حكم قصص الأطفال

تاريخ الفتوى:27 أكتوبر 2014 م

يقوم بعض الناس بكتابة أو سرد حكاية تحدث لبعض الحيوانات، يكون فيها العبر؛ خاصة للصغار، وهذه قد تكون نثرًا أو شعرًا، وقد انتشرت في هذه الأيام مطبوعات مصورة على هذا النحو من القصص.
وهذه القصص كلام، فحسنها حسن وقبيحها قبيح، ولكن التوقف فيها من أجل ما يخشى من الوقوع في الكذب، وهذه القصص كالأمثال، وقد وردت في القرآن الكريم والسنة المطهرة وكلام العلماء من لدن الصحابة إلى المتأخرين من أهل العلم منهم.
والحكم في كتابة مثل هذه القصص أنها مباحة، والعبرة فيها بما تدعو إليه من خير أو شر.
والدليل على ذلك أن الكذب الذي يأثم صاحبه إنما هو بحسب ما يترتب عليه من مفاسد، وقد رخص الشرع في بعض أنواعه، وهذا منها.
قال العلامة ابن عبد البر في "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" (16/ 248، ط. وزارة الأوقاف المغربية) عند شرح حديث الإمام مالك عن صفوان بن سليم أن رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أكذب امرأتي يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ»، فقال الرجل: يا رسول الله أعدها، وأقول لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ»: [وفي هذا الحديث إباحة الكذب فيما يصلح به المرء على نفسه في أهله، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لَيْسَ بِالْكَذَّابِ مَنْ قَالَ خَيْرًا أَوْ نَمَى خَيْرًا أَوْ أَصْلَحَ بَيْنَ اثْنَيْنِ»، ومعلوم أن إصلاح المرء على نفسه فيما بينه وبين أهله بما لا يؤذي به أحدًا أفضل من إصلاحه على غيره، كما أن ستره على نفسه أولى به من ستره على غيره، أخبرنا خلف بن قاسم قال أخبرنا ابن أبي العقب بدمشق قال أخبرنا أبو زرعة قال أخبرنا أبو اليمان الحكم بن نافع قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن أمه أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لَيْسَ بِالْكَذَّابِ الَّذِي يَقُولُ خَيْرًا وَيَرْفَعُ خَيْرًا لِيُصْلِحَ بَيْنَ اثْنَيْنِ»...، أخبرني سعيد بن نصر وإبراهيم بن شاكر قالا: حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان، قال: حدثنا سعد بن معاذ، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، قال: حدثنا نعيم بن حماد قال: قلت لسفيان بن عيينة: أرأيت الرجل يعتذر إليَّ من الشيء عسى أن يكون قد فعله ويحرف فيه القول ليرضيه أعليه فيه حرج؟ قال: لا، ألم تسمع قوله: «لَيْسَ بِكَاذِبٍ مَنْ قَالَ خَيْرًا أَوْ أَصْلَحَ بَيْنَ النَّاسِ»، وقد قال الله عز وجل: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ...﴾ الآية [النساء: 114]، فإصلاحه فيما بينه وبين الناس أفضل إذا فعل ذلك لله وكراهة أذى المسلمين، وهو أولى به من أن يتعرض لعداوة صاحبه وبغضته؛ فإن البغضة حالقة الدين. قلت: أليس من قال ما لم يكن فقد كذب؟ قال: لا، إنما الكاذب الآثم، فأما المأجور فلا، ألم تسمع إلى قول إبراهيم عليه السلام: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾، و﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾، وقال يوسف عليه السلام لإخوته: ﴿إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ وما سرقوا، وما أثم يوسف عليه السلام؛ لأنه لم يرد إلا خيرًا، قال الله عز وجل: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾، وقال الملكان لداود عليه السلام: ﴿خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ﴾ ولم يكونا خصمين، وإنما أرادا الخير والمعنى الحسن. وفي حديث هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه إلى المدينة: أنهما لقيا سراقة بن مالك بن جعشم، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أراد من أبي بكر رضي الله عنه أن يكون المقدَّم على دابته، ويكون النبي عليه الصلاة والسلام خلفه، فلما لقيا سراقة قال لأبي بكر رضي الله عنه: من الرجل؟ قال: "باغ". قال: فمن الذي خلفك؟ قال: "هاد". قال: أحسست محمدًا؟ قال: "هو ورائي"] اهـ.
كما أن هذا القصص بمنزلة الأمثال، والتشبيه الذي حذف منه أداته ووجه الشبه، وقد ورد ضرب المثل في القرآن الكريم، والسنة المطهرة وكلام أهل العلم كثيرًا:
1) أمثال القرآن الكريم:
قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ۞ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ۞ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: 175-177].
2) عقد الإمام الترمذي وغيره أبوابًا للأمثال، منها:
عن الحَارِث الأَشْعَرِيّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «إِنَّ اللهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَيَأْمُرَ بني إسرائيل أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنَّهُ كَادَ أَنْ يُبْطِئَ بِهَا، فَقَالَ عِيسَى: إِنَّ اللهَ أَمَرَكَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ لِتَعْمَلَ بِهَا وَتَأْمُرَ بني إسرائيل أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، فَإِمَّا أَنْ تَأْمُرَهُمْ، وَإِمَّا أَنَا آمُرُهُمْ، فَقَالَ يَحْيَى: أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي بِهَا أَنْ يُخْسَفَ بِي أَوْ أُعَذَّبَ، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ، فَامْتَلَأَ المَسْجِدُ وَقَعَدُوا عَلَى الشُّرَفِ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ، وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ: أَوَّلُهُنَّ أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَإِنَّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ، فَقَالَ: هَذِهِ دَارِي وَهَذَا عَمَلِي فَاعْمَلْ وَأَدِّ إِلَيَّ، فَكَانَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ؟ وَإِنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا فَإِنَّ اللهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، وَآمُرُكُمْ بِالصِّيَامِ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ فِي عِصَابَةٍ مَعَهُ صُرَّةٌ فِيهَا مِسْكٌ، فَكُلُّهُمْ يَعْجَبُ أَوْ يُعْجِبُهُ رِيحُهَا، وَإِنَّ رِيحَ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ، وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ العَدُوُّ، فَأَوْثَقُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَقَالَ: أَنَا أَفْدِيهِ مِنْكُمْ بِالقَلِيلِ وَالكَثِيرِ، فَفَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ، وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللهَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ العَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ العَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللهِ» رواه الترمذي.
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِيمَا خَلَا مِنَ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ العَصْرِ إِلَى مَغَارِبِ الشَّمْسِ، وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ اليَهُودُ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنْ صَلَاةِ العَصْرِ إِلَى مَغَارِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فَغَضِبَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً، قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنَّهُ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ» رواه الترمذي في "السنن" وقال: [هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ] اهـ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ أُمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَتِ الذُّبَابُ وَالفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا، وَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهَا» رواه الترمذي في "السنن" وقال: [هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ] اهـ.
3) ورود مثل ذلك على ألسنة بعض الصحابة:
قال العلامة الفَسَوِيُّ في كتاب "المعرفة والتاريخ" (3/ 118، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت): [وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ رَوْذِيٍّ أَبِي كبير قَالَ: خَطَبَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فَقَطَعُوا عَلَيْهِ خُطْبَتَهُ، فَنَزَلَ فَدَخَلَ، فَقَالَ: إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ عُثْمَانَ رضي الله عنه مَثَلُ ثلاثة أثوار كنّ في غيضة، أبيض وأحمر وَأَسْوَدَ، مَعَهُمْ فِيهَا كَانَ أَسَدٌ، كُلَّمَا أَرَادَ وَاحِدًا مِنْهَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ فَلَمْ يُطِقْهُمْ، فَقَالَ لِلْأَسْوَدِ وَلِلْأَحْمَرِ: إِنَّ هَذَا الْأَبْيَضَ يَفْضَحُنَا فِي غَيْضَتِنَا يُرَى بَيَاضُهُ، خَلِّيَا عَنْهُ كَيْمَا آكُلُهُ، ثُمَّ أَكُونُ أَنَا وَأَنْتُمَا فَلَوْنِي عَلَى أَلْوَانِكُمَا، وَأَلْوَانُكُمَا عَلَى لَوْنِي. قَالَ: فَخَلَّيَا عَنْهُ فَلَمْ يُلْبِثْهُ أَنْ أَكَلَهُ. قَالَ: ثُمَّ كَانَ كُلَّمَا أَرَادَ وَاحِدًا مِنْهُمَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ فَلَمْ يُطِقْهُمَا، فَقَالَ لِلْأَحْمَرِ: إِنَّ هَذَا الْأَسْوَدَ يَفْضَحُنَا فِي غَيْضَتِنَا يُرَى سَوَادُهُ، فَخَلِّ عَنِّي كَيْمَا آكُلُهُ، ثُمَّ أَكُونُ أَنَا وَأَنْتَ فَلَوْنِي عَلَى لَوْنِكَ وَلَوْنُكَ عَلَى لَوْنِي. قَالَ: فَتَرَكَهُ فَلَمْ يُلْبِثْهُ أَنْ أَكَلَهُ. فَقَالَ: فَلَبِثَ ثُمَّ قَالَ: يَا أَحْمَرُ إِنِّي آكُلُكَ. قَالَ: تَأْكُلُنِي؟! قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَخَلِّ عَنِّي أُصَوِّتُ ثَلَاثَةَ أَصْوَاتٍ. قَالَ: ثم قال: ألا إِنَّمَا أُكِلْتُ يَوْمَ أُكِلَ الْأَبْيَضُ - ثَلَاثًا-. قَالَ: وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: إِنَّمَا وَهَنْتُ يَوْمَ قُتِلَ عُثْمَانُ -قال ذلك ثلاثًا- ألَا وَإِنِّي وَهَنْتُ يَوْمَ قُتِلَ عُثْمَانُ، أَلَا وَإِنِّي وَهَنْتُ يَوْمَ قُتِلَ عُثْمَانُ] اهـ.
4) ورود مثل ذلك على ألسنة التابعين:
قال العلامة ابن الجوزي في "الأذكياء" (241، ط. مكتبة الغزالي): [الْبَاب الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ فِي ذكر مَا ضَربته الْعَرَب والحكماء مثلًا على أَلْسِنَة الْحَيَوَان البهيم مِمَّا يدل على الذكاء، تَقول الْعَرَب: أحذر من غراب. وَيَقُولُونَ: قَالَ الْغُرَاب لِابْنِهِ: إِذا رميت فتلوص، أَي تَلوى. قَالَ: يَا أَبَت إِنِّي أتلوص قبل أَن أُرمى. قَالَ الشّعبِيّ: مرض الْأسد، فعاده السبَاع مَا خلا الثَّعْلَب، فَقَالَ الذِّئْب: أَيهَا الْملك مَرضت فعادك السبَاع إِلَّا الثَّعْلَب، قَالَ: فَإِذا حضر فَأَعْلمنِي، فَبلغ ذَلِك الثَّعْلَب، فجَاء فَقَالَ لَهُ الْأسد: يَا أَبَا الْحصين، مَرضت فعادني السبَاع كلهم وَلم تعدني أَنْت. قَالَ: بَلغنِي مرض الْملك فَكنت فِي طلب الدَّوَاء لَهُ، قَالَ: فَأَي شَيْء أصبت؟ قَالَ: قَالُوا لي: خرزة فِي سَاق الذِّئْب يَنْبَغِي أَن تخرج، فَضرب الْأسد بمخاليبه سَاق الذِّئْب، فانسل الثَّعْلَب وَخرج فَقعدَ على الطَّرِيق فَمر بِهِ الذِّئْب وَالدَّم يسيل عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الثَّعْلَب: يَا صَاحب الْخُف الْأَحْمَر إِذا قعدت بعد هَذَا عِنْد سُلْطَان فَانْظُر مَا يخرج من رَأسك. قَالَ الشّعبِيّ: أخْبرت أَن رجلًا صَاد قنبرة فَلَمَّا صَارَت فِي يَده قَالَت: مَا تُرِيدُ أَن تصنع بِي؟ قَالَ: أذبحك وآكلك. قَالَت: مَا أشفي من مرض وَلَا أشْبع من جوع، وَلَكِن أعلمك ثَلَاث خِصَال خير لَك من أكلي: إِمَّا وَاحِدَة أعلمك وَأَنا فِي يدك، وَالثَّانية على الشَّجَرَة، وَالثَّالِثَة على الْجَبَل. فَقَالَ هَات الْوَاحِدَة، قَالَت: لَا تلهفن على مَا فاتك. قَالَ: فَلَمَّا صَارَت على الشَّجَرَة، قَالَ لَهَا: هَات الثَّانِيَة. قَالَت لَهُ: لَا تصدق بِمَا لَا يكون أَن يكون، فَلَمَّا صَارَت على الْجَبَل، قَالَت لَهُ: يَا شقي لَو ذبحتني أخرجت من حوصلتي ذرتين فِي كل وَاحِدَة عشرُون مِثْقَالًا. قَالَ: فعض على شَفَتَيْه وتلهف، ثمَّ قَالَ لَهَا: هَات الثَّالِثَة، قَالَت: أَنْت قد نسيت اثْنَيْنِ فَكيف أحَدثك بالثالثة، ألم أقل لَك: لَا تلهفن على مَا فاتك، وَلَا تصدق بِمَا لَا يكون أَن يكون، أَنا وريشي ولحمي لَا أكون عشْرين مِثْقَالًا، قَالَ: وطارت فَذَهَبت] اهـ.
5) استخدام العلماء لمثل ذلك في شروحهم:
وقد استخدم العلماء نحو هذا، مثل الاستخدام المشهور عند الحديث عن الجهل المركب والبسيط، وهو قول الشَّاعِر:
قَالَ حِمَارُ الْحَكِيمِ يَوْمًا ... لَوْ أَنْصَفُونِي لَكُنْت أَرْكَبُ
لِأَنَّـنـِي جَـاهِـلٌ بَسِــيــــطٌـ ... وَرَاكِـبــِـــي جَــهْـلُـهُ مُــــرَكَّــــــــــبُ
انظر: "غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر" للعلامة الحموي الحنفي (3/ 297، ط. دار الكتب العلمية)، و"روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني" للإمام الآلوسي (11/ 61، ط. دار الكتب العلمية).
6) كتاب "كليلة ودمنة":
ومن الأدلة استخدام العلماء لما ورد في كتاب "كليلة ودمنة"، وهو نص في المسألة؛ لأنه كتاب مصنف على ألسنة الحيوانات كما هو معروف؛ حيث نقلوا منه كثيرًا، ولا يضر أن مصنفه غير مسلم، فالعبرة بما فيه من الفائدة، وقد استشهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقول كافر وثني، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ» متفق عليه.
وهذه بعض نماذج استشهاد العلماء بكتاب "كليلة ودمنة":
قال الإمام الفخر الرازي في "التفسير الكبير" (2/ 411، ط. دار إحياء التراث العربي): [في كتاب "كليلة ودمنة": أحق من لا يستخف بحقوقهم ثلاثة: العالم والسلطان والإخوان، فإن من استخف بالعالم أهلك دينه، ومن استخف بالسلطان أهلك دنياه، ومن استخف بالإخوان أهلك مروءته] اهـ.
وقال العلامة ابن بطة في "الإبانة الكبرى" (4/ 293، ط. دار الراية للنشر والتوزيع، الرياض): [حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الدِّينَوَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: قَرَأْتُ فِي كِتَابِ كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ، وَهُوَ مِنْ جَيِّدِ كُتب الْهِنْدِ وَحِكَمِهِمُ الْقَدِيمَةِ: الْيَقِينُ بِالْقَدَرِ لَا يَمْنَعُ الْحَازِمَ تَوَقِّي الْهَلَكَةِ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ النَّظَرُ فِي الْقَدَرِ الْمُغَيَّبِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِالْحَزْمِ، وَنَحْنُ نَجْمَعُ تَصْدِيقًا بِالْقَدَرِ وَأَخْذًا بِالْحَزْمِ] اهـ.
وقال العلامة ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث" (82، ط. المكتب الاسلامي، ومؤسسة الإشراق): [وَقَالَ حَمَّاد رِوَايَةً عَنْ مُقَاتِل، قَالَ لِي عَمْرُو بْنُ فَائِدٍ: يَأْمُرُ اللهُ بِالشَّيْءِ، وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ"؟ قُلْتُ: نَعَمْ، أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَذْبَحَ ابْنَهُ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ. قَالَ: إِنَّ تِلْكَ رُؤْيَا. قُلْتُ رُؤْيا الْأَنْبِيَاء وحيٌّ؛ ألم تسمعه يَقُول: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾؟ وَهَذِهِ أُمَمُ الْعَجَمِ كُلُّهَا تَقُولُ بِالْإِثْبَاتِ بِالْقَدَرِ. فالهند تَقُولُ فِي كِتَابِ "كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ" وَهُوَ مِنْ جَيِّدِ كُتُبِهِمُ الْقَدِيمَةِ: الْيَقِينُ بِالْقَدَرِ لَا يَمْنَعُ الْحَازِمَ تَوَقِّي الْمَهَالِكِ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ النَّظَرُ فِي الْقَدَرِ المغيَّب، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْعَمَل بالحزم. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَجْمَعُ، تَصْدِيقًا بِالْقَدَرِ، وَأَخْذًا بِالْحَزْمِ] اهـ.
وقال العلامة الخطيب البغدادي في "تقييد العلم" (1/ 140، ط. إحياء السنة النبوية، بيروت): [حُدِّثْتُ عَنْ أَبِي عُبَيْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْعُصْمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ الدَّغْوَلِيَّ، يَقُولُ: لَا يُفَارِقُنِي أَرْبَعُ مُجَلَّدَاتٍ، فِي الْبَلَدِ وَفِي الْخُرُوجِ إِلَى ضِيَاعِي، كِتَابُ الْمُزَنِيِّ، وَكِتَابُ "الْعَيْنِ"، وَكِتَابُ "التَّارِيخِ لِلْبُخَارِيِّ"، وَكِتَابُ "كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ"] اهـ. راجع: "سير أعلام النبلاء" (11/ 342، ط. دار الحديث، القاهرة).
وقال القاضي أبو يعلى المعروف بابن الفراء في "رسل الملوك ومن يصلح للرسالة والسفارة" (59، ط. دار الكتاب الجديد، بيروت): [من كتاب "كليلة ودمنة": يعْتَبر عقل الْمُرْسل بِرَأْي رَسُوله ونفاذه فَمن كَانَ شَأْنه اللين والمواتاة أنجح فِي رسَالَته وَالرَّسُول يلين الْقلب إِذا رفق بخشن الصَّدْر إِذا خرق] اهـ.
وفي (ص: 70) أيضًا: [وفي كتاب "كليلة ودمنة": لا يصلح السلطان إلا بالوزراء، ولا الأعوان إلا بالمودة والنصيحة، ولا المودة والنصيحة إلا بالرأي والعفاف. وأعظم الأشياء ضررًا على الناس عامةً، وعلى الولاة خاصةً أن يحرموا صالحي الوزراء والأعوان؛ فتكون أعوانهم غير ذي جدوى وغنى، ويحذر الملك أن يولي الوزارة غير المتحرين كيلا تضيع الأمور، كما يحذر أن يتطبب بغير طبيبٍ بصيرٍ مأمون] اهـ.
وفيه أيضًا (ص: 119): [قال في كتاب "كليلة ودمنة": ثلاثة لا يسلم عليها إلا القليل: صحبة السلطان، وائتمان النساء على الأسرار، وشرب السم على التجربة] اهـ.
قال العلامة الماوردي في "أدب الدنيا والدين" (1/ 113، ط. دار مكتبة الحياة): [وَقَالَ صَاحِبُ "كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ": طَالِبُ الدُّنْيَا كَشَارِبِ مَاءِ الْبَحْرِ، كُلَّمَا ازْدَادَ شُرْبًا ازْدَادَ عَطَشًا] اهـ.
وقال العلامة أبو بكر الطرطوشي المالكي في "سراج الملوك" (120، ط. من أوائل المطبوعات العربية، مصر): [وفي كتاب "كليلة ودمنة": لا يسعد من ابتلي بصحبة الملوك، فإنهم لا عهد لهم ولا وفاء ولا قريب ولا حميم، ولا يكرم عليهم إلا أن يطمعوا فيما عنده فيقربوه عند ذلك، فإذا قضيت حاجتهم تركوه ولا ود ولا إخاء إلا بجر البلاء والذنب لا يغفر] اهـ.
وقال العلامة ابن عبد البر في "بهجة المجالس" (ص: 117): [في كتاب "كليلة ودمنة": رأس العقل: التمييز بين الكائن والممتنع] اهـ.
وقد صرح بعض أهل العلم بجواز كتابة مثل هذه القصص، منهم فضيلة الشيخ عطية صقر في مايو 1997م: [السؤال: يعمد بعض الكُتَّاب إلى تأليف قصة خيالية، وكذلك بعض الشعراء لهم عبارات خيالية، فهل يدخل هذا في ضمن الكذب غير المطابق للواقع؟
الجواب: لا بأس بكتابة قَصَص خيالي أو شعر خيالي إذا كان يستهدف خيرًا، ويتفادى به شرًّا، وذلك كالقصص على لسان الحيوانات في كتاب "كليلة ودمنة". فالمقياس هو عدم تكذيب شيء ثابت، وبخاصة مقررات الدين، وعدم الوصول به إلى غرض سيئ أو ترتب نتيجة سيئة عليه، فالإسلام لا ضرر فيه ولا ضرار] اهـ. "فتاوى دار الإفتاء المصرية" (10/ 260).
ومما تقدم يعلم الجواب عن السؤال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 12 يونيو 2025 م
الفجر
4 :7
الشروق
5 :53
الظهر
12 : 55
العصر
4:31
المغرب
7 : 57
العشاء
9 :30