تطهير الثياب بالبخار

هل غسل الثياب بالبخار أو ما يعرف بالغسيل الجاف (Dry Cleaning) يطهرها إذا كانت متنجسة؟

اعتنى دين الإسلام أيما اعتناء بشأن الطهارة الحسية والمعنوية في شتى أحكامه وتشريعاته، فالصلاة -التي هي عماد الدين- لا تكون صحيحة إلا بتوفر شرط الطهارة المتكون من شقين:
أحدهما: رفع الحدث.
والثاني: إزالة النَّجَس؛ في البدن والثوب والمكان.

وروى مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ» رواه مسلم، وحين سأل الصحابةُ الكرامُ النبيَّ الكريمَ صلى الله عليه وآله وسلم: هل يعرفهم يوم القيامة ويميزهم من بين سائر الأمم؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: «نَعَمْ، لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ؛ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ أَثَرِ الْوُضُوءِ» رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأما في خصوص طهارة الثياب؛ فقد قال تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّر﴾ [المدثر: 4].
وقد أرشدنا سبحانه إلى أن ماء السماء مادة مخلوقة لأغراض الطهارة والتطهير؛ فقال عز مِن قائل: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ [الأنفال: 11]، ويُلحق بماء السماء: كل ماء مطلق باق على أصل خلقته ويرجع مصدره إلى ماء السماء؛ كماء البحار والأنهار والعيون والآبار؛ قال سبحانه: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ [المؤمنون: 18]، ومعنى قوله تقدس في علاه: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: 48]؛ أي: طاهرًا في نفسه مطهرًا لغيره؛ قال الإمام أبو بكر بن العربي في "أحكام القرآن" (3/ 436، ط. دار الكتب العلمية: [وأجمعت الأمة -لغة وشريعة- على أن وصف طهور مختص بالماء، ولا يتعدى إلى سائر المائعات وهي طاهرة، فكان اقتصارهم بذلك على الماء أدلَّ دليل على أن الطهور هو المطهر] اهـ.

وفي الحديث الشريف عن أسماءَ بنتِ أبي بَكرٍ رضي الله عنهما قَالت: سَمِعْتُ امْرَأَةً تَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ: كَيْفَ تَصْنَعُ إِحْدَانَا بِثَوْبِهَا إِذَا رَأَتِ الطُّهْرَ؛ أَتُصَلِّي فِيهِ؟ قَالَ: «تَنْظُرُ؛ فَإِنْ رَأَتْ فِيهِ دَمًا فَلْتَقْرُصْهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ، وَلْتَنْضَحْ مَا لَمْ تَرَ وَلْتُصَلِّ فِيهِ» رواه أبو داود.

فدل هذا الحديث على صحة الصلاة في الثوب الذي لحقه نجاسة دم الحيض بعد تطهيره بإزالة عين النجاسة وغسل أثرها بالماء، ونضح المواضع المحتمل وجود أجزاء غير مرئية من النجاسة فيها بالماء، فكل هذا يفيد بأن الماء آلة يصح بها تطهير الثياب.

لكن اختلف الفقهاء في صلاحية غير الماء في تطهير الثياب من النجاسات؛ فذهب جمهور العلماء إلى أن الماء هو الوسيلة الوحيدة المشروعة لتطهير الثياب دون غيره؛ قال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (1/ 139-142، ط. المنيرية): [وأما حكم المسألة: وهو أن رفع الحدث وإزالة النجس لا يصح إلا بالماء المطلق فهو مذهبنا لا خلاف فيه عندنا، وبه قال جماهير السلف والخلف من الصحابة فمن بعدهم... قد ذكرنا أن إزالة النجاسة لا تجوز عندنا وعند الجمهور إلا بالماء، فلا تجوز بِخَلٍّ ولا بمائع آخر، وممن نُقل هذا عنه: مالك، ومحمد بن الحسن، وزفر، وإسحاق بن راهويه، وهو أصح الروايتين عن أحمد] اهـ.

ومما وجهوا به استدلالهم بحديث أسماء رضي الله عنها المذكور -كما في "حاشية العطار على شرح جمع الجوامع" للمحلي (1/ 334، ط. دار الكتب العلمية)-: [أن الأمر إذا تعلق بشيء بعينه لا يقع الامتثال إلا بذلك الشيء؛ فلا يخرج عن العهدة بغيره] اهـ؛ فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتطهير الثياب من دم الحيض بالماء لتصح الصلاة فيه، والحكم بصحة الصلاة أو بطلانها حكم شرعي توقيفي، وإذ قد أمر الشرع بإزالة نجاسة الثوب بالماء لم تكن الإزالة بغير ما عيَّنَه الشرع؛ امتثالًا للأمر.

يقول الإمام ابن العربي المالكي في "أحكام القرآن" (3/ 441-442، ط. دار الكتب العلمية): [لما وصف الله الماء بأنه طهور، وامتن بإنزاله من السماء ليطهرنا به دل على اختصاصه بذلك، وكذلك قال لأسماء بنت الصديق رضي الله عنهما في دم الحيض يصيب الثوب: «حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ، ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ»، فلذلك لم يلحق غير الماء بالماء لوجهين: أحدهما: ما في ذلك من إبطال فائدة الامتنان. والثاني: لأن غير الماء ليس بمطهِّر؛ بدليل أنه لا يرفع الحدث والجنابة، فلا يزيل النجس. وقال بعض علمائنا، وأهل العراق: إن كل مائع طاهر يزيل النجاسة... وليست النجاسة معنى محسوسًا، حتى يقال: كل ما أزالها فقد قام به الفرض، وإنما النجاسة حكم شرعي عيَّن له صاحب الشريعة الماء، فلا يلحق به غيره؛ إذ ليس في معناه، ولأنه لو لحق به لأسقطه، والفرع إذا عاد إلحاقه بالأصل بالإسقاط سقط في نفسه] اهـ.

وذهب الإمام أبو حنيفة وأبو يوسف وداود الظاهري والإمام أحمد في رواية عنه وبعض علماء المالكية -كما في النقل السابق عن ابن العربي- ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبو بكر الأصم، وهو اختيار الشيخ تقي الدين ابن تيمية من متأخري الحنابلة إلى أن ورود الشرع باعتبار الماء وسيلة لتطهير الثياب لا يمنع من وجود وسائل أخرى يقع بها التطهير أيضًا إذا كانت مزيلة للخبث؛ كسائر المائعات الطاهرة. انظر: "المجموع" (1/ 139-142)، و"الفتاوى الكبرى" (1/ 428، ط. دار الكتب العلمية).

ومما استدل به أصحاب هذا الرأي: أن المقصود بالذات في هذه المسألة هو إزالة النجاسة لا استعمال الماء بخصوصه؛ بدليل جواز الاقتصار على قطع موضع النجاسة أو حرقه والحكم بطهارة الثوب حينئذ، وكون الماء آلة صالحة للإزالة هو حكم شرعي معلل بكونه مزيلًا، فيتعدى الحكم إلى كل مائع يشاركه في تلك الخاصية. انظر: "حاشية التلويح على التوضيح" للتفتازاني (2/ 124، ط مكتبة صبيح بمصر).

ويقول الإمام الشاشي الحنفي في "أصوله" (ص: 177، ط دار الكتاب العربي): [التَّمَسُّك بقوله عَلَيْهِ السَّلَام: «حتيه، ثمَّ اقرصيه، ثمَّ اغسليه بِالْمَاءِ» لإثبات أَن الْخلَّ لَا يزِيل النَّجس ضَعِيف؛ لِأَن الْخَبَر يَقْتَضِي وجوب غسل الدَّم بِالْمَاءِ، فيتقيد بِحَال وجود الدَّم على الْمحل، وَلَا خلاف فِيهِ، وإنما الْخلاف فِي طَهَارَة الْمحل بعد زَوَال الدَّم بالخل] اهـ.

وقال العلامة الجصاص في "الفصول" (1/ 53-54، ط وزارة الأوقاف الكويتية): [الذي تضمنه الخبر الأمر بغسل دم الحيض بالماء، ومتى أزيل الدم بخل أو نحوه لم يبق هناك دم تناوله لفظ الخبر، فإذن لا تعلق لهذا الخبر بمسألة الخلاف] اهـ.

ويذكر الشيخ ابن تيمية من نصوص الشريعة ومعانيها ما يرجح به القول بصحة التطهير بغير الماء؛ فيقول في "الفتاوى الكبرى" (1/ 428، ط. دار الكتب العلمية): [وقوله في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد: «صُبُّوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ»؛ فأمر بالإزالة بالماء في قضايا معينة، ولم يأمر أمرًا عامًّا بأن تزال كل نجاسة بالماء، وقد أذن في إزالتها بغير الماء في مواضع: منها: الاستجمار بالأحجار. ومنها قوله في النعلين: «ثُمَّ لِيَدْلُكْهُمَا بِالتُّرَابِ، فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ». ومنها قوله في الذيل: «يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ». ومنها: "أَنَّ الْكِلَابَ كَانَتْ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَمْ يَكُونُوا يَغْسِلُونَ ذَلِكَ". ومنها قوله في الهرة: «إنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ»، مع أن الهرة في العادة تأكل الفأر، ولم تكن هناك قناة ترِدها تطهر بها أفواهها، وإنما طهرها ريقها. ومنها أن الخمر المنقلبة بنفسها تطهر باتفاق المسلمين، وإذا كان كذلك فالراجح في هذه المسألة: أن النجاسة متى زالت بأي وجه كان زال حكمها، فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها، لكن لا يجوز استعمال الأطعمة والأشربة في إزالة النجاسة لغير حاجة؛ لما في ذلك من إفساد الأموال كما لا يجوز الاستنجاء بها.

والذين قالوا: لا تزول إلا بالماء، منهم من قال: إن هذا تعبد.
وليس الأمر كذلك، فإن صاحب الشرع أمر بالماء في قضايا معينة؛ لأن إزالتها بالأشربة التي ينتفع بها المسلمون إفساد لها، وإزالتها بالجامدات كانت متعذرة] اهـ.

وبناء على ما سبق: فإنا نقول إن الأصل في إزالة النجاسة هو استعمال الماء، فإن شقت إزالتها به أو كان استعماله متلفًا للثوب، فلا مانع حينئذ من تقليد القول القائل بأن تطهير الثياب ونحوها بإزالة النجاسة عنها حكمٌ شرعيٌّ عِلَّتُهُ معقولةَ المعنى؛ وهي تَحَقُّق الإزالة التامة لعين النجاسة، وإزالة أثرها قدر المستطاع، وعليه: فالتنظيف الجاف الذي هو عبارة عن: عملية تقنية حديثة للتنظيف يستخدم فيها بعض المذيبات العضوية -كمادة رباعي كلورو إيثيلين المعروفة تجاريًّا بالاسم المختصر: (perc)- كما يستخدم فيها بخار الماء في بعض المراحل، وذلك بدلًا من استخدام الماء لتنظيف الملابس والمنسوجات التي قد تتضرر من تنظيفها بالمياه وطرق التنظيف التقليدية؛ يعد مطهرًا معتبرًا -للملابس المتنجسة ونحوها- ما دامت المواد المستخدمة فيه طاهرة في نفسها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

اعتنى دين الإسلام أيما اعتناء بشأن الطهارة الحسية والمعنوية في شتى أحكامه وتشريعاته، فالصلاة -التي هي عماد الدين- لا تكون صحيحة إلا بتوفر شرط الطهارة المتكون من شقين:
أحدهما: رفع الحدث.
والثاني: إزالة النَّجَس؛ في البدن والثوب والمكان.

وروى مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ» رواه مسلم، وحين سأل الصحابةُ الكرامُ النبيَّ الكريمَ صلى الله عليه وآله وسلم: هل يعرفهم يوم القيامة ويميزهم من بين سائر الأمم؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: «نَعَمْ، لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ؛ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ أَثَرِ الْوُضُوءِ» رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأما في خصوص طهارة الثياب؛ فقد قال تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّر﴾ [المدثر: 4].
وقد أرشدنا سبحانه إلى أن ماء السماء مادة مخلوقة لأغراض الطهارة والتطهير؛ فقال عز مِن قائل: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ [الأنفال: 11]، ويُلحق بماء السماء: كل ماء مطلق باق على أصل خلقته ويرجع مصدره إلى ماء السماء؛ كماء البحار والأنهار والعيون والآبار؛ قال سبحانه: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ [المؤمنون: 18]، ومعنى قوله تقدس في علاه: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: 48]؛ أي: طاهرًا في نفسه مطهرًا لغيره؛ قال الإمام أبو بكر بن العربي في "أحكام القرآن" (3/ 436، ط. دار الكتب العلمية: [وأجمعت الأمة -لغة وشريعة- على أن وصف طهور مختص بالماء، ولا يتعدى إلى سائر المائعات وهي طاهرة، فكان اقتصارهم بذلك على الماء أدلَّ دليل على أن الطهور هو المطهر] اهـ.

وفي الحديث الشريف عن أسماءَ بنتِ أبي بَكرٍ رضي الله عنهما قَالت: سَمِعْتُ امْرَأَةً تَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ: كَيْفَ تَصْنَعُ إِحْدَانَا بِثَوْبِهَا إِذَا رَأَتِ الطُّهْرَ؛ أَتُصَلِّي فِيهِ؟ قَالَ: «تَنْظُرُ؛ فَإِنْ رَأَتْ فِيهِ دَمًا فَلْتَقْرُصْهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ، وَلْتَنْضَحْ مَا لَمْ تَرَ وَلْتُصَلِّ فِيهِ» رواه أبو داود.

فدل هذا الحديث على صحة الصلاة في الثوب الذي لحقه نجاسة دم الحيض بعد تطهيره بإزالة عين النجاسة وغسل أثرها بالماء، ونضح المواضع المحتمل وجود أجزاء غير مرئية من النجاسة فيها بالماء، فكل هذا يفيد بأن الماء آلة يصح بها تطهير الثياب.

لكن اختلف الفقهاء في صلاحية غير الماء في تطهير الثياب من النجاسات؛ فذهب جمهور العلماء إلى أن الماء هو الوسيلة الوحيدة المشروعة لتطهير الثياب دون غيره؛ قال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (1/ 139-142، ط. المنيرية): [وأما حكم المسألة: وهو أن رفع الحدث وإزالة النجس لا يصح إلا بالماء المطلق فهو مذهبنا لا خلاف فيه عندنا، وبه قال جماهير السلف والخلف من الصحابة فمن بعدهم... قد ذكرنا أن إزالة النجاسة لا تجوز عندنا وعند الجمهور إلا بالماء، فلا تجوز بِخَلٍّ ولا بمائع آخر، وممن نُقل هذا عنه: مالك، ومحمد بن الحسن، وزفر، وإسحاق بن راهويه، وهو أصح الروايتين عن أحمد] اهـ.

ومما وجهوا به استدلالهم بحديث أسماء رضي الله عنها المذكور -كما في "حاشية العطار على شرح جمع الجوامع" للمحلي (1/ 334، ط. دار الكتب العلمية)-: [أن الأمر إذا تعلق بشيء بعينه لا يقع الامتثال إلا بذلك الشيء؛ فلا يخرج عن العهدة بغيره] اهـ؛ فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتطهير الثياب من دم الحيض بالماء لتصح الصلاة فيه، والحكم بصحة الصلاة أو بطلانها حكم شرعي توقيفي، وإذ قد أمر الشرع بإزالة نجاسة الثوب بالماء لم تكن الإزالة بغير ما عيَّنَه الشرع؛ امتثالًا للأمر.

يقول الإمام ابن العربي المالكي في "أحكام القرآن" (3/ 441-442، ط. دار الكتب العلمية): [لما وصف الله الماء بأنه طهور، وامتن بإنزاله من السماء ليطهرنا به دل على اختصاصه بذلك، وكذلك قال لأسماء بنت الصديق رضي الله عنهما في دم الحيض يصيب الثوب: «حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ، ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ»، فلذلك لم يلحق غير الماء بالماء لوجهين: أحدهما: ما في ذلك من إبطال فائدة الامتنان. والثاني: لأن غير الماء ليس بمطهِّر؛ بدليل أنه لا يرفع الحدث والجنابة، فلا يزيل النجس. وقال بعض علمائنا، وأهل العراق: إن كل مائع طاهر يزيل النجاسة... وليست النجاسة معنى محسوسًا، حتى يقال: كل ما أزالها فقد قام به الفرض، وإنما النجاسة حكم شرعي عيَّن له صاحب الشريعة الماء، فلا يلحق به غيره؛ إذ ليس في معناه، ولأنه لو لحق به لأسقطه، والفرع إذا عاد إلحاقه بالأصل بالإسقاط سقط في نفسه] اهـ.

وذهب الإمام أبو حنيفة وأبو يوسف وداود الظاهري والإمام أحمد في رواية عنه وبعض علماء المالكية -كما في النقل السابق عن ابن العربي- ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبو بكر الأصم، وهو اختيار الشيخ تقي الدين ابن تيمية من متأخري الحنابلة إلى أن ورود الشرع باعتبار الماء وسيلة لتطهير الثياب لا يمنع من وجود وسائل أخرى يقع بها التطهير أيضًا إذا كانت مزيلة للخبث؛ كسائر المائعات الطاهرة. انظر: "المجموع" (1/ 139-142)، و"الفتاوى الكبرى" (1/ 428، ط. دار الكتب العلمية).

ومما استدل به أصحاب هذا الرأي: أن المقصود بالذات في هذه المسألة هو إزالة النجاسة لا استعمال الماء بخصوصه؛ بدليل جواز الاقتصار على قطع موضع النجاسة أو حرقه والحكم بطهارة الثوب حينئذ، وكون الماء آلة صالحة للإزالة هو حكم شرعي معلل بكونه مزيلًا، فيتعدى الحكم إلى كل مائع يشاركه في تلك الخاصية. انظر: "حاشية التلويح على التوضيح" للتفتازاني (2/ 124، ط مكتبة صبيح بمصر).

ويقول الإمام الشاشي الحنفي في "أصوله" (ص: 177، ط دار الكتاب العربي): [التَّمَسُّك بقوله عَلَيْهِ السَّلَام: «حتيه، ثمَّ اقرصيه، ثمَّ اغسليه بِالْمَاءِ» لإثبات أَن الْخلَّ لَا يزِيل النَّجس ضَعِيف؛ لِأَن الْخَبَر يَقْتَضِي وجوب غسل الدَّم بِالْمَاءِ، فيتقيد بِحَال وجود الدَّم على الْمحل، وَلَا خلاف فِيهِ، وإنما الْخلاف فِي طَهَارَة الْمحل بعد زَوَال الدَّم بالخل] اهـ.

وقال العلامة الجصاص في "الفصول" (1/ 53-54، ط وزارة الأوقاف الكويتية): [الذي تضمنه الخبر الأمر بغسل دم الحيض بالماء، ومتى أزيل الدم بخل أو نحوه لم يبق هناك دم تناوله لفظ الخبر، فإذن لا تعلق لهذا الخبر بمسألة الخلاف] اهـ.

ويذكر الشيخ ابن تيمية من نصوص الشريعة ومعانيها ما يرجح به القول بصحة التطهير بغير الماء؛ فيقول في "الفتاوى الكبرى" (1/ 428، ط. دار الكتب العلمية): [وقوله في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد: «صُبُّوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ»؛ فأمر بالإزالة بالماء في قضايا معينة، ولم يأمر أمرًا عامًّا بأن تزال كل نجاسة بالماء، وقد أذن في إزالتها بغير الماء في مواضع: منها: الاستجمار بالأحجار. ومنها قوله في النعلين: «ثُمَّ لِيَدْلُكْهُمَا بِالتُّرَابِ، فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ». ومنها قوله في الذيل: «يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ». ومنها: "أَنَّ الْكِلَابَ كَانَتْ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَمْ يَكُونُوا يَغْسِلُونَ ذَلِكَ". ومنها قوله في الهرة: «إنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ»، مع أن الهرة في العادة تأكل الفأر، ولم تكن هناك قناة ترِدها تطهر بها أفواهها، وإنما طهرها ريقها. ومنها أن الخمر المنقلبة بنفسها تطهر باتفاق المسلمين، وإذا كان كذلك فالراجح في هذه المسألة: أن النجاسة متى زالت بأي وجه كان زال حكمها، فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها، لكن لا يجوز استعمال الأطعمة والأشربة في إزالة النجاسة لغير حاجة؛ لما في ذلك من إفساد الأموال كما لا يجوز الاستنجاء بها.

والذين قالوا: لا تزول إلا بالماء، منهم من قال: إن هذا تعبد.
وليس الأمر كذلك، فإن صاحب الشرع أمر بالماء في قضايا معينة؛ لأن إزالتها بالأشربة التي ينتفع بها المسلمون إفساد لها، وإزالتها بالجامدات كانت متعذرة] اهـ.

وبناء على ما سبق: فإنا نقول إن الأصل في إزالة النجاسة هو استعمال الماء، فإن شقت إزالتها به أو كان استعماله متلفًا للثوب، فلا مانع حينئذ من تقليد القول القائل بأن تطهير الثياب ونحوها بإزالة النجاسة عنها حكمٌ شرعيٌّ عِلَّتُهُ معقولةَ المعنى؛ وهي تَحَقُّق الإزالة التامة لعين النجاسة، وإزالة أثرها قدر المستطاع، وعليه: فالتنظيف الجاف الذي هو عبارة عن: عملية تقنية حديثة للتنظيف يستخدم فيها بعض المذيبات العضوية -كمادة رباعي كلورو إيثيلين المعروفة تجاريًّا بالاسم المختصر: (perc)- كما يستخدم فيها بخار الماء في بعض المراحل، وذلك بدلًا من استخدام الماء لتنظيف الملابس والمنسوجات التي قد تتضرر من تنظيفها بالمياه وطرق التنظيف التقليدية؛ يعد مطهرًا معتبرًا -للملابس المتنجسة ونحوها- ما دامت المواد المستخدمة فيه طاهرة في نفسها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

تطهير الثياب بالبخار

هل غسل الثياب بالبخار أو ما يعرف بالغسيل الجاف (Dry Cleaning) يطهرها إذا كانت متنجسة؟

اعتنى دين الإسلام أيما اعتناء بشأن الطهارة الحسية والمعنوية في شتى أحكامه وتشريعاته، فالصلاة -التي هي عماد الدين- لا تكون صحيحة إلا بتوفر شرط الطهارة المتكون من شقين:
أحدهما: رفع الحدث.
والثاني: إزالة النَّجَس؛ في البدن والثوب والمكان.

وروى مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ» رواه مسلم، وحين سأل الصحابةُ الكرامُ النبيَّ الكريمَ صلى الله عليه وآله وسلم: هل يعرفهم يوم القيامة ويميزهم من بين سائر الأمم؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: «نَعَمْ، لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ؛ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ أَثَرِ الْوُضُوءِ» رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأما في خصوص طهارة الثياب؛ فقد قال تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّر﴾ [المدثر: 4].
وقد أرشدنا سبحانه إلى أن ماء السماء مادة مخلوقة لأغراض الطهارة والتطهير؛ فقال عز مِن قائل: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ [الأنفال: 11]، ويُلحق بماء السماء: كل ماء مطلق باق على أصل خلقته ويرجع مصدره إلى ماء السماء؛ كماء البحار والأنهار والعيون والآبار؛ قال سبحانه: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ [المؤمنون: 18]، ومعنى قوله تقدس في علاه: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: 48]؛ أي: طاهرًا في نفسه مطهرًا لغيره؛ قال الإمام أبو بكر بن العربي في "أحكام القرآن" (3/ 436، ط. دار الكتب العلمية: [وأجمعت الأمة -لغة وشريعة- على أن وصف طهور مختص بالماء، ولا يتعدى إلى سائر المائعات وهي طاهرة، فكان اقتصارهم بذلك على الماء أدلَّ دليل على أن الطهور هو المطهر] اهـ.

وفي الحديث الشريف عن أسماءَ بنتِ أبي بَكرٍ رضي الله عنهما قَالت: سَمِعْتُ امْرَأَةً تَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ: كَيْفَ تَصْنَعُ إِحْدَانَا بِثَوْبِهَا إِذَا رَأَتِ الطُّهْرَ؛ أَتُصَلِّي فِيهِ؟ قَالَ: «تَنْظُرُ؛ فَإِنْ رَأَتْ فِيهِ دَمًا فَلْتَقْرُصْهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ، وَلْتَنْضَحْ مَا لَمْ تَرَ وَلْتُصَلِّ فِيهِ» رواه أبو داود.

فدل هذا الحديث على صحة الصلاة في الثوب الذي لحقه نجاسة دم الحيض بعد تطهيره بإزالة عين النجاسة وغسل أثرها بالماء، ونضح المواضع المحتمل وجود أجزاء غير مرئية من النجاسة فيها بالماء، فكل هذا يفيد بأن الماء آلة يصح بها تطهير الثياب.

لكن اختلف الفقهاء في صلاحية غير الماء في تطهير الثياب من النجاسات؛ فذهب جمهور العلماء إلى أن الماء هو الوسيلة الوحيدة المشروعة لتطهير الثياب دون غيره؛ قال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (1/ 139-142، ط. المنيرية): [وأما حكم المسألة: وهو أن رفع الحدث وإزالة النجس لا يصح إلا بالماء المطلق فهو مذهبنا لا خلاف فيه عندنا، وبه قال جماهير السلف والخلف من الصحابة فمن بعدهم... قد ذكرنا أن إزالة النجاسة لا تجوز عندنا وعند الجمهور إلا بالماء، فلا تجوز بِخَلٍّ ولا بمائع آخر، وممن نُقل هذا عنه: مالك، ومحمد بن الحسن، وزفر، وإسحاق بن راهويه، وهو أصح الروايتين عن أحمد] اهـ.

ومما وجهوا به استدلالهم بحديث أسماء رضي الله عنها المذكور -كما في "حاشية العطار على شرح جمع الجوامع" للمحلي (1/ 334، ط. دار الكتب العلمية)-: [أن الأمر إذا تعلق بشيء بعينه لا يقع الامتثال إلا بذلك الشيء؛ فلا يخرج عن العهدة بغيره] اهـ؛ فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتطهير الثياب من دم الحيض بالماء لتصح الصلاة فيه، والحكم بصحة الصلاة أو بطلانها حكم شرعي توقيفي، وإذ قد أمر الشرع بإزالة نجاسة الثوب بالماء لم تكن الإزالة بغير ما عيَّنَه الشرع؛ امتثالًا للأمر.

يقول الإمام ابن العربي المالكي في "أحكام القرآن" (3/ 441-442، ط. دار الكتب العلمية): [لما وصف الله الماء بأنه طهور، وامتن بإنزاله من السماء ليطهرنا به دل على اختصاصه بذلك، وكذلك قال لأسماء بنت الصديق رضي الله عنهما في دم الحيض يصيب الثوب: «حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ، ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ»، فلذلك لم يلحق غير الماء بالماء لوجهين: أحدهما: ما في ذلك من إبطال فائدة الامتنان. والثاني: لأن غير الماء ليس بمطهِّر؛ بدليل أنه لا يرفع الحدث والجنابة، فلا يزيل النجس. وقال بعض علمائنا، وأهل العراق: إن كل مائع طاهر يزيل النجاسة... وليست النجاسة معنى محسوسًا، حتى يقال: كل ما أزالها فقد قام به الفرض، وإنما النجاسة حكم شرعي عيَّن له صاحب الشريعة الماء، فلا يلحق به غيره؛ إذ ليس في معناه، ولأنه لو لحق به لأسقطه، والفرع إذا عاد إلحاقه بالأصل بالإسقاط سقط في نفسه] اهـ.

وذهب الإمام أبو حنيفة وأبو يوسف وداود الظاهري والإمام أحمد في رواية عنه وبعض علماء المالكية -كما في النقل السابق عن ابن العربي- ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبو بكر الأصم، وهو اختيار الشيخ تقي الدين ابن تيمية من متأخري الحنابلة إلى أن ورود الشرع باعتبار الماء وسيلة لتطهير الثياب لا يمنع من وجود وسائل أخرى يقع بها التطهير أيضًا إذا كانت مزيلة للخبث؛ كسائر المائعات الطاهرة. انظر: "المجموع" (1/ 139-142)، و"الفتاوى الكبرى" (1/ 428، ط. دار الكتب العلمية).

ومما استدل به أصحاب هذا الرأي: أن المقصود بالذات في هذه المسألة هو إزالة النجاسة لا استعمال الماء بخصوصه؛ بدليل جواز الاقتصار على قطع موضع النجاسة أو حرقه والحكم بطهارة الثوب حينئذ، وكون الماء آلة صالحة للإزالة هو حكم شرعي معلل بكونه مزيلًا، فيتعدى الحكم إلى كل مائع يشاركه في تلك الخاصية. انظر: "حاشية التلويح على التوضيح" للتفتازاني (2/ 124، ط مكتبة صبيح بمصر).

ويقول الإمام الشاشي الحنفي في "أصوله" (ص: 177، ط دار الكتاب العربي): [التَّمَسُّك بقوله عَلَيْهِ السَّلَام: «حتيه، ثمَّ اقرصيه، ثمَّ اغسليه بِالْمَاءِ» لإثبات أَن الْخلَّ لَا يزِيل النَّجس ضَعِيف؛ لِأَن الْخَبَر يَقْتَضِي وجوب غسل الدَّم بِالْمَاءِ، فيتقيد بِحَال وجود الدَّم على الْمحل، وَلَا خلاف فِيهِ، وإنما الْخلاف فِي طَهَارَة الْمحل بعد زَوَال الدَّم بالخل] اهـ.

وقال العلامة الجصاص في "الفصول" (1/ 53-54، ط وزارة الأوقاف الكويتية): [الذي تضمنه الخبر الأمر بغسل دم الحيض بالماء، ومتى أزيل الدم بخل أو نحوه لم يبق هناك دم تناوله لفظ الخبر، فإذن لا تعلق لهذا الخبر بمسألة الخلاف] اهـ.

ويذكر الشيخ ابن تيمية من نصوص الشريعة ومعانيها ما يرجح به القول بصحة التطهير بغير الماء؛ فيقول في "الفتاوى الكبرى" (1/ 428، ط. دار الكتب العلمية): [وقوله في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد: «صُبُّوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ»؛ فأمر بالإزالة بالماء في قضايا معينة، ولم يأمر أمرًا عامًّا بأن تزال كل نجاسة بالماء، وقد أذن في إزالتها بغير الماء في مواضع: منها: الاستجمار بالأحجار. ومنها قوله في النعلين: «ثُمَّ لِيَدْلُكْهُمَا بِالتُّرَابِ، فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ». ومنها قوله في الذيل: «يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ». ومنها: "أَنَّ الْكِلَابَ كَانَتْ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَمْ يَكُونُوا يَغْسِلُونَ ذَلِكَ". ومنها قوله في الهرة: «إنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ»، مع أن الهرة في العادة تأكل الفأر، ولم تكن هناك قناة ترِدها تطهر بها أفواهها، وإنما طهرها ريقها. ومنها أن الخمر المنقلبة بنفسها تطهر باتفاق المسلمين، وإذا كان كذلك فالراجح في هذه المسألة: أن النجاسة متى زالت بأي وجه كان زال حكمها، فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها، لكن لا يجوز استعمال الأطعمة والأشربة في إزالة النجاسة لغير حاجة؛ لما في ذلك من إفساد الأموال كما لا يجوز الاستنجاء بها.

والذين قالوا: لا تزول إلا بالماء، منهم من قال: إن هذا تعبد.
وليس الأمر كذلك، فإن صاحب الشرع أمر بالماء في قضايا معينة؛ لأن إزالتها بالأشربة التي ينتفع بها المسلمون إفساد لها، وإزالتها بالجامدات كانت متعذرة] اهـ.

وبناء على ما سبق: فإنا نقول إن الأصل في إزالة النجاسة هو استعمال الماء، فإن شقت إزالتها به أو كان استعماله متلفًا للثوب، فلا مانع حينئذ من تقليد القول القائل بأن تطهير الثياب ونحوها بإزالة النجاسة عنها حكمٌ شرعيٌّ عِلَّتُهُ معقولةَ المعنى؛ وهي تَحَقُّق الإزالة التامة لعين النجاسة، وإزالة أثرها قدر المستطاع، وعليه: فالتنظيف الجاف الذي هو عبارة عن: عملية تقنية حديثة للتنظيف يستخدم فيها بعض المذيبات العضوية -كمادة رباعي كلورو إيثيلين المعروفة تجاريًّا بالاسم المختصر: (perc)- كما يستخدم فيها بخار الماء في بعض المراحل، وذلك بدلًا من استخدام الماء لتنظيف الملابس والمنسوجات التي قد تتضرر من تنظيفها بالمياه وطرق التنظيف التقليدية؛ يعد مطهرًا معتبرًا -للملابس المتنجسة ونحوها- ما دامت المواد المستخدمة فيه طاهرة في نفسها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

اعتنى دين الإسلام أيما اعتناء بشأن الطهارة الحسية والمعنوية في شتى أحكامه وتشريعاته، فالصلاة -التي هي عماد الدين- لا تكون صحيحة إلا بتوفر شرط الطهارة المتكون من شقين:
أحدهما: رفع الحدث.
والثاني: إزالة النَّجَس؛ في البدن والثوب والمكان.

وروى مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ» رواه مسلم، وحين سأل الصحابةُ الكرامُ النبيَّ الكريمَ صلى الله عليه وآله وسلم: هل يعرفهم يوم القيامة ويميزهم من بين سائر الأمم؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: «نَعَمْ، لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ؛ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ أَثَرِ الْوُضُوءِ» رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأما في خصوص طهارة الثياب؛ فقد قال تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّر﴾ [المدثر: 4].
وقد أرشدنا سبحانه إلى أن ماء السماء مادة مخلوقة لأغراض الطهارة والتطهير؛ فقال عز مِن قائل: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ [الأنفال: 11]، ويُلحق بماء السماء: كل ماء مطلق باق على أصل خلقته ويرجع مصدره إلى ماء السماء؛ كماء البحار والأنهار والعيون والآبار؛ قال سبحانه: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ [المؤمنون: 18]، ومعنى قوله تقدس في علاه: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: 48]؛ أي: طاهرًا في نفسه مطهرًا لغيره؛ قال الإمام أبو بكر بن العربي في "أحكام القرآن" (3/ 436، ط. دار الكتب العلمية: [وأجمعت الأمة -لغة وشريعة- على أن وصف طهور مختص بالماء، ولا يتعدى إلى سائر المائعات وهي طاهرة، فكان اقتصارهم بذلك على الماء أدلَّ دليل على أن الطهور هو المطهر] اهـ.

وفي الحديث الشريف عن أسماءَ بنتِ أبي بَكرٍ رضي الله عنهما قَالت: سَمِعْتُ امْرَأَةً تَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ: كَيْفَ تَصْنَعُ إِحْدَانَا بِثَوْبِهَا إِذَا رَأَتِ الطُّهْرَ؛ أَتُصَلِّي فِيهِ؟ قَالَ: «تَنْظُرُ؛ فَإِنْ رَأَتْ فِيهِ دَمًا فَلْتَقْرُصْهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ، وَلْتَنْضَحْ مَا لَمْ تَرَ وَلْتُصَلِّ فِيهِ» رواه أبو داود.

فدل هذا الحديث على صحة الصلاة في الثوب الذي لحقه نجاسة دم الحيض بعد تطهيره بإزالة عين النجاسة وغسل أثرها بالماء، ونضح المواضع المحتمل وجود أجزاء غير مرئية من النجاسة فيها بالماء، فكل هذا يفيد بأن الماء آلة يصح بها تطهير الثياب.

لكن اختلف الفقهاء في صلاحية غير الماء في تطهير الثياب من النجاسات؛ فذهب جمهور العلماء إلى أن الماء هو الوسيلة الوحيدة المشروعة لتطهير الثياب دون غيره؛ قال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (1/ 139-142، ط. المنيرية): [وأما حكم المسألة: وهو أن رفع الحدث وإزالة النجس لا يصح إلا بالماء المطلق فهو مذهبنا لا خلاف فيه عندنا، وبه قال جماهير السلف والخلف من الصحابة فمن بعدهم... قد ذكرنا أن إزالة النجاسة لا تجوز عندنا وعند الجمهور إلا بالماء، فلا تجوز بِخَلٍّ ولا بمائع آخر، وممن نُقل هذا عنه: مالك، ومحمد بن الحسن، وزفر، وإسحاق بن راهويه، وهو أصح الروايتين عن أحمد] اهـ.

ومما وجهوا به استدلالهم بحديث أسماء رضي الله عنها المذكور -كما في "حاشية العطار على شرح جمع الجوامع" للمحلي (1/ 334، ط. دار الكتب العلمية)-: [أن الأمر إذا تعلق بشيء بعينه لا يقع الامتثال إلا بذلك الشيء؛ فلا يخرج عن العهدة بغيره] اهـ؛ فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتطهير الثياب من دم الحيض بالماء لتصح الصلاة فيه، والحكم بصحة الصلاة أو بطلانها حكم شرعي توقيفي، وإذ قد أمر الشرع بإزالة نجاسة الثوب بالماء لم تكن الإزالة بغير ما عيَّنَه الشرع؛ امتثالًا للأمر.

يقول الإمام ابن العربي المالكي في "أحكام القرآن" (3/ 441-442، ط. دار الكتب العلمية): [لما وصف الله الماء بأنه طهور، وامتن بإنزاله من السماء ليطهرنا به دل على اختصاصه بذلك، وكذلك قال لأسماء بنت الصديق رضي الله عنهما في دم الحيض يصيب الثوب: «حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ، ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ»، فلذلك لم يلحق غير الماء بالماء لوجهين: أحدهما: ما في ذلك من إبطال فائدة الامتنان. والثاني: لأن غير الماء ليس بمطهِّر؛ بدليل أنه لا يرفع الحدث والجنابة، فلا يزيل النجس. وقال بعض علمائنا، وأهل العراق: إن كل مائع طاهر يزيل النجاسة... وليست النجاسة معنى محسوسًا، حتى يقال: كل ما أزالها فقد قام به الفرض، وإنما النجاسة حكم شرعي عيَّن له صاحب الشريعة الماء، فلا يلحق به غيره؛ إذ ليس في معناه، ولأنه لو لحق به لأسقطه، والفرع إذا عاد إلحاقه بالأصل بالإسقاط سقط في نفسه] اهـ.

وذهب الإمام أبو حنيفة وأبو يوسف وداود الظاهري والإمام أحمد في رواية عنه وبعض علماء المالكية -كما في النقل السابق عن ابن العربي- ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبو بكر الأصم، وهو اختيار الشيخ تقي الدين ابن تيمية من متأخري الحنابلة إلى أن ورود الشرع باعتبار الماء وسيلة لتطهير الثياب لا يمنع من وجود وسائل أخرى يقع بها التطهير أيضًا إذا كانت مزيلة للخبث؛ كسائر المائعات الطاهرة. انظر: "المجموع" (1/ 139-142)، و"الفتاوى الكبرى" (1/ 428، ط. دار الكتب العلمية).

ومما استدل به أصحاب هذا الرأي: أن المقصود بالذات في هذه المسألة هو إزالة النجاسة لا استعمال الماء بخصوصه؛ بدليل جواز الاقتصار على قطع موضع النجاسة أو حرقه والحكم بطهارة الثوب حينئذ، وكون الماء آلة صالحة للإزالة هو حكم شرعي معلل بكونه مزيلًا، فيتعدى الحكم إلى كل مائع يشاركه في تلك الخاصية. انظر: "حاشية التلويح على التوضيح" للتفتازاني (2/ 124، ط مكتبة صبيح بمصر).

ويقول الإمام الشاشي الحنفي في "أصوله" (ص: 177، ط دار الكتاب العربي): [التَّمَسُّك بقوله عَلَيْهِ السَّلَام: «حتيه، ثمَّ اقرصيه، ثمَّ اغسليه بِالْمَاءِ» لإثبات أَن الْخلَّ لَا يزِيل النَّجس ضَعِيف؛ لِأَن الْخَبَر يَقْتَضِي وجوب غسل الدَّم بِالْمَاءِ، فيتقيد بِحَال وجود الدَّم على الْمحل، وَلَا خلاف فِيهِ، وإنما الْخلاف فِي طَهَارَة الْمحل بعد زَوَال الدَّم بالخل] اهـ.

وقال العلامة الجصاص في "الفصول" (1/ 53-54، ط وزارة الأوقاف الكويتية): [الذي تضمنه الخبر الأمر بغسل دم الحيض بالماء، ومتى أزيل الدم بخل أو نحوه لم يبق هناك دم تناوله لفظ الخبر، فإذن لا تعلق لهذا الخبر بمسألة الخلاف] اهـ.

ويذكر الشيخ ابن تيمية من نصوص الشريعة ومعانيها ما يرجح به القول بصحة التطهير بغير الماء؛ فيقول في "الفتاوى الكبرى" (1/ 428، ط. دار الكتب العلمية): [وقوله في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد: «صُبُّوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ»؛ فأمر بالإزالة بالماء في قضايا معينة، ولم يأمر أمرًا عامًّا بأن تزال كل نجاسة بالماء، وقد أذن في إزالتها بغير الماء في مواضع: منها: الاستجمار بالأحجار. ومنها قوله في النعلين: «ثُمَّ لِيَدْلُكْهُمَا بِالتُّرَابِ، فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ». ومنها قوله في الذيل: «يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ». ومنها: "أَنَّ الْكِلَابَ كَانَتْ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَمْ يَكُونُوا يَغْسِلُونَ ذَلِكَ". ومنها قوله في الهرة: «إنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ»، مع أن الهرة في العادة تأكل الفأر، ولم تكن هناك قناة ترِدها تطهر بها أفواهها، وإنما طهرها ريقها. ومنها أن الخمر المنقلبة بنفسها تطهر باتفاق المسلمين، وإذا كان كذلك فالراجح في هذه المسألة: أن النجاسة متى زالت بأي وجه كان زال حكمها، فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها، لكن لا يجوز استعمال الأطعمة والأشربة في إزالة النجاسة لغير حاجة؛ لما في ذلك من إفساد الأموال كما لا يجوز الاستنجاء بها.

والذين قالوا: لا تزول إلا بالماء، منهم من قال: إن هذا تعبد.
وليس الأمر كذلك، فإن صاحب الشرع أمر بالماء في قضايا معينة؛ لأن إزالتها بالأشربة التي ينتفع بها المسلمون إفساد لها، وإزالتها بالجامدات كانت متعذرة] اهـ.

وبناء على ما سبق: فإنا نقول إن الأصل في إزالة النجاسة هو استعمال الماء، فإن شقت إزالتها به أو كان استعماله متلفًا للثوب، فلا مانع حينئذ من تقليد القول القائل بأن تطهير الثياب ونحوها بإزالة النجاسة عنها حكمٌ شرعيٌّ عِلَّتُهُ معقولةَ المعنى؛ وهي تَحَقُّق الإزالة التامة لعين النجاسة، وإزالة أثرها قدر المستطاع، وعليه: فالتنظيف الجاف الذي هو عبارة عن: عملية تقنية حديثة للتنظيف يستخدم فيها بعض المذيبات العضوية -كمادة رباعي كلورو إيثيلين المعروفة تجاريًّا بالاسم المختصر: (perc)- كما يستخدم فيها بخار الماء في بعض المراحل، وذلك بدلًا من استخدام الماء لتنظيف الملابس والمنسوجات التي قد تتضرر من تنظيفها بالمياه وطرق التنظيف التقليدية؛ يعد مطهرًا معتبرًا -للملابس المتنجسة ونحوها- ما دامت المواد المستخدمة فيه طاهرة في نفسها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;