع على بطلان الصلاة في الحالة المذكورة، وأن الجمهور على حمل النهي على الكراهة، بل وهناك من السلف من رخص في القراءة في الركوع والسجود، خاصة في المكتوبة.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه "فتح الباري" (7/ 188-189، ط. مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة النبوية): [ورخصت طائفة في القراءة في الركوع والسجود. روي عن أبي الدرداء أنه كان يقرأ البقرة في سجوده. وعن سليمان بن ربيعة وعبيد بن عمير والمغيرة. وعن النخعي فيمن نسي الآية أو تركها، فذكرها وهو راكع، قال: يقرؤها وهو راكع. وعن المغيرة قال: كانوا يفعلون ذلك.
وسئل عطاء عن القراءة في الركوع والسجود فقال: رأيت عبيد بن عمير يقرأ وهو راكع في المكتوبة. ورخص بعضهم في ذلك في النفل دون الفرض؛ روى سليمان بن موسى عن نافع عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن القراءة في الركوع والسجود في الصلاة المكتوبة، فأما الصلاة في التطوع فلا جناح. خرجه الإسماعيلي، وإسناده منقطع، فإن نافعًا إنما يرويه عن ابن حنين عن أبيه عن علي رضي الله عنه كما سبق. وآخر الحديث لعلّه مدرج من قول بعض الرواة. وسليمان بن موسى مختلف فيه] اهـ.
كما أن التعليل بالمنع الذي قال به بعض العلماء من تنزيه القرآن عن قراءته في حال التذلل والخضوع بالسجود والركوع لا يقطع به، بل هو احتمال، فيمكن اعتباره حكمة لا علة، كما أن هناك من رأى حكمة أخرى غير ما سبق.
قال الإمام الشعراني في "العهود المحمدية" (ص: 55، ط. دار الكتب العلمية): [(أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) أن نصلي صلاة الحاجة؛ إظهارًا للفاقة، والحاجة كالهدية التي يرسلها الإنسان لمن له عنده حاجة قبل أن يجتمع به، وسمعت سيدي عليًّا الخواص رحمه الله يقول: ينبغي فعل صلاة التسبيح قبل صلاة الحاجة؛ لما ورد بأنها تكفر الذنوب كلها، وذلك من أكبر أسباب قضاء الحاجة؛ فإن تأخير قضاء الحوائج إنما يكون بسبب الذنوب في الغالب. وسمعته يقول أيضًا: ينبغي شدة الحضور في أذكار السجدة الأخيرة من صلاة الحاجة التي يسلم بعدها، وعلامة الحضور: أن يحس أن مفاصله كادت تتقطع وعظمه كاد يذوب من هيبة الله تعالى، وهناك ترجى الإجابة، وإيضاح ذلك أن قراءة القرآن على الله تعالى في السجود لا يطيقها أحد؛ لكون العبد في أقرب ما يكون من الله تعالى كما ورد] اهـ.
ويمكن في الإجابة أيضًا أن يكون ما يقرؤه المصلي لا يكون بنية القراءة، بل بنية الذكر، كما في نظائره، وقد تكلم الفقهاء على مثل هذه المسألة في حكمهم على قراءة الجنب للقرآن.
قال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج" (1/ 217، ط. دار الكتب العلمية): [(وتحل) لجنب (أذكاره) وغيرها؛ كمواعظه وأخباره وأحكامه (لا بقصد قرآن) كقوله عند الركوب: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ [الزخرف: 13] أي مطيقين، وعند المصيبة ﴿إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 156] ولا ما جرى به لسانه بلا قصد، فإن قصد القرآن وحده أو مع الذكر حرم، وإن أطلق فلا، كما نبه عليه في "الدقائق"؛ لعدم الإخلال بحرمته؛ لأنه لا يكون قرآنًا إلا بالقصد، قاله المصنف وغيره. وظاهر أن ذلك جار فيما يوجد نظمه في غير القرآن كالآيتين المتقدمتين، والبسملة والحمدلة، وما لا يوجد نظمه إلا فيه كسورة الإخلاص وآية الكرسي وهو كذلك، وإن قال الزركشي: لا شك في تحريم ما لا يوجد نظمه في غير القرآن، وتبعه على ذلك بعض المتأخرين كما شمل ذلك قول "الروضة"، أما إذا قرأ شيئًا منه لا على قصد القرآن فيجوز، ولو عبر المصنف بها هنا كان أولى؛ ليشمل ما قدرته، بل أفتى شيخي بأنه لو قرأ القرآن جميعه لا بقصد القرآن جاز] اهـ.
وليست النكارة فيما سبق فقط، بل قال ابن حجر: وظاهر السياق أنه يسجد بين التشهد والسلام سجدة زائدة يقول فيها ذلك ولا يخفى ما فيه. ينظر: "الدراية في تخريج أحاديث الهداية" (2/ 239).
ولم نجد من رد على هذه الشبهة، ولكن يمكن أن يقال: إن هذا بمنزلة سجدة التلاوة، كما أن الخروج في النفل عن الهيئة المعتادة قد قبل في صلاة التسابيح، فكذا يكون الأمر هنا، أو يحمل على السجدة الأخيرة. والله تعالى أعلم.
وقد حمل الإمام الشوكاني على هذا الحديث واعتبر متنه منكرًا لمخالفته للصحيح، ولكنه زاد في حملته على مسألة الثبوت بالتجربة، قال الإمام الشوكاني في "تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين" (ص: 214، ط. دار القلم، بيروت): [وأقول: السنة لا تثبت بمجرد التجربة، ولا يخرج بها الفاعل للشيء معتقدًا أنه سنة عن كونه مبتدعًا، وقبول الدعاء لا يدل على أن سبب القبول ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد يجيب الله الدعاء من غير توسل بسنة وهو أرحم الراحمين، وقد تكون الاستجابة استدراجًا، ومع هذا ففي هذا الذي يقال إنه حديث مخالفةٌ للسنة المطهرة، فقد ثبت في السنة -ثبوتًا صحيحًا لا شك فيه ولا شبهة- النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، فهذا من أعظم الدلائل على كون هذا المروي موضوعًا، ولا سيما وفي إسناده عمر بن هارون بن يزيد الثقفي البلخي المذكور، فإنه من المتروكين المتهمين وإن كان حافظًا، ولعل ثناء ابن مهدي عليه من جهة حفظه، وكذا تلميذه عامر بن خداش، فلعل هذا من مناكيره التي صار يرويها، والعجب من اعتماد مثل: الحاكم والبيهقي والواحدي ومن بعدهم على التجريب في أمر يعلمون جميعًا أنه مشتمل على خلاف السنة المطهرة وعلى الوقوع في مناهيها] اهـ.
وقال الإمام المنذري في كتابه "الترغيب والترهيب" (1/ 274، ط. دار الكتب العلمية): [أما عامر بن خداش هذا هو النيسابوري، قال شيخنا الحافظ أبو الحسن: كان صاحب مناكير، وقد تفرد به عن عمر بن هارون البلخي، وهو متروك متهم أثنى عليه ابن مهدي وحده فيما أعلم، والاعتماد في مثل هذا على التجربة لا على الإسناد. والله أعلم] اهـ.
والرد على مسألة عدم ثبوت السنة بالتجربة، أنه من باب العمل بالحديث الضعيف، ولنا فتوى في حكم العمل به.
كما أن هناك كثيرًا من الأحاديث نظر المحدثون في متنها وحكموا عليه بالصحة، إذ لا يلزم من ضعف السند ضعف المتن، ومثاله قول ابن القيم: وأما حديث أبي رزين الذي أشار إليه البخاري فهو حديثه الطويل، ونحن نسوقه بطوله نجمل به كتابنا، فعليه من الجلالة والمهابة ونور النبوة ما ينادي على صحته. ينظر: "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" (ص: 243، ط. مطبعة المدني، القاهرة).
وهناك أبواب أخرى صرح فيها العلماء بمسألة التجربة، مما يؤيد ما صرحت به طائفة المحدثين السابقين.
قال العلامة ابن القيم في "زاد المعاد في هدي خير العباد" (2/ 370، ط. مؤسسة الرسالة): [وروي عنه أنه قال: «أَذِيبُوا طَعَامَكُمْ بِذِكْرِ اللهِ عز وجل وَالصَّلَاةِ، وَلَا تَنَامُوا عَلَيْهِ فَتَقْسُوَا قُلُوبُكُمْ»، وأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحًا، والواقع في التجربة يشهد به] اهـ.
وقال الإمام البيهقي في "الآداب" (ص: 269، ط. مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت): [أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس هو الأصم، حدثنا عبد الملك بن عبد الحميد، حدثنا روح، حدثنا أسامة بن زيد، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إن لله ملائكةً في الأرض يكتبون ما يقع في الأرض من ورق الشجر، فإن أصابت أحدًا منكم عرجة أو احتاج إلى عون بفلاة من الأرض فليقل: أعينوا عباد الله رحمكم الله، فإنه يعان إن شاء الله". هذا موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما، مستعمل عند الصالحين من أهل العلم؛ لوجود صدقه عندهم فيما جربوا. وبالله التوفيق] اهـ.
وقال الإمام السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 568، ط. دار الكتاب العربي، بيروت) في تخريج حديث «مَاءُ زَمْزَمَ، لِمَا شُرِبَ لَهُ»: [بل قال شيخنا -يعني ابن حجر-: إنه حسن مع كونه موقوفًا، وأفرد فيه جزءًا، واستشهد له في موضع آخر بحديث أبي ذر رضي الله عنه رفعه: «إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ»، وأصله في "مسلم"، وهذا اللفظ عند الطيالسي قال: ومرتبة هذا الحديث أنه باجتماع هذه الطرق يصلح للاحتجاج به، وقد جربه جماعة من الكبار فذكروا أنه صح، بل صححه من المتقدمين ابن عيينة، ومن المتأخرين الدمياطي في جزء جمعه فيه، والمنذري، وضعفه النووي] اهـ.
وقال الإمام ابن عابدين في "حاشية ابن عابدين" (4/ 286، ط. دار الفكر): [فائدة: ذكر ابن حجر في "حاشية الإيضاح" عن بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم ما نصه: إذا ضاع منك شيء فقل: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، اجمع بيني وبين كذا، ويسميه باسمه، فإنه مجرب. قال الإمام النووي: وقد جربته فوجدته نافعًا لوجود الضالة عن قرب غالبًا. ونقل عن بعض مشايخه مثل ذلك اهـ. والله سبحانه أعلم] اهـ.
فهذه طائفة من أهل العلم صرحت بالعمل بالتجربة فيما ورد من الأحاديث التي لم تصح من ناحية السند.
ومما تقدم يتبين ضعف طرق الحديث الدال على مشروعية قراءة القرآن الكريم في الركوع والسجود، وتعارض متنه ومعناه مع ما هو أقوى وأثبت منه من الأحاديث الدالة على النهي عن ذلك، ومع ذلك فقد ذهب طائفة من أهل العلم إلى مشروعية هذا العمل في الصلاة المكتوبة وفي الصلاة النافلة، إلا أن الراجح في هذا هو عدم المشروعية، ولا يلزم من هذا بطلان صلاة من فعل ذلك كما ذهب إليه الجمهور من حمل النهي على الكراهة، ولا ينكر على من فعل هذه الصلاة مقلدًا من جوزها من أهل العلم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

قراءة القرآن في الركوع والسجود

ما توجيه حديث قراءة القرآن في الركوع والسجود وتعارضه مع النهي عن ذلك، وإشكالية عمل العلماء به؟

الحديث المسؤول عنه أخرجه الإمام البيهقي في "الدعوات الكبير" (2/ 18، ط. غراس للنشر والتوزيع، الكويت): [أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ مِنْ أَصْلِهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا عَامِرُ بْنُ خِدَاشٍ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ: «تُصَلِّي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ تَشَهَّدُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا جَلَسْتَ فِي آخِرِ صَلَاتِكَ فَأَثْنِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ كَبِّرْ وَاسْجُدْ، وَاقْرَأْ وَأَنْتَ سَاجِدٌ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكُ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِمَعَاقَدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِكَ، وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ مِنْ كِتَابِكَ، وَاسْمِكَ الْأَعْظَمِ، وَجَدِّكَ الْأَعْلَى، وَكَلِمَاتِكَ التَّامَّةِ، ثُمَّ تَسْأَلُ بَعْدُ حَاجَتَكَ، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ فَسَلِّمْ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ، وَاتَّقِ السُّفَهَاءَ أَنْ تُعَلِّمُوهَا فَيَدْعُونَ رَبَّهُمْ فَيُسْتَجَابَ لَهُمْ»] اهـ.
وأخرجه أبو القاسم إسماعيل بن محمد الملقب بقوام السنة في "الترغيب والترهيب" (3/ 34، ط. دار الحديث، القاهرة): [أخبرنا أحمد بن علي بن خلف، أنبأنا الحاكم أبو عبد الله، أنبأنا محمد بن القاسم بن عبد الرحمن العتكي، حدثنا محمد بن أشرس السلمي، حدثنا عامر بن خداش النيسابوري، حدثنا عمر بن هارون البلخي عن ابن جريج، عن داود بن أبي عاصم، عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اثنَتَا عَشْرة ركعة تصَلّيهنّ مِن ليلٍ أو نهار، وتشهد بين كل ركعتين فإذا تشهدت في آخر صلاتك فأثن على الله عز وجل، وصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واقرأ وأنت ساجد فاتحة الكتاب سبع مرات، وآية الكرسي سبع مرات، وقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير عشر مرات، ثم قل: اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، واسمك الأعظم وحدك وكلماتك التامة، ثم سل حاجتك، ثم ارفع رأسك، ثم سلم يمينًا وشمالًا، ولا تعلموها السفهاء؛ فإنهم يدعون بها فيستجاب».
قال الحاكم: وحدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري قال: حدثني إبراهيم بن علي الذهلي قال: حدثني أحمد بن حرب وكتبه لي بخطه، حدثنا عامر بن خداش فذكره بنحوه. وقال أحمد بن حرب: قد جربته فوجدته حقًا. وقال إبراهيم بن علي الذهلي: قد جربته فوجدته حقًا. وقال الحاكم: وقال لنا أبو زكريا: قد جربته فوجدته حقًا. قال الحاكم: قد جربته فوجدته حقًّا. قال الحاكم: تفرد به عامر بن خداش وهو ثقة مأمون] اهـ.
والحديث من نفس طريق البيهقي، لكن فيه زيادة التجربة بالعمل بالحديث؛ ومن أجل ذلك تذكر هذه الطريق في كتب التخريج. وليس هذا الحديث في "مستدرك الحاكم"، ولم نجد أحدًا خرجه من الحفاظ وعزاه إليه.
وقد انتقد بعض المحدثين هذا الحديث سندًا ومتنًا، فقد أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 142، ط. المكتبة السلفية، المدينة المنورة) من طريق الحاكم به، وقال: [هذا حديث موضوع بلا شك، وإسناده كما ترى، وفي إسناده عمر بن هارون، قال يحيى: كذاب. وقال ابن حبان: يروي عن الثقاة المعضلات ويدعي شيوخًا لم يرهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم النهى عن القراءة في السجود] اهـ.
وقد حاول الإمام السيوطي تخفيف الحكم بالوضع؛ فقال في "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" (2/ 57، ط. دار الكتب العلمية): [قلت: عمر روى له الترمذي وابن ماجه، وقال في "الميزان": كان من أوعية العلم على ضعفه وكثرة مناكيره، وما أظنه ممن يتعمد الباطل، انتهى. ووجدت للحديث طريقًا آخر، قال ابن عساكر: قرأت بخط أبي الفتيان عمر بن عبد الكريم الدهستاني، أنبأنا أبو الرضا الحسن بن الحسين بن جعفر بن أحمد بن داود بن المطهر التنوخي، أخبرتنا آمنة بنت الحسن بن إسحاق بن بلبل، حدثنا أبي القاضي أبو سعيد الحسن، حدثنا أبو عبيد الله محمد بن شيبة الوليد بن سعيد بن خالد بن يزيد بن تميم بن مالك، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثنا عبد الكريم بن يزيد الغساني عن أبي الحارث الحسين، عن أبيه الحسن بن يحيى الخشني، عن ابن جريج عن ابن رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن صَلَّى بَعدَ المَغْرِبِ اثنَتي عَشرةَ رَكْعَة؛ قَرَأ في السَّجْدَتَينِ بفَاتِحَةِ الكِتَابِ سَبعَ مَرَّاتٍ، و﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ وبآية الكُرْسِي سَبعَ مَرَّاتٍ وتقول: لَا إِلَهَ إلا الله وَحْدَهُ لا شَريكَ له الملكُ ولهُ الحَمْدُ بيَدِهِ الخيرُ وهُو عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ عَشرَ مَرَّاتٍ، ثمَّ سَجَدَ آخر سَجدةٍ لهُ فيقُولُ فِي سُجُودِهِ بعدَ تسْبِيحِهِ: الّلهُمّ إنّي أسْألُكَ بمعَاقد العزّ مِن عَرْشِكَ ومُنتَهَى الرَّحمَة مِن كِتَابكَ وباسْمِكَ العَظِيم وبحمْدِكَ الأعْظَم وكَلمَاتكَ التَّامة، ثمَّ يسألُ الله لَو كَانَ عليه مِن الذنُوب عَددَ رملِ عاَلج وأيَّام الدُّنيا لغَفَر اللهُ لهُ، لا تُعلِّمُوها سُفَهَاءكُم فيَدعُونَ بها لأمرٍ باطلٍ فيُسْتَجَابُ لهُم» والله أعلم] اهـ.
ولم يتكلم الإمام السيوطي على إسناد هذا الشاهد -وهو في "تاريخ دمشق" (36/ 471، ط. دار الفكر)- ولكن ابن عراق تكلم عليه وزاد فوائد، قال ابن عراق: وفيه الحسن بن يحيى الخشني، قال الذهبي في "المغني": تركوه، وقال في "الكاشف": وهاه جماعة، وقال دحيم وغيره: لا بأس به. وذكره الحافظ شمس الدين ابن الجزري في كتابه "الحصن الحصين" من رواية البيهقي ثم قال: قال البيهقي: إنه قد جرب فوجد سببًا لقضاء الحاجة قال: ورويناه في كتاب "الدعاء" للواحدي، وفي سنده غير واحد من أهل العلم، وذكر أنه قد جربه فوجده كذلك، قال: وأنا قد جربته فوجدته كذلك على أن في سنده من لا أعرفه، انتهى. ورواه الديلمي في "مسند الفردوس" مسلسلًا، يقول: كل من رواته جربته فوجدته حقًّا إلى ابن مسعود رضي الله عنه. وقال الديلمي: وأنا جربته فوجدته حقًّا. وقال العراقي في "شرح الترمذي" في الكلام على إسناد هذا الحديث وبيان ضعفه: وداود بن أبي عاصم لم يدرك ابن مسعود رضي الله عنه ولا يعرف له عنه رواية، والظاهر أن ذكر ابن مسعود رضي الله عنه فيه وهم من بعض رواته، وإنما هو عن داود بن أبي عاصم عن عروة بن مسعود مرسلًا، فجعَل بعضُ رواته مكانَ عروة عبدَ الله فوقع الوهم، ومع ذلك فهو شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة في نهيه عن القراءة في الركوع والسجود. انتهى. ينظر: "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة" (2/ 112، ط. دار الكتب العلمية).
والخلاصة في هذا الحديث أنه لا يصح من ناحية إسناده، وقد تكلم في نكارة متنه أيضًا لمخالفته النهي عن القراءة في الركوع والسجود، وهو ما ورد في "صحيح مسلم" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كشف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر، فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ؛ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ، أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ»، ومن حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، قال: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أقرأ راكعًا أو ساجدًا".
قال الإمام النووي في "شرح النووي على صحيح مسلم" (4/ 197، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» وفي حديث علي رضي الله عنه: «نَهَانِي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أَقْرَأَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا» فيه النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، وإنما وظيفة الركوع التسبيح ووظيفة السجود التسبيح والدعاء، فلو قرأ في ركوع أو سجود غير الفاتحة كره ولم تبطل صلاته، وإن قرأ الفاتحة ففيه وجهان لأصحابنا أصحهما أنه كغير الفاتحة فيكره، ولا تبطل صلاته، والثاني يحرم وتبطل صلاته، هذا إذا كان عمدًا فإن قرأ سهوًا لم يكره، وسواء قرأ عمدًا أو سهوًا يسجد للسهو عند الشافعي رحمه الله تعالى، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ» أي سبحوه ونزهوه ومجدوه، وقد ذكر مسلم بعد هذا الأذكارَ التي تقال في الركوع والسجود] اهـ.
وقال الملا علي القاري في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (2/ 711، ط. دار الفكر): [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ألا» كلمة تنبيه «إني نهيت» أي: في كراهة تنزيه لا تحريم؛ قاله ابن الملك. وقال ابن حجر: وعليه أكثر العلماء، وقيل: تحريمًا، وهو القياس، «أن أقرأ القرآن» أي: عن قراءته «راكعًا أو ساجدًا» أي: في هذين الحالين، قال الخطابي: لما كان الركوع والسجود، وهما غاية الذل والخضوع مخصوصين بالذكر والتسبيح، نهى عليه السلام عن القراءة فيهما، كأنه كره أن يجمع بين كلام الله تعالى وكلام الخلق في موضع واحد، فيكونان سواءً، ذكره الطيبي، وفيه أنه ينتقض بالجمع بينهما في حال القيام. وقال ابن الملك: وكأن حكمته أن أفضل أركان الصلاة القيام، وأفضل الأذكار القرآن، فجعل الأفضل للأفضل، ونهي عن جعله في غيره لئلا يوهم استواءه مع بقية الأذكار، وقيل: خصت القراءة بالقيام أو القعود عند العجز عنه؛ لأنهما من الأفعال العادية، ولا يتمحضان للعبادة، بخلاف الركوع والسجود؛ لأنهما بذواتهما يخالفان العادة ويدلان على الخضوع والعبادة، ويمكن أن يقال: إن الركوع والسجود حالان دالان على الذل ويناسبهما الدعاء والتسبيح، فنهي عن القراءة فيهما تعظيمًا للقرآن الكريم، وتكريمًا لقارئه القائم مقام الكليم، والله بكل شيء عليم. قال القاضي: نهي اللهِ تعالى رسولَه يدل على عدم جواز القراءة في الركوع والسجود، لكن لو قرأ لم تبطل صلاته، إلا إذا كان المقروء الفاتحة، فإن فيها خلافًا، يعني: عند الشافعية؛ لأنه زاد ركنًا، لكن لم يتغير به نظم صلاته] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (5/ 338، ط. دار الكتب العلمية): [وفي نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن قراءة القرآن في الركوع والسجود دليل على أن القرآن أشرف الكلام؛ إذ هو كلام الله، وحالة الركوع والسجود ذل وانخفاض من العبد، فمن الأدب منع كلام الله أن لا يقرأ في هاتين الحالتين، والانتظار أولى] اهـ.
ومما تقدم يتبين أنه ليس هناك إجماع على بطلان الصلاة في الحالة المذكورة، وأن الجمهور على حمل النهي على الكراهة، بل وهناك من السلف من رخص في القراءة في الركوع والسجود، خاصة في المكتوبة.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه "فتح الباري" (7/ 188-189، ط. مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة النبوية): [ورخصت طائفة في القراءة في الركوع والسجود. روي عن أبي الدرداء أنه كان يقرأ البقرة في سجوده. وعن سليمان بن ربيعة وعبيد بن عمير والمغيرة. وعن النخعي فيمن نسي الآية أو تركها، فذكرها وهو راكع، قال: يقرؤها وهو راكع. وعن المغيرة قال: كانوا يفعلون ذلك.
وسئل عطاء عن القراءة في الركوع والسجود فقال: رأيت عبيد بن عمير يقرأ وهو راكع في المكتوبة. ورخص بعضهم في ذلك في النفل دون الفرض؛ روى سليمان بن موسى عن نافع عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن القراءة في الركوع والسجود في الصلاة المكتوبة، فأما الصلاة في التطوع فلا جناح. خرجه الإسماعيلي، وإسناده منقطع، فإن نافعًا إنما يرويه عن ابن حنين عن أبيه عن علي رضي الله عنه كما سبق. وآخر الحديث لعلّه مدرج من قول بعض الرواة. وسليمان بن موسى مختلف فيه] اهـ.
كما أن التعليل بالمنع الذي قال به بعض العلماء من تنزيه القرآن عن قراءته في حال التذلل والخضوع بالسجود والركوع لا يقطع به، بل هو احتمال، فيمكن اعتباره حكمة لا علة، كما أن هناك من رأى حكمة أخرى غير ما سبق.
قال الإمام الشعراني في "العهود المحمدية" (ص: 55، ط. دار الكتب العلمية): [(أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) أن نصلي صلاة الحاجة؛ إظهارًا للفاقة، والحاجة كالهدية التي يرسلها الإنسان لمن له عنده حاجة قبل أن يجتمع به، وسمعت سيدي عليًّا الخواص رحمه الله يقول: ينبغي فعل صلاة التسبيح قبل صلاة الحاجة؛ لما ورد بأنها تكفر الذنوب كلها، وذلك من أكبر أسباب قضاء الحاجة؛ فإن تأخير قضاء الحوائج إنما يكون بسبب الذنوب في الغالب. وسمعته يقول أيضًا: ينبغي شدة الحضور في أذكار السجدة الأخيرة من صلاة الحاجة التي يسلم بعدها، وعلامة الحضور: أن يحس أن مفاصله كادت تتقطع وعظمه كاد يذوب من هيبة الله تعالى، وهناك ترجى الإجابة، وإيضاح ذلك أن قراءة القرآن على الله تعالى في السجود لا يطيقها أحد؛ لكون العبد في أقرب ما يكون من الله تعالى كما ورد] اهـ.
ويمكن في الإجابة أيضًا أن يكون ما يقرؤه المصلي لا يكون بنية القراءة، بل بنية الذكر، كما في نظائره، وقد تكلم الفقهاء على مثل هذه المسألة في حكمهم على قراءة الجنب للقرآن.
قال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج" (1/ 217، ط. دار الكتب العلمية): [(وتحل) لجنب (أذكاره) وغيرها؛ كمواعظه وأخباره وأحكامه (لا بقصد قرآن) كقوله عند الركوب: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ [الزخرف: 13] أي مطيقين، وعند المصيبة ﴿إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 156] ولا ما جرى به لسانه بلا قصد، فإن قصد القرآن وحده أو مع الذكر حرم، وإن أطلق فلا، كما نبه عليه في "الدقائق"؛ لعدم الإخلال بحرمته؛ لأنه لا يكون قرآنًا إلا بالقصد، قاله المصنف وغيره. وظاهر أن ذلك جار فيما يوجد نظمه في غير القرآن كالآيتين المتقدمتين، والبسملة والحمدلة، وما لا يوجد نظمه إلا فيه كسورة الإخلاص وآية الكرسي وهو كذلك، وإن قال الزركشي: لا شك في تحريم ما لا يوجد نظمه في غير القرآن، وتبعه على ذلك بعض المتأخرين كما شمل ذلك قول "الروضة"، أما إذا قرأ شيئًا منه لا على قصد القرآن فيجوز، ولو عبر المصنف بها هنا كان أولى؛ ليشمل ما قدرته، بل أفتى شيخي بأنه لو قرأ القرآن جميعه لا بقصد القرآن جاز] اهـ.
وليست النكارة فيما سبق فقط، بل قال ابن حجر: وظاهر السياق أنه يسجد بين التشهد والسلام سجدة زائدة يقول فيها ذلك ولا يخفى ما فيه. ينظر: "الدراية في تخريج أحاديث الهداية" (2/ 239).
ولم نجد من رد على هذه الشبهة، ولكن يمكن أن يقال: إن هذا بمنزلة سجدة التلاوة، كما أن الخروج في النفل عن الهيئة المعتادة قد قبل في صلاة التسابيح، فكذا يكون الأمر هنا، أو يحمل على السجدة الأخيرة. والله تعالى أعلم.
وقد حمل الإمام الشوكاني على هذا الحديث واعتبر متنه منكرًا لمخالفته للصحيح، ولكنه زاد في حملته على مسألة الثبوت بالتجربة، قال الإمام الشوكاني في "تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين" (ص: 214، ط. دار القلم، بيروت): [وأقول: السنة لا تثبت بمجرد التجربة، ولا يخرج بها الفاعل للشيء معتقدًا أنه سنة عن كونه مبتدعًا، وقبول الدعاء لا يدل على أن سبب القبول ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد يجيب الله الدعاء من غير توسل بسنة وهو أرحم الراحمين، وقد تكون الاستجابة استدراجًا، ومع هذا ففي هذا الذي يقال إنه حديث مخالفةٌ للسنة المطهرة، فقد ثبت في السنة -ثبوتًا صحيحًا لا شك فيه ولا شبهة- النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، فهذا من أعظم الدلائل على كون هذا المروي موضوعًا، ولا سيما وفي إسناده عمر بن هارون بن يزيد الثقفي البلخي المذكور، فإنه من المتروكين المتهمين وإن كان حافظًا، ولعل ثناء ابن مهدي عليه من جهة حفظه، وكذا تلميذه عامر بن خداش، فلعل هذا من مناكيره التي صار يرويها، والعجب من اعتماد مثل: الحاكم والبيهقي والواحدي ومن بعدهم على التجريب في أمر يعلمون جميعًا أنه مشتمل على خلاف السنة المطهرة وعلى الوقوع في مناهيها] اهـ.
وقال الإمام المنذري في كتابه "الترغيب والترهيب" (1/ 274، ط. دار الكتب العلمية): [أما عامر بن خداش هذا هو النيسابوري، قال شيخنا الحافظ أبو الحسن: كان صاحب مناكير، وقد تفرد به عن عمر بن هارون البلخي، وهو متروك متهم أثنى عليه ابن مهدي وحده فيما أعلم، والاعتماد في مثل هذا على التجربة لا على الإسناد. والله أعلم] اهـ.
والرد على مسألة عدم ثبوت السنة بالتجربة، أنه من باب العمل بالحديث الضعيف، ولنا فتوى في حكم العمل به.
كما أن هناك كثيرًا من الأحاديث نظر المحدثون في متنها وحكموا عليه بالصحة، إذ لا يلزم من ضعف السند ضعف المتن، ومثاله قول ابن القيم: وأما حديث أبي رزين الذي أشار إليه البخاري فهو حديثه الطويل، ونحن نسوقه بطوله نجمل به كتابنا، فعليه من الجلالة والمهابة ونور النبوة ما ينادي على صحته. ينظر: "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" (ص: 243، ط. مطبعة المدني، القاهرة).
وهناك أبواب أخرى صرح فيها العلماء بمسألة التجربة، مما يؤيد ما صرحت به طائفة المحدثين السابقين.
قال العلامة ابن القيم في "زاد المعاد في هدي خير العباد" (2/ 370، ط. مؤسسة الرسالة): [وروي عنه أنه قال: «أَذِيبُوا طَعَامَكُمْ بِذِكْرِ اللهِ عز وجل وَالصَّلَاةِ، وَلَا تَنَامُوا عَلَيْهِ فَتَقْسُوَا قُلُوبُكُمْ»، وأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحًا، والواقع في التجربة يشهد به] اهـ.
وقال الإمام البيهقي في "الآداب" (ص: 269، ط. مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت): [أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس هو الأصم، حدثنا عبد الملك بن عبد الحميد، حدثنا روح، حدثنا أسامة بن زيد، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إن لله ملائكةً في الأرض يكتبون ما يقع في الأرض من ورق الشجر، فإن أصابت أحدًا منكم عرجة أو احتاج إلى عون بفلاة من الأرض فليقل: أعينوا عباد الله رحمكم الله، فإنه يعان إن شاء الله". هذا موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما، مستعمل عند الصالحين من أهل العلم؛ لوجود صدقه عندهم فيما جربوا. وبالله التوفيق] اهـ.
وقال الإمام السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 568، ط. دار الكتاب العربي، بيروت) في تخريج حديث «مَاءُ زَمْزَمَ، لِمَا شُرِبَ لَهُ»: [بل قال شيخنا -يعني ابن حجر-: إنه حسن مع كونه موقوفًا، وأفرد فيه جزءًا، واستشهد له في موضع آخر بحديث أبي ذر رضي الله عنه رفعه: «إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ»، وأصله في "مسلم"، وهذا اللفظ عند الطيالسي قال: ومرتبة هذا الحديث أنه باجتماع هذه الطرق يصلح للاحتجاج به، وقد جربه جماعة من الكبار فذكروا أنه صح، بل صححه من المتقدمين ابن عيينة، ومن المتأخرين الدمياطي في جزء جمعه فيه، والمنذري، وضعفه النووي] اهـ.
وقال الإمام ابن عابدين في "حاشية ابن عابدين" (4/ 286، ط. دار الفكر): [فائدة: ذكر ابن حجر في "حاشية الإيضاح" عن بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم ما نصه: إذا ضاع منك شيء فقل: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، اجمع بيني وبين كذا، ويسميه باسمه، فإنه مجرب. قال الإمام النووي: وقد جربته فوجدته نافعًا لوجود الضالة عن قرب غالبًا. ونقل عن بعض مشايخه مثل ذلك اهـ. والله سبحانه أعلم] اهـ.
فهذه طائفة من أهل العلم صرحت بالعمل بالتجربة فيما ورد من الأحاديث التي لم تصح من ناحية السند.
ومما تقدم يتبين ضعف طرق الحديث الدال على مشروعية قراءة القرآن الكريم في الركوع والسجود، وتعارض متنه ومعناه مع ما هو أقوى وأثبت منه من الأحاديث الدالة على النهي عن ذلك، ومع ذلك فقد ذهب طائفة من أهل العلم إلى مشروعية هذا العمل في الصلاة المكتوبة وفي الصلاة النافلة، إلا أن الراجح في هذا هو عدم المشروعية، ولا يلزم من هذا بطلان صلاة من فعل ذلك كما ذهب إليه الجمهور من حمل النهي على الكراهة، ولا ينكر على من فعل هذه الصلاة مقلدًا من جوزها من أهل العلم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

الحديث المسؤول عنه أخرجه الإمام البيهقي في "الدعوات الكبير" (2/ 18، ط. غراس للنشر والتوزيع، الكويت): [أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ مِنْ أَصْلِهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا عَامِرُ بْنُ خِدَاشٍ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ: «تُصَلِّي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ تَشَهَّدُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا جَلَسْتَ فِي آخِرِ صَلَاتِكَ فَأَثْنِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ كَبِّرْ وَاسْجُدْ، وَاقْرَأْ وَأَنْتَ سَاجِدٌ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكُ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِمَعَاقَدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِكَ، وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ مِنْ كِتَابِكَ، وَاسْمِكَ الْأَعْظَمِ، وَجَدِّكَ الْأَعْلَى، وَكَلِمَاتِكَ التَّامَّةِ، ثُمَّ تَسْأَلُ بَعْدُ حَاجَتَكَ، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ فَسَلِّمْ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ، وَاتَّقِ السُّفَهَاءَ أَنْ تُعَلِّمُوهَا فَيَدْعُونَ رَبَّهُمْ فَيُسْتَجَابَ لَهُمْ»] اهـ.
وأخرجه أبو القاسم إسماعيل بن محمد الملقب بقوام السنة في "الترغيب والترهيب" (3/ 34، ط. دار الحديث، القاهرة): [أخبرنا أحمد بن علي بن خلف، أنبأنا الحاكم أبو عبد الله، أنبأنا محمد بن القاسم بن عبد الرحمن العتكي، حدثنا محمد بن أشرس السلمي، حدثنا عامر بن خداش النيسابوري، حدثنا عمر بن هارون البلخي عن ابن جريج، عن داود بن أبي عاصم، عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اثنَتَا عَشْرة ركعة تصَلّيهنّ مِن ليلٍ أو نهار، وتشهد بين كل ركعتين فإذا تشهدت في آخر صلاتك فأثن على الله عز وجل، وصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واقرأ وأنت ساجد فاتحة الكتاب سبع مرات، وآية الكرسي سبع مرات، وقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير عشر مرات، ثم قل: اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، واسمك الأعظم وحدك وكلماتك التامة، ثم سل حاجتك، ثم ارفع رأسك، ثم سلم يمينًا وشمالًا، ولا تعلموها السفهاء؛ فإنهم يدعون بها فيستجاب».
قال الحاكم: وحدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري قال: حدثني إبراهيم بن علي الذهلي قال: حدثني أحمد بن حرب وكتبه لي بخطه، حدثنا عامر بن خداش فذكره بنحوه. وقال أحمد بن حرب: قد جربته فوجدته حقًا. وقال إبراهيم بن علي الذهلي: قد جربته فوجدته حقًا. وقال الحاكم: وقال لنا أبو زكريا: قد جربته فوجدته حقًا. قال الحاكم: قد جربته فوجدته حقًّا. قال الحاكم: تفرد به عامر بن خداش وهو ثقة مأمون] اهـ.
والحديث من نفس طريق البيهقي، لكن فيه زيادة التجربة بالعمل بالحديث؛ ومن أجل ذلك تذكر هذه الطريق في كتب التخريج. وليس هذا الحديث في "مستدرك الحاكم"، ولم نجد أحدًا خرجه من الحفاظ وعزاه إليه.
وقد انتقد بعض المحدثين هذا الحديث سندًا ومتنًا، فقد أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 142، ط. المكتبة السلفية، المدينة المنورة) من طريق الحاكم به، وقال: [هذا حديث موضوع بلا شك، وإسناده كما ترى، وفي إسناده عمر بن هارون، قال يحيى: كذاب. وقال ابن حبان: يروي عن الثقاة المعضلات ويدعي شيوخًا لم يرهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم النهى عن القراءة في السجود] اهـ.
وقد حاول الإمام السيوطي تخفيف الحكم بالوضع؛ فقال في "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" (2/ 57، ط. دار الكتب العلمية): [قلت: عمر روى له الترمذي وابن ماجه، وقال في "الميزان": كان من أوعية العلم على ضعفه وكثرة مناكيره، وما أظنه ممن يتعمد الباطل، انتهى. ووجدت للحديث طريقًا آخر، قال ابن عساكر: قرأت بخط أبي الفتيان عمر بن عبد الكريم الدهستاني، أنبأنا أبو الرضا الحسن بن الحسين بن جعفر بن أحمد بن داود بن المطهر التنوخي، أخبرتنا آمنة بنت الحسن بن إسحاق بن بلبل، حدثنا أبي القاضي أبو سعيد الحسن، حدثنا أبو عبيد الله محمد بن شيبة الوليد بن سعيد بن خالد بن يزيد بن تميم بن مالك، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثنا عبد الكريم بن يزيد الغساني عن أبي الحارث الحسين، عن أبيه الحسن بن يحيى الخشني، عن ابن جريج عن ابن رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن صَلَّى بَعدَ المَغْرِبِ اثنَتي عَشرةَ رَكْعَة؛ قَرَأ في السَّجْدَتَينِ بفَاتِحَةِ الكِتَابِ سَبعَ مَرَّاتٍ، و﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ وبآية الكُرْسِي سَبعَ مَرَّاتٍ وتقول: لَا إِلَهَ إلا الله وَحْدَهُ لا شَريكَ له الملكُ ولهُ الحَمْدُ بيَدِهِ الخيرُ وهُو عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ عَشرَ مَرَّاتٍ، ثمَّ سَجَدَ آخر سَجدةٍ لهُ فيقُولُ فِي سُجُودِهِ بعدَ تسْبِيحِهِ: الّلهُمّ إنّي أسْألُكَ بمعَاقد العزّ مِن عَرْشِكَ ومُنتَهَى الرَّحمَة مِن كِتَابكَ وباسْمِكَ العَظِيم وبحمْدِكَ الأعْظَم وكَلمَاتكَ التَّامة، ثمَّ يسألُ الله لَو كَانَ عليه مِن الذنُوب عَددَ رملِ عاَلج وأيَّام الدُّنيا لغَفَر اللهُ لهُ، لا تُعلِّمُوها سُفَهَاءكُم فيَدعُونَ بها لأمرٍ باطلٍ فيُسْتَجَابُ لهُم» والله أعلم] اهـ.
ولم يتكلم الإمام السيوطي على إسناد هذا الشاهد -وهو في "تاريخ دمشق" (36/ 471، ط. دار الفكر)- ولكن ابن عراق تكلم عليه وزاد فوائد، قال ابن عراق: وفيه الحسن بن يحيى الخشني، قال الذهبي في "المغني": تركوه، وقال في "الكاشف": وهاه جماعة، وقال دحيم وغيره: لا بأس به. وذكره الحافظ شمس الدين ابن الجزري في كتابه "الحصن الحصين" من رواية البيهقي ثم قال: قال البيهقي: إنه قد جرب فوجد سببًا لقضاء الحاجة قال: ورويناه في كتاب "الدعاء" للواحدي، وفي سنده غير واحد من أهل العلم، وذكر أنه قد جربه فوجده كذلك، قال: وأنا قد جربته فوجدته كذلك على أن في سنده من لا أعرفه، انتهى. ورواه الديلمي في "مسند الفردوس" مسلسلًا، يقول: كل من رواته جربته فوجدته حقًّا إلى ابن مسعود رضي الله عنه. وقال الديلمي: وأنا جربته فوجدته حقًّا. وقال العراقي في "شرح الترمذي" في الكلام على إسناد هذا الحديث وبيان ضعفه: وداود بن أبي عاصم لم يدرك ابن مسعود رضي الله عنه ولا يعرف له عنه رواية، والظاهر أن ذكر ابن مسعود رضي الله عنه فيه وهم من بعض رواته، وإنما هو عن داود بن أبي عاصم عن عروة بن مسعود مرسلًا، فجعَل بعضُ رواته مكانَ عروة عبدَ الله فوقع الوهم، ومع ذلك فهو شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة في نهيه عن القراءة في الركوع والسجود. انتهى. ينظر: "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة" (2/ 112، ط. دار الكتب العلمية).
والخلاصة في هذا الحديث أنه لا يصح من ناحية إسناده، وقد تكلم في نكارة متنه أيضًا لمخالفته النهي عن القراءة في الركوع والسجود، وهو ما ورد في "صحيح مسلم" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كشف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر، فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ؛ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ، أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ»، ومن حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، قال: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أقرأ راكعًا أو ساجدًا".
قال الإمام النووي في "شرح النووي على صحيح مسلم" (4/ 197، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» وفي حديث علي رضي الله عنه: «نَهَانِي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أَقْرَأَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا» فيه النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، وإنما وظيفة الركوع التسبيح ووظيفة السجود التسبيح والدعاء، فلو قرأ في ركوع أو سجود غير الفاتحة كره ولم تبطل صلاته، وإن قرأ الفاتحة ففيه وجهان لأصحابنا أصحهما أنه كغير الفاتحة فيكره، ولا تبطل صلاته، والثاني يحرم وتبطل صلاته، هذا إذا كان عمدًا فإن قرأ سهوًا لم يكره، وسواء قرأ عمدًا أو سهوًا يسجد للسهو عند الشافعي رحمه الله تعالى، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ» أي سبحوه ونزهوه ومجدوه، وقد ذكر مسلم بعد هذا الأذكارَ التي تقال في الركوع والسجود] اهـ.
وقال الملا علي القاري في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (2/ 711، ط. دار الفكر): [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ألا» كلمة تنبيه «إني نهيت» أي: في كراهة تنزيه لا تحريم؛ قاله ابن الملك. وقال ابن حجر: وعليه أكثر العلماء، وقيل: تحريمًا، وهو القياس، «أن أقرأ القرآن» أي: عن قراءته «راكعًا أو ساجدًا» أي: في هذين الحالين، قال الخطابي: لما كان الركوع والسجود، وهما غاية الذل والخضوع مخصوصين بالذكر والتسبيح، نهى عليه السلام عن القراءة فيهما، كأنه كره أن يجمع بين كلام الله تعالى وكلام الخلق في موضع واحد، فيكونان سواءً، ذكره الطيبي، وفيه أنه ينتقض بالجمع بينهما في حال القيام. وقال ابن الملك: وكأن حكمته أن أفضل أركان الصلاة القيام، وأفضل الأذكار القرآن، فجعل الأفضل للأفضل، ونهي عن جعله في غيره لئلا يوهم استواءه مع بقية الأذكار، وقيل: خصت القراءة بالقيام أو القعود عند العجز عنه؛ لأنهما من الأفعال العادية، ولا يتمحضان للعبادة، بخلاف الركوع والسجود؛ لأنهما بذواتهما يخالفان العادة ويدلان على الخضوع والعبادة، ويمكن أن يقال: إن الركوع والسجود حالان دالان على الذل ويناسبهما الدعاء والتسبيح، فنهي عن القراءة فيهما تعظيمًا للقرآن الكريم، وتكريمًا لقارئه القائم مقام الكليم، والله بكل شيء عليم. قال القاضي: نهي اللهِ تعالى رسولَه يدل على عدم جواز القراءة في الركوع والسجود، لكن لو قرأ لم تبطل صلاته، إلا إذا كان المقروء الفاتحة، فإن فيها خلافًا، يعني: عند الشافعية؛ لأنه زاد ركنًا، لكن لم يتغير به نظم صلاته] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (5/ 338، ط. دار الكتب العلمية): [وفي نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن قراءة القرآن في الركوع والسجود دليل على أن القرآن أشرف الكلام؛ إذ هو كلام الله، وحالة الركوع والسجود ذل وانخفاض من العبد، فمن الأدب منع كلام الله أن لا يقرأ في هاتين الحالتين، والانتظار أولى] اهـ.
ومما تقدم يتبين أنه ليس هناك إجماع على بطلان الصلاة في الحالة المذكورة، وأن الجمهور على حمل النهي على الكراهة، بل وهناك من السلف من رخص في القراءة في الركوع والسجود، خاصة في المكتوبة.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه "فتح الباري" (7/ 188-189، ط. مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة النبوية): [ورخصت طائفة في القراءة في الركوع والسجود. روي عن أبي الدرداء أنه كان يقرأ البقرة في سجوده. وعن سليمان بن ربيعة وعبيد بن عمير والمغيرة. وعن النخعي فيمن نسي الآية أو تركها، فذكرها وهو راكع، قال: يقرؤها وهو راكع. وعن المغيرة قال: كانوا يفعلون ذلك.
وسئل عطاء عن القراءة في الركوع والسجود فقال: رأيت عبيد بن عمير يقرأ وهو راكع في المكتوبة. ورخص بعضهم في ذلك في النفل دون الفرض؛ روى سليمان بن موسى عن نافع عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن القراءة في الركوع والسجود في الصلاة المكتوبة، فأما الصلاة في التطوع فلا جناح. خرجه الإسماعيلي، وإسناده منقطع، فإن نافعًا إنما يرويه عن ابن حنين عن أبيه عن علي رضي الله عنه كما سبق. وآخر الحديث لعلّه مدرج من قول بعض الرواة. وسليمان بن موسى مختلف فيه] اهـ.
كما أن التعليل بالمنع الذي قال به بعض العلماء من تنزيه القرآن عن قراءته في حال التذلل والخضوع بالسجود والركوع لا يقطع به، بل هو احتمال، فيمكن اعتباره حكمة لا علة، كما أن هناك من رأى حكمة أخرى غير ما سبق.
قال الإمام الشعراني في "العهود المحمدية" (ص: 55، ط. دار الكتب العلمية): [(أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) أن نصلي صلاة الحاجة؛ إظهارًا للفاقة، والحاجة كالهدية التي يرسلها الإنسان لمن له عنده حاجة قبل أن يجتمع به، وسمعت سيدي عليًّا الخواص رحمه الله يقول: ينبغي فعل صلاة التسبيح قبل صلاة الحاجة؛ لما ورد بأنها تكفر الذنوب كلها، وذلك من أكبر أسباب قضاء الحاجة؛ فإن تأخير قضاء الحوائج إنما يكون بسبب الذنوب في الغالب. وسمعته يقول أيضًا: ينبغي شدة الحضور في أذكار السجدة الأخيرة من صلاة الحاجة التي يسلم بعدها، وعلامة الحضور: أن يحس أن مفاصله كادت تتقطع وعظمه كاد يذوب من هيبة الله تعالى، وهناك ترجى الإجابة، وإيضاح ذلك أن قراءة القرآن على الله تعالى في السجود لا يطيقها أحد؛ لكون العبد في أقرب ما يكون من الله تعالى كما ورد] اهـ.
ويمكن في الإجابة أيضًا أن يكون ما يقرؤه المصلي لا يكون بنية القراءة، بل بنية الذكر، كما في نظائره، وقد تكلم الفقهاء على مثل هذه المسألة في حكمهم على قراءة الجنب للقرآن.
قال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج" (1/ 217، ط. دار الكتب العلمية): [(وتحل) لجنب (أذكاره) وغيرها؛ كمواعظه وأخباره وأحكامه (لا بقصد قرآن) كقوله عند الركوب: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ [الزخرف: 13] أي مطيقين، وعند المصيبة ﴿إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 156] ولا ما جرى به لسانه بلا قصد، فإن قصد القرآن وحده أو مع الذكر حرم، وإن أطلق فلا، كما نبه عليه في "الدقائق"؛ لعدم الإخلال بحرمته؛ لأنه لا يكون قرآنًا إلا بالقصد، قاله المصنف وغيره. وظاهر أن ذلك جار فيما يوجد نظمه في غير القرآن كالآيتين المتقدمتين، والبسملة والحمدلة، وما لا يوجد نظمه إلا فيه كسورة الإخلاص وآية الكرسي وهو كذلك، وإن قال الزركشي: لا شك في تحريم ما لا يوجد نظمه في غير القرآن، وتبعه على ذلك بعض المتأخرين كما شمل ذلك قول "الروضة"، أما إذا قرأ شيئًا منه لا على قصد القرآن فيجوز، ولو عبر المصنف بها هنا كان أولى؛ ليشمل ما قدرته، بل أفتى شيخي بأنه لو قرأ القرآن جميعه لا بقصد القرآن جاز] اهـ.
وليست النكارة فيما سبق فقط، بل قال ابن حجر: وظاهر السياق أنه يسجد بين التشهد والسلام سجدة زائدة يقول فيها ذلك ولا يخفى ما فيه. ينظر: "الدراية في تخريج أحاديث الهداية" (2/ 239).
ولم نجد من رد على هذه الشبهة، ولكن يمكن أن يقال: إن هذا بمنزلة سجدة التلاوة، كما أن الخروج في النفل عن الهيئة المعتادة قد قبل في صلاة التسابيح، فكذا يكون الأمر هنا، أو يحمل على السجدة الأخيرة. والله تعالى أعلم.
وقد حمل الإمام الشوكاني على هذا الحديث واعتبر متنه منكرًا لمخالفته للصحيح، ولكنه زاد في حملته على مسألة الثبوت بالتجربة، قال الإمام الشوكاني في "تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين" (ص: 214، ط. دار القلم، بيروت): [وأقول: السنة لا تثبت بمجرد التجربة، ولا يخرج بها الفاعل للشيء معتقدًا أنه سنة عن كونه مبتدعًا، وقبول الدعاء لا يدل على أن سبب القبول ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد يجيب الله الدعاء من غير توسل بسنة وهو أرحم الراحمين، وقد تكون الاستجابة استدراجًا، ومع هذا ففي هذا الذي يقال إنه حديث مخالفةٌ للسنة المطهرة، فقد ثبت في السنة -ثبوتًا صحيحًا لا شك فيه ولا شبهة- النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، فهذا من أعظم الدلائل على كون هذا المروي موضوعًا، ولا سيما وفي إسناده عمر بن هارون بن يزيد الثقفي البلخي المذكور، فإنه من المتروكين المتهمين وإن كان حافظًا، ولعل ثناء ابن مهدي عليه من جهة حفظه، وكذا تلميذه عامر بن خداش، فلعل هذا من مناكيره التي صار يرويها، والعجب من اعتماد مثل: الحاكم والبيهقي والواحدي ومن بعدهم على التجريب في أمر يعلمون جميعًا أنه مشتمل على خلاف السنة المطهرة وعلى الوقوع في مناهيها] اهـ.
وقال الإمام المنذري في كتابه "الترغيب والترهيب" (1/ 274، ط. دار الكتب العلمية): [أما عامر بن خداش هذا هو النيسابوري، قال شيخنا الحافظ أبو الحسن: كان صاحب مناكير، وقد تفرد به عن عمر بن هارون البلخي، وهو متروك متهم أثنى عليه ابن مهدي وحده فيما أعلم، والاعتماد في مثل هذا على التجربة لا على الإسناد. والله أعلم] اهـ.
والرد على مسألة عدم ثبوت السنة بالتجربة، أنه من باب العمل بالحديث الضعيف، ولنا فتوى في حكم العمل به.
كما أن هناك كثيرًا من الأحاديث نظر المحدثون في متنها وحكموا عليه بالصحة، إذ لا يلزم من ضعف السند ضعف المتن، ومثاله قول ابن القيم: وأما حديث أبي رزين الذي أشار إليه البخاري فهو حديثه الطويل، ونحن نسوقه بطوله نجمل به كتابنا، فعليه من الجلالة والمهابة ونور النبوة ما ينادي على صحته. ينظر: "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" (ص: 243، ط. مطبعة المدني، القاهرة).
وهناك أبواب أخرى صرح فيها العلماء بمسألة التجربة، مما يؤيد ما صرحت به طائفة المحدثين السابقين.
قال العلامة ابن القيم في "زاد المعاد في هدي خير العباد" (2/ 370، ط. مؤسسة الرسالة): [وروي عنه أنه قال: «أَذِيبُوا طَعَامَكُمْ بِذِكْرِ اللهِ عز وجل وَالصَّلَاةِ، وَلَا تَنَامُوا عَلَيْهِ فَتَقْسُوَا قُلُوبُكُمْ»، وأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحًا، والواقع في التجربة يشهد به] اهـ.
وقال الإمام البيهقي في "الآداب" (ص: 269، ط. مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت): [أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس هو الأصم، حدثنا عبد الملك بن عبد الحميد، حدثنا روح، حدثنا أسامة بن زيد، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إن لله ملائكةً في الأرض يكتبون ما يقع في الأرض من ورق الشجر، فإن أصابت أحدًا منكم عرجة أو احتاج إلى عون بفلاة من الأرض فليقل: أعينوا عباد الله رحمكم الله، فإنه يعان إن شاء الله". هذا موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما، مستعمل عند الصالحين من أهل العلم؛ لوجود صدقه عندهم فيما جربوا. وبالله التوفيق] اهـ.
وقال الإمام السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 568، ط. دار الكتاب العربي، بيروت) في تخريج حديث «مَاءُ زَمْزَمَ، لِمَا شُرِبَ لَهُ»: [بل قال شيخنا -يعني ابن حجر-: إنه حسن مع كونه موقوفًا، وأفرد فيه جزءًا، واستشهد له في موضع آخر بحديث أبي ذر رضي الله عنه رفعه: «إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ»، وأصله في "مسلم"، وهذا اللفظ عند الطيالسي قال: ومرتبة هذا الحديث أنه باجتماع هذه الطرق يصلح للاحتجاج به، وقد جربه جماعة من الكبار فذكروا أنه صح، بل صححه من المتقدمين ابن عيينة، ومن المتأخرين الدمياطي في جزء جمعه فيه، والمنذري، وضعفه النووي] اهـ.
وقال الإمام ابن عابدين في "حاشية ابن عابدين" (4/ 286، ط. دار الفكر): [فائدة: ذكر ابن حجر في "حاشية الإيضاح" عن بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم ما نصه: إذا ضاع منك شيء فقل: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، اجمع بيني وبين كذا، ويسميه باسمه، فإنه مجرب. قال الإمام النووي: وقد جربته فوجدته نافعًا لوجود الضالة عن قرب غالبًا. ونقل عن بعض مشايخه مثل ذلك اهـ. والله سبحانه أعلم] اهـ.
فهذه طائفة من أهل العلم صرحت بالعمل بالتجربة فيما ورد من الأحاديث التي لم تصح من ناحية السند.
ومما تقدم يتبين ضعف طرق الحديث الدال على مشروعية قراءة القرآن الكريم في الركوع والسجود، وتعارض متنه ومعناه مع ما هو أقوى وأثبت منه من الأحاديث الدالة على النهي عن ذلك، ومع ذلك فقد ذهب طائفة من أهل العلم إلى مشروعية هذا العمل في الصلاة المكتوبة وفي الصلاة النافلة، إلا أن الراجح في هذا هو عدم المشروعية، ولا يلزم من هذا بطلان صلاة من فعل ذلك كما ذهب إليه الجمهور من حمل النهي على الكراهة، ولا ينكر على من فعل هذه الصلاة مقلدًا من جوزها من أهل العلم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;