الكتابة على القبر

.ما حكم كتابة اسم المتوفى على القبر حتى لا يلتبس بغيره، ويتمكن أهله من زيارته؟

.الأصل في حكم الكتابة أن يكون بحسب ما يكتب؛ فقد يكون حسنًا وقد يكون قبيحًا، ولم يرِد في قضية السؤال إلا حديث واحد ينهى عن الكتابة على القبر، وهو ما أخرجه الترمذي من طريق مُحَمَّدِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ تُجَصَّصَ القُبُورُ، وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا، وَأَنْ تُوطَأَ"، قال الإمام الترمذي في "السنن" (2/ 360): [هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، قَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، وَقَدْ رَخَّصَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ مِنْهُمْ: الحَسَنُ البَصْرِيُّ فِي تَطْيِينِ القُبُورِ، وقَالَ الإمام الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ أَنْ يُطَيَّنَ القَبْرُ] اهـ.
وأخرجه الحاكم من طريق حَفْص بْنُ غِيَاثٍ النَّخَعِيُّ، ثنا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَبْرِ، أَوْ يُجَصَّصَ، أَوْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَنَهَى أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ". قال الحاكم في "المستدرك" (1/ 525): [هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ خَرَّجَ بِإِسْنَادِهِ غَيْرَ الْكِتَابَةِ؛ فَإِنَّهَا لَفْظَةٌ صَحِيحَةٌ غَرِيبَةٌ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ...، ثم أخرجه من طريق أَبي مُعَاوِيَةَ...، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَنْ تَجْصِيصِ الْقُبُورِ، وَالْكِتَابَةِ فِيهَا، وَالْبِنَاءِ عَلَيْهَا، وَالْجُلُوسِ عَلَيْهَا"، ... ثم قال الحاكم: ... هَذِهِ الْأَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ، وَلَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الشَّرْقِ إِلَى الْغَرْبِ مَكْتُوبٌ عَلَى قُبُورِهِمْ، وَهُوَ عَمَلٌ أَخَذَ بِهِ الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ] اهـ.
وتعقبه الحافظ الذهبي بقوله: [قلت: ما قلتَ طائلًا، ولا نعلم صحابيًّا فعل ذلك، وإنما هو شيء أحدثه بعض التابعين فمن بعدهم، ولم يبلغهم النهي] اهـ. "مختصر تلخيص الذّهبي" (1/ 291).
وهذ الحديث أخرجه الإمام مسلم وليس فيه مسألة الكتابة على القبر؛ لاختلاف الرواة على هذه العبارة، فبعضهم ذكرها وبعضهم لم يذكرها. ولا يقال: إن الزيادة مقبولة مطلقًا؛ فإن مذهب المحققين من أهل الحديث النظر في الروايات والمقارنة بينها، فقد يكون السند صحيحًا والمتن شاذًّا، كما هو معلوم.
وقد ذكر العلامة الدارقطني في "العلل" (13/ 349، ط. دار طيبة، الرياض) اختلاف الرواة على ابن جريج في هذا الحديث، لكنه لم يقض فيه بشيء، ولم يقارن بين المتون.
وعلى كل حال: لو سلمنا بصحة الحديث فهو محمول على الكراهة كما هو مذهب الجمهور، فإن أكثر أسباب الكتابة على القبر هو تعليمه حتى تتم زيارته، وهذا مقصد مشروع، ودليله العام الترغيب في زيارة القبور خاصة الأقارب، وقد زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبر أمه.
وأما الدليل الخاص وهو نصٌّ في المسألة فهو ما ورد عَنِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه قَالَ: "لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، أُخْرِجَ بِجَنَازَتِهِ فَدُفِنَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم رَجُلًا أَنْ يَأْتِيَهُ بِحَجَرٍ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ حَمْلَهُ، فَقَامَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ؛ قَالَ كَثِيرٌ: قَالَ الْمُطَّلِبُ رضي الله عنه: قَالَ الَّذِي يُخْبِرُنِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ ذِرَاعَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، حِينَ حَسَرَ عَنْهُمَا ثُمَّ حَمَلَهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ، وَقَالَ: «أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي، وَأَدْفِنُ إِلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي» أخرجه أبو داود في "سننه" (5/ 115).
ويؤيد هذا الحكم ما ذكره الحاكم من كثرة العمل على الكتابة على القبور، وهو يتحدث عن أمرٍ مشاهد لا يحتاج إلى استنباط فقهي، ولذا لم ينازعه فيه الذهبي، بل حاول أن يتخلص منه بعدم ورود ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم، وأن من فعله من التابعين لم يبلغه النهي.
وهذا الأخير هو مجرد احتمال، فقد يكون العالم بلغه النهي ولكنه لم يثبت عنده، أو يحمله على عدم الحرمة، بأن يؤوله أو يخصصه أو يرى نسخه، وهكذا كما في نظائره. ثم إن عصر الصحابة رضي الله عنهم كان عصرًا تقل فيه الكتابة جدًّا؛ ولذا وصفهم الله تعالى بالأميين، فمن أين نجزم أنهم تركوه من أجل هذا النهي بعينه؟ وهل كل نهي يُعدُّ تحريمًا عند كل الصحابة رضي الله عنهم؟!
قال الحافظ السيوطي في "حاشيته على النسائي" (4/ 87، ط. مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب): [قال العراقي: يحتمل أن المراد مطلق الكتابة كتابة اسم صاحب القبر عليه أو تاريخ وفاته، أو المراد كتابة شيء من القرآن وأسماء الله تعالى للتبرك؛ لاحتمال أن يوطأ أو يسقط على الأرض فيصير تحت الأرجل] اهـ.
فالأمر على الاحتمال كما ترى، ثم إن مسألة الامتهان للمكتوب تختلف من مقبرة لأخرى، فالمقابر الآن في بلاد كمصر تكون الكتابة في رخام موضوع أعلى مدخل القبر فيما يطلقون عليه "الحوش".
واستنباط معنى من النص يخصصه جائز عند بعض أهل العلم.
قال الإمام الإسنوي في "التمهيد" (375، ط. مؤسسة الرسالة): [الْمَشْهُور من قَول الْأُصُولِيِّينَ وَمن قَول الشَّافِعِي أَيْضًا أَنه يجوز أَن يستنبط من النَّص معنى يخصصه] اهـ.
ثم إننا لو سلمنا بالكراهة فهي تزول بالحاجة الشرعية.
قال العلامة ابن عابدين في "حاشيته" (2/ 237-238، ط. دار الكتب العلمية): [(قَوْلُهُ: لا بَأْسَ بِالْكِتَابَةِ إلَخْ)؛ لأَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا وَإِنْ صَحَّ فَقَدْ وُجِدَ الإِجْمَاعُ الْعَمَلِيُّ بِهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ النَّهْيَ عَنْهَا مِنْ طُرُقٍ، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ الأَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ، وَلَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ مَكْتُوبٌ عَلَى قُبُورِهِمْ، وَهُوَ عَمَلٌ أَخَذَ بِهِ الْخَلَفُ عَنْ السَّلَفِ اهـ. وَيَتَقَوَّى بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم حَمَلَ حَجَرًا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَقَالَ: «أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي وَأَدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ تَابَ مِنْ أَهْلِي»، فَإِنَّ الْكِتَابَةَ طَرِيقٌ إلَى تَعَرُّفِ الْقَبْرِ بِهَا، نَعَمْ يَظْهَرُ أَنَّ مَحَلَّ هَذَا الإِجْمَاعِ الْعَمَلِيِّ عَلَى الرُّخْصَةِ فِيهَا مَا إذَا كَانَتْ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي "الْمُحِيطِ" بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى الْكِتَابَةِ؛ حَتَّى لا يَذْهَبَ الأَثَرُ وَلا يُمْتَهَنَ فَلا بَأْسَ بِهِ، فَأَمَّا الْكِتَابَةُ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَلا. اهـ. حَتَّى إنَّهُ يُكْرَهُ كِتَابَةُ شَيْءٍ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ، أَوْ الشِّعْرِ، أَوْ إطْرَاءِ مَدْحٍ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ حِلْيَةٌ مُلَخَّصًا. قُلْت: لَكِنْ نَازَعَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الشَّافِعِيَّة فِي هَذَا الإِجْمَاعِ بِأَنَّهُ أَكْثَرِيٌّ، وَإِنْ سَلِمَ فَمَحَلُّ حُجِّيَّتِهِ عِنْدَ صَلاحِ الأَزْمِنَةِ بِحَيْثُ يَنْفُذُ فِيهَا الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ تَعَطَّلَ ذَلِكَ مُنْذُ أَزْمِنَةٍ، أَلا تَرَى أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى قُبُورِهِمْ فِي الْمَقَابِرِ الْمُسَبَّلَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْكِتَابَةِ عَلَيْهَا كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ، وَقَدْ عَلِمُوا بِالنَّهْيِ عَنْهُ فَكَذَا الْكِتَابَةُ) اهـ. فَالأَحْسَنُ التَّمَسُّكُ بِمَا يُفِيدُ حَمْلَ النَّهْيِ عَلَى عَدَمِ الْحَاجَةِ كَمَا مَرَّ] اهـ.
وقال العلامة الحطاب في "مواهب الجليل في شرح مختصر خليل" (2/ 247): [يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى الْقَبْرِ حَجَرًا، أَوْ خَشَبَةً بِلَا نَقْشٍ لِتَمَيُّزِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ، قَالَ الْمَازَرِيُّ: كَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى الْقَبْرِ بَلَاطَةً يَكْتُبُ فِيهَا، وَلَمْ يَرَ بِالْحَجَرِ وَالْعُودِ وَالْخَشَبَةِ بَأْسًا يَعْرِفُ بِهِ الرَّجُلُ قَبْرَ وَلِيِّهِ مَا لَمْ يُكْتَبْ فِيهِ. انْتَهَى. وَجَعَلَهُ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ مُسْتَحَبًّا...، انْتَهَى. وَفِي "مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ": وَلَا بَأْسَ أَنْ يُوضَعَ الْحَجَرُ الْوَاحِدُ فِي طَرَفِ الْقَبْرِ عَلَامَةً؛ لِيُعْرَفَ بِهِ أَنَّ فِيهِ قَبْرًا وَلِيَعْرِفَ الرَّجُلُ قَبْرَ وَلِيِّهِ، فَأَمَّا الْحِجَارَةُ الْكَثِيفَةُ وَالصَّخْرُ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْرِفُ؛ فَلَا خَيْرَ فِيهِ. انْتَهَى، ... وَكَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْقَبْرِ بَلَاطَةٌ وَيُكْتَبَ فِيهَا، وَلَمْ يَرَ بَأْسًا بِالْحَجَرِ وَالْعُودِ وَالْخَشَبَةِ مَا لَمْ يُكْتَبْ فِي ذَلِكَ، يَعْرِفُ الرَّجُلُ قَبْرَ وَلِيِّهِ، وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ كَرِهَ مَالِكٌ الْبِنَاءَ عَلَى الْقَبْرِ، وَأَنْ يُجْعَلَ عَلَيْهِ الْبَلَاطَةُ الْمَكْتُوبَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أَحْدَثَهَا أَهْلُ الطَّوْلِ مِنْ إرَادَةِ الْفَخْرِ وَالْمُبَاهَاةِ وَالسُّمْعَةِ؛ وَذَلِكَ مِمَّا لَا اخْتِلَافَ فِي كَرَاهَتِهِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي "الْعَارِضَةِ": وَأَمَّا الْكِتَابَةُ عَلَيْهَا فَأَمْرٌ قَدْ عَمَّ الْأَرْضَ وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ قَدْ وَرَدَ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ تَسَامَحَ النَّاسُ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ فَائِدَةٌ إلَّا التَّعْلِيمُ لِلْقَبْرِ لِئَلَّا يَدَّثِرَ. انْتَهَى] اهـ.
قال شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الكبرى" (2/ 12، ط. المكتبة الإسلامية): [(وسئل) رضي الله عنه عن كراهة الكتابة على القبور، هل تعم أسماء الله والقرآن، واسم الميت وغير ذلك، أو تخص شيئًا من ذلك بينوه بما فيه؟ (فأجاب) بقوله: أطلق الأصحاب كراهة الكتابة على القبر؛ لورود النهي عن ذلك. رواه الترمذي، وقال حسن صحيح، واعترضه أبو عبد الله الحاكم النيسابوري المحدث بأن العمل ليس عليه، فإن أئمة المسلمين من الشرق إلى الغرب مكتوب على قبورهم وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف رضي الله عنهم وما اعترض به إنما يتجه أن لو فعله أئمة عصر كلهم أو علموه ولم ينكروه وأي إنكار أعظم من تصريح أصحابنا بالكراهة مستدلين بالحديث هذا، وبحث السبكي والأذرعي تقييد ذلك بالقدر الزائد عما يحصل به الإعلام بالميت وعبارة السبكي، وسيأتي قريبًا أن وضعَ شيءٍ يعرف به القبر مستحب، فإذا كانت الكتابة طريقًا فيه فينبغي أن لا تكره إذا كتب بقدر الحاجة إلى الإعلام. وعبارة الأذرعي: وأمَّا الكتابة فمكروهة سواء كان المكتوب اسم الميت على لوح عند رأسه أو غيره هكذا أطلقوه، والقياس الظاهر تحريم كتابة القرآن؛ سواء في ذلك جميع جوانبه؛ لما فيه من تعريضه للأذى بالدوس والنجاسة والتلويث بصديد الموتى عند تكرار النبش في المقبرة المسبلة، وأمَّا غيره من النظم والنثر فيحتمل الكراهة والتحريم للنهي.
وأمَّا كتابة اسم الميت، فقد قالوا: إن وضع ما يعرف به القبور مستحب، فإذا كان ذلك طريقًا في ذلك فيظهر استحبابه بقدر الحاجة إلى الإعلام بلا كراهة، ولا سيما قبور الأولياء والصالحين، فإنها لا تعرف إلا بذلك عند تطاول السنين، ثم ذكر ما مَرَّ عن الحاكم، وقال عَقِبَه: فإن أراد كتابة اسم الميت للتعريف فظاهر ويحمل النهي على ما قصد به المباهاة والزينة والصفات الكاذبة، أو كتابة القرآن وغير ذلك] اهـ.
وما بحثه الإمام السبكي من عدم الكراهة في كتابة اسم الميت للتعريف، والأذرعي من استحبابها ظاهر إن تعذر تمييزه إلا بها لو كان عالمًا أو صالحًا، وخشي من طول السنين اندراس قبره والجهل به لو لم يكتب اسمه على قبره، ويحمل النهي على غير ذلك؛ لأنه يجوز أن يستنبط من النص معنى يخصصه، وهو هنا الحاجة إلى التمييز فهو بالقياس على ندب وضع شيء يعرف به القبر، بل هو داخل فيه أو إلى بقاء ذكر هذا العالم أو الصالح؛ ليكثر الترحم عليه أو عود بركته على من زاره، وما ذكره الأذرعي من تحريم كتابة القرآن قريب، وإن كان الدوس والنجاسة غير محققين؛ لأنهما وإن لم يكونا محققين في الحال هما محققان في الاستقبال بمقتضى العادة المطردة من نبش تلك المقبرة واندراس هذا القبر، ويلحق بالقرآن في ذلك كل اسم معظم بخلاف غيره من النظم والنثر، فإنه مكروه لا حرام وإن تردد فيه، وقوله: ويحمل النهي... إلخ، قد علمت أنه تارة يحمل على الكراهة، وتارة يحمل على الحرمة، وهو ما لو كتب القرآن أو اسمًا معظمًا دون غيرهما، وإن قصد المباهاة والزينة.
قال العلامة الإمام البهوتي في "كشاف القناع" (2/ 140، ط. دار الفكر): [(و) تُكْرَهُ (الْكِتَابَةُ عَلَيْهِ)؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه] اهـ.
وبناءً على ما سبق: فإن النهي الوارد في الكتابة على القبر إن ثبت فهو محمول على الكراهة، لئلَّا يدخله مثل الفخر والمباهاة، وأما إن كان بقصد تعليم القبر للزيارة ونحوها فالكراهة تزول حينئذٍ.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

.الأصل في حكم الكتابة أن يكون بحسب ما يكتب؛ فقد يكون حسنًا وقد يكون قبيحًا، ولم يرِد في قضية السؤال إلا حديث واحد ينهى عن الكتابة على القبر، وهو ما أخرجه الترمذي من طريق مُحَمَّدِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ تُجَصَّصَ القُبُورُ، وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا، وَأَنْ تُوطَأَ"، قال الإمام الترمذي في "السنن" (2/ 360): [هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، قَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، وَقَدْ رَخَّصَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ مِنْهُمْ: الحَسَنُ البَصْرِيُّ فِي تَطْيِينِ القُبُورِ، وقَالَ الإمام الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ أَنْ يُطَيَّنَ القَبْرُ] اهـ.
وأخرجه الحاكم من طريق حَفْص بْنُ غِيَاثٍ النَّخَعِيُّ، ثنا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَبْرِ، أَوْ يُجَصَّصَ، أَوْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَنَهَى أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ". قال الحاكم في "المستدرك" (1/ 525): [هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ خَرَّجَ بِإِسْنَادِهِ غَيْرَ الْكِتَابَةِ؛ فَإِنَّهَا لَفْظَةٌ صَحِيحَةٌ غَرِيبَةٌ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ...، ثم أخرجه من طريق أَبي مُعَاوِيَةَ...، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَنْ تَجْصِيصِ الْقُبُورِ، وَالْكِتَابَةِ فِيهَا، وَالْبِنَاءِ عَلَيْهَا، وَالْجُلُوسِ عَلَيْهَا"، ... ثم قال الحاكم: ... هَذِهِ الْأَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ، وَلَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الشَّرْقِ إِلَى الْغَرْبِ مَكْتُوبٌ عَلَى قُبُورِهِمْ، وَهُوَ عَمَلٌ أَخَذَ بِهِ الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ] اهـ.
وتعقبه الحافظ الذهبي بقوله: [قلت: ما قلتَ طائلًا، ولا نعلم صحابيًّا فعل ذلك، وإنما هو شيء أحدثه بعض التابعين فمن بعدهم، ولم يبلغهم النهي] اهـ. "مختصر تلخيص الذّهبي" (1/ 291).
وهذ الحديث أخرجه الإمام مسلم وليس فيه مسألة الكتابة على القبر؛ لاختلاف الرواة على هذه العبارة، فبعضهم ذكرها وبعضهم لم يذكرها. ولا يقال: إن الزيادة مقبولة مطلقًا؛ فإن مذهب المحققين من أهل الحديث النظر في الروايات والمقارنة بينها، فقد يكون السند صحيحًا والمتن شاذًّا، كما هو معلوم.
وقد ذكر العلامة الدارقطني في "العلل" (13/ 349، ط. دار طيبة، الرياض) اختلاف الرواة على ابن جريج في هذا الحديث، لكنه لم يقض فيه بشيء، ولم يقارن بين المتون.
وعلى كل حال: لو سلمنا بصحة الحديث فهو محمول على الكراهة كما هو مذهب الجمهور، فإن أكثر أسباب الكتابة على القبر هو تعليمه حتى تتم زيارته، وهذا مقصد مشروع، ودليله العام الترغيب في زيارة القبور خاصة الأقارب، وقد زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبر أمه.
وأما الدليل الخاص وهو نصٌّ في المسألة فهو ما ورد عَنِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه قَالَ: "لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، أُخْرِجَ بِجَنَازَتِهِ فَدُفِنَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم رَجُلًا أَنْ يَأْتِيَهُ بِحَجَرٍ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ حَمْلَهُ، فَقَامَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ؛ قَالَ كَثِيرٌ: قَالَ الْمُطَّلِبُ رضي الله عنه: قَالَ الَّذِي يُخْبِرُنِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ ذِرَاعَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، حِينَ حَسَرَ عَنْهُمَا ثُمَّ حَمَلَهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ، وَقَالَ: «أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي، وَأَدْفِنُ إِلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي» أخرجه أبو داود في "سننه" (5/ 115).
ويؤيد هذا الحكم ما ذكره الحاكم من كثرة العمل على الكتابة على القبور، وهو يتحدث عن أمرٍ مشاهد لا يحتاج إلى استنباط فقهي، ولذا لم ينازعه فيه الذهبي، بل حاول أن يتخلص منه بعدم ورود ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم، وأن من فعله من التابعين لم يبلغه النهي.
وهذا الأخير هو مجرد احتمال، فقد يكون العالم بلغه النهي ولكنه لم يثبت عنده، أو يحمله على عدم الحرمة، بأن يؤوله أو يخصصه أو يرى نسخه، وهكذا كما في نظائره. ثم إن عصر الصحابة رضي الله عنهم كان عصرًا تقل فيه الكتابة جدًّا؛ ولذا وصفهم الله تعالى بالأميين، فمن أين نجزم أنهم تركوه من أجل هذا النهي بعينه؟ وهل كل نهي يُعدُّ تحريمًا عند كل الصحابة رضي الله عنهم؟!
قال الحافظ السيوطي في "حاشيته على النسائي" (4/ 87، ط. مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب): [قال العراقي: يحتمل أن المراد مطلق الكتابة كتابة اسم صاحب القبر عليه أو تاريخ وفاته، أو المراد كتابة شيء من القرآن وأسماء الله تعالى للتبرك؛ لاحتمال أن يوطأ أو يسقط على الأرض فيصير تحت الأرجل] اهـ.
فالأمر على الاحتمال كما ترى، ثم إن مسألة الامتهان للمكتوب تختلف من مقبرة لأخرى، فالمقابر الآن في بلاد كمصر تكون الكتابة في رخام موضوع أعلى مدخل القبر فيما يطلقون عليه "الحوش".
واستنباط معنى من النص يخصصه جائز عند بعض أهل العلم.
قال الإمام الإسنوي في "التمهيد" (375، ط. مؤسسة الرسالة): [الْمَشْهُور من قَول الْأُصُولِيِّينَ وَمن قَول الشَّافِعِي أَيْضًا أَنه يجوز أَن يستنبط من النَّص معنى يخصصه] اهـ.
ثم إننا لو سلمنا بالكراهة فهي تزول بالحاجة الشرعية.
قال العلامة ابن عابدين في "حاشيته" (2/ 237-238، ط. دار الكتب العلمية): [(قَوْلُهُ: لا بَأْسَ بِالْكِتَابَةِ إلَخْ)؛ لأَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا وَإِنْ صَحَّ فَقَدْ وُجِدَ الإِجْمَاعُ الْعَمَلِيُّ بِهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ النَّهْيَ عَنْهَا مِنْ طُرُقٍ، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ الأَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ، وَلَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ مَكْتُوبٌ عَلَى قُبُورِهِمْ، وَهُوَ عَمَلٌ أَخَذَ بِهِ الْخَلَفُ عَنْ السَّلَفِ اهـ. وَيَتَقَوَّى بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم حَمَلَ حَجَرًا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَقَالَ: «أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي وَأَدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ تَابَ مِنْ أَهْلِي»، فَإِنَّ الْكِتَابَةَ طَرِيقٌ إلَى تَعَرُّفِ الْقَبْرِ بِهَا، نَعَمْ يَظْهَرُ أَنَّ مَحَلَّ هَذَا الإِجْمَاعِ الْعَمَلِيِّ عَلَى الرُّخْصَةِ فِيهَا مَا إذَا كَانَتْ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي "الْمُحِيطِ" بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى الْكِتَابَةِ؛ حَتَّى لا يَذْهَبَ الأَثَرُ وَلا يُمْتَهَنَ فَلا بَأْسَ بِهِ، فَأَمَّا الْكِتَابَةُ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَلا. اهـ. حَتَّى إنَّهُ يُكْرَهُ كِتَابَةُ شَيْءٍ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ، أَوْ الشِّعْرِ، أَوْ إطْرَاءِ مَدْحٍ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ حِلْيَةٌ مُلَخَّصًا. قُلْت: لَكِنْ نَازَعَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الشَّافِعِيَّة فِي هَذَا الإِجْمَاعِ بِأَنَّهُ أَكْثَرِيٌّ، وَإِنْ سَلِمَ فَمَحَلُّ حُجِّيَّتِهِ عِنْدَ صَلاحِ الأَزْمِنَةِ بِحَيْثُ يَنْفُذُ فِيهَا الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ تَعَطَّلَ ذَلِكَ مُنْذُ أَزْمِنَةٍ، أَلا تَرَى أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى قُبُورِهِمْ فِي الْمَقَابِرِ الْمُسَبَّلَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْكِتَابَةِ عَلَيْهَا كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ، وَقَدْ عَلِمُوا بِالنَّهْيِ عَنْهُ فَكَذَا الْكِتَابَةُ) اهـ. فَالأَحْسَنُ التَّمَسُّكُ بِمَا يُفِيدُ حَمْلَ النَّهْيِ عَلَى عَدَمِ الْحَاجَةِ كَمَا مَرَّ] اهـ.
وقال العلامة الحطاب في "مواهب الجليل في شرح مختصر خليل" (2/ 247): [يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى الْقَبْرِ حَجَرًا، أَوْ خَشَبَةً بِلَا نَقْشٍ لِتَمَيُّزِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ، قَالَ الْمَازَرِيُّ: كَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى الْقَبْرِ بَلَاطَةً يَكْتُبُ فِيهَا، وَلَمْ يَرَ بِالْحَجَرِ وَالْعُودِ وَالْخَشَبَةِ بَأْسًا يَعْرِفُ بِهِ الرَّجُلُ قَبْرَ وَلِيِّهِ مَا لَمْ يُكْتَبْ فِيهِ. انْتَهَى. وَجَعَلَهُ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ مُسْتَحَبًّا...، انْتَهَى. وَفِي "مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ": وَلَا بَأْسَ أَنْ يُوضَعَ الْحَجَرُ الْوَاحِدُ فِي طَرَفِ الْقَبْرِ عَلَامَةً؛ لِيُعْرَفَ بِهِ أَنَّ فِيهِ قَبْرًا وَلِيَعْرِفَ الرَّجُلُ قَبْرَ وَلِيِّهِ، فَأَمَّا الْحِجَارَةُ الْكَثِيفَةُ وَالصَّخْرُ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْرِفُ؛ فَلَا خَيْرَ فِيهِ. انْتَهَى، ... وَكَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْقَبْرِ بَلَاطَةٌ وَيُكْتَبَ فِيهَا، وَلَمْ يَرَ بَأْسًا بِالْحَجَرِ وَالْعُودِ وَالْخَشَبَةِ مَا لَمْ يُكْتَبْ فِي ذَلِكَ، يَعْرِفُ الرَّجُلُ قَبْرَ وَلِيِّهِ، وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ كَرِهَ مَالِكٌ الْبِنَاءَ عَلَى الْقَبْرِ، وَأَنْ يُجْعَلَ عَلَيْهِ الْبَلَاطَةُ الْمَكْتُوبَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أَحْدَثَهَا أَهْلُ الطَّوْلِ مِنْ إرَادَةِ الْفَخْرِ وَالْمُبَاهَاةِ وَالسُّمْعَةِ؛ وَذَلِكَ مِمَّا لَا اخْتِلَافَ فِي كَرَاهَتِهِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي "الْعَارِضَةِ": وَأَمَّا الْكِتَابَةُ عَلَيْهَا فَأَمْرٌ قَدْ عَمَّ الْأَرْضَ وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ قَدْ وَرَدَ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ تَسَامَحَ النَّاسُ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ فَائِدَةٌ إلَّا التَّعْلِيمُ لِلْقَبْرِ لِئَلَّا يَدَّثِرَ. انْتَهَى] اهـ.
قال شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الكبرى" (2/ 12، ط. المكتبة الإسلامية): [(وسئل) رضي الله عنه عن كراهة الكتابة على القبور، هل تعم أسماء الله والقرآن، واسم الميت وغير ذلك، أو تخص شيئًا من ذلك بينوه بما فيه؟ (فأجاب) بقوله: أطلق الأصحاب كراهة الكتابة على القبر؛ لورود النهي عن ذلك. رواه الترمذي، وقال حسن صحيح، واعترضه أبو عبد الله الحاكم النيسابوري المحدث بأن العمل ليس عليه، فإن أئمة المسلمين من الشرق إلى الغرب مكتوب على قبورهم وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف رضي الله عنهم وما اعترض به إنما يتجه أن لو فعله أئمة عصر كلهم أو علموه ولم ينكروه وأي إنكار أعظم من تصريح أصحابنا بالكراهة مستدلين بالحديث هذا، وبحث السبكي والأذرعي تقييد ذلك بالقدر الزائد عما يحصل به الإعلام بالميت وعبارة السبكي، وسيأتي قريبًا أن وضعَ شيءٍ يعرف به القبر مستحب، فإذا كانت الكتابة طريقًا فيه فينبغي أن لا تكره إذا كتب بقدر الحاجة إلى الإعلام. وعبارة الأذرعي: وأمَّا الكتابة فمكروهة سواء كان المكتوب اسم الميت على لوح عند رأسه أو غيره هكذا أطلقوه، والقياس الظاهر تحريم كتابة القرآن؛ سواء في ذلك جميع جوانبه؛ لما فيه من تعريضه للأذى بالدوس والنجاسة والتلويث بصديد الموتى عند تكرار النبش في المقبرة المسبلة، وأمَّا غيره من النظم والنثر فيحتمل الكراهة والتحريم للنهي.
وأمَّا كتابة اسم الميت، فقد قالوا: إن وضع ما يعرف به القبور مستحب، فإذا كان ذلك طريقًا في ذلك فيظهر استحبابه بقدر الحاجة إلى الإعلام بلا كراهة، ولا سيما قبور الأولياء والصالحين، فإنها لا تعرف إلا بذلك عند تطاول السنين، ثم ذكر ما مَرَّ عن الحاكم، وقال عَقِبَه: فإن أراد كتابة اسم الميت للتعريف فظاهر ويحمل النهي على ما قصد به المباهاة والزينة والصفات الكاذبة، أو كتابة القرآن وغير ذلك] اهـ.
وما بحثه الإمام السبكي من عدم الكراهة في كتابة اسم الميت للتعريف، والأذرعي من استحبابها ظاهر إن تعذر تمييزه إلا بها لو كان عالمًا أو صالحًا، وخشي من طول السنين اندراس قبره والجهل به لو لم يكتب اسمه على قبره، ويحمل النهي على غير ذلك؛ لأنه يجوز أن يستنبط من النص معنى يخصصه، وهو هنا الحاجة إلى التمييز فهو بالقياس على ندب وضع شيء يعرف به القبر، بل هو داخل فيه أو إلى بقاء ذكر هذا العالم أو الصالح؛ ليكثر الترحم عليه أو عود بركته على من زاره، وما ذكره الأذرعي من تحريم كتابة القرآن قريب، وإن كان الدوس والنجاسة غير محققين؛ لأنهما وإن لم يكونا محققين في الحال هما محققان في الاستقبال بمقتضى العادة المطردة من نبش تلك المقبرة واندراس هذا القبر، ويلحق بالقرآن في ذلك كل اسم معظم بخلاف غيره من النظم والنثر، فإنه مكروه لا حرام وإن تردد فيه، وقوله: ويحمل النهي... إلخ، قد علمت أنه تارة يحمل على الكراهة، وتارة يحمل على الحرمة، وهو ما لو كتب القرآن أو اسمًا معظمًا دون غيرهما، وإن قصد المباهاة والزينة.
قال العلامة الإمام البهوتي في "كشاف القناع" (2/ 140، ط. دار الفكر): [(و) تُكْرَهُ (الْكِتَابَةُ عَلَيْهِ)؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه] اهـ.
وبناءً على ما سبق: فإن النهي الوارد في الكتابة على القبر إن ثبت فهو محمول على الكراهة، لئلَّا يدخله مثل الفخر والمباهاة، وأما إن كان بقصد تعليم القبر للزيارة ونحوها فالكراهة تزول حينئذٍ.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

الكتابة على القبر

.ما حكم كتابة اسم المتوفى على القبر حتى لا يلتبس بغيره، ويتمكن أهله من زيارته؟

.الأصل في حكم الكتابة أن يكون بحسب ما يكتب؛ فقد يكون حسنًا وقد يكون قبيحًا، ولم يرِد في قضية السؤال إلا حديث واحد ينهى عن الكتابة على القبر، وهو ما أخرجه الترمذي من طريق مُحَمَّدِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ تُجَصَّصَ القُبُورُ، وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا، وَأَنْ تُوطَأَ"، قال الإمام الترمذي في "السنن" (2/ 360): [هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، قَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، وَقَدْ رَخَّصَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ مِنْهُمْ: الحَسَنُ البَصْرِيُّ فِي تَطْيِينِ القُبُورِ، وقَالَ الإمام الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ أَنْ يُطَيَّنَ القَبْرُ] اهـ.
وأخرجه الحاكم من طريق حَفْص بْنُ غِيَاثٍ النَّخَعِيُّ، ثنا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَبْرِ، أَوْ يُجَصَّصَ، أَوْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَنَهَى أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ". قال الحاكم في "المستدرك" (1/ 525): [هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ خَرَّجَ بِإِسْنَادِهِ غَيْرَ الْكِتَابَةِ؛ فَإِنَّهَا لَفْظَةٌ صَحِيحَةٌ غَرِيبَةٌ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ...، ثم أخرجه من طريق أَبي مُعَاوِيَةَ...، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَنْ تَجْصِيصِ الْقُبُورِ، وَالْكِتَابَةِ فِيهَا، وَالْبِنَاءِ عَلَيْهَا، وَالْجُلُوسِ عَلَيْهَا"، ... ثم قال الحاكم: ... هَذِهِ الْأَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ، وَلَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الشَّرْقِ إِلَى الْغَرْبِ مَكْتُوبٌ عَلَى قُبُورِهِمْ، وَهُوَ عَمَلٌ أَخَذَ بِهِ الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ] اهـ.
وتعقبه الحافظ الذهبي بقوله: [قلت: ما قلتَ طائلًا، ولا نعلم صحابيًّا فعل ذلك، وإنما هو شيء أحدثه بعض التابعين فمن بعدهم، ولم يبلغهم النهي] اهـ. "مختصر تلخيص الذّهبي" (1/ 291).
وهذ الحديث أخرجه الإمام مسلم وليس فيه مسألة الكتابة على القبر؛ لاختلاف الرواة على هذه العبارة، فبعضهم ذكرها وبعضهم لم يذكرها. ولا يقال: إن الزيادة مقبولة مطلقًا؛ فإن مذهب المحققين من أهل الحديث النظر في الروايات والمقارنة بينها، فقد يكون السند صحيحًا والمتن شاذًّا، كما هو معلوم.
وقد ذكر العلامة الدارقطني في "العلل" (13/ 349، ط. دار طيبة، الرياض) اختلاف الرواة على ابن جريج في هذا الحديث، لكنه لم يقض فيه بشيء، ولم يقارن بين المتون.
وعلى كل حال: لو سلمنا بصحة الحديث فهو محمول على الكراهة كما هو مذهب الجمهور، فإن أكثر أسباب الكتابة على القبر هو تعليمه حتى تتم زيارته، وهذا مقصد مشروع، ودليله العام الترغيب في زيارة القبور خاصة الأقارب، وقد زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبر أمه.
وأما الدليل الخاص وهو نصٌّ في المسألة فهو ما ورد عَنِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه قَالَ: "لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، أُخْرِجَ بِجَنَازَتِهِ فَدُفِنَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم رَجُلًا أَنْ يَأْتِيَهُ بِحَجَرٍ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ حَمْلَهُ، فَقَامَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ؛ قَالَ كَثِيرٌ: قَالَ الْمُطَّلِبُ رضي الله عنه: قَالَ الَّذِي يُخْبِرُنِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ ذِرَاعَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، حِينَ حَسَرَ عَنْهُمَا ثُمَّ حَمَلَهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ، وَقَالَ: «أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي، وَأَدْفِنُ إِلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي» أخرجه أبو داود في "سننه" (5/ 115).
ويؤيد هذا الحكم ما ذكره الحاكم من كثرة العمل على الكتابة على القبور، وهو يتحدث عن أمرٍ مشاهد لا يحتاج إلى استنباط فقهي، ولذا لم ينازعه فيه الذهبي، بل حاول أن يتخلص منه بعدم ورود ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم، وأن من فعله من التابعين لم يبلغه النهي.
وهذا الأخير هو مجرد احتمال، فقد يكون العالم بلغه النهي ولكنه لم يثبت عنده، أو يحمله على عدم الحرمة، بأن يؤوله أو يخصصه أو يرى نسخه، وهكذا كما في نظائره. ثم إن عصر الصحابة رضي الله عنهم كان عصرًا تقل فيه الكتابة جدًّا؛ ولذا وصفهم الله تعالى بالأميين، فمن أين نجزم أنهم تركوه من أجل هذا النهي بعينه؟ وهل كل نهي يُعدُّ تحريمًا عند كل الصحابة رضي الله عنهم؟!
قال الحافظ السيوطي في "حاشيته على النسائي" (4/ 87، ط. مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب): [قال العراقي: يحتمل أن المراد مطلق الكتابة كتابة اسم صاحب القبر عليه أو تاريخ وفاته، أو المراد كتابة شيء من القرآن وأسماء الله تعالى للتبرك؛ لاحتمال أن يوطأ أو يسقط على الأرض فيصير تحت الأرجل] اهـ.
فالأمر على الاحتمال كما ترى، ثم إن مسألة الامتهان للمكتوب تختلف من مقبرة لأخرى، فالمقابر الآن في بلاد كمصر تكون الكتابة في رخام موضوع أعلى مدخل القبر فيما يطلقون عليه "الحوش".
واستنباط معنى من النص يخصصه جائز عند بعض أهل العلم.
قال الإمام الإسنوي في "التمهيد" (375، ط. مؤسسة الرسالة): [الْمَشْهُور من قَول الْأُصُولِيِّينَ وَمن قَول الشَّافِعِي أَيْضًا أَنه يجوز أَن يستنبط من النَّص معنى يخصصه] اهـ.
ثم إننا لو سلمنا بالكراهة فهي تزول بالحاجة الشرعية.
قال العلامة ابن عابدين في "حاشيته" (2/ 237-238، ط. دار الكتب العلمية): [(قَوْلُهُ: لا بَأْسَ بِالْكِتَابَةِ إلَخْ)؛ لأَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا وَإِنْ صَحَّ فَقَدْ وُجِدَ الإِجْمَاعُ الْعَمَلِيُّ بِهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ النَّهْيَ عَنْهَا مِنْ طُرُقٍ، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ الأَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ، وَلَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ مَكْتُوبٌ عَلَى قُبُورِهِمْ، وَهُوَ عَمَلٌ أَخَذَ بِهِ الْخَلَفُ عَنْ السَّلَفِ اهـ. وَيَتَقَوَّى بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم حَمَلَ حَجَرًا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَقَالَ: «أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي وَأَدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ تَابَ مِنْ أَهْلِي»، فَإِنَّ الْكِتَابَةَ طَرِيقٌ إلَى تَعَرُّفِ الْقَبْرِ بِهَا، نَعَمْ يَظْهَرُ أَنَّ مَحَلَّ هَذَا الإِجْمَاعِ الْعَمَلِيِّ عَلَى الرُّخْصَةِ فِيهَا مَا إذَا كَانَتْ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي "الْمُحِيطِ" بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى الْكِتَابَةِ؛ حَتَّى لا يَذْهَبَ الأَثَرُ وَلا يُمْتَهَنَ فَلا بَأْسَ بِهِ، فَأَمَّا الْكِتَابَةُ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَلا. اهـ. حَتَّى إنَّهُ يُكْرَهُ كِتَابَةُ شَيْءٍ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ، أَوْ الشِّعْرِ، أَوْ إطْرَاءِ مَدْحٍ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ حِلْيَةٌ مُلَخَّصًا. قُلْت: لَكِنْ نَازَعَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الشَّافِعِيَّة فِي هَذَا الإِجْمَاعِ بِأَنَّهُ أَكْثَرِيٌّ، وَإِنْ سَلِمَ فَمَحَلُّ حُجِّيَّتِهِ عِنْدَ صَلاحِ الأَزْمِنَةِ بِحَيْثُ يَنْفُذُ فِيهَا الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ تَعَطَّلَ ذَلِكَ مُنْذُ أَزْمِنَةٍ، أَلا تَرَى أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى قُبُورِهِمْ فِي الْمَقَابِرِ الْمُسَبَّلَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْكِتَابَةِ عَلَيْهَا كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ، وَقَدْ عَلِمُوا بِالنَّهْيِ عَنْهُ فَكَذَا الْكِتَابَةُ) اهـ. فَالأَحْسَنُ التَّمَسُّكُ بِمَا يُفِيدُ حَمْلَ النَّهْيِ عَلَى عَدَمِ الْحَاجَةِ كَمَا مَرَّ] اهـ.
وقال العلامة الحطاب في "مواهب الجليل في شرح مختصر خليل" (2/ 247): [يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى الْقَبْرِ حَجَرًا، أَوْ خَشَبَةً بِلَا نَقْشٍ لِتَمَيُّزِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ، قَالَ الْمَازَرِيُّ: كَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى الْقَبْرِ بَلَاطَةً يَكْتُبُ فِيهَا، وَلَمْ يَرَ بِالْحَجَرِ وَالْعُودِ وَالْخَشَبَةِ بَأْسًا يَعْرِفُ بِهِ الرَّجُلُ قَبْرَ وَلِيِّهِ مَا لَمْ يُكْتَبْ فِيهِ. انْتَهَى. وَجَعَلَهُ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ مُسْتَحَبًّا...، انْتَهَى. وَفِي "مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ": وَلَا بَأْسَ أَنْ يُوضَعَ الْحَجَرُ الْوَاحِدُ فِي طَرَفِ الْقَبْرِ عَلَامَةً؛ لِيُعْرَفَ بِهِ أَنَّ فِيهِ قَبْرًا وَلِيَعْرِفَ الرَّجُلُ قَبْرَ وَلِيِّهِ، فَأَمَّا الْحِجَارَةُ الْكَثِيفَةُ وَالصَّخْرُ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْرِفُ؛ فَلَا خَيْرَ فِيهِ. انْتَهَى، ... وَكَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْقَبْرِ بَلَاطَةٌ وَيُكْتَبَ فِيهَا، وَلَمْ يَرَ بَأْسًا بِالْحَجَرِ وَالْعُودِ وَالْخَشَبَةِ مَا لَمْ يُكْتَبْ فِي ذَلِكَ، يَعْرِفُ الرَّجُلُ قَبْرَ وَلِيِّهِ، وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ كَرِهَ مَالِكٌ الْبِنَاءَ عَلَى الْقَبْرِ، وَأَنْ يُجْعَلَ عَلَيْهِ الْبَلَاطَةُ الْمَكْتُوبَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أَحْدَثَهَا أَهْلُ الطَّوْلِ مِنْ إرَادَةِ الْفَخْرِ وَالْمُبَاهَاةِ وَالسُّمْعَةِ؛ وَذَلِكَ مِمَّا لَا اخْتِلَافَ فِي كَرَاهَتِهِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي "الْعَارِضَةِ": وَأَمَّا الْكِتَابَةُ عَلَيْهَا فَأَمْرٌ قَدْ عَمَّ الْأَرْضَ وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ قَدْ وَرَدَ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ تَسَامَحَ النَّاسُ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ فَائِدَةٌ إلَّا التَّعْلِيمُ لِلْقَبْرِ لِئَلَّا يَدَّثِرَ. انْتَهَى] اهـ.
قال شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الكبرى" (2/ 12، ط. المكتبة الإسلامية): [(وسئل) رضي الله عنه عن كراهة الكتابة على القبور، هل تعم أسماء الله والقرآن، واسم الميت وغير ذلك، أو تخص شيئًا من ذلك بينوه بما فيه؟ (فأجاب) بقوله: أطلق الأصحاب كراهة الكتابة على القبر؛ لورود النهي عن ذلك. رواه الترمذي، وقال حسن صحيح، واعترضه أبو عبد الله الحاكم النيسابوري المحدث بأن العمل ليس عليه، فإن أئمة المسلمين من الشرق إلى الغرب مكتوب على قبورهم وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف رضي الله عنهم وما اعترض به إنما يتجه أن لو فعله أئمة عصر كلهم أو علموه ولم ينكروه وأي إنكار أعظم من تصريح أصحابنا بالكراهة مستدلين بالحديث هذا، وبحث السبكي والأذرعي تقييد ذلك بالقدر الزائد عما يحصل به الإعلام بالميت وعبارة السبكي، وسيأتي قريبًا أن وضعَ شيءٍ يعرف به القبر مستحب، فإذا كانت الكتابة طريقًا فيه فينبغي أن لا تكره إذا كتب بقدر الحاجة إلى الإعلام. وعبارة الأذرعي: وأمَّا الكتابة فمكروهة سواء كان المكتوب اسم الميت على لوح عند رأسه أو غيره هكذا أطلقوه، والقياس الظاهر تحريم كتابة القرآن؛ سواء في ذلك جميع جوانبه؛ لما فيه من تعريضه للأذى بالدوس والنجاسة والتلويث بصديد الموتى عند تكرار النبش في المقبرة المسبلة، وأمَّا غيره من النظم والنثر فيحتمل الكراهة والتحريم للنهي.
وأمَّا كتابة اسم الميت، فقد قالوا: إن وضع ما يعرف به القبور مستحب، فإذا كان ذلك طريقًا في ذلك فيظهر استحبابه بقدر الحاجة إلى الإعلام بلا كراهة، ولا سيما قبور الأولياء والصالحين، فإنها لا تعرف إلا بذلك عند تطاول السنين، ثم ذكر ما مَرَّ عن الحاكم، وقال عَقِبَه: فإن أراد كتابة اسم الميت للتعريف فظاهر ويحمل النهي على ما قصد به المباهاة والزينة والصفات الكاذبة، أو كتابة القرآن وغير ذلك] اهـ.
وما بحثه الإمام السبكي من عدم الكراهة في كتابة اسم الميت للتعريف، والأذرعي من استحبابها ظاهر إن تعذر تمييزه إلا بها لو كان عالمًا أو صالحًا، وخشي من طول السنين اندراس قبره والجهل به لو لم يكتب اسمه على قبره، ويحمل النهي على غير ذلك؛ لأنه يجوز أن يستنبط من النص معنى يخصصه، وهو هنا الحاجة إلى التمييز فهو بالقياس على ندب وضع شيء يعرف به القبر، بل هو داخل فيه أو إلى بقاء ذكر هذا العالم أو الصالح؛ ليكثر الترحم عليه أو عود بركته على من زاره، وما ذكره الأذرعي من تحريم كتابة القرآن قريب، وإن كان الدوس والنجاسة غير محققين؛ لأنهما وإن لم يكونا محققين في الحال هما محققان في الاستقبال بمقتضى العادة المطردة من نبش تلك المقبرة واندراس هذا القبر، ويلحق بالقرآن في ذلك كل اسم معظم بخلاف غيره من النظم والنثر، فإنه مكروه لا حرام وإن تردد فيه، وقوله: ويحمل النهي... إلخ، قد علمت أنه تارة يحمل على الكراهة، وتارة يحمل على الحرمة، وهو ما لو كتب القرآن أو اسمًا معظمًا دون غيرهما، وإن قصد المباهاة والزينة.
قال العلامة الإمام البهوتي في "كشاف القناع" (2/ 140، ط. دار الفكر): [(و) تُكْرَهُ (الْكِتَابَةُ عَلَيْهِ)؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه] اهـ.
وبناءً على ما سبق: فإن النهي الوارد في الكتابة على القبر إن ثبت فهو محمول على الكراهة، لئلَّا يدخله مثل الفخر والمباهاة، وأما إن كان بقصد تعليم القبر للزيارة ونحوها فالكراهة تزول حينئذٍ.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

.الأصل في حكم الكتابة أن يكون بحسب ما يكتب؛ فقد يكون حسنًا وقد يكون قبيحًا، ولم يرِد في قضية السؤال إلا حديث واحد ينهى عن الكتابة على القبر، وهو ما أخرجه الترمذي من طريق مُحَمَّدِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ تُجَصَّصَ القُبُورُ، وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا، وَأَنْ تُوطَأَ"، قال الإمام الترمذي في "السنن" (2/ 360): [هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، قَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، وَقَدْ رَخَّصَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ مِنْهُمْ: الحَسَنُ البَصْرِيُّ فِي تَطْيِينِ القُبُورِ، وقَالَ الإمام الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ أَنْ يُطَيَّنَ القَبْرُ] اهـ.
وأخرجه الحاكم من طريق حَفْص بْنُ غِيَاثٍ النَّخَعِيُّ، ثنا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَبْرِ، أَوْ يُجَصَّصَ، أَوْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَنَهَى أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ". قال الحاكم في "المستدرك" (1/ 525): [هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ خَرَّجَ بِإِسْنَادِهِ غَيْرَ الْكِتَابَةِ؛ فَإِنَّهَا لَفْظَةٌ صَحِيحَةٌ غَرِيبَةٌ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ...، ثم أخرجه من طريق أَبي مُعَاوِيَةَ...، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَنْ تَجْصِيصِ الْقُبُورِ، وَالْكِتَابَةِ فِيهَا، وَالْبِنَاءِ عَلَيْهَا، وَالْجُلُوسِ عَلَيْهَا"، ... ثم قال الحاكم: ... هَذِهِ الْأَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ، وَلَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الشَّرْقِ إِلَى الْغَرْبِ مَكْتُوبٌ عَلَى قُبُورِهِمْ، وَهُوَ عَمَلٌ أَخَذَ بِهِ الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ] اهـ.
وتعقبه الحافظ الذهبي بقوله: [قلت: ما قلتَ طائلًا، ولا نعلم صحابيًّا فعل ذلك، وإنما هو شيء أحدثه بعض التابعين فمن بعدهم، ولم يبلغهم النهي] اهـ. "مختصر تلخيص الذّهبي" (1/ 291).
وهذ الحديث أخرجه الإمام مسلم وليس فيه مسألة الكتابة على القبر؛ لاختلاف الرواة على هذه العبارة، فبعضهم ذكرها وبعضهم لم يذكرها. ولا يقال: إن الزيادة مقبولة مطلقًا؛ فإن مذهب المحققين من أهل الحديث النظر في الروايات والمقارنة بينها، فقد يكون السند صحيحًا والمتن شاذًّا، كما هو معلوم.
وقد ذكر العلامة الدارقطني في "العلل" (13/ 349، ط. دار طيبة، الرياض) اختلاف الرواة على ابن جريج في هذا الحديث، لكنه لم يقض فيه بشيء، ولم يقارن بين المتون.
وعلى كل حال: لو سلمنا بصحة الحديث فهو محمول على الكراهة كما هو مذهب الجمهور، فإن أكثر أسباب الكتابة على القبر هو تعليمه حتى تتم زيارته، وهذا مقصد مشروع، ودليله العام الترغيب في زيارة القبور خاصة الأقارب، وقد زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبر أمه.
وأما الدليل الخاص وهو نصٌّ في المسألة فهو ما ورد عَنِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه قَالَ: "لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، أُخْرِجَ بِجَنَازَتِهِ فَدُفِنَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم رَجُلًا أَنْ يَأْتِيَهُ بِحَجَرٍ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ حَمْلَهُ، فَقَامَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ؛ قَالَ كَثِيرٌ: قَالَ الْمُطَّلِبُ رضي الله عنه: قَالَ الَّذِي يُخْبِرُنِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ ذِرَاعَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، حِينَ حَسَرَ عَنْهُمَا ثُمَّ حَمَلَهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ، وَقَالَ: «أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي، وَأَدْفِنُ إِلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي» أخرجه أبو داود في "سننه" (5/ 115).
ويؤيد هذا الحكم ما ذكره الحاكم من كثرة العمل على الكتابة على القبور، وهو يتحدث عن أمرٍ مشاهد لا يحتاج إلى استنباط فقهي، ولذا لم ينازعه فيه الذهبي، بل حاول أن يتخلص منه بعدم ورود ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم، وأن من فعله من التابعين لم يبلغه النهي.
وهذا الأخير هو مجرد احتمال، فقد يكون العالم بلغه النهي ولكنه لم يثبت عنده، أو يحمله على عدم الحرمة، بأن يؤوله أو يخصصه أو يرى نسخه، وهكذا كما في نظائره. ثم إن عصر الصحابة رضي الله عنهم كان عصرًا تقل فيه الكتابة جدًّا؛ ولذا وصفهم الله تعالى بالأميين، فمن أين نجزم أنهم تركوه من أجل هذا النهي بعينه؟ وهل كل نهي يُعدُّ تحريمًا عند كل الصحابة رضي الله عنهم؟!
قال الحافظ السيوطي في "حاشيته على النسائي" (4/ 87، ط. مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب): [قال العراقي: يحتمل أن المراد مطلق الكتابة كتابة اسم صاحب القبر عليه أو تاريخ وفاته، أو المراد كتابة شيء من القرآن وأسماء الله تعالى للتبرك؛ لاحتمال أن يوطأ أو يسقط على الأرض فيصير تحت الأرجل] اهـ.
فالأمر على الاحتمال كما ترى، ثم إن مسألة الامتهان للمكتوب تختلف من مقبرة لأخرى، فالمقابر الآن في بلاد كمصر تكون الكتابة في رخام موضوع أعلى مدخل القبر فيما يطلقون عليه "الحوش".
واستنباط معنى من النص يخصصه جائز عند بعض أهل العلم.
قال الإمام الإسنوي في "التمهيد" (375، ط. مؤسسة الرسالة): [الْمَشْهُور من قَول الْأُصُولِيِّينَ وَمن قَول الشَّافِعِي أَيْضًا أَنه يجوز أَن يستنبط من النَّص معنى يخصصه] اهـ.
ثم إننا لو سلمنا بالكراهة فهي تزول بالحاجة الشرعية.
قال العلامة ابن عابدين في "حاشيته" (2/ 237-238، ط. دار الكتب العلمية): [(قَوْلُهُ: لا بَأْسَ بِالْكِتَابَةِ إلَخْ)؛ لأَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا وَإِنْ صَحَّ فَقَدْ وُجِدَ الإِجْمَاعُ الْعَمَلِيُّ بِهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ النَّهْيَ عَنْهَا مِنْ طُرُقٍ، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ الأَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ، وَلَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ مَكْتُوبٌ عَلَى قُبُورِهِمْ، وَهُوَ عَمَلٌ أَخَذَ بِهِ الْخَلَفُ عَنْ السَّلَفِ اهـ. وَيَتَقَوَّى بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم حَمَلَ حَجَرًا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَقَالَ: «أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي وَأَدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ تَابَ مِنْ أَهْلِي»، فَإِنَّ الْكِتَابَةَ طَرِيقٌ إلَى تَعَرُّفِ الْقَبْرِ بِهَا، نَعَمْ يَظْهَرُ أَنَّ مَحَلَّ هَذَا الإِجْمَاعِ الْعَمَلِيِّ عَلَى الرُّخْصَةِ فِيهَا مَا إذَا كَانَتْ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي "الْمُحِيطِ" بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى الْكِتَابَةِ؛ حَتَّى لا يَذْهَبَ الأَثَرُ وَلا يُمْتَهَنَ فَلا بَأْسَ بِهِ، فَأَمَّا الْكِتَابَةُ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَلا. اهـ. حَتَّى إنَّهُ يُكْرَهُ كِتَابَةُ شَيْءٍ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ، أَوْ الشِّعْرِ، أَوْ إطْرَاءِ مَدْحٍ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ حِلْيَةٌ مُلَخَّصًا. قُلْت: لَكِنْ نَازَعَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الشَّافِعِيَّة فِي هَذَا الإِجْمَاعِ بِأَنَّهُ أَكْثَرِيٌّ، وَإِنْ سَلِمَ فَمَحَلُّ حُجِّيَّتِهِ عِنْدَ صَلاحِ الأَزْمِنَةِ بِحَيْثُ يَنْفُذُ فِيهَا الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ تَعَطَّلَ ذَلِكَ مُنْذُ أَزْمِنَةٍ، أَلا تَرَى أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى قُبُورِهِمْ فِي الْمَقَابِرِ الْمُسَبَّلَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْكِتَابَةِ عَلَيْهَا كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ، وَقَدْ عَلِمُوا بِالنَّهْيِ عَنْهُ فَكَذَا الْكِتَابَةُ) اهـ. فَالأَحْسَنُ التَّمَسُّكُ بِمَا يُفِيدُ حَمْلَ النَّهْيِ عَلَى عَدَمِ الْحَاجَةِ كَمَا مَرَّ] اهـ.
وقال العلامة الحطاب في "مواهب الجليل في شرح مختصر خليل" (2/ 247): [يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى الْقَبْرِ حَجَرًا، أَوْ خَشَبَةً بِلَا نَقْشٍ لِتَمَيُّزِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ، قَالَ الْمَازَرِيُّ: كَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى الْقَبْرِ بَلَاطَةً يَكْتُبُ فِيهَا، وَلَمْ يَرَ بِالْحَجَرِ وَالْعُودِ وَالْخَشَبَةِ بَأْسًا يَعْرِفُ بِهِ الرَّجُلُ قَبْرَ وَلِيِّهِ مَا لَمْ يُكْتَبْ فِيهِ. انْتَهَى. وَجَعَلَهُ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ مُسْتَحَبًّا...، انْتَهَى. وَفِي "مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ": وَلَا بَأْسَ أَنْ يُوضَعَ الْحَجَرُ الْوَاحِدُ فِي طَرَفِ الْقَبْرِ عَلَامَةً؛ لِيُعْرَفَ بِهِ أَنَّ فِيهِ قَبْرًا وَلِيَعْرِفَ الرَّجُلُ قَبْرَ وَلِيِّهِ، فَأَمَّا الْحِجَارَةُ الْكَثِيفَةُ وَالصَّخْرُ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْرِفُ؛ فَلَا خَيْرَ فِيهِ. انْتَهَى، ... وَكَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْقَبْرِ بَلَاطَةٌ وَيُكْتَبَ فِيهَا، وَلَمْ يَرَ بَأْسًا بِالْحَجَرِ وَالْعُودِ وَالْخَشَبَةِ مَا لَمْ يُكْتَبْ فِي ذَلِكَ، يَعْرِفُ الرَّجُلُ قَبْرَ وَلِيِّهِ، وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ كَرِهَ مَالِكٌ الْبِنَاءَ عَلَى الْقَبْرِ، وَأَنْ يُجْعَلَ عَلَيْهِ الْبَلَاطَةُ الْمَكْتُوبَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أَحْدَثَهَا أَهْلُ الطَّوْلِ مِنْ إرَادَةِ الْفَخْرِ وَالْمُبَاهَاةِ وَالسُّمْعَةِ؛ وَذَلِكَ مِمَّا لَا اخْتِلَافَ فِي كَرَاهَتِهِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي "الْعَارِضَةِ": وَأَمَّا الْكِتَابَةُ عَلَيْهَا فَأَمْرٌ قَدْ عَمَّ الْأَرْضَ وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ قَدْ وَرَدَ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ تَسَامَحَ النَّاسُ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ فَائِدَةٌ إلَّا التَّعْلِيمُ لِلْقَبْرِ لِئَلَّا يَدَّثِرَ. انْتَهَى] اهـ.
قال شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الكبرى" (2/ 12، ط. المكتبة الإسلامية): [(وسئل) رضي الله عنه عن كراهة الكتابة على القبور، هل تعم أسماء الله والقرآن، واسم الميت وغير ذلك، أو تخص شيئًا من ذلك بينوه بما فيه؟ (فأجاب) بقوله: أطلق الأصحاب كراهة الكتابة على القبر؛ لورود النهي عن ذلك. رواه الترمذي، وقال حسن صحيح، واعترضه أبو عبد الله الحاكم النيسابوري المحدث بأن العمل ليس عليه، فإن أئمة المسلمين من الشرق إلى الغرب مكتوب على قبورهم وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف رضي الله عنهم وما اعترض به إنما يتجه أن لو فعله أئمة عصر كلهم أو علموه ولم ينكروه وأي إنكار أعظم من تصريح أصحابنا بالكراهة مستدلين بالحديث هذا، وبحث السبكي والأذرعي تقييد ذلك بالقدر الزائد عما يحصل به الإعلام بالميت وعبارة السبكي، وسيأتي قريبًا أن وضعَ شيءٍ يعرف به القبر مستحب، فإذا كانت الكتابة طريقًا فيه فينبغي أن لا تكره إذا كتب بقدر الحاجة إلى الإعلام. وعبارة الأذرعي: وأمَّا الكتابة فمكروهة سواء كان المكتوب اسم الميت على لوح عند رأسه أو غيره هكذا أطلقوه، والقياس الظاهر تحريم كتابة القرآن؛ سواء في ذلك جميع جوانبه؛ لما فيه من تعريضه للأذى بالدوس والنجاسة والتلويث بصديد الموتى عند تكرار النبش في المقبرة المسبلة، وأمَّا غيره من النظم والنثر فيحتمل الكراهة والتحريم للنهي.
وأمَّا كتابة اسم الميت، فقد قالوا: إن وضع ما يعرف به القبور مستحب، فإذا كان ذلك طريقًا في ذلك فيظهر استحبابه بقدر الحاجة إلى الإعلام بلا كراهة، ولا سيما قبور الأولياء والصالحين، فإنها لا تعرف إلا بذلك عند تطاول السنين، ثم ذكر ما مَرَّ عن الحاكم، وقال عَقِبَه: فإن أراد كتابة اسم الميت للتعريف فظاهر ويحمل النهي على ما قصد به المباهاة والزينة والصفات الكاذبة، أو كتابة القرآن وغير ذلك] اهـ.
وما بحثه الإمام السبكي من عدم الكراهة في كتابة اسم الميت للتعريف، والأذرعي من استحبابها ظاهر إن تعذر تمييزه إلا بها لو كان عالمًا أو صالحًا، وخشي من طول السنين اندراس قبره والجهل به لو لم يكتب اسمه على قبره، ويحمل النهي على غير ذلك؛ لأنه يجوز أن يستنبط من النص معنى يخصصه، وهو هنا الحاجة إلى التمييز فهو بالقياس على ندب وضع شيء يعرف به القبر، بل هو داخل فيه أو إلى بقاء ذكر هذا العالم أو الصالح؛ ليكثر الترحم عليه أو عود بركته على من زاره، وما ذكره الأذرعي من تحريم كتابة القرآن قريب، وإن كان الدوس والنجاسة غير محققين؛ لأنهما وإن لم يكونا محققين في الحال هما محققان في الاستقبال بمقتضى العادة المطردة من نبش تلك المقبرة واندراس هذا القبر، ويلحق بالقرآن في ذلك كل اسم معظم بخلاف غيره من النظم والنثر، فإنه مكروه لا حرام وإن تردد فيه، وقوله: ويحمل النهي... إلخ، قد علمت أنه تارة يحمل على الكراهة، وتارة يحمل على الحرمة، وهو ما لو كتب القرآن أو اسمًا معظمًا دون غيرهما، وإن قصد المباهاة والزينة.
قال العلامة الإمام البهوتي في "كشاف القناع" (2/ 140، ط. دار الفكر): [(و) تُكْرَهُ (الْكِتَابَةُ عَلَيْهِ)؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه] اهـ.
وبناءً على ما سبق: فإن النهي الوارد في الكتابة على القبر إن ثبت فهو محمول على الكراهة، لئلَّا يدخله مثل الفخر والمباهاة، وأما إن كان بقصد تعليم القبر للزيارة ونحوها فالكراهة تزول حينئذٍ.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;