ما حكم الدِّين فيما يدفعه الناس للحكومة تحت مُسَمَّى الضرائب والجمارك؟ وهل عليه دليل في الشرع؟ وهل يجوز الامتناع عن دفع هذه الأموال أو التهرب منها؟
حكم الشرع في الضرائب والجمارك
الضَّرِيبَةُ: مِقْدَارٌ مُحَدَّدٌ من المال تفرضه الدولة في أموال المواطنين، دون أن يقابل ذلك نفعٌ ظاهر يعود بشكل خاص على دافع المال، فتُفْرَض على المِلْك والعَمَل والدَّخْل نظير خدمات والتزامات تقوم بها الدولة لصالح المجتمع بشكل عام، وهي تختلف باختلاف القوانين والأحوال.
ويجوز لولي الأمر أن يفرض ضرائب عادلة في تقديرها وفي جبايتها تضاف إلى ما يجبيه من أموال الزَّكَاة؛ وذلك لتغطية النفقات العامة والحاجات اللازمة للأمة، باعتبار أَنَّ وَلِي الأمر هو القائم على رعاية المصالح العامة التي تستلزم نفقات تستنفد الموارد العامة لا سيما في هذا العصر الذي كثُرت فيه مهام الدولة واتسعت مرافقها وزادت فيه الأزمات الاقتصادية العالمية.
والدولة لها ما يُسَمَّى بالموازنة العامة، والتي يجتمع فيها الإيرادات العامة والنفقات العامة، وإذا كانت النفقات العامة للدولة أكبر من الإيرادات العامة؛ فإنَّ ذلك معناه عجز في ميزانية الدولة، يتعيَّنُ على الدولة تعويضه بعِدَّةِ سُبل منها: فرض الضرائب. إلا أنه ينبغي أن يراعى في فرض الضرائب عدم زيادة أعباء محدودي الدخل وزيادة فقرهم، وأن توجه الضرائب إلى الفئات التي لا يجهدها ذلك كطبقة المستثمرين، ورجال الأعمال الذين يجب عليهم المساهمة في واجبهم تجاه شعبهم ووطنهم.
وقد تقرَّر عند كثير من الصحابة: كعمر، وعلي، وأبي ذر، وعائشة، وابن عمر، وأبي هريرة، والحسن بن علي، وفاطمة بنت قيس رضي الله عنهم أجمعين، ومن التابعين: كالشعبي، ومجاهد، وطاوس، وعطاء، أن في مال المسلم حقًّا غير مال الزكاة -انظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (6/ 158)-، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177].
وجه الدلالة في الآية الكريمة أن الله تعالى نصَّ على إيتاء الزكاة، كما نصَّ على إيتاء المال لذوي القربى واليتامى والمساكين، مما يدل على أن المراد بإيتاء المال في الآية غير الزكاة، وأن في المال حقًّا سوى الزكاة، فالآية قد جُمِعَ فيها بين إيتاء المال على حبه، وبين إيتاء الزكاة بالعَطْفِ المقتضِي للمُغايرة، وهذا دليل على أن في المال حقًّا سوَى الزكاة لتصح المُغايرة. انظر: "تفسير الفخر الرازي" (6/ 43).
وعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: سُئل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الزكاة فقال: «إِنَّ فِي المَالِ لحَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ» ثم تلا هذه الآية التي في سورة البقرة: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: 177]. أخرجه الترمذي.
وقال الإمام القرطبي في "تفسيره" بعد ذكره للحديث المذكور (2/ 242): [والحديث وإن كان فيه مقال فقد دلَّ على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 177]، فذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله:﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [البقرة: 177] ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك يكون تكرارًا، والله أعلم] اهـ.
ومِن ثَمَّ فإنه قد ثبتَ في مال المسلم الغني حقٌّ غير الزكاة، لا سيما في ظل احتياج المجتمع إلى هذه الأموال، وهذا هو المعنى الحقيقي للتكافل والتضامن الاجتماعي.
فالتضامن الاجتماعي فريضة، فإن من حق المجتمع على الفرد التعاون على إقامة مصالح الدولة كافة، ولجماعة المسلمين حق في مال الفرد؛ لأنه لم يكسب ماله إلا بها، وهي التي ساهمت من قريب ومن بعيد، وعن قصد وغير قصد، في تكوين ثروة الغني، وهي التي بدونها لا تتم معيشته كإنسان في المدينة.
فإذا كان في الدولة الإسلامية محتاجون لم تكفهم الزكاة، أو كانت مصلحة الجماعة وتأمينها عسكريًّا أو اقتصاديًّا تتطلب مالًا لتحقيقها، أو كان دِين الله ودعوته وتبليغ رسالته يحتاج إلى مال لإقامة ذلك، فإن الواجب الذي يحتمه الإسلام أن يُفْرَض في أموال الأغنياء ما يحقِّق هذه الأمور؛ لأن تحقيقها واجب على ولاة الأمر في المسلمين، ولا يتم هذا الواجب إلا بالمال، ولا مال بغير فرض الضرائب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وكذلك فإن من القواعد الفقهية الكلية المقررة عند العلماء: أنه "يُتَحَمَّلُ الضرر الخاص لدفع الضرر العام"، وأنه "يجب تحمل الضرر الأدنى لدفع ضرر أعلى وأشد". انظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم الحنفي (ص: 87).
ولا ريب أن هذه القواعد الفقهية لا يؤدِّي إعمالها إلى إباحة الضرائب فحسب، بل يُحتم فَرْضها وأخْذها؛ تحقيقًا لمصالح الأمة والدولة، ودرءًا للمفاسد والأضرار والأخطار عنها.
يقول الإمام ابن حزم في "المحلى" (6/ 156): [وفُرِضَ على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويُجْبِرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم] اهـ.
ومن القواعد المقررة أيضًا: أن "الضرورة تُقَدَّر بقدرها"؛ فيجب ألا يتجاوز بالضرورة القدر الضروري، وأن يراعَى في وضعها وطُرْق تحصيلها ما يخفف وقعها على الأفراد.
فالأساس في الضرائب هو تكوين مال للدولة تستعين به على القيام بواجباتها، والوفاء بالتزاماتها، فالأموال التي تجبى من الضرائب تنفق في المرافق العامة التي يعود نفعها على أفراد المجتمع كافة، كالدفاع والأمن والقضاء والتعليم والصحة والنقل والمواصلات والري والصرف، وغيرها من المصالح التي يستفيد منها عامة المواطنين من رعايا الدولة، من قريب أو من بعيد.
ومما لا شك فيه أن أخْذ الضريبة من الأفراد فيه استيلاء على جزء من مالهم وحرمان لهم من التمتع به، وهذا الحرمان إنما رُخِّص فيه؛ لأن الضرورة قضت به إذ لا يمكن القيام بالمصالح العامة بدونه، والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
ولو تركت الدول الإسلامية في عصرنا دون ضرائب تنفق منها، لكان من المحتم أن تزول بعد زمن يسير من قيامها، وينخر الضعف كيانها من كل نواحيه، فضلًا عن الأخطار العسكرية عليها، فلقد أصبح التسليح ونفقات الجيوش في عصرنا مما يحتاج إلى موارد هائلة من المال.
ومع هذا لم تعد القوة مقصورة على السلاح والجيوش؛ إذ لا بد من القوة والتفوق في شتى جوانب الحياة العلمية والصناعية والاقتصادية، وكل هذا يفتقر إلى أمداد غزيرة من المال، ولا سبيل إلى ذلك إلا بفرض الضرائب باعتبارها نوعًا من الجهاد بالمال؛ ليقوي الفرد أمته، ويحمي دولته، فيقوي بذلك نفسه، ويحمي دينه ودمه وماله وعرضه. انظر: "المحلى" (2/ 1077).
وما سبق ذِكْره من أمور؛ كالدفاع والأمن والقضاء والتعليم والصحة والنقل والمواصلات والري والصرف وغير ذلك؛ ضروري لا يُمْكِن الاستغناء عنه للدولة الإسلامية، ولا لأي دولة، فمن أين للدولة أن تنفق على هذه المرافق وإقامة هذه المصالح؟
والدولة الإسلامية سابقًا كانت تنفق على هذه المصالح من مصادر لم تَعد موجودة الآن؛ مثل: خمس الغنائم الحربية التي يستولي عليها المسلمون من أعدائهم المحاربين، أو مما أفاء الله عليهم من أموال المشركين بغير حرب ولا قتال، فلم يعد لإقامة مصالح الأمة مورد إلا فرض ضرائب بقدر ما يحقق المصلحة الواجب تحقيقها.
وقد أقرَّ جماعة من فقهاء المذاهب المتبوعة الضرائب، لكنهم لم يطلقوا عليها اسم "الضرائب"، فسمَّاها بعض الحنفية "النوائب" جمع نائبة، وهي اسم لما ينوب الفرد من جهة السلطان، بحق أو بباطل.
جاء في حاشية "رد المحتار" للعلامة ابن عابدين في بيان معنى النوائب (4/ 282): [ما يكون بحقٍّ كأجرة الحراس، وَكَرْيِ النهر المشترك، والمال الموظف لتجهيز الجيش، وفداء الأسرى إذا لم يكن في بيت المال شيء وغيرهما مما هو بحق، فالكفالة به جائزة بالاتفاق؛ لأنها واجبة على كل مسلمٍ مُوسِر بإيجاب طاعة ولي الأمر فيما فيه مصلحة المسلمين ولم يلزم بيت المال أو لزمه ولا شيء فيه. وإن أريد بها ما ليس بحقٍّ كالجبايات الموظفة على الناس في زماننا ببلاد فارس على الخيَّاط والصَّبَّاغ وغيرهم للسلطان في كل يوم أو شهر، فإنها ظلم] اهـ.
وقد نقل العلامة ابن عابدين أيضًا عن العلامة أبي جعفر البلخي قوله (2/ 57): [ما يَضْرِبُه السلطانُ على الرعية مصلحةً لهم يصير دَيْنًا واجبًا وحقًّا مُستحقًّا كالخراج، وقال مشايخنا: وكل ما يضربه الإمام عليهم لمصلحة لهم فالجواب هكذا، حتى أجرة الحرَّاسين لحفظ الطريق، واللصوص، ونصب الدروب، وأبواب السكك، وهذا يُعْرَف، ولا يُعَرَّف خوف الفتنة، ثم قال: فعلى هذا ما يؤخذ في خوارزم من العامة لإصلاح مسناة الجيحون أو الربض ونحوه من مصالح العامة دَيْنٌ واجبٌ لا يجوز الامتناع عنه وليس بظلم، ولكن يعلم هذا الجواب للعمل به وكف اللسان عن السلطان وسعاته فيه لا للتشهير؛ حتى لا يتجاسروا في الزيادة على القدر المستحق] اهـ.
ومن المالكية يقول الإمام الشاطبي في "الاعتصام" (3/ 25، وما بعدها): [إنا إذا قدرنا إمامًا مطاعًا مُفتقِرًا إلى تكثير الجنود؛ لسدِّ الثغور وحماية المُلك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال عن المال، وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم، فللإمام -إذا كان عدلًا- أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال إلى أن يظهر مال في بيت المال، وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين؛ لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا، فإن القضية فيه أحرى، ووجه المصلحة هنا ظاهر؛ فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك لانْحلَّ النظام، وبطلت شوكة الإمام، وصارت ديارُنا عرضة لاستيلاء الكفار] اهـ.
ومن الشافعية يقول الإمام الغزالي في "المستصفى" (1/ 303-304): [إذا خلت الأيدي من الأموال، ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولو تفرق العسكر، واشتغلوا بالكسب لخيف دخول العدو ديار المسلمين، أو خيف ثوران الفتنة من أهل الغرامة في بلاد الإسلام، جاز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند] اهـ.
وقد تَكلَّم عنها الشيخ ابن تيمية بما يفيد إقراره لبعض ما يأخذه السلطان باعتباره من الجهاد بالمال الواجب على الأغنياء، وسماها بـ"الكلف السلطانية"، أي: التكليفات المالية التي يلزم بها السلطان رعيته أو طائفة منهم. انظر: "مجموع الفتاوى" (30/ 182 وما بعدها).
والجمارك نوع من الضرائب المالية تُوضع على بضائع تدخل لبلاد المسلمين تقررها الدولة، وما يجمع من هذه الضرائب يدخل خزينة الدولة للمصالح العامة، ومن هذه المصالح: تشجيع البضائع والمنتجات المحلية لصالح المواطن والمستهلك، ففرضها فيه حماية للسوق المحلي، وحيث إنها نوع من الضرائب فتأخذ نفس أحكام الضرائب السابق ذكرها.
يتبين مما سبق أنه: لا يجوز التهرب من الضرائب والجمارك، ولا يجوز دفع الرشوة لإنقاصها، كما ننصح القائمين على الأمر بمراعاة فرض الضرائب بنسبة أكبر على الفئات الثرية دون الإثقال بفرضها على الفئات الفقيرة غير القادرة على تحمل أعباء الحياة.
والله سبحانه تعالى أعلم.
الضَّرِيبَةُ: مِقْدَارٌ مُحَدَّدٌ من المال تفرضه الدولة في أموال المواطنين، دون أن يقابل ذلك نفعٌ ظاهر يعود بشكل خاص على دافع المال، فتُفْرَض على المِلْك والعَمَل والدَّخْل نظير خدمات والتزامات تقوم بها الدولة لصالح المجتمع بشكل عام، وهي تختلف باختلاف القوانين والأحوال.
ويجوز لولي الأمر أن يفرض ضرائب عادلة في تقديرها وفي جبايتها تضاف إلى ما يجبيه من أموال الزَّكَاة؛ وذلك لتغطية النفقات العامة والحاجات اللازمة للأمة، باعتبار أَنَّ وَلِي الأمر هو القائم على رعاية المصالح العامة التي تستلزم نفقات تستنفد الموارد العامة لا سيما في هذا العصر الذي كثُرت فيه مهام الدولة واتسعت مرافقها وزادت فيه الأزمات الاقتصادية العالمية.
والدولة لها ما يُسَمَّى بالموازنة العامة، والتي يجتمع فيها الإيرادات العامة والنفقات العامة، وإذا كانت النفقات العامة للدولة أكبر من الإيرادات العامة؛ فإنَّ ذلك معناه عجز في ميزانية الدولة، يتعيَّنُ على الدولة تعويضه بعِدَّةِ سُبل منها: فرض الضرائب. إلا أنه ينبغي أن يراعى في فرض الضرائب عدم زيادة أعباء محدودي الدخل وزيادة فقرهم، وأن توجه الضرائب إلى الفئات التي لا يجهدها ذلك كطبقة المستثمرين، ورجال الأعمال الذين يجب عليهم المساهمة في واجبهم تجاه شعبهم ووطنهم.
وقد تقرَّر عند كثير من الصحابة: كعمر، وعلي، وأبي ذر، وعائشة، وابن عمر، وأبي هريرة، والحسن بن علي، وفاطمة بنت قيس رضي الله عنهم أجمعين، ومن التابعين: كالشعبي، ومجاهد، وطاوس، وعطاء، أن في مال المسلم حقًّا غير مال الزكاة -انظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (6/ 158)-، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177].
وجه الدلالة في الآية الكريمة أن الله تعالى نصَّ على إيتاء الزكاة، كما نصَّ على إيتاء المال لذوي القربى واليتامى والمساكين، مما يدل على أن المراد بإيتاء المال في الآية غير الزكاة، وأن في المال حقًّا سوى الزكاة، فالآية قد جُمِعَ فيها بين إيتاء المال على حبه، وبين إيتاء الزكاة بالعَطْفِ المقتضِي للمُغايرة، وهذا دليل على أن في المال حقًّا سوَى الزكاة لتصح المُغايرة. انظر: "تفسير الفخر الرازي" (6/ 43).
وعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: سُئل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الزكاة فقال: «إِنَّ فِي المَالِ لحَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ» ثم تلا هذه الآية التي في سورة البقرة: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: 177]. أخرجه الترمذي.
وقال الإمام القرطبي في "تفسيره" بعد ذكره للحديث المذكور (2/ 242): [والحديث وإن كان فيه مقال فقد دلَّ على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 177]، فذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله:﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [البقرة: 177] ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك يكون تكرارًا، والله أعلم] اهـ.
ومِن ثَمَّ فإنه قد ثبتَ في مال المسلم الغني حقٌّ غير الزكاة، لا سيما في ظل احتياج المجتمع إلى هذه الأموال، وهذا هو المعنى الحقيقي للتكافل والتضامن الاجتماعي.
فالتضامن الاجتماعي فريضة، فإن من حق المجتمع على الفرد التعاون على إقامة مصالح الدولة كافة، ولجماعة المسلمين حق في مال الفرد؛ لأنه لم يكسب ماله إلا بها، وهي التي ساهمت من قريب ومن بعيد، وعن قصد وغير قصد، في تكوين ثروة الغني، وهي التي بدونها لا تتم معيشته كإنسان في المدينة.
فإذا كان في الدولة الإسلامية محتاجون لم تكفهم الزكاة، أو كانت مصلحة الجماعة وتأمينها عسكريًّا أو اقتصاديًّا تتطلب مالًا لتحقيقها، أو كان دِين الله ودعوته وتبليغ رسالته يحتاج إلى مال لإقامة ذلك، فإن الواجب الذي يحتمه الإسلام أن يُفْرَض في أموال الأغنياء ما يحقِّق هذه الأمور؛ لأن تحقيقها واجب على ولاة الأمر في المسلمين، ولا يتم هذا الواجب إلا بالمال، ولا مال بغير فرض الضرائب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وكذلك فإن من القواعد الفقهية الكلية المقررة عند العلماء: أنه "يُتَحَمَّلُ الضرر الخاص لدفع الضرر العام"، وأنه "يجب تحمل الضرر الأدنى لدفع ضرر أعلى وأشد". انظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم الحنفي (ص: 87).
ولا ريب أن هذه القواعد الفقهية لا يؤدِّي إعمالها إلى إباحة الضرائب فحسب، بل يُحتم فَرْضها وأخْذها؛ تحقيقًا لمصالح الأمة والدولة، ودرءًا للمفاسد والأضرار والأخطار عنها.
يقول الإمام ابن حزم في "المحلى" (6/ 156): [وفُرِضَ على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويُجْبِرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم] اهـ.
ومن القواعد المقررة أيضًا: أن "الضرورة تُقَدَّر بقدرها"؛ فيجب ألا يتجاوز بالضرورة القدر الضروري، وأن يراعَى في وضعها وطُرْق تحصيلها ما يخفف وقعها على الأفراد.
فالأساس في الضرائب هو تكوين مال للدولة تستعين به على القيام بواجباتها، والوفاء بالتزاماتها، فالأموال التي تجبى من الضرائب تنفق في المرافق العامة التي يعود نفعها على أفراد المجتمع كافة، كالدفاع والأمن والقضاء والتعليم والصحة والنقل والمواصلات والري والصرف، وغيرها من المصالح التي يستفيد منها عامة المواطنين من رعايا الدولة، من قريب أو من بعيد.
ومما لا شك فيه أن أخْذ الضريبة من الأفراد فيه استيلاء على جزء من مالهم وحرمان لهم من التمتع به، وهذا الحرمان إنما رُخِّص فيه؛ لأن الضرورة قضت به إذ لا يمكن القيام بالمصالح العامة بدونه، والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
ولو تركت الدول الإسلامية في عصرنا دون ضرائب تنفق منها، لكان من المحتم أن تزول بعد زمن يسير من قيامها، وينخر الضعف كيانها من كل نواحيه، فضلًا عن الأخطار العسكرية عليها، فلقد أصبح التسليح ونفقات الجيوش في عصرنا مما يحتاج إلى موارد هائلة من المال.
ومع هذا لم تعد القوة مقصورة على السلاح والجيوش؛ إذ لا بد من القوة والتفوق في شتى جوانب الحياة العلمية والصناعية والاقتصادية، وكل هذا يفتقر إلى أمداد غزيرة من المال، ولا سبيل إلى ذلك إلا بفرض الضرائب باعتبارها نوعًا من الجهاد بالمال؛ ليقوي الفرد أمته، ويحمي دولته، فيقوي بذلك نفسه، ويحمي دينه ودمه وماله وعرضه. انظر: "المحلى" (2/ 1077).
وما سبق ذِكْره من أمور؛ كالدفاع والأمن والقضاء والتعليم والصحة والنقل والمواصلات والري والصرف وغير ذلك؛ ضروري لا يُمْكِن الاستغناء عنه للدولة الإسلامية، ولا لأي دولة، فمن أين للدولة أن تنفق على هذه المرافق وإقامة هذه المصالح؟
والدولة الإسلامية سابقًا كانت تنفق على هذه المصالح من مصادر لم تَعد موجودة الآن؛ مثل: خمس الغنائم الحربية التي يستولي عليها المسلمون من أعدائهم المحاربين، أو مما أفاء الله عليهم من أموال المشركين بغير حرب ولا قتال، فلم يعد لإقامة مصالح الأمة مورد إلا فرض ضرائب بقدر ما يحقق المصلحة الواجب تحقيقها.
وقد أقرَّ جماعة من فقهاء المذاهب المتبوعة الضرائب، لكنهم لم يطلقوا عليها اسم "الضرائب"، فسمَّاها بعض الحنفية "النوائب" جمع نائبة، وهي اسم لما ينوب الفرد من جهة السلطان، بحق أو بباطل.
جاء في حاشية "رد المحتار" للعلامة ابن عابدين في بيان معنى النوائب (4/ 282): [ما يكون بحقٍّ كأجرة الحراس، وَكَرْيِ النهر المشترك، والمال الموظف لتجهيز الجيش، وفداء الأسرى إذا لم يكن في بيت المال شيء وغيرهما مما هو بحق، فالكفالة به جائزة بالاتفاق؛ لأنها واجبة على كل مسلمٍ مُوسِر بإيجاب طاعة ولي الأمر فيما فيه مصلحة المسلمين ولم يلزم بيت المال أو لزمه ولا شيء فيه. وإن أريد بها ما ليس بحقٍّ كالجبايات الموظفة على الناس في زماننا ببلاد فارس على الخيَّاط والصَّبَّاغ وغيرهم للسلطان في كل يوم أو شهر، فإنها ظلم] اهـ.
وقد نقل العلامة ابن عابدين أيضًا عن العلامة أبي جعفر البلخي قوله (2/ 57): [ما يَضْرِبُه السلطانُ على الرعية مصلحةً لهم يصير دَيْنًا واجبًا وحقًّا مُستحقًّا كالخراج، وقال مشايخنا: وكل ما يضربه الإمام عليهم لمصلحة لهم فالجواب هكذا، حتى أجرة الحرَّاسين لحفظ الطريق، واللصوص، ونصب الدروب، وأبواب السكك، وهذا يُعْرَف، ولا يُعَرَّف خوف الفتنة، ثم قال: فعلى هذا ما يؤخذ في خوارزم من العامة لإصلاح مسناة الجيحون أو الربض ونحوه من مصالح العامة دَيْنٌ واجبٌ لا يجوز الامتناع عنه وليس بظلم، ولكن يعلم هذا الجواب للعمل به وكف اللسان عن السلطان وسعاته فيه لا للتشهير؛ حتى لا يتجاسروا في الزيادة على القدر المستحق] اهـ.
ومن المالكية يقول الإمام الشاطبي في "الاعتصام" (3/ 25، وما بعدها): [إنا إذا قدرنا إمامًا مطاعًا مُفتقِرًا إلى تكثير الجنود؛ لسدِّ الثغور وحماية المُلك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال عن المال، وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم، فللإمام -إذا كان عدلًا- أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال إلى أن يظهر مال في بيت المال، وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين؛ لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا، فإن القضية فيه أحرى، ووجه المصلحة هنا ظاهر؛ فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك لانْحلَّ النظام، وبطلت شوكة الإمام، وصارت ديارُنا عرضة لاستيلاء الكفار] اهـ.
ومن الشافعية يقول الإمام الغزالي في "المستصفى" (1/ 303-304): [إذا خلت الأيدي من الأموال، ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولو تفرق العسكر، واشتغلوا بالكسب لخيف دخول العدو ديار المسلمين، أو خيف ثوران الفتنة من أهل الغرامة في بلاد الإسلام، جاز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند] اهـ.
وقد تَكلَّم عنها الشيخ ابن تيمية بما يفيد إقراره لبعض ما يأخذه السلطان باعتباره من الجهاد بالمال الواجب على الأغنياء، وسماها بـ"الكلف السلطانية"، أي: التكليفات المالية التي يلزم بها السلطان رعيته أو طائفة منهم. انظر: "مجموع الفتاوى" (30/ 182 وما بعدها).
والجمارك نوع من الضرائب المالية تُوضع على بضائع تدخل لبلاد المسلمين تقررها الدولة، وما يجمع من هذه الضرائب يدخل خزينة الدولة للمصالح العامة، ومن هذه المصالح: تشجيع البضائع والمنتجات المحلية لصالح المواطن والمستهلك، ففرضها فيه حماية للسوق المحلي، وحيث إنها نوع من الضرائب فتأخذ نفس أحكام الضرائب السابق ذكرها.
يتبين مما سبق أنه: لا يجوز التهرب من الضرائب والجمارك، ولا يجوز دفع الرشوة لإنقاصها، كما ننصح القائمين على الأمر بمراعاة فرض الضرائب بنسبة أكبر على الفئات الثرية دون الإثقال بفرضها على الفئات الفقيرة غير القادرة على تحمل أعباء الحياة.
والله سبحانه تعالى أعلم.
حكم الشرع في الضرائب والجمارك
ما حكم الدِّين فيما يدفعه الناس للحكومة تحت مُسَمَّى الضرائب والجمارك؟ وهل عليه دليل في الشرع؟ وهل يجوز الامتناع عن دفع هذه الأموال أو التهرب منها؟
الضَّرِيبَةُ: مِقْدَارٌ مُحَدَّدٌ من المال تفرضه الدولة في أموال المواطنين، دون أن يقابل ذلك نفعٌ ظاهر يعود بشكل خاص على دافع المال، فتُفْرَض على المِلْك والعَمَل والدَّخْل نظير خدمات والتزامات تقوم بها الدولة لصالح المجتمع بشكل عام، وهي تختلف باختلاف القوانين والأحوال.
ويجوز لولي الأمر أن يفرض ضرائب عادلة في تقديرها وفي جبايتها تضاف إلى ما يجبيه من أموال الزَّكَاة؛ وذلك لتغطية النفقات العامة والحاجات اللازمة للأمة، باعتبار أَنَّ وَلِي الأمر هو القائم على رعاية المصالح العامة التي تستلزم نفقات تستنفد الموارد العامة لا سيما في هذا العصر الذي كثُرت فيه مهام الدولة واتسعت مرافقها وزادت فيه الأزمات الاقتصادية العالمية.
والدولة لها ما يُسَمَّى بالموازنة العامة، والتي يجتمع فيها الإيرادات العامة والنفقات العامة، وإذا كانت النفقات العامة للدولة أكبر من الإيرادات العامة؛ فإنَّ ذلك معناه عجز في ميزانية الدولة، يتعيَّنُ على الدولة تعويضه بعِدَّةِ سُبل منها: فرض الضرائب. إلا أنه ينبغي أن يراعى في فرض الضرائب عدم زيادة أعباء محدودي الدخل وزيادة فقرهم، وأن توجه الضرائب إلى الفئات التي لا يجهدها ذلك كطبقة المستثمرين، ورجال الأعمال الذين يجب عليهم المساهمة في واجبهم تجاه شعبهم ووطنهم.
وقد تقرَّر عند كثير من الصحابة: كعمر، وعلي، وأبي ذر، وعائشة، وابن عمر، وأبي هريرة، والحسن بن علي، وفاطمة بنت قيس رضي الله عنهم أجمعين، ومن التابعين: كالشعبي، ومجاهد، وطاوس، وعطاء، أن في مال المسلم حقًّا غير مال الزكاة -انظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (6/ 158)-، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177].
وجه الدلالة في الآية الكريمة أن الله تعالى نصَّ على إيتاء الزكاة، كما نصَّ على إيتاء المال لذوي القربى واليتامى والمساكين، مما يدل على أن المراد بإيتاء المال في الآية غير الزكاة، وأن في المال حقًّا سوى الزكاة، فالآية قد جُمِعَ فيها بين إيتاء المال على حبه، وبين إيتاء الزكاة بالعَطْفِ المقتضِي للمُغايرة، وهذا دليل على أن في المال حقًّا سوَى الزكاة لتصح المُغايرة. انظر: "تفسير الفخر الرازي" (6/ 43).
وعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: سُئل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الزكاة فقال: «إِنَّ فِي المَالِ لحَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ» ثم تلا هذه الآية التي في سورة البقرة: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: 177]. أخرجه الترمذي.
وقال الإمام القرطبي في "تفسيره" بعد ذكره للحديث المذكور (2/ 242): [والحديث وإن كان فيه مقال فقد دلَّ على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 177]، فذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله:﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [البقرة: 177] ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك يكون تكرارًا، والله أعلم] اهـ.
ومِن ثَمَّ فإنه قد ثبتَ في مال المسلم الغني حقٌّ غير الزكاة، لا سيما في ظل احتياج المجتمع إلى هذه الأموال، وهذا هو المعنى الحقيقي للتكافل والتضامن الاجتماعي.
فالتضامن الاجتماعي فريضة، فإن من حق المجتمع على الفرد التعاون على إقامة مصالح الدولة كافة، ولجماعة المسلمين حق في مال الفرد؛ لأنه لم يكسب ماله إلا بها، وهي التي ساهمت من قريب ومن بعيد، وعن قصد وغير قصد، في تكوين ثروة الغني، وهي التي بدونها لا تتم معيشته كإنسان في المدينة.
فإذا كان في الدولة الإسلامية محتاجون لم تكفهم الزكاة، أو كانت مصلحة الجماعة وتأمينها عسكريًّا أو اقتصاديًّا تتطلب مالًا لتحقيقها، أو كان دِين الله ودعوته وتبليغ رسالته يحتاج إلى مال لإقامة ذلك، فإن الواجب الذي يحتمه الإسلام أن يُفْرَض في أموال الأغنياء ما يحقِّق هذه الأمور؛ لأن تحقيقها واجب على ولاة الأمر في المسلمين، ولا يتم هذا الواجب إلا بالمال، ولا مال بغير فرض الضرائب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وكذلك فإن من القواعد الفقهية الكلية المقررة عند العلماء: أنه "يُتَحَمَّلُ الضرر الخاص لدفع الضرر العام"، وأنه "يجب تحمل الضرر الأدنى لدفع ضرر أعلى وأشد". انظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم الحنفي (ص: 87).
ولا ريب أن هذه القواعد الفقهية لا يؤدِّي إعمالها إلى إباحة الضرائب فحسب، بل يُحتم فَرْضها وأخْذها؛ تحقيقًا لمصالح الأمة والدولة، ودرءًا للمفاسد والأضرار والأخطار عنها.
يقول الإمام ابن حزم في "المحلى" (6/ 156): [وفُرِضَ على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويُجْبِرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم] اهـ.
ومن القواعد المقررة أيضًا: أن "الضرورة تُقَدَّر بقدرها"؛ فيجب ألا يتجاوز بالضرورة القدر الضروري، وأن يراعَى في وضعها وطُرْق تحصيلها ما يخفف وقعها على الأفراد.
فالأساس في الضرائب هو تكوين مال للدولة تستعين به على القيام بواجباتها، والوفاء بالتزاماتها، فالأموال التي تجبى من الضرائب تنفق في المرافق العامة التي يعود نفعها على أفراد المجتمع كافة، كالدفاع والأمن والقضاء والتعليم والصحة والنقل والمواصلات والري والصرف، وغيرها من المصالح التي يستفيد منها عامة المواطنين من رعايا الدولة، من قريب أو من بعيد.
ومما لا شك فيه أن أخْذ الضريبة من الأفراد فيه استيلاء على جزء من مالهم وحرمان لهم من التمتع به، وهذا الحرمان إنما رُخِّص فيه؛ لأن الضرورة قضت به إذ لا يمكن القيام بالمصالح العامة بدونه، والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
ولو تركت الدول الإسلامية في عصرنا دون ضرائب تنفق منها، لكان من المحتم أن تزول بعد زمن يسير من قيامها، وينخر الضعف كيانها من كل نواحيه، فضلًا عن الأخطار العسكرية عليها، فلقد أصبح التسليح ونفقات الجيوش في عصرنا مما يحتاج إلى موارد هائلة من المال.
ومع هذا لم تعد القوة مقصورة على السلاح والجيوش؛ إذ لا بد من القوة والتفوق في شتى جوانب الحياة العلمية والصناعية والاقتصادية، وكل هذا يفتقر إلى أمداد غزيرة من المال، ولا سبيل إلى ذلك إلا بفرض الضرائب باعتبارها نوعًا من الجهاد بالمال؛ ليقوي الفرد أمته، ويحمي دولته، فيقوي بذلك نفسه، ويحمي دينه ودمه وماله وعرضه. انظر: "المحلى" (2/ 1077).
وما سبق ذِكْره من أمور؛ كالدفاع والأمن والقضاء والتعليم والصحة والنقل والمواصلات والري والصرف وغير ذلك؛ ضروري لا يُمْكِن الاستغناء عنه للدولة الإسلامية، ولا لأي دولة، فمن أين للدولة أن تنفق على هذه المرافق وإقامة هذه المصالح؟
والدولة الإسلامية سابقًا كانت تنفق على هذه المصالح من مصادر لم تَعد موجودة الآن؛ مثل: خمس الغنائم الحربية التي يستولي عليها المسلمون من أعدائهم المحاربين، أو مما أفاء الله عليهم من أموال المشركين بغير حرب ولا قتال، فلم يعد لإقامة مصالح الأمة مورد إلا فرض ضرائب بقدر ما يحقق المصلحة الواجب تحقيقها.
وقد أقرَّ جماعة من فقهاء المذاهب المتبوعة الضرائب، لكنهم لم يطلقوا عليها اسم "الضرائب"، فسمَّاها بعض الحنفية "النوائب" جمع نائبة، وهي اسم لما ينوب الفرد من جهة السلطان، بحق أو بباطل.
جاء في حاشية "رد المحتار" للعلامة ابن عابدين في بيان معنى النوائب (4/ 282): [ما يكون بحقٍّ كأجرة الحراس، وَكَرْيِ النهر المشترك، والمال الموظف لتجهيز الجيش، وفداء الأسرى إذا لم يكن في بيت المال شيء وغيرهما مما هو بحق، فالكفالة به جائزة بالاتفاق؛ لأنها واجبة على كل مسلمٍ مُوسِر بإيجاب طاعة ولي الأمر فيما فيه مصلحة المسلمين ولم يلزم بيت المال أو لزمه ولا شيء فيه. وإن أريد بها ما ليس بحقٍّ كالجبايات الموظفة على الناس في زماننا ببلاد فارس على الخيَّاط والصَّبَّاغ وغيرهم للسلطان في كل يوم أو شهر، فإنها ظلم] اهـ.
وقد نقل العلامة ابن عابدين أيضًا عن العلامة أبي جعفر البلخي قوله (2/ 57): [ما يَضْرِبُه السلطانُ على الرعية مصلحةً لهم يصير دَيْنًا واجبًا وحقًّا مُستحقًّا كالخراج، وقال مشايخنا: وكل ما يضربه الإمام عليهم لمصلحة لهم فالجواب هكذا، حتى أجرة الحرَّاسين لحفظ الطريق، واللصوص، ونصب الدروب، وأبواب السكك، وهذا يُعْرَف، ولا يُعَرَّف خوف الفتنة، ثم قال: فعلى هذا ما يؤخذ في خوارزم من العامة لإصلاح مسناة الجيحون أو الربض ونحوه من مصالح العامة دَيْنٌ واجبٌ لا يجوز الامتناع عنه وليس بظلم، ولكن يعلم هذا الجواب للعمل به وكف اللسان عن السلطان وسعاته فيه لا للتشهير؛ حتى لا يتجاسروا في الزيادة على القدر المستحق] اهـ.
ومن المالكية يقول الإمام الشاطبي في "الاعتصام" (3/ 25، وما بعدها): [إنا إذا قدرنا إمامًا مطاعًا مُفتقِرًا إلى تكثير الجنود؛ لسدِّ الثغور وحماية المُلك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال عن المال، وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم، فللإمام -إذا كان عدلًا- أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال إلى أن يظهر مال في بيت المال، وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين؛ لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا، فإن القضية فيه أحرى، ووجه المصلحة هنا ظاهر؛ فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك لانْحلَّ النظام، وبطلت شوكة الإمام، وصارت ديارُنا عرضة لاستيلاء الكفار] اهـ.
ومن الشافعية يقول الإمام الغزالي في "المستصفى" (1/ 303-304): [إذا خلت الأيدي من الأموال، ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولو تفرق العسكر، واشتغلوا بالكسب لخيف دخول العدو ديار المسلمين، أو خيف ثوران الفتنة من أهل الغرامة في بلاد الإسلام، جاز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند] اهـ.
وقد تَكلَّم عنها الشيخ ابن تيمية بما يفيد إقراره لبعض ما يأخذه السلطان باعتباره من الجهاد بالمال الواجب على الأغنياء، وسماها بـ"الكلف السلطانية"، أي: التكليفات المالية التي يلزم بها السلطان رعيته أو طائفة منهم. انظر: "مجموع الفتاوى" (30/ 182 وما بعدها).
والجمارك نوع من الضرائب المالية تُوضع على بضائع تدخل لبلاد المسلمين تقررها الدولة، وما يجمع من هذه الضرائب يدخل خزينة الدولة للمصالح العامة، ومن هذه المصالح: تشجيع البضائع والمنتجات المحلية لصالح المواطن والمستهلك، ففرضها فيه حماية للسوق المحلي، وحيث إنها نوع من الضرائب فتأخذ نفس أحكام الضرائب السابق ذكرها.
يتبين مما سبق أنه: لا يجوز التهرب من الضرائب والجمارك، ولا يجوز دفع الرشوة لإنقاصها، كما ننصح القائمين على الأمر بمراعاة فرض الضرائب بنسبة أكبر على الفئات الثرية دون الإثقال بفرضها على الفئات الفقيرة غير القادرة على تحمل أعباء الحياة.
والله سبحانه تعالى أعلم.
الضَّرِيبَةُ: مِقْدَارٌ مُحَدَّدٌ من المال تفرضه الدولة في أموال المواطنين، دون أن يقابل ذلك نفعٌ ظاهر يعود بشكل خاص على دافع المال، فتُفْرَض على المِلْك والعَمَل والدَّخْل نظير خدمات والتزامات تقوم بها الدولة لصالح المجتمع بشكل عام، وهي تختلف باختلاف القوانين والأحوال.
ويجوز لولي الأمر أن يفرض ضرائب عادلة في تقديرها وفي جبايتها تضاف إلى ما يجبيه من أموال الزَّكَاة؛ وذلك لتغطية النفقات العامة والحاجات اللازمة للأمة، باعتبار أَنَّ وَلِي الأمر هو القائم على رعاية المصالح العامة التي تستلزم نفقات تستنفد الموارد العامة لا سيما في هذا العصر الذي كثُرت فيه مهام الدولة واتسعت مرافقها وزادت فيه الأزمات الاقتصادية العالمية.
والدولة لها ما يُسَمَّى بالموازنة العامة، والتي يجتمع فيها الإيرادات العامة والنفقات العامة، وإذا كانت النفقات العامة للدولة أكبر من الإيرادات العامة؛ فإنَّ ذلك معناه عجز في ميزانية الدولة، يتعيَّنُ على الدولة تعويضه بعِدَّةِ سُبل منها: فرض الضرائب. إلا أنه ينبغي أن يراعى في فرض الضرائب عدم زيادة أعباء محدودي الدخل وزيادة فقرهم، وأن توجه الضرائب إلى الفئات التي لا يجهدها ذلك كطبقة المستثمرين، ورجال الأعمال الذين يجب عليهم المساهمة في واجبهم تجاه شعبهم ووطنهم.
وقد تقرَّر عند كثير من الصحابة: كعمر، وعلي، وأبي ذر، وعائشة، وابن عمر، وأبي هريرة، والحسن بن علي، وفاطمة بنت قيس رضي الله عنهم أجمعين، ومن التابعين: كالشعبي، ومجاهد، وطاوس، وعطاء، أن في مال المسلم حقًّا غير مال الزكاة -انظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (6/ 158)-، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177].
وجه الدلالة في الآية الكريمة أن الله تعالى نصَّ على إيتاء الزكاة، كما نصَّ على إيتاء المال لذوي القربى واليتامى والمساكين، مما يدل على أن المراد بإيتاء المال في الآية غير الزكاة، وأن في المال حقًّا سوى الزكاة، فالآية قد جُمِعَ فيها بين إيتاء المال على حبه، وبين إيتاء الزكاة بالعَطْفِ المقتضِي للمُغايرة، وهذا دليل على أن في المال حقًّا سوَى الزكاة لتصح المُغايرة. انظر: "تفسير الفخر الرازي" (6/ 43).
وعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: سُئل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الزكاة فقال: «إِنَّ فِي المَالِ لحَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ» ثم تلا هذه الآية التي في سورة البقرة: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: 177]. أخرجه الترمذي.
وقال الإمام القرطبي في "تفسيره" بعد ذكره للحديث المذكور (2/ 242): [والحديث وإن كان فيه مقال فقد دلَّ على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 177]، فذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله:﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [البقرة: 177] ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك يكون تكرارًا، والله أعلم] اهـ.
ومِن ثَمَّ فإنه قد ثبتَ في مال المسلم الغني حقٌّ غير الزكاة، لا سيما في ظل احتياج المجتمع إلى هذه الأموال، وهذا هو المعنى الحقيقي للتكافل والتضامن الاجتماعي.
فالتضامن الاجتماعي فريضة، فإن من حق المجتمع على الفرد التعاون على إقامة مصالح الدولة كافة، ولجماعة المسلمين حق في مال الفرد؛ لأنه لم يكسب ماله إلا بها، وهي التي ساهمت من قريب ومن بعيد، وعن قصد وغير قصد، في تكوين ثروة الغني، وهي التي بدونها لا تتم معيشته كإنسان في المدينة.
فإذا كان في الدولة الإسلامية محتاجون لم تكفهم الزكاة، أو كانت مصلحة الجماعة وتأمينها عسكريًّا أو اقتصاديًّا تتطلب مالًا لتحقيقها، أو كان دِين الله ودعوته وتبليغ رسالته يحتاج إلى مال لإقامة ذلك، فإن الواجب الذي يحتمه الإسلام أن يُفْرَض في أموال الأغنياء ما يحقِّق هذه الأمور؛ لأن تحقيقها واجب على ولاة الأمر في المسلمين، ولا يتم هذا الواجب إلا بالمال، ولا مال بغير فرض الضرائب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وكذلك فإن من القواعد الفقهية الكلية المقررة عند العلماء: أنه "يُتَحَمَّلُ الضرر الخاص لدفع الضرر العام"، وأنه "يجب تحمل الضرر الأدنى لدفع ضرر أعلى وأشد". انظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم الحنفي (ص: 87).
ولا ريب أن هذه القواعد الفقهية لا يؤدِّي إعمالها إلى إباحة الضرائب فحسب، بل يُحتم فَرْضها وأخْذها؛ تحقيقًا لمصالح الأمة والدولة، ودرءًا للمفاسد والأضرار والأخطار عنها.
يقول الإمام ابن حزم في "المحلى" (6/ 156): [وفُرِضَ على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويُجْبِرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم] اهـ.
ومن القواعد المقررة أيضًا: أن "الضرورة تُقَدَّر بقدرها"؛ فيجب ألا يتجاوز بالضرورة القدر الضروري، وأن يراعَى في وضعها وطُرْق تحصيلها ما يخفف وقعها على الأفراد.
فالأساس في الضرائب هو تكوين مال للدولة تستعين به على القيام بواجباتها، والوفاء بالتزاماتها، فالأموال التي تجبى من الضرائب تنفق في المرافق العامة التي يعود نفعها على أفراد المجتمع كافة، كالدفاع والأمن والقضاء والتعليم والصحة والنقل والمواصلات والري والصرف، وغيرها من المصالح التي يستفيد منها عامة المواطنين من رعايا الدولة، من قريب أو من بعيد.
ومما لا شك فيه أن أخْذ الضريبة من الأفراد فيه استيلاء على جزء من مالهم وحرمان لهم من التمتع به، وهذا الحرمان إنما رُخِّص فيه؛ لأن الضرورة قضت به إذ لا يمكن القيام بالمصالح العامة بدونه، والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
ولو تركت الدول الإسلامية في عصرنا دون ضرائب تنفق منها، لكان من المحتم أن تزول بعد زمن يسير من قيامها، وينخر الضعف كيانها من كل نواحيه، فضلًا عن الأخطار العسكرية عليها، فلقد أصبح التسليح ونفقات الجيوش في عصرنا مما يحتاج إلى موارد هائلة من المال.
ومع هذا لم تعد القوة مقصورة على السلاح والجيوش؛ إذ لا بد من القوة والتفوق في شتى جوانب الحياة العلمية والصناعية والاقتصادية، وكل هذا يفتقر إلى أمداد غزيرة من المال، ولا سبيل إلى ذلك إلا بفرض الضرائب باعتبارها نوعًا من الجهاد بالمال؛ ليقوي الفرد أمته، ويحمي دولته، فيقوي بذلك نفسه، ويحمي دينه ودمه وماله وعرضه. انظر: "المحلى" (2/ 1077).
وما سبق ذِكْره من أمور؛ كالدفاع والأمن والقضاء والتعليم والصحة والنقل والمواصلات والري والصرف وغير ذلك؛ ضروري لا يُمْكِن الاستغناء عنه للدولة الإسلامية، ولا لأي دولة، فمن أين للدولة أن تنفق على هذه المرافق وإقامة هذه المصالح؟
والدولة الإسلامية سابقًا كانت تنفق على هذه المصالح من مصادر لم تَعد موجودة الآن؛ مثل: خمس الغنائم الحربية التي يستولي عليها المسلمون من أعدائهم المحاربين، أو مما أفاء الله عليهم من أموال المشركين بغير حرب ولا قتال، فلم يعد لإقامة مصالح الأمة مورد إلا فرض ضرائب بقدر ما يحقق المصلحة الواجب تحقيقها.
وقد أقرَّ جماعة من فقهاء المذاهب المتبوعة الضرائب، لكنهم لم يطلقوا عليها اسم "الضرائب"، فسمَّاها بعض الحنفية "النوائب" جمع نائبة، وهي اسم لما ينوب الفرد من جهة السلطان، بحق أو بباطل.
جاء في حاشية "رد المحتار" للعلامة ابن عابدين في بيان معنى النوائب (4/ 282): [ما يكون بحقٍّ كأجرة الحراس، وَكَرْيِ النهر المشترك، والمال الموظف لتجهيز الجيش، وفداء الأسرى إذا لم يكن في بيت المال شيء وغيرهما مما هو بحق، فالكفالة به جائزة بالاتفاق؛ لأنها واجبة على كل مسلمٍ مُوسِر بإيجاب طاعة ولي الأمر فيما فيه مصلحة المسلمين ولم يلزم بيت المال أو لزمه ولا شيء فيه. وإن أريد بها ما ليس بحقٍّ كالجبايات الموظفة على الناس في زماننا ببلاد فارس على الخيَّاط والصَّبَّاغ وغيرهم للسلطان في كل يوم أو شهر، فإنها ظلم] اهـ.
وقد نقل العلامة ابن عابدين أيضًا عن العلامة أبي جعفر البلخي قوله (2/ 57): [ما يَضْرِبُه السلطانُ على الرعية مصلحةً لهم يصير دَيْنًا واجبًا وحقًّا مُستحقًّا كالخراج، وقال مشايخنا: وكل ما يضربه الإمام عليهم لمصلحة لهم فالجواب هكذا، حتى أجرة الحرَّاسين لحفظ الطريق، واللصوص، ونصب الدروب، وأبواب السكك، وهذا يُعْرَف، ولا يُعَرَّف خوف الفتنة، ثم قال: فعلى هذا ما يؤخذ في خوارزم من العامة لإصلاح مسناة الجيحون أو الربض ونحوه من مصالح العامة دَيْنٌ واجبٌ لا يجوز الامتناع عنه وليس بظلم، ولكن يعلم هذا الجواب للعمل به وكف اللسان عن السلطان وسعاته فيه لا للتشهير؛ حتى لا يتجاسروا في الزيادة على القدر المستحق] اهـ.
ومن المالكية يقول الإمام الشاطبي في "الاعتصام" (3/ 25، وما بعدها): [إنا إذا قدرنا إمامًا مطاعًا مُفتقِرًا إلى تكثير الجنود؛ لسدِّ الثغور وحماية المُلك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال عن المال، وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم، فللإمام -إذا كان عدلًا- أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال إلى أن يظهر مال في بيت المال، وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين؛ لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا، فإن القضية فيه أحرى، ووجه المصلحة هنا ظاهر؛ فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك لانْحلَّ النظام، وبطلت شوكة الإمام، وصارت ديارُنا عرضة لاستيلاء الكفار] اهـ.
ومن الشافعية يقول الإمام الغزالي في "المستصفى" (1/ 303-304): [إذا خلت الأيدي من الأموال، ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولو تفرق العسكر، واشتغلوا بالكسب لخيف دخول العدو ديار المسلمين، أو خيف ثوران الفتنة من أهل الغرامة في بلاد الإسلام، جاز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند] اهـ.
وقد تَكلَّم عنها الشيخ ابن تيمية بما يفيد إقراره لبعض ما يأخذه السلطان باعتباره من الجهاد بالمال الواجب على الأغنياء، وسماها بـ"الكلف السلطانية"، أي: التكليفات المالية التي يلزم بها السلطان رعيته أو طائفة منهم. انظر: "مجموع الفتاوى" (30/ 182 وما بعدها).
والجمارك نوع من الضرائب المالية تُوضع على بضائع تدخل لبلاد المسلمين تقررها الدولة، وما يجمع من هذه الضرائب يدخل خزينة الدولة للمصالح العامة، ومن هذه المصالح: تشجيع البضائع والمنتجات المحلية لصالح المواطن والمستهلك، ففرضها فيه حماية للسوق المحلي، وحيث إنها نوع من الضرائب فتأخذ نفس أحكام الضرائب السابق ذكرها.
يتبين مما سبق أنه: لا يجوز التهرب من الضرائب والجمارك، ولا يجوز دفع الرشوة لإنقاصها، كما ننصح القائمين على الأمر بمراعاة فرض الضرائب بنسبة أكبر على الفئات الثرية دون الإثقال بفرضها على الفئات الفقيرة غير القادرة على تحمل أعباء الحياة.
والله سبحانه تعالى أعلم.