هل يجوز المسح على الجبائر؟ وإن جاز المسح فما هي ضوابطه؟
المسح على الجبائر
.الجبائر جمع جبيرة، وهي: وسِيلَةٌ من وسائل العلاج المستخدمة في حالات كسور العظام وغيرها، يقال: جبر عظمه جَبْرًا، أي: أصلحه بعد كَسْر، ويدخل في تعريفها عند الفقهاء كلٌّ من العِصَابَة أو اللَّصوق، أو ما يُوضَع في الجروح من دواء يمنع وصول الماء -كدهن أو غيره- نص على ذلك السادة الأحناف، فقد ذُكِرَ تعريفها في "تنوير الأبصار وشرحه" (1/ 279، ط. دار الكتب العلمية) بأنها: [عِيدَانٌ يُجْبَرُ بِهَا الكَسْر (وخِرْقَة قُرْحَة، وموضع فصد)، وكَيّ، (ونحو ذلك)، كعِصَابة جراحة ولو برأسه] اهـ. وسُمِيَّت الجبيرة بذلك تَفَاؤلًا.
وكانت الجبائر قديمًا على هيئة عِظام توضع على الموضع العليل من الجسد يَنْجَبِرُ بها. ينظر: "المصباح المنير" (ص: 89، مادة: ج ب ر، ط. المكتبة العلمية).
ونظرًا لتطور وسائل العلاج فلم يعد الناس -في الغالب- يستخدمون العظام في الْجَبْر، فأطلق اسم الجبيرة على كلِّ ما يُشَدُّ على العظم المكسور؛ ليشمل جميع الوسائل المستخدمة لذلك. انظر: "المعجم الوسيط" (ص: 105، ط. دار الدعوة).
وأحيانًا تكون الجبائر في مواضع يجب غسلها للطهارة من الحدثين اللازمة لأداء العبادات؛ فتكون حَاجِزًا مانعًا من وصول الماء إلى هذا العضو الذي يشترط وُصُول الماء إليه، ويكون في نزعها حَرَج وضَرَر.
وقد تكلم الفقهاء قديمًا عن حكم هذه المسألة، واتفقوا على مشروعية المسح على الجبائر في حالة العُذْر نِيَابَةً عن الغسل أو المسح الأصلي في الوضوء، أو الغسل، أو التيمم، واستدلوا على ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مَنْ ابْتُلِيَ بالجبيرة بأن يَمْسَح عليها؛ وذلك فيما أخرجه البيهقي في "سننه الكبرى" وأصله في "سنن ابن ماجه "عن الإمام علي رضي الله عنه أنه قال: انْكَسَرَتْ إِحْدَى زَنْدَيَّ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «امْسَحْ عَلَى الْجَبَائِرِ».
فهذا أمرٌ منه صلى الله عليه وآله وسلم بالمسح على الجبيرة لسيدنا عليٍّ رضي الله عنه لَمّا ابتُلِي بها، وذلك نيابة عن غسل ما تحتها، فدلَّ الأمر بذلك على مشروعية المأمور به.
وقد وبخَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أَفْتَوْا بغير ذلك توبيخًا شديدًا؛ وذلك لِمَا حصل من الضرر جرَّاء تضييقهم لما وسَّعه الله ورسوله؛ فقد رَوَى جابر رضي الله عنه: أن رجلًا أصابه حَجَرٌ فشجَّه في رأسه ثُمَّ احْتَلَمَ، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رُخْصَةً في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رُخْصَة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ -أَوْ يَعْصِبَ؛ شَكَّ مُوسَى- َعلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ» أخرجه أبو داود والدارقطني والبيهقي، وفي هذا الحديث بيانٌ منه صلى الله عليه وآله وسلم بمشروعية المسح على الجبائر.
كما صح ثبوت مشروعية المسح على الجبائر عن ابن عمر رضي الله عنهما ولم يُعْرَف له مخالف من الصحابة. انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 228، ط. دار الفكر)، و"كشاف القناع" (1/ 112، ط. دار الكتب العلمية).
وصح ذلك أيضًا عن أئمة التابعين؛ كعُبيد بن عمير، وطاوس، ومجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، والحسن، وأبي مجلز، وإبراهيم النخعي، وقتادة. انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 229).
ودل العقل على مشروعية المسح على الجبائر؛ إذ الحاجة تدعو لذلك لما في نزعها من حرج وضرر؛ قال العلامة المرغيناني الحنفي في "الهداية شرح البداية" في تعليل جواز المسح على الجبائر (1/ 23، ط. دار إحياء التراث العربي): [لأن الحرج فيه فوق الحرج في نزع الخف فكان أولى بشرع المسح] اهـ.
ونصَّ على ذلك أصحاب المذاهب المتبوعة، فقد نُقِلت مشروعية المسح على الجبائر بدلًا من غسل ما تحتها عن الأحناف؛ فقد جاء في "الدر المختار شرح تنوير الأبصار" (1/ 279-280، ومعه "حاشية ابن عابدين"، ط. دار الكتب العلمية) ما نصه: [(وحكم مسح جبيرة): هي عيدان يجبر بها الكسر، (وخرقة قرحة، وموضع فصد)، وكي (ونحو ذلك)؛ كعصابة جراحة ولو برأسه (كغسل لما تحتها) فيكون فرضًا] اهـ.
ونصَّ المالكية عليها كذلك؛ فقد جاء في "مختصر الشيخ خليل" و"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (1/ 162-163، ط. دار إحياء الكتب العربية): [(فصل) في مسح الجرح أو الجبيرة بدلًا عن الغسل للضرورة: (إِنْ خِيفَ غسل جُرح)... خَوْفًا (كالتيمم) أيْ: كالخوف المتقدم فيه في قوله، أو خافوا باستعماله مرضًا أو زيادته أو تأخر برء (مَسَحَ) مرَّةً وجوبًا إِنْ خِيفَ هلاك أو شِدَّة أذى؛ كتعطيل منفعة: من ذهاب سمع أو بصر مثلًا، وإلا فندبًا، ومثل الجرح غيره كالرمد، (ثم) إن لم يستطع المسح عليه مُسِحَتْ (جبيرته) أيْ: جبيرة الجرح] اهـ.
ونُقل ذلك عن الشافعية، إلا أنهم اشترطوا وضعها على طهر؛ فقد قال العلامة أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب في الفروع" (1/ 37، ط. عيسى الحلبي): [إذا كان على بعض أعضائه كسر يحتاج إلى وَضْعِ الجبائر وَضَعَ الجبائر على طُهْرٍ، فإِنْ وضعها على طُهْر ثم أحدث وخاف من نزعها، أو وضعها على غير طُهْر وخاف من نزعها مسح على الجبائر؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر عليًّا رضي الله عنه أن يمسح على الجبائر؛ ولأنه تلحقه المشقة في نزعها فجاز المسح عليها كالخُفِّ] اهـ.
ونقل ذلك أيضًا عن الحنابلة؛ فقد جاء في "كشاف القناع" (1/ 112، ط. دار الكتب العلمية): [(و) يصح المسح على (جبائر، جمع جبيرة وهي أخشاب أو نحوها تربط على الكسر أو نحوه)؛ كالجرح] اهـ.
ويتعلق بالمسح على الجبيرة بعض المسائل، وهي:
أولًا: يجب المسح على الجبيرة عند إرادة الطهارة، وذلك إذا كان غسل العضو المنكسر أو المجروح أو مسحه مما يضرُّ به، أو كان يخشى حدوث الضرر بنزع الجبيرة، فإنْ تَرَكَ المسْح فسدت صلاته عند الصاحبين -أبي يوسف ومحمد- وهو المفتى به عند الأحناف، وإلى ذلك ذهب المالكية، والشافعية في المذهب، والحنابلة، وعند أبي حنيفة يأثم بتركه مع صحة صلاته ووجوب إعادتها؛ فالوجوب مُتَّفَقٌ عليه عند الأحناف، مع اختلافهم في معناه. بخلاف ما إذا كان المسح على الجبيرة مما يضر به ضررًا مُعتَبرًا، فإنه يسقط؛ لدفع الضرر، ولأن الغسل يسقط بالعذر، فالمسح أولى أن يسقط، وإن كان في غسل الأعضاء الصحيحة مَظِنةُ حدوث ضرر بالأعضاء الجريحة فإن فرضه التيمم حينئذٍ.
ثانيًا: ووقْتُ المسح على الجبيرة: حين يغسل المحدث العضوَ العليلَ؛ للترتيب، بخلاف الجنب يمسح متى شاء، وعليه استيعاب الجبيرة بالمسح ما أمكنه ذلك، كما هو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، والأصح من مذهب الشافعية. انظر: "أسنى المطالب" للشيخ زكريا الأنصاري (1/ 82، ط. دار الكتاب الإسلامي)، و"المجموع" (2/ 370، ط. مطبعة المنيرية).
ثالثًا: ولا يشترط أن يجمع بين الغسل -للأعضاء الصحيحة، والمسح على الجبيرة- والتيمم؛ كما هو مذهب السادة الشافعية، بل يكفيه الغسل والمسح فقط، ويستحب له أن يجمع معهما التيمم خروجًا من الخلاف؛ فإن الخروج من الخلاف مستحب.
رابعًا: لا يشترط لصحة المسح وضع الجبيرة على طهارة مائية كما شرط الشافعية والحنابلة؛ تيسيرًا ودفعًا للحرج كما هو مذهب الأحناف والمالكية، ويستحب وضعها على طُهرٍ عند المقدرة عليه خروجًا من الخلاف.
فقد اشترط الشافعية في الصحيح المشهور، وفي رواية عن الإمام أحمد أن تكون الجبيرة موضوعة على طهارة، فإن خالف ووضعها على غير طُهْرٍ وجب نزعها، وذلك إن لم يخف ضَرَرًا بنزعها، فإن خاف الضرر لم ينزعها ويصح مسحه عليها ويقضي؛ لفوات شرط وضعها على طهر. انظر: "نهاية المحتاج" للإمام الرملي (1/ 269، ط. مصطفى الحلبي).
خامسًا: إذا لم يستطع المسح على الجبيرة -بأنْ كان المسح يضره ضررًا معتبرًا- فإنه يستحب له أن يتيمم عن العضو الذي لم يستطع المسح عليه؛ وذلك عملًا بقول من أجاز التيمم عن العضو مع عدم المسح عليه، وهو قول بعض الشافعية: حكاه الرَّافِعِيُّ عن حِكَايَةِ الْحَنَّاطِيِّ: أنَّهُ يَكْفِيهِ التَّيَمُّم، ولا يمسح الجبيرة بالماء، ونقله صاحب "الْعُدَّةِ" أيضًا، واختاره القاضي أبو الطَّيِّبِ. "المجموع" (2/ 326، ط. دار الفكر)، واحتياطًا في أمور العبادات، وخروجًا من الخلاف.
وبناءً على ما سبق: فإن من دعته ضرورة إلى تغطية موضع من مواضع الوضوء أو الغُسل، يجب أن يمسح عليه عند إرادة الطهارة إن ترتب على نزعه ضرر، وذلك بالضوابط المذكورة، فإن لم يستطع المسح سقط عنه، ويستحب له التيمم عن المجبور؛ خروجًا من الخلاف، وإذا صلى على هذه الحالة لا تلزمه إعادة الصلاة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
.الجبائر جمع جبيرة، وهي: وسِيلَةٌ من وسائل العلاج المستخدمة في حالات كسور العظام وغيرها، يقال: جبر عظمه جَبْرًا، أي: أصلحه بعد كَسْر، ويدخل في تعريفها عند الفقهاء كلٌّ من العِصَابَة أو اللَّصوق، أو ما يُوضَع في الجروح من دواء يمنع وصول الماء -كدهن أو غيره- نص على ذلك السادة الأحناف، فقد ذُكِرَ تعريفها في "تنوير الأبصار وشرحه" (1/ 279، ط. دار الكتب العلمية) بأنها: [عِيدَانٌ يُجْبَرُ بِهَا الكَسْر (وخِرْقَة قُرْحَة، وموضع فصد)، وكَيّ، (ونحو ذلك)، كعِصَابة جراحة ولو برأسه] اهـ. وسُمِيَّت الجبيرة بذلك تَفَاؤلًا.
وكانت الجبائر قديمًا على هيئة عِظام توضع على الموضع العليل من الجسد يَنْجَبِرُ بها. ينظر: "المصباح المنير" (ص: 89، مادة: ج ب ر، ط. المكتبة العلمية).
ونظرًا لتطور وسائل العلاج فلم يعد الناس -في الغالب- يستخدمون العظام في الْجَبْر، فأطلق اسم الجبيرة على كلِّ ما يُشَدُّ على العظم المكسور؛ ليشمل جميع الوسائل المستخدمة لذلك. انظر: "المعجم الوسيط" (ص: 105، ط. دار الدعوة).
وأحيانًا تكون الجبائر في مواضع يجب غسلها للطهارة من الحدثين اللازمة لأداء العبادات؛ فتكون حَاجِزًا مانعًا من وصول الماء إلى هذا العضو الذي يشترط وُصُول الماء إليه، ويكون في نزعها حَرَج وضَرَر.
وقد تكلم الفقهاء قديمًا عن حكم هذه المسألة، واتفقوا على مشروعية المسح على الجبائر في حالة العُذْر نِيَابَةً عن الغسل أو المسح الأصلي في الوضوء، أو الغسل، أو التيمم، واستدلوا على ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مَنْ ابْتُلِيَ بالجبيرة بأن يَمْسَح عليها؛ وذلك فيما أخرجه البيهقي في "سننه الكبرى" وأصله في "سنن ابن ماجه "عن الإمام علي رضي الله عنه أنه قال: انْكَسَرَتْ إِحْدَى زَنْدَيَّ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «امْسَحْ عَلَى الْجَبَائِرِ».
فهذا أمرٌ منه صلى الله عليه وآله وسلم بالمسح على الجبيرة لسيدنا عليٍّ رضي الله عنه لَمّا ابتُلِي بها، وذلك نيابة عن غسل ما تحتها، فدلَّ الأمر بذلك على مشروعية المأمور به.
وقد وبخَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أَفْتَوْا بغير ذلك توبيخًا شديدًا؛ وذلك لِمَا حصل من الضرر جرَّاء تضييقهم لما وسَّعه الله ورسوله؛ فقد رَوَى جابر رضي الله عنه: أن رجلًا أصابه حَجَرٌ فشجَّه في رأسه ثُمَّ احْتَلَمَ، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رُخْصَةً في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رُخْصَة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ -أَوْ يَعْصِبَ؛ شَكَّ مُوسَى- َعلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ» أخرجه أبو داود والدارقطني والبيهقي، وفي هذا الحديث بيانٌ منه صلى الله عليه وآله وسلم بمشروعية المسح على الجبائر.
كما صح ثبوت مشروعية المسح على الجبائر عن ابن عمر رضي الله عنهما ولم يُعْرَف له مخالف من الصحابة. انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 228، ط. دار الفكر)، و"كشاف القناع" (1/ 112، ط. دار الكتب العلمية).
وصح ذلك أيضًا عن أئمة التابعين؛ كعُبيد بن عمير، وطاوس، ومجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، والحسن، وأبي مجلز، وإبراهيم النخعي، وقتادة. انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 229).
ودل العقل على مشروعية المسح على الجبائر؛ إذ الحاجة تدعو لذلك لما في نزعها من حرج وضرر؛ قال العلامة المرغيناني الحنفي في "الهداية شرح البداية" في تعليل جواز المسح على الجبائر (1/ 23، ط. دار إحياء التراث العربي): [لأن الحرج فيه فوق الحرج في نزع الخف فكان أولى بشرع المسح] اهـ.
ونصَّ على ذلك أصحاب المذاهب المتبوعة، فقد نُقِلت مشروعية المسح على الجبائر بدلًا من غسل ما تحتها عن الأحناف؛ فقد جاء في "الدر المختار شرح تنوير الأبصار" (1/ 279-280، ومعه "حاشية ابن عابدين"، ط. دار الكتب العلمية) ما نصه: [(وحكم مسح جبيرة): هي عيدان يجبر بها الكسر، (وخرقة قرحة، وموضع فصد)، وكي (ونحو ذلك)؛ كعصابة جراحة ولو برأسه (كغسل لما تحتها) فيكون فرضًا] اهـ.
ونصَّ المالكية عليها كذلك؛ فقد جاء في "مختصر الشيخ خليل" و"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (1/ 162-163، ط. دار إحياء الكتب العربية): [(فصل) في مسح الجرح أو الجبيرة بدلًا عن الغسل للضرورة: (إِنْ خِيفَ غسل جُرح)... خَوْفًا (كالتيمم) أيْ: كالخوف المتقدم فيه في قوله، أو خافوا باستعماله مرضًا أو زيادته أو تأخر برء (مَسَحَ) مرَّةً وجوبًا إِنْ خِيفَ هلاك أو شِدَّة أذى؛ كتعطيل منفعة: من ذهاب سمع أو بصر مثلًا، وإلا فندبًا، ومثل الجرح غيره كالرمد، (ثم) إن لم يستطع المسح عليه مُسِحَتْ (جبيرته) أيْ: جبيرة الجرح] اهـ.
ونُقل ذلك عن الشافعية، إلا أنهم اشترطوا وضعها على طهر؛ فقد قال العلامة أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب في الفروع" (1/ 37، ط. عيسى الحلبي): [إذا كان على بعض أعضائه كسر يحتاج إلى وَضْعِ الجبائر وَضَعَ الجبائر على طُهْرٍ، فإِنْ وضعها على طُهْر ثم أحدث وخاف من نزعها، أو وضعها على غير طُهْر وخاف من نزعها مسح على الجبائر؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر عليًّا رضي الله عنه أن يمسح على الجبائر؛ ولأنه تلحقه المشقة في نزعها فجاز المسح عليها كالخُفِّ] اهـ.
ونقل ذلك أيضًا عن الحنابلة؛ فقد جاء في "كشاف القناع" (1/ 112، ط. دار الكتب العلمية): [(و) يصح المسح على (جبائر، جمع جبيرة وهي أخشاب أو نحوها تربط على الكسر أو نحوه)؛ كالجرح] اهـ.
ويتعلق بالمسح على الجبيرة بعض المسائل، وهي:
أولًا: يجب المسح على الجبيرة عند إرادة الطهارة، وذلك إذا كان غسل العضو المنكسر أو المجروح أو مسحه مما يضرُّ به، أو كان يخشى حدوث الضرر بنزع الجبيرة، فإنْ تَرَكَ المسْح فسدت صلاته عند الصاحبين -أبي يوسف ومحمد- وهو المفتى به عند الأحناف، وإلى ذلك ذهب المالكية، والشافعية في المذهب، والحنابلة، وعند أبي حنيفة يأثم بتركه مع صحة صلاته ووجوب إعادتها؛ فالوجوب مُتَّفَقٌ عليه عند الأحناف، مع اختلافهم في معناه. بخلاف ما إذا كان المسح على الجبيرة مما يضر به ضررًا مُعتَبرًا، فإنه يسقط؛ لدفع الضرر، ولأن الغسل يسقط بالعذر، فالمسح أولى أن يسقط، وإن كان في غسل الأعضاء الصحيحة مَظِنةُ حدوث ضرر بالأعضاء الجريحة فإن فرضه التيمم حينئذٍ.
ثانيًا: ووقْتُ المسح على الجبيرة: حين يغسل المحدث العضوَ العليلَ؛ للترتيب، بخلاف الجنب يمسح متى شاء، وعليه استيعاب الجبيرة بالمسح ما أمكنه ذلك، كما هو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، والأصح من مذهب الشافعية. انظر: "أسنى المطالب" للشيخ زكريا الأنصاري (1/ 82، ط. دار الكتاب الإسلامي)، و"المجموع" (2/ 370، ط. مطبعة المنيرية).
ثالثًا: ولا يشترط أن يجمع بين الغسل -للأعضاء الصحيحة، والمسح على الجبيرة- والتيمم؛ كما هو مذهب السادة الشافعية، بل يكفيه الغسل والمسح فقط، ويستحب له أن يجمع معهما التيمم خروجًا من الخلاف؛ فإن الخروج من الخلاف مستحب.
رابعًا: لا يشترط لصحة المسح وضع الجبيرة على طهارة مائية كما شرط الشافعية والحنابلة؛ تيسيرًا ودفعًا للحرج كما هو مذهب الأحناف والمالكية، ويستحب وضعها على طُهرٍ عند المقدرة عليه خروجًا من الخلاف.
فقد اشترط الشافعية في الصحيح المشهور، وفي رواية عن الإمام أحمد أن تكون الجبيرة موضوعة على طهارة، فإن خالف ووضعها على غير طُهْرٍ وجب نزعها، وذلك إن لم يخف ضَرَرًا بنزعها، فإن خاف الضرر لم ينزعها ويصح مسحه عليها ويقضي؛ لفوات شرط وضعها على طهر. انظر: "نهاية المحتاج" للإمام الرملي (1/ 269، ط. مصطفى الحلبي).
خامسًا: إذا لم يستطع المسح على الجبيرة -بأنْ كان المسح يضره ضررًا معتبرًا- فإنه يستحب له أن يتيمم عن العضو الذي لم يستطع المسح عليه؛ وذلك عملًا بقول من أجاز التيمم عن العضو مع عدم المسح عليه، وهو قول بعض الشافعية: حكاه الرَّافِعِيُّ عن حِكَايَةِ الْحَنَّاطِيِّ: أنَّهُ يَكْفِيهِ التَّيَمُّم، ولا يمسح الجبيرة بالماء، ونقله صاحب "الْعُدَّةِ" أيضًا، واختاره القاضي أبو الطَّيِّبِ. "المجموع" (2/ 326، ط. دار الفكر)، واحتياطًا في أمور العبادات، وخروجًا من الخلاف.
وبناءً على ما سبق: فإن من دعته ضرورة إلى تغطية موضع من مواضع الوضوء أو الغُسل، يجب أن يمسح عليه عند إرادة الطهارة إن ترتب على نزعه ضرر، وذلك بالضوابط المذكورة، فإن لم يستطع المسح سقط عنه، ويستحب له التيمم عن المجبور؛ خروجًا من الخلاف، وإذا صلى على هذه الحالة لا تلزمه إعادة الصلاة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
المسح على الجبائر
هل يجوز المسح على الجبائر؟ وإن جاز المسح فما هي ضوابطه؟
.الجبائر جمع جبيرة، وهي: وسِيلَةٌ من وسائل العلاج المستخدمة في حالات كسور العظام وغيرها، يقال: جبر عظمه جَبْرًا، أي: أصلحه بعد كَسْر، ويدخل في تعريفها عند الفقهاء كلٌّ من العِصَابَة أو اللَّصوق، أو ما يُوضَع في الجروح من دواء يمنع وصول الماء -كدهن أو غيره- نص على ذلك السادة الأحناف، فقد ذُكِرَ تعريفها في "تنوير الأبصار وشرحه" (1/ 279، ط. دار الكتب العلمية) بأنها: [عِيدَانٌ يُجْبَرُ بِهَا الكَسْر (وخِرْقَة قُرْحَة، وموضع فصد)، وكَيّ، (ونحو ذلك)، كعِصَابة جراحة ولو برأسه] اهـ. وسُمِيَّت الجبيرة بذلك تَفَاؤلًا.
وكانت الجبائر قديمًا على هيئة عِظام توضع على الموضع العليل من الجسد يَنْجَبِرُ بها. ينظر: "المصباح المنير" (ص: 89، مادة: ج ب ر، ط. المكتبة العلمية).
ونظرًا لتطور وسائل العلاج فلم يعد الناس -في الغالب- يستخدمون العظام في الْجَبْر، فأطلق اسم الجبيرة على كلِّ ما يُشَدُّ على العظم المكسور؛ ليشمل جميع الوسائل المستخدمة لذلك. انظر: "المعجم الوسيط" (ص: 105، ط. دار الدعوة).
وأحيانًا تكون الجبائر في مواضع يجب غسلها للطهارة من الحدثين اللازمة لأداء العبادات؛ فتكون حَاجِزًا مانعًا من وصول الماء إلى هذا العضو الذي يشترط وُصُول الماء إليه، ويكون في نزعها حَرَج وضَرَر.
وقد تكلم الفقهاء قديمًا عن حكم هذه المسألة، واتفقوا على مشروعية المسح على الجبائر في حالة العُذْر نِيَابَةً عن الغسل أو المسح الأصلي في الوضوء، أو الغسل، أو التيمم، واستدلوا على ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مَنْ ابْتُلِيَ بالجبيرة بأن يَمْسَح عليها؛ وذلك فيما أخرجه البيهقي في "سننه الكبرى" وأصله في "سنن ابن ماجه "عن الإمام علي رضي الله عنه أنه قال: انْكَسَرَتْ إِحْدَى زَنْدَيَّ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «امْسَحْ عَلَى الْجَبَائِرِ».
فهذا أمرٌ منه صلى الله عليه وآله وسلم بالمسح على الجبيرة لسيدنا عليٍّ رضي الله عنه لَمّا ابتُلِي بها، وذلك نيابة عن غسل ما تحتها، فدلَّ الأمر بذلك على مشروعية المأمور به.
وقد وبخَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أَفْتَوْا بغير ذلك توبيخًا شديدًا؛ وذلك لِمَا حصل من الضرر جرَّاء تضييقهم لما وسَّعه الله ورسوله؛ فقد رَوَى جابر رضي الله عنه: أن رجلًا أصابه حَجَرٌ فشجَّه في رأسه ثُمَّ احْتَلَمَ، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رُخْصَةً في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رُخْصَة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ -أَوْ يَعْصِبَ؛ شَكَّ مُوسَى- َعلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ» أخرجه أبو داود والدارقطني والبيهقي، وفي هذا الحديث بيانٌ منه صلى الله عليه وآله وسلم بمشروعية المسح على الجبائر.
كما صح ثبوت مشروعية المسح على الجبائر عن ابن عمر رضي الله عنهما ولم يُعْرَف له مخالف من الصحابة. انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 228، ط. دار الفكر)، و"كشاف القناع" (1/ 112، ط. دار الكتب العلمية).
وصح ذلك أيضًا عن أئمة التابعين؛ كعُبيد بن عمير، وطاوس، ومجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، والحسن، وأبي مجلز، وإبراهيم النخعي، وقتادة. انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 229).
ودل العقل على مشروعية المسح على الجبائر؛ إذ الحاجة تدعو لذلك لما في نزعها من حرج وضرر؛ قال العلامة المرغيناني الحنفي في "الهداية شرح البداية" في تعليل جواز المسح على الجبائر (1/ 23، ط. دار إحياء التراث العربي): [لأن الحرج فيه فوق الحرج في نزع الخف فكان أولى بشرع المسح] اهـ.
ونصَّ على ذلك أصحاب المذاهب المتبوعة، فقد نُقِلت مشروعية المسح على الجبائر بدلًا من غسل ما تحتها عن الأحناف؛ فقد جاء في "الدر المختار شرح تنوير الأبصار" (1/ 279-280، ومعه "حاشية ابن عابدين"، ط. دار الكتب العلمية) ما نصه: [(وحكم مسح جبيرة): هي عيدان يجبر بها الكسر، (وخرقة قرحة، وموضع فصد)، وكي (ونحو ذلك)؛ كعصابة جراحة ولو برأسه (كغسل لما تحتها) فيكون فرضًا] اهـ.
ونصَّ المالكية عليها كذلك؛ فقد جاء في "مختصر الشيخ خليل" و"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (1/ 162-163، ط. دار إحياء الكتب العربية): [(فصل) في مسح الجرح أو الجبيرة بدلًا عن الغسل للضرورة: (إِنْ خِيفَ غسل جُرح)... خَوْفًا (كالتيمم) أيْ: كالخوف المتقدم فيه في قوله، أو خافوا باستعماله مرضًا أو زيادته أو تأخر برء (مَسَحَ) مرَّةً وجوبًا إِنْ خِيفَ هلاك أو شِدَّة أذى؛ كتعطيل منفعة: من ذهاب سمع أو بصر مثلًا، وإلا فندبًا، ومثل الجرح غيره كالرمد، (ثم) إن لم يستطع المسح عليه مُسِحَتْ (جبيرته) أيْ: جبيرة الجرح] اهـ.
ونُقل ذلك عن الشافعية، إلا أنهم اشترطوا وضعها على طهر؛ فقد قال العلامة أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب في الفروع" (1/ 37، ط. عيسى الحلبي): [إذا كان على بعض أعضائه كسر يحتاج إلى وَضْعِ الجبائر وَضَعَ الجبائر على طُهْرٍ، فإِنْ وضعها على طُهْر ثم أحدث وخاف من نزعها، أو وضعها على غير طُهْر وخاف من نزعها مسح على الجبائر؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر عليًّا رضي الله عنه أن يمسح على الجبائر؛ ولأنه تلحقه المشقة في نزعها فجاز المسح عليها كالخُفِّ] اهـ.
ونقل ذلك أيضًا عن الحنابلة؛ فقد جاء في "كشاف القناع" (1/ 112، ط. دار الكتب العلمية): [(و) يصح المسح على (جبائر، جمع جبيرة وهي أخشاب أو نحوها تربط على الكسر أو نحوه)؛ كالجرح] اهـ.
ويتعلق بالمسح على الجبيرة بعض المسائل، وهي:
أولًا: يجب المسح على الجبيرة عند إرادة الطهارة، وذلك إذا كان غسل العضو المنكسر أو المجروح أو مسحه مما يضرُّ به، أو كان يخشى حدوث الضرر بنزع الجبيرة، فإنْ تَرَكَ المسْح فسدت صلاته عند الصاحبين -أبي يوسف ومحمد- وهو المفتى به عند الأحناف، وإلى ذلك ذهب المالكية، والشافعية في المذهب، والحنابلة، وعند أبي حنيفة يأثم بتركه مع صحة صلاته ووجوب إعادتها؛ فالوجوب مُتَّفَقٌ عليه عند الأحناف، مع اختلافهم في معناه. بخلاف ما إذا كان المسح على الجبيرة مما يضر به ضررًا مُعتَبرًا، فإنه يسقط؛ لدفع الضرر، ولأن الغسل يسقط بالعذر، فالمسح أولى أن يسقط، وإن كان في غسل الأعضاء الصحيحة مَظِنةُ حدوث ضرر بالأعضاء الجريحة فإن فرضه التيمم حينئذٍ.
ثانيًا: ووقْتُ المسح على الجبيرة: حين يغسل المحدث العضوَ العليلَ؛ للترتيب، بخلاف الجنب يمسح متى شاء، وعليه استيعاب الجبيرة بالمسح ما أمكنه ذلك، كما هو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، والأصح من مذهب الشافعية. انظر: "أسنى المطالب" للشيخ زكريا الأنصاري (1/ 82، ط. دار الكتاب الإسلامي)، و"المجموع" (2/ 370، ط. مطبعة المنيرية).
ثالثًا: ولا يشترط أن يجمع بين الغسل -للأعضاء الصحيحة، والمسح على الجبيرة- والتيمم؛ كما هو مذهب السادة الشافعية، بل يكفيه الغسل والمسح فقط، ويستحب له أن يجمع معهما التيمم خروجًا من الخلاف؛ فإن الخروج من الخلاف مستحب.
رابعًا: لا يشترط لصحة المسح وضع الجبيرة على طهارة مائية كما شرط الشافعية والحنابلة؛ تيسيرًا ودفعًا للحرج كما هو مذهب الأحناف والمالكية، ويستحب وضعها على طُهرٍ عند المقدرة عليه خروجًا من الخلاف.
فقد اشترط الشافعية في الصحيح المشهور، وفي رواية عن الإمام أحمد أن تكون الجبيرة موضوعة على طهارة، فإن خالف ووضعها على غير طُهْرٍ وجب نزعها، وذلك إن لم يخف ضَرَرًا بنزعها، فإن خاف الضرر لم ينزعها ويصح مسحه عليها ويقضي؛ لفوات شرط وضعها على طهر. انظر: "نهاية المحتاج" للإمام الرملي (1/ 269، ط. مصطفى الحلبي).
خامسًا: إذا لم يستطع المسح على الجبيرة -بأنْ كان المسح يضره ضررًا معتبرًا- فإنه يستحب له أن يتيمم عن العضو الذي لم يستطع المسح عليه؛ وذلك عملًا بقول من أجاز التيمم عن العضو مع عدم المسح عليه، وهو قول بعض الشافعية: حكاه الرَّافِعِيُّ عن حِكَايَةِ الْحَنَّاطِيِّ: أنَّهُ يَكْفِيهِ التَّيَمُّم، ولا يمسح الجبيرة بالماء، ونقله صاحب "الْعُدَّةِ" أيضًا، واختاره القاضي أبو الطَّيِّبِ. "المجموع" (2/ 326، ط. دار الفكر)، واحتياطًا في أمور العبادات، وخروجًا من الخلاف.
وبناءً على ما سبق: فإن من دعته ضرورة إلى تغطية موضع من مواضع الوضوء أو الغُسل، يجب أن يمسح عليه عند إرادة الطهارة إن ترتب على نزعه ضرر، وذلك بالضوابط المذكورة، فإن لم يستطع المسح سقط عنه، ويستحب له التيمم عن المجبور؛ خروجًا من الخلاف، وإذا صلى على هذه الحالة لا تلزمه إعادة الصلاة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
.الجبائر جمع جبيرة، وهي: وسِيلَةٌ من وسائل العلاج المستخدمة في حالات كسور العظام وغيرها، يقال: جبر عظمه جَبْرًا، أي: أصلحه بعد كَسْر، ويدخل في تعريفها عند الفقهاء كلٌّ من العِصَابَة أو اللَّصوق، أو ما يُوضَع في الجروح من دواء يمنع وصول الماء -كدهن أو غيره- نص على ذلك السادة الأحناف، فقد ذُكِرَ تعريفها في "تنوير الأبصار وشرحه" (1/ 279، ط. دار الكتب العلمية) بأنها: [عِيدَانٌ يُجْبَرُ بِهَا الكَسْر (وخِرْقَة قُرْحَة، وموضع فصد)، وكَيّ، (ونحو ذلك)، كعِصَابة جراحة ولو برأسه] اهـ. وسُمِيَّت الجبيرة بذلك تَفَاؤلًا.
وكانت الجبائر قديمًا على هيئة عِظام توضع على الموضع العليل من الجسد يَنْجَبِرُ بها. ينظر: "المصباح المنير" (ص: 89، مادة: ج ب ر، ط. المكتبة العلمية).
ونظرًا لتطور وسائل العلاج فلم يعد الناس -في الغالب- يستخدمون العظام في الْجَبْر، فأطلق اسم الجبيرة على كلِّ ما يُشَدُّ على العظم المكسور؛ ليشمل جميع الوسائل المستخدمة لذلك. انظر: "المعجم الوسيط" (ص: 105، ط. دار الدعوة).
وأحيانًا تكون الجبائر في مواضع يجب غسلها للطهارة من الحدثين اللازمة لأداء العبادات؛ فتكون حَاجِزًا مانعًا من وصول الماء إلى هذا العضو الذي يشترط وُصُول الماء إليه، ويكون في نزعها حَرَج وضَرَر.
وقد تكلم الفقهاء قديمًا عن حكم هذه المسألة، واتفقوا على مشروعية المسح على الجبائر في حالة العُذْر نِيَابَةً عن الغسل أو المسح الأصلي في الوضوء، أو الغسل، أو التيمم، واستدلوا على ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مَنْ ابْتُلِيَ بالجبيرة بأن يَمْسَح عليها؛ وذلك فيما أخرجه البيهقي في "سننه الكبرى" وأصله في "سنن ابن ماجه "عن الإمام علي رضي الله عنه أنه قال: انْكَسَرَتْ إِحْدَى زَنْدَيَّ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «امْسَحْ عَلَى الْجَبَائِرِ».
فهذا أمرٌ منه صلى الله عليه وآله وسلم بالمسح على الجبيرة لسيدنا عليٍّ رضي الله عنه لَمّا ابتُلِي بها، وذلك نيابة عن غسل ما تحتها، فدلَّ الأمر بذلك على مشروعية المأمور به.
وقد وبخَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أَفْتَوْا بغير ذلك توبيخًا شديدًا؛ وذلك لِمَا حصل من الضرر جرَّاء تضييقهم لما وسَّعه الله ورسوله؛ فقد رَوَى جابر رضي الله عنه: أن رجلًا أصابه حَجَرٌ فشجَّه في رأسه ثُمَّ احْتَلَمَ، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رُخْصَةً في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رُخْصَة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ -أَوْ يَعْصِبَ؛ شَكَّ مُوسَى- َعلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ» أخرجه أبو داود والدارقطني والبيهقي، وفي هذا الحديث بيانٌ منه صلى الله عليه وآله وسلم بمشروعية المسح على الجبائر.
كما صح ثبوت مشروعية المسح على الجبائر عن ابن عمر رضي الله عنهما ولم يُعْرَف له مخالف من الصحابة. انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 228، ط. دار الفكر)، و"كشاف القناع" (1/ 112، ط. دار الكتب العلمية).
وصح ذلك أيضًا عن أئمة التابعين؛ كعُبيد بن عمير، وطاوس، ومجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، والحسن، وأبي مجلز، وإبراهيم النخعي، وقتادة. انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 229).
ودل العقل على مشروعية المسح على الجبائر؛ إذ الحاجة تدعو لذلك لما في نزعها من حرج وضرر؛ قال العلامة المرغيناني الحنفي في "الهداية شرح البداية" في تعليل جواز المسح على الجبائر (1/ 23، ط. دار إحياء التراث العربي): [لأن الحرج فيه فوق الحرج في نزع الخف فكان أولى بشرع المسح] اهـ.
ونصَّ على ذلك أصحاب المذاهب المتبوعة، فقد نُقِلت مشروعية المسح على الجبائر بدلًا من غسل ما تحتها عن الأحناف؛ فقد جاء في "الدر المختار شرح تنوير الأبصار" (1/ 279-280، ومعه "حاشية ابن عابدين"، ط. دار الكتب العلمية) ما نصه: [(وحكم مسح جبيرة): هي عيدان يجبر بها الكسر، (وخرقة قرحة، وموضع فصد)، وكي (ونحو ذلك)؛ كعصابة جراحة ولو برأسه (كغسل لما تحتها) فيكون فرضًا] اهـ.
ونصَّ المالكية عليها كذلك؛ فقد جاء في "مختصر الشيخ خليل" و"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (1/ 162-163، ط. دار إحياء الكتب العربية): [(فصل) في مسح الجرح أو الجبيرة بدلًا عن الغسل للضرورة: (إِنْ خِيفَ غسل جُرح)... خَوْفًا (كالتيمم) أيْ: كالخوف المتقدم فيه في قوله، أو خافوا باستعماله مرضًا أو زيادته أو تأخر برء (مَسَحَ) مرَّةً وجوبًا إِنْ خِيفَ هلاك أو شِدَّة أذى؛ كتعطيل منفعة: من ذهاب سمع أو بصر مثلًا، وإلا فندبًا، ومثل الجرح غيره كالرمد، (ثم) إن لم يستطع المسح عليه مُسِحَتْ (جبيرته) أيْ: جبيرة الجرح] اهـ.
ونُقل ذلك عن الشافعية، إلا أنهم اشترطوا وضعها على طهر؛ فقد قال العلامة أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب في الفروع" (1/ 37، ط. عيسى الحلبي): [إذا كان على بعض أعضائه كسر يحتاج إلى وَضْعِ الجبائر وَضَعَ الجبائر على طُهْرٍ، فإِنْ وضعها على طُهْر ثم أحدث وخاف من نزعها، أو وضعها على غير طُهْر وخاف من نزعها مسح على الجبائر؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر عليًّا رضي الله عنه أن يمسح على الجبائر؛ ولأنه تلحقه المشقة في نزعها فجاز المسح عليها كالخُفِّ] اهـ.
ونقل ذلك أيضًا عن الحنابلة؛ فقد جاء في "كشاف القناع" (1/ 112، ط. دار الكتب العلمية): [(و) يصح المسح على (جبائر، جمع جبيرة وهي أخشاب أو نحوها تربط على الكسر أو نحوه)؛ كالجرح] اهـ.
ويتعلق بالمسح على الجبيرة بعض المسائل، وهي:
أولًا: يجب المسح على الجبيرة عند إرادة الطهارة، وذلك إذا كان غسل العضو المنكسر أو المجروح أو مسحه مما يضرُّ به، أو كان يخشى حدوث الضرر بنزع الجبيرة، فإنْ تَرَكَ المسْح فسدت صلاته عند الصاحبين -أبي يوسف ومحمد- وهو المفتى به عند الأحناف، وإلى ذلك ذهب المالكية، والشافعية في المذهب، والحنابلة، وعند أبي حنيفة يأثم بتركه مع صحة صلاته ووجوب إعادتها؛ فالوجوب مُتَّفَقٌ عليه عند الأحناف، مع اختلافهم في معناه. بخلاف ما إذا كان المسح على الجبيرة مما يضر به ضررًا مُعتَبرًا، فإنه يسقط؛ لدفع الضرر، ولأن الغسل يسقط بالعذر، فالمسح أولى أن يسقط، وإن كان في غسل الأعضاء الصحيحة مَظِنةُ حدوث ضرر بالأعضاء الجريحة فإن فرضه التيمم حينئذٍ.
ثانيًا: ووقْتُ المسح على الجبيرة: حين يغسل المحدث العضوَ العليلَ؛ للترتيب، بخلاف الجنب يمسح متى شاء، وعليه استيعاب الجبيرة بالمسح ما أمكنه ذلك، كما هو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، والأصح من مذهب الشافعية. انظر: "أسنى المطالب" للشيخ زكريا الأنصاري (1/ 82، ط. دار الكتاب الإسلامي)، و"المجموع" (2/ 370، ط. مطبعة المنيرية).
ثالثًا: ولا يشترط أن يجمع بين الغسل -للأعضاء الصحيحة، والمسح على الجبيرة- والتيمم؛ كما هو مذهب السادة الشافعية، بل يكفيه الغسل والمسح فقط، ويستحب له أن يجمع معهما التيمم خروجًا من الخلاف؛ فإن الخروج من الخلاف مستحب.
رابعًا: لا يشترط لصحة المسح وضع الجبيرة على طهارة مائية كما شرط الشافعية والحنابلة؛ تيسيرًا ودفعًا للحرج كما هو مذهب الأحناف والمالكية، ويستحب وضعها على طُهرٍ عند المقدرة عليه خروجًا من الخلاف.
فقد اشترط الشافعية في الصحيح المشهور، وفي رواية عن الإمام أحمد أن تكون الجبيرة موضوعة على طهارة، فإن خالف ووضعها على غير طُهْرٍ وجب نزعها، وذلك إن لم يخف ضَرَرًا بنزعها، فإن خاف الضرر لم ينزعها ويصح مسحه عليها ويقضي؛ لفوات شرط وضعها على طهر. انظر: "نهاية المحتاج" للإمام الرملي (1/ 269، ط. مصطفى الحلبي).
خامسًا: إذا لم يستطع المسح على الجبيرة -بأنْ كان المسح يضره ضررًا معتبرًا- فإنه يستحب له أن يتيمم عن العضو الذي لم يستطع المسح عليه؛ وذلك عملًا بقول من أجاز التيمم عن العضو مع عدم المسح عليه، وهو قول بعض الشافعية: حكاه الرَّافِعِيُّ عن حِكَايَةِ الْحَنَّاطِيِّ: أنَّهُ يَكْفِيهِ التَّيَمُّم، ولا يمسح الجبيرة بالماء، ونقله صاحب "الْعُدَّةِ" أيضًا، واختاره القاضي أبو الطَّيِّبِ. "المجموع" (2/ 326، ط. دار الفكر)، واحتياطًا في أمور العبادات، وخروجًا من الخلاف.
وبناءً على ما سبق: فإن من دعته ضرورة إلى تغطية موضع من مواضع الوضوء أو الغُسل، يجب أن يمسح عليه عند إرادة الطهارة إن ترتب على نزعه ضرر، وذلك بالضوابط المذكورة، فإن لم يستطع المسح سقط عنه، ويستحب له التيمم عن المجبور؛ خروجًا من الخلاف، وإذا صلى على هذه الحالة لا تلزمه إعادة الصلاة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.