صلاة الجنازة على الميت الغائب

هل يجوز صلاة الجنازة على الميت الغائب؟

صلاة الجنازة فرض كفاية، وقد وردت أحاديث عديدة في فضلها؛ من ذلك ما رواه أحمد وغيره عن مالك بن هبيرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَمُوتُ فَيُصَلِّى عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَلَغُوا أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَ صُفُوفٍ إِلَّا غُفِرَ لَهُ»، وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلِّى عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلَّا شُفِّعُوا فِيهِ»، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئًا إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ» رواه مسلم.

والأصل في صلاة الجنازة أن يكون الميت حاضرًا بين يدي الإمام والمصلين، ويوضع تجاه القبلة للصلاة عليه، ومع ذلك فإنه يجوز الصلاة عليه إذا لم يكن حاضرًا بين يدي الإمام والمصلين بشرطين:

أولهما: أن تبعد بلدة المتوفى عن بلد الصلاة عليه ولو كانت المسافة بين البلدين دون مسافة القصر، فإن كان المصلون والمتوفى في بلدة واحدة فلا تجوز الصلاة إلا بحضور المتوفى ولو كبرت البلدة، ولعل الأيسر اعتبار قرب وبعد البلدة في عصرنا باعتبار الحدود بين المحافظات، ولا يشترط في جواز الصلاة على الميت الغائب أن يكون الميت مستقبلًا للقبلة.

وثاني الشرطين: اعتبار الوقت، فالشافعية يقيِّدون صحة الصلاة بمن كان من أهل فرضها وقت الموت، بأن كان مكلفًا مسلمًا طاهرًا؛ لأنه يؤدِّي فرضًا خوطب به، بخلاف من لم يكن كذلك، وقيَّد الحنابلة الوقت بشهر من حين وفاته، وعلَّلوا بأنه لا يعلم بقاء الميت من غير تلاشٍ أكثر من ذلك. راجع: "نهاية المحتاج" (2/ 485، ط. دار الفكر)، و"شرح المنتهى" (1/ 363، ط. عالم الكتب).

هذا هو ما نفتي به، وهو حقيقة مذهب الشافعية والحنابلة، ونصوصهم ناطقة بذلك؛ يقول شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج" (3/ 149، ط. دار إحياء التراث العربي): [(ويصلى على الغائب عن البلد) بأن يكون بمحل بعيد عن البلد بحيث لا ينسب إليها عرفًا أخذًا من قول الزركشي عن صاحب الوافي وأقره أن خارج السور القريب منه كداخله، ويؤخذ من كلام الإسنوي ضبط القرب هنا بما يجب الطلب منه في التيمم، وهو متجه إن أريد به حد الغوث لا القرب، ولا يشترط كونه في جهة القبلة؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بموت النجاشي يوم موته وصلى عليه هو وأصحابه. رواه الشيخان، وكان ذلك سنة تسع وجاء: أن سريره رفع له صلى الله عليه وآله وسلم حتى شاهده، وهذا بفرض صحته لا ينفي الاستدلال؛ لأنها وإن كانت صلاة حاضر بالنسبة له صلى الله عليه وآله وسلم هي صلاة غائب بالنسبة لأصحابه] اهـ.

وقال الشمس الرملي في "نهاية المحتاج" (2/ 485-486، ط. دار الفكر): [(ويصلى على الغائب عن البلد) ولو في مسافةٍ قريبةٍ دون مسافة القصر وفي غير جهة القبلة والمصلي مستقبلها؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى على النجاشي بالمدينة يوم موته بالحبشة. رواه الشيخان، وذلك في رجب سنة تسع... وقد أجمع كل من أجاز الصلاة على الغائب بأن ذلك يسقط فرض الكفاية إلا ما حكي عن ابن القطان، وظاهر أن محل السقوط بها حيث علم بها الحاضرون... أما الحاضر بالبلد وإن كبرت فلا يصلى عليه لتيسر الحضور، وشبهوه بالقضاء على من بالبلد مع إمكان إحضاره، فلو كان الميت خارج السور قريبًا منه فهو كداخله؛ لأن الغالب أن المقابر تجعل خارج السور، ولو تعذر على من في البلد الحضور لحبس أو مرض لم يبعد جواز ذلك كما بحثه الأذرعي، وجزم به ابن أبي الدم في المحبوس؛ لأنهم قد علَّلوا المنع بتيسر الذهاب إليه... (والأصح تخصيص الصحة) أي صحة الصلاة على الغائب والقبر (بمن كان من أهل) أداء (فرضها وقت الموت) دون غيره؛ لأن غيره متنفل وهذه لا يتنفل بها. قال الزركشي: معناه لا تفعل مرة بعد أخرى. وقال في المجموع: معناه أنه لا يجوز الابتداء بصورتها من غير جنازة، بخلاف صلاة الظهر يؤتى بصورتها ابتداء بلا سبب] اهـ.

وفي "كشاف القناع" للعلامة البهوتي (2/ 122، ط. دار الكتب العلمية): [(ويصلي إمام) أعظم (وغيره على غائب عن البلد ولو كان دون مسافة قصر، أو) كان (في غير جهة القبلة) أي قبلة المصلي (بالنية إلى شهر) كالصلاة على القبر، لكن يكون الشهر هنا من موته، كما في شرح المنتهى؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على النجاشي، فصفّ -أي: الناس- وكبر عليه أربعًا. متفق عليه. لا يقال: لم يكن بأرض الحبشة من يصلي عليه؛ لأنه ليس من مذهب المخالف، فإنه يمنع الصلاة على الغريق والأسير وإن لم يكن صلي عليه مع أنه يبعد ذلك، فإن النجاشي ملك الحبشة أظهر الإسلام فيبعد أنه لم يوافقه أحد يصلي عليه، والقول بأن الأرض زويت له صلى الله عليه وآله وسلم وكشف له عن النجاشي حتى رآه حين صلاته لو كان له أصل لذكره لأصحابه ولنقل لما فيه من المعجزة العظيمة كما نقل إخباره لهم بموته يوم مات، وأيضًا لو تم ذلك في حقه لما تم في حق أصحابه و(لا) يصلى على من (في أحد جانبي البلد ولو كان) البلد (كبيرًا ولو لمشقة مطر أو مرض)؛ لأنه يمكن حضوره أشبه ما لو كانا في جانب واحد، ويعتبر انفصاله عن البلد بما يعد الذهاب إليه نوع سفر] اهـ.

وعمدة استدلال الشافعية والحنابلة حديثُ صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على النجاشي ملك الحبشة، بينما كره المالكية الصلاة على الغائب، وقال الحنفية بعدم صحتها.

يقول العلامة الخرشي في "شرح مختصر خليل" (2/ 143، ط. دار الفكر): [(ولا غائب) (ش) يعني أنه يكره الصلاة على شخص غائب من غريق وأكيل سبع وميت في محل أو بلد، وصلاته عليه الصلاة والسلام على النجاشي من خصوصياته، وذلك أن الأرض رفعته له وعلم يوم موته ونعاه لأصحابه يوم موته، وخرج بهم فأمهم في الصلاة عليه قبل أن يوارى، ولم يفعل ذلك بعده أحد، ولا صلى أحد على النبي عليه السلام بعد أن ووري، وفي الصلاة عليه أعظم رغبة فدل ذلك على الخصوص] اهـ.

وفي "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" (1/ 427، ط. دار الفكر): [(قوله ولا يصلى على غائب) أي يكره، وأما صلاته عليه الصلاة والسلام وهو بالمدينة على النجاشي لما بلغه موته بالحبشة فذاك من خصوصياته، أو أن صلاته لم تكن على غائب؛ لرفعه له صلى الله عليه وآله وسلم حتى رآه فتكون صلاته عليه كصلاة الإمام على ميت رآه ولم يره المأمومون ولا خلاف في جوازها، ورَدَّ ابن العربي الجوابين معًا بأن كلًّا من الخصوصية والرفع يفتقر لدليل وليس بموجود اهـ بن] اهـ.

وجاء في "الدر المختار" للعلامة الحصكفي: [فلا تصح على غائب ومحمول على نحو دابة وموضوع خلفه؛ لأنه كالإمام من وجه دون وجه؛ لصحتها على الصبي، وصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على النجاشي لغوية أو خصوصية] اهـ.

يقول العلامة ابن عابدين في "رد المحتار" (2/ 209، ط. دار الفكر) مُـحَشِّيًا: [(قوله: لغوية) أي المراد بها مجرد الدعاء وهو بعيد (قوله: أو خصوصية) أو لأنه رفع سريره حتى رآه عليه الصلاة والسلام بحضرته فتكون صلاة من خلفه على ميت يراه الإمام وبحضرته دون المأمومين، وهذا غير مانع من الاقتداء. فتح. واستدل لهذين الاحتمالين بما لا مزيد عليه فارجع إليه، من جملة ذلك أنه توفي خلق كثير من أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم من أعزهم عليه القراء ولم ينقل عنه أنه صلى عليهم مع حرصه على ذلك حتى قال: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إلَّا آذَنْتُمُونِي بِهِ، فَإِنَّ صَلَاتِي عَلَيْهِ رَحْمَةٌ لَهُ»] اهـ.

ومما نقله الحنفية والمالكية في كتبهم نجد أنهم لم يستدلوا على ما ذهبوا إليه بدليل من كتاب أو سنة، بل ردوا على استدلال الشافعية بحديث صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على النجاشي بادعاء الخصوصية والرفع، ولكن ما قاله ابن العربي من أن الخصوصية والرفع يفتقر لدليل وليس بموجود ردٌّ قوي، أما ادعاء عدم فعل ذلك على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته فإنه ليس بدليل على الحقيقة؛ لأنه عدم.

والخلاصة: أنه لا حرج في صلاة الجنازة على الميت الغائب بالشروط المذكورة سابقًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

صلاة الجنازة فرض كفاية، وقد وردت أحاديث عديدة في فضلها؛ من ذلك ما رواه أحمد وغيره عن مالك بن هبيرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَمُوتُ فَيُصَلِّى عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَلَغُوا أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَ صُفُوفٍ إِلَّا غُفِرَ لَهُ»، وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلِّى عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلَّا شُفِّعُوا فِيهِ»، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئًا إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ» رواه مسلم.

والأصل في صلاة الجنازة أن يكون الميت حاضرًا بين يدي الإمام والمصلين، ويوضع تجاه القبلة للصلاة عليه، ومع ذلك فإنه يجوز الصلاة عليه إذا لم يكن حاضرًا بين يدي الإمام والمصلين بشرطين:

أولهما: أن تبعد بلدة المتوفى عن بلد الصلاة عليه ولو كانت المسافة بين البلدين دون مسافة القصر، فإن كان المصلون والمتوفى في بلدة واحدة فلا تجوز الصلاة إلا بحضور المتوفى ولو كبرت البلدة، ولعل الأيسر اعتبار قرب وبعد البلدة في عصرنا باعتبار الحدود بين المحافظات، ولا يشترط في جواز الصلاة على الميت الغائب أن يكون الميت مستقبلًا للقبلة.

وثاني الشرطين: اعتبار الوقت، فالشافعية يقيِّدون صحة الصلاة بمن كان من أهل فرضها وقت الموت، بأن كان مكلفًا مسلمًا طاهرًا؛ لأنه يؤدِّي فرضًا خوطب به، بخلاف من لم يكن كذلك، وقيَّد الحنابلة الوقت بشهر من حين وفاته، وعلَّلوا بأنه لا يعلم بقاء الميت من غير تلاشٍ أكثر من ذلك. راجع: "نهاية المحتاج" (2/ 485، ط. دار الفكر)، و"شرح المنتهى" (1/ 363، ط. عالم الكتب).

هذا هو ما نفتي به، وهو حقيقة مذهب الشافعية والحنابلة، ونصوصهم ناطقة بذلك؛ يقول شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج" (3/ 149، ط. دار إحياء التراث العربي): [(ويصلى على الغائب عن البلد) بأن يكون بمحل بعيد عن البلد بحيث لا ينسب إليها عرفًا أخذًا من قول الزركشي عن صاحب الوافي وأقره أن خارج السور القريب منه كداخله، ويؤخذ من كلام الإسنوي ضبط القرب هنا بما يجب الطلب منه في التيمم، وهو متجه إن أريد به حد الغوث لا القرب، ولا يشترط كونه في جهة القبلة؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بموت النجاشي يوم موته وصلى عليه هو وأصحابه. رواه الشيخان، وكان ذلك سنة تسع وجاء: أن سريره رفع له صلى الله عليه وآله وسلم حتى شاهده، وهذا بفرض صحته لا ينفي الاستدلال؛ لأنها وإن كانت صلاة حاضر بالنسبة له صلى الله عليه وآله وسلم هي صلاة غائب بالنسبة لأصحابه] اهـ.

وقال الشمس الرملي في "نهاية المحتاج" (2/ 485-486، ط. دار الفكر): [(ويصلى على الغائب عن البلد) ولو في مسافةٍ قريبةٍ دون مسافة القصر وفي غير جهة القبلة والمصلي مستقبلها؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى على النجاشي بالمدينة يوم موته بالحبشة. رواه الشيخان، وذلك في رجب سنة تسع... وقد أجمع كل من أجاز الصلاة على الغائب بأن ذلك يسقط فرض الكفاية إلا ما حكي عن ابن القطان، وظاهر أن محل السقوط بها حيث علم بها الحاضرون... أما الحاضر بالبلد وإن كبرت فلا يصلى عليه لتيسر الحضور، وشبهوه بالقضاء على من بالبلد مع إمكان إحضاره، فلو كان الميت خارج السور قريبًا منه فهو كداخله؛ لأن الغالب أن المقابر تجعل خارج السور، ولو تعذر على من في البلد الحضور لحبس أو مرض لم يبعد جواز ذلك كما بحثه الأذرعي، وجزم به ابن أبي الدم في المحبوس؛ لأنهم قد علَّلوا المنع بتيسر الذهاب إليه... (والأصح تخصيص الصحة) أي صحة الصلاة على الغائب والقبر (بمن كان من أهل) أداء (فرضها وقت الموت) دون غيره؛ لأن غيره متنفل وهذه لا يتنفل بها. قال الزركشي: معناه لا تفعل مرة بعد أخرى. وقال في المجموع: معناه أنه لا يجوز الابتداء بصورتها من غير جنازة، بخلاف صلاة الظهر يؤتى بصورتها ابتداء بلا سبب] اهـ.

وفي "كشاف القناع" للعلامة البهوتي (2/ 122، ط. دار الكتب العلمية): [(ويصلي إمام) أعظم (وغيره على غائب عن البلد ولو كان دون مسافة قصر، أو) كان (في غير جهة القبلة) أي قبلة المصلي (بالنية إلى شهر) كالصلاة على القبر، لكن يكون الشهر هنا من موته، كما في شرح المنتهى؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على النجاشي، فصفّ -أي: الناس- وكبر عليه أربعًا. متفق عليه. لا يقال: لم يكن بأرض الحبشة من يصلي عليه؛ لأنه ليس من مذهب المخالف، فإنه يمنع الصلاة على الغريق والأسير وإن لم يكن صلي عليه مع أنه يبعد ذلك، فإن النجاشي ملك الحبشة أظهر الإسلام فيبعد أنه لم يوافقه أحد يصلي عليه، والقول بأن الأرض زويت له صلى الله عليه وآله وسلم وكشف له عن النجاشي حتى رآه حين صلاته لو كان له أصل لذكره لأصحابه ولنقل لما فيه من المعجزة العظيمة كما نقل إخباره لهم بموته يوم مات، وأيضًا لو تم ذلك في حقه لما تم في حق أصحابه و(لا) يصلى على من (في أحد جانبي البلد ولو كان) البلد (كبيرًا ولو لمشقة مطر أو مرض)؛ لأنه يمكن حضوره أشبه ما لو كانا في جانب واحد، ويعتبر انفصاله عن البلد بما يعد الذهاب إليه نوع سفر] اهـ.

وعمدة استدلال الشافعية والحنابلة حديثُ صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على النجاشي ملك الحبشة، بينما كره المالكية الصلاة على الغائب، وقال الحنفية بعدم صحتها.

يقول العلامة الخرشي في "شرح مختصر خليل" (2/ 143، ط. دار الفكر): [(ولا غائب) (ش) يعني أنه يكره الصلاة على شخص غائب من غريق وأكيل سبع وميت في محل أو بلد، وصلاته عليه الصلاة والسلام على النجاشي من خصوصياته، وذلك أن الأرض رفعته له وعلم يوم موته ونعاه لأصحابه يوم موته، وخرج بهم فأمهم في الصلاة عليه قبل أن يوارى، ولم يفعل ذلك بعده أحد، ولا صلى أحد على النبي عليه السلام بعد أن ووري، وفي الصلاة عليه أعظم رغبة فدل ذلك على الخصوص] اهـ.

وفي "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" (1/ 427، ط. دار الفكر): [(قوله ولا يصلى على غائب) أي يكره، وأما صلاته عليه الصلاة والسلام وهو بالمدينة على النجاشي لما بلغه موته بالحبشة فذاك من خصوصياته، أو أن صلاته لم تكن على غائب؛ لرفعه له صلى الله عليه وآله وسلم حتى رآه فتكون صلاته عليه كصلاة الإمام على ميت رآه ولم يره المأمومون ولا خلاف في جوازها، ورَدَّ ابن العربي الجوابين معًا بأن كلًّا من الخصوصية والرفع يفتقر لدليل وليس بموجود اهـ بن] اهـ.

وجاء في "الدر المختار" للعلامة الحصكفي: [فلا تصح على غائب ومحمول على نحو دابة وموضوع خلفه؛ لأنه كالإمام من وجه دون وجه؛ لصحتها على الصبي، وصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على النجاشي لغوية أو خصوصية] اهـ.

يقول العلامة ابن عابدين في "رد المحتار" (2/ 209، ط. دار الفكر) مُـحَشِّيًا: [(قوله: لغوية) أي المراد بها مجرد الدعاء وهو بعيد (قوله: أو خصوصية) أو لأنه رفع سريره حتى رآه عليه الصلاة والسلام بحضرته فتكون صلاة من خلفه على ميت يراه الإمام وبحضرته دون المأمومين، وهذا غير مانع من الاقتداء. فتح. واستدل لهذين الاحتمالين بما لا مزيد عليه فارجع إليه، من جملة ذلك أنه توفي خلق كثير من أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم من أعزهم عليه القراء ولم ينقل عنه أنه صلى عليهم مع حرصه على ذلك حتى قال: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إلَّا آذَنْتُمُونِي بِهِ، فَإِنَّ صَلَاتِي عَلَيْهِ رَحْمَةٌ لَهُ»] اهـ.

ومما نقله الحنفية والمالكية في كتبهم نجد أنهم لم يستدلوا على ما ذهبوا إليه بدليل من كتاب أو سنة، بل ردوا على استدلال الشافعية بحديث صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على النجاشي بادعاء الخصوصية والرفع، ولكن ما قاله ابن العربي من أن الخصوصية والرفع يفتقر لدليل وليس بموجود ردٌّ قوي، أما ادعاء عدم فعل ذلك على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته فإنه ليس بدليل على الحقيقة؛ لأنه عدم.

والخلاصة: أنه لا حرج في صلاة الجنازة على الميت الغائب بالشروط المذكورة سابقًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

صلاة الجنازة على الميت الغائب

هل يجوز صلاة الجنازة على الميت الغائب؟

صلاة الجنازة فرض كفاية، وقد وردت أحاديث عديدة في فضلها؛ من ذلك ما رواه أحمد وغيره عن مالك بن هبيرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَمُوتُ فَيُصَلِّى عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَلَغُوا أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَ صُفُوفٍ إِلَّا غُفِرَ لَهُ»، وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلِّى عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلَّا شُفِّعُوا فِيهِ»، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئًا إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ» رواه مسلم.

والأصل في صلاة الجنازة أن يكون الميت حاضرًا بين يدي الإمام والمصلين، ويوضع تجاه القبلة للصلاة عليه، ومع ذلك فإنه يجوز الصلاة عليه إذا لم يكن حاضرًا بين يدي الإمام والمصلين بشرطين:

أولهما: أن تبعد بلدة المتوفى عن بلد الصلاة عليه ولو كانت المسافة بين البلدين دون مسافة القصر، فإن كان المصلون والمتوفى في بلدة واحدة فلا تجوز الصلاة إلا بحضور المتوفى ولو كبرت البلدة، ولعل الأيسر اعتبار قرب وبعد البلدة في عصرنا باعتبار الحدود بين المحافظات، ولا يشترط في جواز الصلاة على الميت الغائب أن يكون الميت مستقبلًا للقبلة.

وثاني الشرطين: اعتبار الوقت، فالشافعية يقيِّدون صحة الصلاة بمن كان من أهل فرضها وقت الموت، بأن كان مكلفًا مسلمًا طاهرًا؛ لأنه يؤدِّي فرضًا خوطب به، بخلاف من لم يكن كذلك، وقيَّد الحنابلة الوقت بشهر من حين وفاته، وعلَّلوا بأنه لا يعلم بقاء الميت من غير تلاشٍ أكثر من ذلك. راجع: "نهاية المحتاج" (2/ 485، ط. دار الفكر)، و"شرح المنتهى" (1/ 363، ط. عالم الكتب).

هذا هو ما نفتي به، وهو حقيقة مذهب الشافعية والحنابلة، ونصوصهم ناطقة بذلك؛ يقول شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج" (3/ 149، ط. دار إحياء التراث العربي): [(ويصلى على الغائب عن البلد) بأن يكون بمحل بعيد عن البلد بحيث لا ينسب إليها عرفًا أخذًا من قول الزركشي عن صاحب الوافي وأقره أن خارج السور القريب منه كداخله، ويؤخذ من كلام الإسنوي ضبط القرب هنا بما يجب الطلب منه في التيمم، وهو متجه إن أريد به حد الغوث لا القرب، ولا يشترط كونه في جهة القبلة؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بموت النجاشي يوم موته وصلى عليه هو وأصحابه. رواه الشيخان، وكان ذلك سنة تسع وجاء: أن سريره رفع له صلى الله عليه وآله وسلم حتى شاهده، وهذا بفرض صحته لا ينفي الاستدلال؛ لأنها وإن كانت صلاة حاضر بالنسبة له صلى الله عليه وآله وسلم هي صلاة غائب بالنسبة لأصحابه] اهـ.

وقال الشمس الرملي في "نهاية المحتاج" (2/ 485-486، ط. دار الفكر): [(ويصلى على الغائب عن البلد) ولو في مسافةٍ قريبةٍ دون مسافة القصر وفي غير جهة القبلة والمصلي مستقبلها؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى على النجاشي بالمدينة يوم موته بالحبشة. رواه الشيخان، وذلك في رجب سنة تسع... وقد أجمع كل من أجاز الصلاة على الغائب بأن ذلك يسقط فرض الكفاية إلا ما حكي عن ابن القطان، وظاهر أن محل السقوط بها حيث علم بها الحاضرون... أما الحاضر بالبلد وإن كبرت فلا يصلى عليه لتيسر الحضور، وشبهوه بالقضاء على من بالبلد مع إمكان إحضاره، فلو كان الميت خارج السور قريبًا منه فهو كداخله؛ لأن الغالب أن المقابر تجعل خارج السور، ولو تعذر على من في البلد الحضور لحبس أو مرض لم يبعد جواز ذلك كما بحثه الأذرعي، وجزم به ابن أبي الدم في المحبوس؛ لأنهم قد علَّلوا المنع بتيسر الذهاب إليه... (والأصح تخصيص الصحة) أي صحة الصلاة على الغائب والقبر (بمن كان من أهل) أداء (فرضها وقت الموت) دون غيره؛ لأن غيره متنفل وهذه لا يتنفل بها. قال الزركشي: معناه لا تفعل مرة بعد أخرى. وقال في المجموع: معناه أنه لا يجوز الابتداء بصورتها من غير جنازة، بخلاف صلاة الظهر يؤتى بصورتها ابتداء بلا سبب] اهـ.

وفي "كشاف القناع" للعلامة البهوتي (2/ 122، ط. دار الكتب العلمية): [(ويصلي إمام) أعظم (وغيره على غائب عن البلد ولو كان دون مسافة قصر، أو) كان (في غير جهة القبلة) أي قبلة المصلي (بالنية إلى شهر) كالصلاة على القبر، لكن يكون الشهر هنا من موته، كما في شرح المنتهى؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على النجاشي، فصفّ -أي: الناس- وكبر عليه أربعًا. متفق عليه. لا يقال: لم يكن بأرض الحبشة من يصلي عليه؛ لأنه ليس من مذهب المخالف، فإنه يمنع الصلاة على الغريق والأسير وإن لم يكن صلي عليه مع أنه يبعد ذلك، فإن النجاشي ملك الحبشة أظهر الإسلام فيبعد أنه لم يوافقه أحد يصلي عليه، والقول بأن الأرض زويت له صلى الله عليه وآله وسلم وكشف له عن النجاشي حتى رآه حين صلاته لو كان له أصل لذكره لأصحابه ولنقل لما فيه من المعجزة العظيمة كما نقل إخباره لهم بموته يوم مات، وأيضًا لو تم ذلك في حقه لما تم في حق أصحابه و(لا) يصلى على من (في أحد جانبي البلد ولو كان) البلد (كبيرًا ولو لمشقة مطر أو مرض)؛ لأنه يمكن حضوره أشبه ما لو كانا في جانب واحد، ويعتبر انفصاله عن البلد بما يعد الذهاب إليه نوع سفر] اهـ.

وعمدة استدلال الشافعية والحنابلة حديثُ صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على النجاشي ملك الحبشة، بينما كره المالكية الصلاة على الغائب، وقال الحنفية بعدم صحتها.

يقول العلامة الخرشي في "شرح مختصر خليل" (2/ 143، ط. دار الفكر): [(ولا غائب) (ش) يعني أنه يكره الصلاة على شخص غائب من غريق وأكيل سبع وميت في محل أو بلد، وصلاته عليه الصلاة والسلام على النجاشي من خصوصياته، وذلك أن الأرض رفعته له وعلم يوم موته ونعاه لأصحابه يوم موته، وخرج بهم فأمهم في الصلاة عليه قبل أن يوارى، ولم يفعل ذلك بعده أحد، ولا صلى أحد على النبي عليه السلام بعد أن ووري، وفي الصلاة عليه أعظم رغبة فدل ذلك على الخصوص] اهـ.

وفي "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" (1/ 427، ط. دار الفكر): [(قوله ولا يصلى على غائب) أي يكره، وأما صلاته عليه الصلاة والسلام وهو بالمدينة على النجاشي لما بلغه موته بالحبشة فذاك من خصوصياته، أو أن صلاته لم تكن على غائب؛ لرفعه له صلى الله عليه وآله وسلم حتى رآه فتكون صلاته عليه كصلاة الإمام على ميت رآه ولم يره المأمومون ولا خلاف في جوازها، ورَدَّ ابن العربي الجوابين معًا بأن كلًّا من الخصوصية والرفع يفتقر لدليل وليس بموجود اهـ بن] اهـ.

وجاء في "الدر المختار" للعلامة الحصكفي: [فلا تصح على غائب ومحمول على نحو دابة وموضوع خلفه؛ لأنه كالإمام من وجه دون وجه؛ لصحتها على الصبي، وصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على النجاشي لغوية أو خصوصية] اهـ.

يقول العلامة ابن عابدين في "رد المحتار" (2/ 209، ط. دار الفكر) مُـحَشِّيًا: [(قوله: لغوية) أي المراد بها مجرد الدعاء وهو بعيد (قوله: أو خصوصية) أو لأنه رفع سريره حتى رآه عليه الصلاة والسلام بحضرته فتكون صلاة من خلفه على ميت يراه الإمام وبحضرته دون المأمومين، وهذا غير مانع من الاقتداء. فتح. واستدل لهذين الاحتمالين بما لا مزيد عليه فارجع إليه، من جملة ذلك أنه توفي خلق كثير من أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم من أعزهم عليه القراء ولم ينقل عنه أنه صلى عليهم مع حرصه على ذلك حتى قال: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إلَّا آذَنْتُمُونِي بِهِ، فَإِنَّ صَلَاتِي عَلَيْهِ رَحْمَةٌ لَهُ»] اهـ.

ومما نقله الحنفية والمالكية في كتبهم نجد أنهم لم يستدلوا على ما ذهبوا إليه بدليل من كتاب أو سنة، بل ردوا على استدلال الشافعية بحديث صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على النجاشي بادعاء الخصوصية والرفع، ولكن ما قاله ابن العربي من أن الخصوصية والرفع يفتقر لدليل وليس بموجود ردٌّ قوي، أما ادعاء عدم فعل ذلك على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته فإنه ليس بدليل على الحقيقة؛ لأنه عدم.

والخلاصة: أنه لا حرج في صلاة الجنازة على الميت الغائب بالشروط المذكورة سابقًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

صلاة الجنازة فرض كفاية، وقد وردت أحاديث عديدة في فضلها؛ من ذلك ما رواه أحمد وغيره عن مالك بن هبيرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَمُوتُ فَيُصَلِّى عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَلَغُوا أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَ صُفُوفٍ إِلَّا غُفِرَ لَهُ»، وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلِّى عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلَّا شُفِّعُوا فِيهِ»، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئًا إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ» رواه مسلم.

والأصل في صلاة الجنازة أن يكون الميت حاضرًا بين يدي الإمام والمصلين، ويوضع تجاه القبلة للصلاة عليه، ومع ذلك فإنه يجوز الصلاة عليه إذا لم يكن حاضرًا بين يدي الإمام والمصلين بشرطين:

أولهما: أن تبعد بلدة المتوفى عن بلد الصلاة عليه ولو كانت المسافة بين البلدين دون مسافة القصر، فإن كان المصلون والمتوفى في بلدة واحدة فلا تجوز الصلاة إلا بحضور المتوفى ولو كبرت البلدة، ولعل الأيسر اعتبار قرب وبعد البلدة في عصرنا باعتبار الحدود بين المحافظات، ولا يشترط في جواز الصلاة على الميت الغائب أن يكون الميت مستقبلًا للقبلة.

وثاني الشرطين: اعتبار الوقت، فالشافعية يقيِّدون صحة الصلاة بمن كان من أهل فرضها وقت الموت، بأن كان مكلفًا مسلمًا طاهرًا؛ لأنه يؤدِّي فرضًا خوطب به، بخلاف من لم يكن كذلك، وقيَّد الحنابلة الوقت بشهر من حين وفاته، وعلَّلوا بأنه لا يعلم بقاء الميت من غير تلاشٍ أكثر من ذلك. راجع: "نهاية المحتاج" (2/ 485، ط. دار الفكر)، و"شرح المنتهى" (1/ 363، ط. عالم الكتب).

هذا هو ما نفتي به، وهو حقيقة مذهب الشافعية والحنابلة، ونصوصهم ناطقة بذلك؛ يقول شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج" (3/ 149، ط. دار إحياء التراث العربي): [(ويصلى على الغائب عن البلد) بأن يكون بمحل بعيد عن البلد بحيث لا ينسب إليها عرفًا أخذًا من قول الزركشي عن صاحب الوافي وأقره أن خارج السور القريب منه كداخله، ويؤخذ من كلام الإسنوي ضبط القرب هنا بما يجب الطلب منه في التيمم، وهو متجه إن أريد به حد الغوث لا القرب، ولا يشترط كونه في جهة القبلة؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بموت النجاشي يوم موته وصلى عليه هو وأصحابه. رواه الشيخان، وكان ذلك سنة تسع وجاء: أن سريره رفع له صلى الله عليه وآله وسلم حتى شاهده، وهذا بفرض صحته لا ينفي الاستدلال؛ لأنها وإن كانت صلاة حاضر بالنسبة له صلى الله عليه وآله وسلم هي صلاة غائب بالنسبة لأصحابه] اهـ.

وقال الشمس الرملي في "نهاية المحتاج" (2/ 485-486، ط. دار الفكر): [(ويصلى على الغائب عن البلد) ولو في مسافةٍ قريبةٍ دون مسافة القصر وفي غير جهة القبلة والمصلي مستقبلها؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى على النجاشي بالمدينة يوم موته بالحبشة. رواه الشيخان، وذلك في رجب سنة تسع... وقد أجمع كل من أجاز الصلاة على الغائب بأن ذلك يسقط فرض الكفاية إلا ما حكي عن ابن القطان، وظاهر أن محل السقوط بها حيث علم بها الحاضرون... أما الحاضر بالبلد وإن كبرت فلا يصلى عليه لتيسر الحضور، وشبهوه بالقضاء على من بالبلد مع إمكان إحضاره، فلو كان الميت خارج السور قريبًا منه فهو كداخله؛ لأن الغالب أن المقابر تجعل خارج السور، ولو تعذر على من في البلد الحضور لحبس أو مرض لم يبعد جواز ذلك كما بحثه الأذرعي، وجزم به ابن أبي الدم في المحبوس؛ لأنهم قد علَّلوا المنع بتيسر الذهاب إليه... (والأصح تخصيص الصحة) أي صحة الصلاة على الغائب والقبر (بمن كان من أهل) أداء (فرضها وقت الموت) دون غيره؛ لأن غيره متنفل وهذه لا يتنفل بها. قال الزركشي: معناه لا تفعل مرة بعد أخرى. وقال في المجموع: معناه أنه لا يجوز الابتداء بصورتها من غير جنازة، بخلاف صلاة الظهر يؤتى بصورتها ابتداء بلا سبب] اهـ.

وفي "كشاف القناع" للعلامة البهوتي (2/ 122، ط. دار الكتب العلمية): [(ويصلي إمام) أعظم (وغيره على غائب عن البلد ولو كان دون مسافة قصر، أو) كان (في غير جهة القبلة) أي قبلة المصلي (بالنية إلى شهر) كالصلاة على القبر، لكن يكون الشهر هنا من موته، كما في شرح المنتهى؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على النجاشي، فصفّ -أي: الناس- وكبر عليه أربعًا. متفق عليه. لا يقال: لم يكن بأرض الحبشة من يصلي عليه؛ لأنه ليس من مذهب المخالف، فإنه يمنع الصلاة على الغريق والأسير وإن لم يكن صلي عليه مع أنه يبعد ذلك، فإن النجاشي ملك الحبشة أظهر الإسلام فيبعد أنه لم يوافقه أحد يصلي عليه، والقول بأن الأرض زويت له صلى الله عليه وآله وسلم وكشف له عن النجاشي حتى رآه حين صلاته لو كان له أصل لذكره لأصحابه ولنقل لما فيه من المعجزة العظيمة كما نقل إخباره لهم بموته يوم مات، وأيضًا لو تم ذلك في حقه لما تم في حق أصحابه و(لا) يصلى على من (في أحد جانبي البلد ولو كان) البلد (كبيرًا ولو لمشقة مطر أو مرض)؛ لأنه يمكن حضوره أشبه ما لو كانا في جانب واحد، ويعتبر انفصاله عن البلد بما يعد الذهاب إليه نوع سفر] اهـ.

وعمدة استدلال الشافعية والحنابلة حديثُ صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على النجاشي ملك الحبشة، بينما كره المالكية الصلاة على الغائب، وقال الحنفية بعدم صحتها.

يقول العلامة الخرشي في "شرح مختصر خليل" (2/ 143، ط. دار الفكر): [(ولا غائب) (ش) يعني أنه يكره الصلاة على شخص غائب من غريق وأكيل سبع وميت في محل أو بلد، وصلاته عليه الصلاة والسلام على النجاشي من خصوصياته، وذلك أن الأرض رفعته له وعلم يوم موته ونعاه لأصحابه يوم موته، وخرج بهم فأمهم في الصلاة عليه قبل أن يوارى، ولم يفعل ذلك بعده أحد، ولا صلى أحد على النبي عليه السلام بعد أن ووري، وفي الصلاة عليه أعظم رغبة فدل ذلك على الخصوص] اهـ.

وفي "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" (1/ 427، ط. دار الفكر): [(قوله ولا يصلى على غائب) أي يكره، وأما صلاته عليه الصلاة والسلام وهو بالمدينة على النجاشي لما بلغه موته بالحبشة فذاك من خصوصياته، أو أن صلاته لم تكن على غائب؛ لرفعه له صلى الله عليه وآله وسلم حتى رآه فتكون صلاته عليه كصلاة الإمام على ميت رآه ولم يره المأمومون ولا خلاف في جوازها، ورَدَّ ابن العربي الجوابين معًا بأن كلًّا من الخصوصية والرفع يفتقر لدليل وليس بموجود اهـ بن] اهـ.

وجاء في "الدر المختار" للعلامة الحصكفي: [فلا تصح على غائب ومحمول على نحو دابة وموضوع خلفه؛ لأنه كالإمام من وجه دون وجه؛ لصحتها على الصبي، وصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على النجاشي لغوية أو خصوصية] اهـ.

يقول العلامة ابن عابدين في "رد المحتار" (2/ 209، ط. دار الفكر) مُـحَشِّيًا: [(قوله: لغوية) أي المراد بها مجرد الدعاء وهو بعيد (قوله: أو خصوصية) أو لأنه رفع سريره حتى رآه عليه الصلاة والسلام بحضرته فتكون صلاة من خلفه على ميت يراه الإمام وبحضرته دون المأمومين، وهذا غير مانع من الاقتداء. فتح. واستدل لهذين الاحتمالين بما لا مزيد عليه فارجع إليه، من جملة ذلك أنه توفي خلق كثير من أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم من أعزهم عليه القراء ولم ينقل عنه أنه صلى عليهم مع حرصه على ذلك حتى قال: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إلَّا آذَنْتُمُونِي بِهِ، فَإِنَّ صَلَاتِي عَلَيْهِ رَحْمَةٌ لَهُ»] اهـ.

ومما نقله الحنفية والمالكية في كتبهم نجد أنهم لم يستدلوا على ما ذهبوا إليه بدليل من كتاب أو سنة، بل ردوا على استدلال الشافعية بحديث صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على النجاشي بادعاء الخصوصية والرفع، ولكن ما قاله ابن العربي من أن الخصوصية والرفع يفتقر لدليل وليس بموجود ردٌّ قوي، أما ادعاء عدم فعل ذلك على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته فإنه ليس بدليل على الحقيقة؛ لأنه عدم.

والخلاصة: أنه لا حرج في صلاة الجنازة على الميت الغائب بالشروط المذكورة سابقًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;