أصول تعبير الرؤى المنامية - الفتاوى - دار الإفتاء المصرية - دار الإفتاء

أصول تعبير الرؤى المنامية

أصول تفسير المنامات: هل هو علم؟ ومن أين يُستمد؟ وهل كان في الأمم السابقة؟ ومتى يصح لإنسان أن يقدم على التأويل مع وجود الترهيب من ذلك في الحديث؟

الأصل في التعبير أنه من العبور والتجاوز، والمقصود هنا أنه من العبور إلى من يكون من المآل فيها.
قال الفيومي: «عبرت النهر عبرا من باب قتل وعبورا: قطعته إلى الجانب الآخر، والمعبر وِزَان جعفر: شط نهر هُيِّئ للعبور، والمِعبر بكسر الميم ما يُعبَر عليه من سفينة أو قنطرة. وعبرت الرؤيا عبرا أيضا وعبارة: فسرتها، وبالتثقيل مبالغة. وفي التنزيل: ﴿إن كنتم للرؤيا تعبرون [يوسف:43]، وعبرت السبيل بمعنى: مررت، فعابر السبيل: مارُّ الطريق. وقوله تعالى ﴿إلا عابري سبيل [النساء: 43]. قال الأزهري: معناه: إلا مسافرين؛ لأن المسافر قد يعوزه الماء، وقيل: المراد: إلا مارين في المسجد غير مريدين للصلاة». (المصباح المنير 2/389، مادة: ع ب ر، ط. المكتبة العلمية).

وقال القرطبي: «قوله تعالى: ﴿يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي [يوسف: 43] جمع الرؤيا رؤى: أي: أخبروني بحكم هذه الرؤيا ﴿إن كنتم للرؤيا تعبرون [يوسف: 43]، العبارة مشتقة من عبور النهر، فمعنى عبرت النهر: بلغت شاطئه، فعابر الرؤيا يعبر بما يؤول إليه أمرها». (الجامع لأحكام القرآن 9 /200، ط. دار الكتب المصرية).

وعن حقيقة الرؤيا قال الإمام النووي: «مذهب أهل السنة في حقيقة الرؤيا أن الله تعالى يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنه جعلها عَلَمًا على أمور أُخَر يخلقها في ثاني الحال أو كان قد خلقها فإذا خلق في قلب النائم الطيران وليس بطائر فأكثر ما فيه أنه اعتقد أمرا على خلاف ما هو فيكون ذلك الاعتقاد عَلَمًا على غيره كما يكون خلق الله سبحانه وتعالى الغيم عَلَمًا على المطر والجميع خلق الله تعالى ولكن يخلق الرؤيا والاعتقادات التي جعلها عَلَمًا على ما يسر بغير حضرة الشيطان ويخلق ما هو عَلم على ما يضر بحضرة الشيطان فينسب إلى الشيطان مجازا لحضوره عندها وإن كان لا فعل له حقيقة، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((الرؤيا من الله والحلم من الشيطان)) لا على أن الشيطان يفعل شيئا، فالرؤيا اسم للمحبوب والحلم اسم للمكروه. هذا كلام المازري، وقال غيره: أضاف الرؤيا المحبوبة إلى الله إضافة تشريف بخلاف المكروهة وإن كانتا جميعا من خلق الله تعالى وتدبيره وبإرادته ولا فعل للشيطان فيهما لكنه يحضر المكروهة ويرتضيها ويسر بها». (شرح النووي على مسلم 15/17، ط. دار إحياء التراث العربي).

قال الحافظ ابن حجر: «الرؤيا إدراكات علقها الله تعالى في قلب العبد على يدي ملك أو شيطان إما بأسمائها -أي حقيقتها- وإما بكناها -أي بعبارتها- وإما تخليط، ونظيرها في اليقظة الخواطر؛ فإنها قد تأتي على نسق في قصة وقد تأتي مسترسلة غير محصلة. هذا حاصل قول الأستاذ أبي إسحاق قال وذهب القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أنها اعتقادات واحتج بأن الرائي قد يرى نفسه بهيمة أو طائرا مثلا وليس هذا إدراكا فوجب أن يكون اعتقادا لأن الاعتقاد قد يكون على خلاف المعتقد، قال ابن العربي: والأول أولى، والذي يكون من قبيل ما ذكره ابن الطيب من قبيل المثل فالإدراك إنما يتعلق به لا بأصل الذات. انتهى ملخصا». (فتح الباري لابن حجر 12/352، ط. دار المعرفة).

وتعبير الرؤيا تكلم عنه المفسرون عند الآيات التي تعرضت لهذا الأمر، خاصة سورة يوسف، ويضع المحدثون في كتب السنة أبوابا لتعبير الرؤيا.

وحكم تفسير الرؤيا مشروع لمن يحسنه؛ لأن الله تعالى أوجد الرؤيا ليستفيد منها الناس عن طريق من يعلم تأويلها منهم، كما هو الحال في القرآن والسنة، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، وقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7]. فمن لم يكن من أهل الذكر في هذا الشأن فلا يحل له أن يتكلم فيه، بل هو مقصور على أهل العلم به.

قال ابن عبد البر: «قيل لمالك رحمه الله أيعبر الرؤيا كلُّ أحدٍ؟ فقال: أبالنبوة يُلعب؟ وقال مالك: لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، فإن رأى خيرا أخبر به، وإن رأى مكروها فليقل خيرا أو ليصمت. قيل: فهل يعبرها على الخير وهي عنده على المكروه؛ لقول من قال إنها على ما أُوِّلت عليه؟ فقال: لا. ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة، فلا يتلاعب بالنبوة». (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 1/ 288، ط. وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية – المغرب).

قال أبو الوليد الباجي: «ولا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، وأما من لا يعلم ذلك ولا يحسنها فليترك». (المنتقى شرح الموطأ 7 / 278).
وقد جوَّز النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أن يعبر الرؤيا، وأخبره بأنه أصاب وأخطأ، فعن ابن عباس أنه كان يحدث أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أرى الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها بأيديهم، فالمستكثر والمستقل، وأرى سببا واصلا، من السماء إلى الأرض، فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل من بعدك فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به، ثم وصل له فعلا. قال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت، والله لتدعني فلأعبرنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعبرها»، قال أبو بكر: أما الظلة فظلة الإسلام، وأما الذي ينطف من السمن والعسل فالقرآن حلاوته ولينه، وأما ما يتكفف الناس من ذلك فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه، تأخذ به فيُعليك الله به، ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت، أصبتُ أم أخطأتُ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أصبت بعضا وأخطأت بعضا»، قال: فوالله يا رسول الله لتحدثني ما الذي أخطأتُ؟ قال «لا تقسم». (متفق عليه واللفظ لمسلم).
وقد اعتاد مصنفو السنة على أن يضعوا في تقسيمهم للكتب كتاب التعبير، أي كتاب تعبير الرؤيا.

ولما كان المجتهد يجوز عليه الخطأ كان معبر الرؤيا كذلك، ولذا لم تكن حجة شرعية، وإن كان يستأنس بها في فضائل الأعمال والأشخاص وفيما له أصل في الشرع.

قال الزركشي: «الصحيح أن المنام لا يُثبت حكما شرعيا ولا بينة، وإن كانت رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حقا، والشيطان لا يتمثل به، ولكن النائم ليس من أهل التحمل والرواية لعدم تحفظه، وأما المنام الذي روي في الأذان، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل به، فليس الحجة فيه المنام، بل الحجة فيه أمره بذلك في مدارك العلم». (البحر المحيط في أصول الفقه 8 / 118، ط. دار الكتب العلمية).

وعن أنواع الرؤيا روى أبو هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان آخر الزمان، لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا، والرؤيا ثلاثة: رؤيا بشرى من الله عز وجل، ورؤيا مما يحدث الإنسان نفسه، ورؤيا من تحزين الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فلا يحدث به، وليقم وليصل، والقيد في المنام ثبات في الدين، والغل أكرهه)). (متفق عليه).

قال الإمام البغوي: «وقوله: «الرؤيا ثلاثة» فيه بيان أن ليس كل ما يراه الإنسان في منامه يكون صحيحا، ويجوز تعبيره، إنما الصحيح منها ما كان من الله عز وجل يأتيك به ملك الرؤيا من نسخة أم الكتاب، وما سوى ذلك أضغاث أحلام لا تأويل لها. وهي على أنواع قد يكون من فعل الشيطان يلعب بالإنسان، أو يريه ما يحزنه، وله مكايد يحزن بها بني آدم، كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنه: ﴿إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا [المجادلة: 10]، ومِن لعب الشيطان به الاحتلام الذي يوجب الغسل، فلا يكون له تأويل، وقد يكون ذلك من حديث النفس، كمن يكون في أمر، أو حرفة يرى نفسه في ذلك الأمر، والعاشق يرى معشوقه ونحو ذلك، وقد يكون ذلك من مزاج الطبيعة». (شرح السنة 21/211، ط. المكتب الإسلامي).

وأما عن استمداد علم التعبير فالأصل فيه أنه ملكة كملكة الفقه بالنسبة للفقيه. ولما كان هذا العلم قديما لم يكن القرآن والسنة هما المصدر الوحيد له، وإنما هما من المصادر، ويتبين ذلك من أقسام تأويل الرؤيا كما سيأتي.

واعلم أن تأويل الرؤيا ينقسم أقساما، فقد يكون بدلالة من جهة الكتاب، أو من جهة السنة، أو من الأمثال السائرة بين الناس، وقد يقع التأويل على الأسماء والمعاني، وقد يقع على الضد والقلب.

فالتأويل بدلالة القرآن، كالحبل يعبر بالعهد، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿واعتصموا بحبل الله [آل عمران: 103].
والسفينة تعبر بالنجاة، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿فأنجيناه وأصحاب السفينة [العنكبوت:15].

وأما التأويل بدلالة الحديث كالغراب، يعبر بالرجل الفاسق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه فاسقا، والفأرة يعبر بالمرأة الفاسقة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها فويسقة، والتأويل بالأمثال، كالصائغ يعبر بالكذاب، لقولهم: أكذب الناس الصواغون، وحفر الحفرة يعبر بالمكر، لقولهم: من حفر حفرة وقع فيها، والتأويل بالأسامي، كمن رأى رجلا يسمى راشدا يعبر بالرشد، وإن كان يسمى سالما يعبر بالسلامة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم كأنا في دار عقبة بن رافع، فأتينا برطب من رطب ابن طاب، فأولت الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب)).

وأما التأويل بالضد والقلب، فكما أن الخوف في النوم يعبر بالأمن، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا [النور: 55]، والأمن فيه يعبر بالخوف.

وقد يتغير حكم التأويل بالزيادة والنقصان، كقولهم في البكاء: إنه فرح، فإن كان معه صوت ورنة، فهو مصيبة. وفي الضحك: إنه حزن، فإن كان تبسما فصالح.

وقد يتغير التأويل عن أصله باختلاف حال الرائي كالغل في النوم مكروه، وهو في حق الرجل الصالح قبض اليد عن الشر، وكان ابن سيرين يقول في الرجل يخطب على المنبر يصيب سلطانا، فإن لم يكن من أهله يصلب، وسأل رجل ابن سيرين، قال: رأيت في المنام كأني أؤذن. قال: تحج. وسأله آخر، فأول بقطع يده في السرقة، فقيل له في التأويلين، فقال: رأيت الأول على سيماء حسنة، فأولت قوله سبحانه وتعالى: ﴿وأذن في الناس بالحج [الحج: 27]، ولم أرض هيئة الثاني، فأولت قوله عز وجل: ﴿ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون [يوسف:70]، وقد يرى الرجل في منامه فيصيبه عين ما رأى حقيقة من ولاية، أو حج، أو قدوم غائب، أو خير، أو نكبة، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الفتح، فكان كذلك، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق﴾ [الفتح: 27]. وقد يرى الشيء في المنام للرجل، ويكون التأويل لولده، أو قريبه، أو سميه، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم مبايعة أبي جهل معه، فكان ذلك لابنه عكرمة، فلما أسلم، قال عليه السلام: ((هو هذا))، ورأى لأسيد بن العاص ولاية مكة، فكان لابنه عتاب بن أسيد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة. (ينظر: شرح السنة 12/219ـ 225 ملخصا).

وقال ابن القيم: «قالوا: قد ضرب الله سبحانه الأمثال وصرفها قدرا وشرعا ويقظة ومناما، ودل عباده على الاعتبار بذلك، وعبورهم من الشيء إلى نظيره، واستدلالهم بالنظير على النظير، بل هذا أهل عبارة الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة ونوع من أنواع الوحي؛ فإنها مبنية على القياس والتمثيل، واعتبار المعقول بالمحسوس، ألا ترى أن الثياب في التأويل كالقمص تدل على الدين، فما كان فيها من طول أو قصر أو نظافة أو دنس فهو في الدين كما أول النبي صلى الله عليه وسلم القميص بالدين والعلم، والقدر المشترك بينهما أن كلا منهما يستر صاحبه ويجمله بين الناس؛ فالقميص يستر بدنه والعلم والدين يستر روحه وقلبه ويجمله بين الناس». (إعلام الموقعين عن رب العالمين 1 /146ـ 149، ط. دار الكتب العلمية).

وأخرج مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن زفر بن صعصعة بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاة الغداة يقول: هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟ ويقول: ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة)).
قال الباجي: «قوله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاة الغداة: ((هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟))، يحتمل -والله أعلم- أن يرجو بذلك رؤيا مبشرة له صلى الله عليه وسلم وللمسلمين ويستدعي ذلك من عندهم فيما ربما توقف عنه الوحي فيه ويحتمل أن يريد بذلك تعليمهم العبادة وتنبيههم على فضلها ولذلك كان يقول: ((ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة)) حضًّا لهم على تعليمها والاهتبال بها ليبقى لهم بعده جزء من النبوة يدخل عليهم بها مسرة ويحضهم على مصلحة ويزجرهم بها عن معصيته». (المنتقى شرح الموطأ 7 / 277، ط. مطبعة السعادة).

وأما حكم الكذب في الرؤيا فعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من تحلم بحلم لم يره كُلِّف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل)) (أخرجه البخاري).
وقوله: ((تحلم بحلم)) تكلف الحلم أو ادعى أنه رأى حلما.
و((كُلِّف)) أي يوم القيامة، وذلك التكليف نوع من العذاب.
و((يعقد)) يوصل.
و((لن يفعل)) لن يقدر على ذلك، وهو كناية عن استمرار العذاب عليه.
وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أفْرَى الفِرَى أن يُرِيَ عينيه ما لم تر)) (أخرجه البخاري).
قوله: ((أفْرَى الفِرَى)) أشد الكذب وأكذب الكذبات، والفِرَى جمع الفِريَة وهي الكذبة الفادحة التي يُتعجَّب منها.
و«يُرِي عينيه» يدَّعي أنه رأى رؤيا وهو لم ير شيئا.

وقد عقد البخاري في صحيحه: «باب من كذب في حُلمه»، قال ابن حجر: «قوله: باب من كذب في حُلمه، أي فهو مذموم أو التقدير: بابُ إِثمِ من كذب في حُلمه، والحُلم -بضم المهملة وسكون اللام- ما يراه النائم... والمراد بالتكلف نوع من التعذيب وأما الكذب على المنام فقال الطبري إنما اشتد فيه الوعيد مع أن الكذب في اليقظة قد يكون أشد مفسدة منه إذ قد تكون شهادة في قتل أو حد أو أخذ مال لأن الكذب في المنام كذب على الله أنه أراه ما لم يره، والكذب على الله أشد من الكذب على المخلوقين لقوله تعالى: ﴿ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم..﴾ الآية، وإنما كان الكذب في المنام كذبا على الله لحديث: (الرؤيا جزء من النبوة) وما كان من أجزاء النبوة فهو من قبل الله تعالى. انتهى ملخصا». (فتح الباري لابن حجر 12 / 428).

وبناء على ما سبق ذكره وبيانه فتأويل الرؤى المنامية ملكة، ويستمد من الكتاب والسنة وأمثلة القوم وعاداتهم، ولقد كان في الأمم السابقة، ولا يصح الإقدام على تأويل الرؤيا إلا لمن كان عالما بأصول التأويل. والله تعالى أعلم.
 

التفاصيل ....

الأصل في التعبير أنه من العبور والتجاوز، والمقصود هنا أنه من العبور إلى من يكون من المآل فيها.
قال الفيومي: «عبرت النهر عبرا من باب قتل وعبورا: قطعته إلى الجانب الآخر، والمعبر وِزَان جعفر: شط نهر هُيِّئ للعبور، والمِعبر بكسر الميم ما يُعبَر عليه من سفينة أو قنطرة. وعبرت الرؤيا عبرا أيضا وعبارة: فسرتها، وبالتثقيل مبالغة. وفي التنزيل: ﴿إن كنتم للرؤيا تعبرون [يوسف:43]، وعبرت السبيل بمعنى: مررت، فعابر السبيل: مارُّ الطريق. وقوله تعالى ﴿إلا عابري سبيل [النساء: 43]. قال الأزهري: معناه: إلا مسافرين؛ لأن المسافر قد يعوزه الماء، وقيل: المراد: إلا مارين في المسجد غير مريدين للصلاة». (المصباح المنير 2/389، مادة: ع ب ر، ط. المكتبة العلمية).

وقال القرطبي: «قوله تعالى: ﴿يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي [يوسف: 43] جمع الرؤيا رؤى: أي: أخبروني بحكم هذه الرؤيا ﴿إن كنتم للرؤيا تعبرون [يوسف: 43]، العبارة مشتقة من عبور النهر، فمعنى عبرت النهر: بلغت شاطئه، فعابر الرؤيا يعبر بما يؤول إليه أمرها». (الجامع لأحكام القرآن 9 /200، ط. دار الكتب المصرية).

وعن حقيقة الرؤيا قال الإمام النووي: «مذهب أهل السنة في حقيقة الرؤيا أن الله تعالى يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنه جعلها عَلَمًا على أمور أُخَر يخلقها في ثاني الحال أو كان قد خلقها فإذا خلق في قلب النائم الطيران وليس بطائر فأكثر ما فيه أنه اعتقد أمرا على خلاف ما هو فيكون ذلك الاعتقاد عَلَمًا على غيره كما يكون خلق الله سبحانه وتعالى الغيم عَلَمًا على المطر والجميع خلق الله تعالى ولكن يخلق الرؤيا والاعتقادات التي جعلها عَلَمًا على ما يسر بغير حضرة الشيطان ويخلق ما هو عَلم على ما يضر بحضرة الشيطان فينسب إلى الشيطان مجازا لحضوره عندها وإن كان لا فعل له حقيقة، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((الرؤيا من الله والحلم من الشيطان)) لا على أن الشيطان يفعل شيئا، فالرؤيا اسم للمحبوب والحلم اسم للمكروه. هذا كلام المازري، وقال غيره: أضاف الرؤيا المحبوبة إلى الله إضافة تشريف بخلاف المكروهة وإن كانتا جميعا من خلق الله تعالى وتدبيره وبإرادته ولا فعل للشيطان فيهما لكنه يحضر المكروهة ويرتضيها ويسر بها». (شرح النووي على مسلم 15/17، ط. دار إحياء التراث العربي).

قال الحافظ ابن حجر: «الرؤيا إدراكات علقها الله تعالى في قلب العبد على يدي ملك أو شيطان إما بأسمائها -أي حقيقتها- وإما بكناها -أي بعبارتها- وإما تخليط، ونظيرها في اليقظة الخواطر؛ فإنها قد تأتي على نسق في قصة وقد تأتي مسترسلة غير محصلة. هذا حاصل قول الأستاذ أبي إسحاق قال وذهب القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أنها اعتقادات واحتج بأن الرائي قد يرى نفسه بهيمة أو طائرا مثلا وليس هذا إدراكا فوجب أن يكون اعتقادا لأن الاعتقاد قد يكون على خلاف المعتقد، قال ابن العربي: والأول أولى، والذي يكون من قبيل ما ذكره ابن الطيب من قبيل المثل فالإدراك إنما يتعلق به لا بأصل الذات. انتهى ملخصا». (فتح الباري لابن حجر 12/352، ط. دار المعرفة).

وتعبير الرؤيا تكلم عنه المفسرون عند الآيات التي تعرضت لهذا الأمر، خاصة سورة يوسف، ويضع المحدثون في كتب السنة أبوابا لتعبير الرؤيا.

وحكم تفسير الرؤيا مشروع لمن يحسنه؛ لأن الله تعالى أوجد الرؤيا ليستفيد منها الناس عن طريق من يعلم تأويلها منهم، كما هو الحال في القرآن والسنة، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، وقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7]. فمن لم يكن من أهل الذكر في هذا الشأن فلا يحل له أن يتكلم فيه، بل هو مقصور على أهل العلم به.

قال ابن عبد البر: «قيل لمالك رحمه الله أيعبر الرؤيا كلُّ أحدٍ؟ فقال: أبالنبوة يُلعب؟ وقال مالك: لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، فإن رأى خيرا أخبر به، وإن رأى مكروها فليقل خيرا أو ليصمت. قيل: فهل يعبرها على الخير وهي عنده على المكروه؛ لقول من قال إنها على ما أُوِّلت عليه؟ فقال: لا. ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة، فلا يتلاعب بالنبوة». (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 1/ 288، ط. وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية – المغرب).

قال أبو الوليد الباجي: «ولا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، وأما من لا يعلم ذلك ولا يحسنها فليترك». (المنتقى شرح الموطأ 7 / 278).
وقد جوَّز النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أن يعبر الرؤيا، وأخبره بأنه أصاب وأخطأ، فعن ابن عباس أنه كان يحدث أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أرى الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها بأيديهم، فالمستكثر والمستقل، وأرى سببا واصلا، من السماء إلى الأرض، فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل من بعدك فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به، ثم وصل له فعلا. قال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت، والله لتدعني فلأعبرنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعبرها»، قال أبو بكر: أما الظلة فظلة الإسلام، وأما الذي ينطف من السمن والعسل فالقرآن حلاوته ولينه، وأما ما يتكفف الناس من ذلك فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه، تأخذ به فيُعليك الله به، ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت، أصبتُ أم أخطأتُ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أصبت بعضا وأخطأت بعضا»، قال: فوالله يا رسول الله لتحدثني ما الذي أخطأتُ؟ قال «لا تقسم». (متفق عليه واللفظ لمسلم).
وقد اعتاد مصنفو السنة على أن يضعوا في تقسيمهم للكتب كتاب التعبير، أي كتاب تعبير الرؤيا.

ولما كان المجتهد يجوز عليه الخطأ كان معبر الرؤيا كذلك، ولذا لم تكن حجة شرعية، وإن كان يستأنس بها في فضائل الأعمال والأشخاص وفيما له أصل في الشرع.

قال الزركشي: «الصحيح أن المنام لا يُثبت حكما شرعيا ولا بينة، وإن كانت رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حقا، والشيطان لا يتمثل به، ولكن النائم ليس من أهل التحمل والرواية لعدم تحفظه، وأما المنام الذي روي في الأذان، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل به، فليس الحجة فيه المنام، بل الحجة فيه أمره بذلك في مدارك العلم». (البحر المحيط في أصول الفقه 8 / 118، ط. دار الكتب العلمية).

وعن أنواع الرؤيا روى أبو هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان آخر الزمان، لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا، والرؤيا ثلاثة: رؤيا بشرى من الله عز وجل، ورؤيا مما يحدث الإنسان نفسه، ورؤيا من تحزين الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فلا يحدث به، وليقم وليصل، والقيد في المنام ثبات في الدين، والغل أكرهه)). (متفق عليه).

قال الإمام البغوي: «وقوله: «الرؤيا ثلاثة» فيه بيان أن ليس كل ما يراه الإنسان في منامه يكون صحيحا، ويجوز تعبيره، إنما الصحيح منها ما كان من الله عز وجل يأتيك به ملك الرؤيا من نسخة أم الكتاب، وما سوى ذلك أضغاث أحلام لا تأويل لها. وهي على أنواع قد يكون من فعل الشيطان يلعب بالإنسان، أو يريه ما يحزنه، وله مكايد يحزن بها بني آدم، كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنه: ﴿إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا [المجادلة: 10]، ومِن لعب الشيطان به الاحتلام الذي يوجب الغسل، فلا يكون له تأويل، وقد يكون ذلك من حديث النفس، كمن يكون في أمر، أو حرفة يرى نفسه في ذلك الأمر، والعاشق يرى معشوقه ونحو ذلك، وقد يكون ذلك من مزاج الطبيعة». (شرح السنة 21/211، ط. المكتب الإسلامي).

وأما عن استمداد علم التعبير فالأصل فيه أنه ملكة كملكة الفقه بالنسبة للفقيه. ولما كان هذا العلم قديما لم يكن القرآن والسنة هما المصدر الوحيد له، وإنما هما من المصادر، ويتبين ذلك من أقسام تأويل الرؤيا كما سيأتي.

واعلم أن تأويل الرؤيا ينقسم أقساما، فقد يكون بدلالة من جهة الكتاب، أو من جهة السنة، أو من الأمثال السائرة بين الناس، وقد يقع التأويل على الأسماء والمعاني، وقد يقع على الضد والقلب.

فالتأويل بدلالة القرآن، كالحبل يعبر بالعهد، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿واعتصموا بحبل الله [آل عمران: 103].
والسفينة تعبر بالنجاة، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿فأنجيناه وأصحاب السفينة [العنكبوت:15].

وأما التأويل بدلالة الحديث كالغراب، يعبر بالرجل الفاسق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه فاسقا، والفأرة يعبر بالمرأة الفاسقة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها فويسقة، والتأويل بالأمثال، كالصائغ يعبر بالكذاب، لقولهم: أكذب الناس الصواغون، وحفر الحفرة يعبر بالمكر، لقولهم: من حفر حفرة وقع فيها، والتأويل بالأسامي، كمن رأى رجلا يسمى راشدا يعبر بالرشد، وإن كان يسمى سالما يعبر بالسلامة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم كأنا في دار عقبة بن رافع، فأتينا برطب من رطب ابن طاب، فأولت الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب)).

وأما التأويل بالضد والقلب، فكما أن الخوف في النوم يعبر بالأمن، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا [النور: 55]، والأمن فيه يعبر بالخوف.

وقد يتغير حكم التأويل بالزيادة والنقصان، كقولهم في البكاء: إنه فرح، فإن كان معه صوت ورنة، فهو مصيبة. وفي الضحك: إنه حزن، فإن كان تبسما فصالح.

وقد يتغير التأويل عن أصله باختلاف حال الرائي كالغل في النوم مكروه، وهو في حق الرجل الصالح قبض اليد عن الشر، وكان ابن سيرين يقول في الرجل يخطب على المنبر يصيب سلطانا، فإن لم يكن من أهله يصلب، وسأل رجل ابن سيرين، قال: رأيت في المنام كأني أؤذن. قال: تحج. وسأله آخر، فأول بقطع يده في السرقة، فقيل له في التأويلين، فقال: رأيت الأول على سيماء حسنة، فأولت قوله سبحانه وتعالى: ﴿وأذن في الناس بالحج [الحج: 27]، ولم أرض هيئة الثاني، فأولت قوله عز وجل: ﴿ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون [يوسف:70]، وقد يرى الرجل في منامه فيصيبه عين ما رأى حقيقة من ولاية، أو حج، أو قدوم غائب، أو خير، أو نكبة، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الفتح، فكان كذلك، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق﴾ [الفتح: 27]. وقد يرى الشيء في المنام للرجل، ويكون التأويل لولده، أو قريبه، أو سميه، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم مبايعة أبي جهل معه، فكان ذلك لابنه عكرمة، فلما أسلم، قال عليه السلام: ((هو هذا))، ورأى لأسيد بن العاص ولاية مكة، فكان لابنه عتاب بن أسيد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة. (ينظر: شرح السنة 12/219ـ 225 ملخصا).

وقال ابن القيم: «قالوا: قد ضرب الله سبحانه الأمثال وصرفها قدرا وشرعا ويقظة ومناما، ودل عباده على الاعتبار بذلك، وعبورهم من الشيء إلى نظيره، واستدلالهم بالنظير على النظير، بل هذا أهل عبارة الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة ونوع من أنواع الوحي؛ فإنها مبنية على القياس والتمثيل، واعتبار المعقول بالمحسوس، ألا ترى أن الثياب في التأويل كالقمص تدل على الدين، فما كان فيها من طول أو قصر أو نظافة أو دنس فهو في الدين كما أول النبي صلى الله عليه وسلم القميص بالدين والعلم، والقدر المشترك بينهما أن كلا منهما يستر صاحبه ويجمله بين الناس؛ فالقميص يستر بدنه والعلم والدين يستر روحه وقلبه ويجمله بين الناس». (إعلام الموقعين عن رب العالمين 1 /146ـ 149، ط. دار الكتب العلمية).

وأخرج مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن زفر بن صعصعة بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاة الغداة يقول: هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟ ويقول: ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة)).
قال الباجي: «قوله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاة الغداة: ((هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟))، يحتمل -والله أعلم- أن يرجو بذلك رؤيا مبشرة له صلى الله عليه وسلم وللمسلمين ويستدعي ذلك من عندهم فيما ربما توقف عنه الوحي فيه ويحتمل أن يريد بذلك تعليمهم العبادة وتنبيههم على فضلها ولذلك كان يقول: ((ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة)) حضًّا لهم على تعليمها والاهتبال بها ليبقى لهم بعده جزء من النبوة يدخل عليهم بها مسرة ويحضهم على مصلحة ويزجرهم بها عن معصيته». (المنتقى شرح الموطأ 7 / 277، ط. مطبعة السعادة).

وأما حكم الكذب في الرؤيا فعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من تحلم بحلم لم يره كُلِّف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل)) (أخرجه البخاري).
وقوله: ((تحلم بحلم)) تكلف الحلم أو ادعى أنه رأى حلما.
و((كُلِّف)) أي يوم القيامة، وذلك التكليف نوع من العذاب.
و((يعقد)) يوصل.
و((لن يفعل)) لن يقدر على ذلك، وهو كناية عن استمرار العذاب عليه.
وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أفْرَى الفِرَى أن يُرِيَ عينيه ما لم تر)) (أخرجه البخاري).
قوله: ((أفْرَى الفِرَى)) أشد الكذب وأكذب الكذبات، والفِرَى جمع الفِريَة وهي الكذبة الفادحة التي يُتعجَّب منها.
و«يُرِي عينيه» يدَّعي أنه رأى رؤيا وهو لم ير شيئا.

وقد عقد البخاري في صحيحه: «باب من كذب في حُلمه»، قال ابن حجر: «قوله: باب من كذب في حُلمه، أي فهو مذموم أو التقدير: بابُ إِثمِ من كذب في حُلمه، والحُلم -بضم المهملة وسكون اللام- ما يراه النائم... والمراد بالتكلف نوع من التعذيب وأما الكذب على المنام فقال الطبري إنما اشتد فيه الوعيد مع أن الكذب في اليقظة قد يكون أشد مفسدة منه إذ قد تكون شهادة في قتل أو حد أو أخذ مال لأن الكذب في المنام كذب على الله أنه أراه ما لم يره، والكذب على الله أشد من الكذب على المخلوقين لقوله تعالى: ﴿ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم..﴾ الآية، وإنما كان الكذب في المنام كذبا على الله لحديث: (الرؤيا جزء من النبوة) وما كان من أجزاء النبوة فهو من قبل الله تعالى. انتهى ملخصا». (فتح الباري لابن حجر 12 / 428).

وبناء على ما سبق ذكره وبيانه فتأويل الرؤى المنامية ملكة، ويستمد من الكتاب والسنة وأمثلة القوم وعاداتهم، ولقد كان في الأمم السابقة، ولا يصح الإقدام على تأويل الرؤيا إلا لمن كان عالما بأصول التأويل. والله تعالى أعلم.
 

اقرأ أيضا

أصول تعبير الرؤى المنامية

أصول تفسير المنامات: هل هو علم؟ ومن أين يُستمد؟ وهل كان في الأمم السابقة؟ ومتى يصح لإنسان أن يقدم على التأويل مع وجود الترهيب من ذلك في الحديث؟

الأصل في التعبير أنه من العبور والتجاوز، والمقصود هنا أنه من العبور إلى من يكون من المآل فيها.
قال الفيومي: «عبرت النهر عبرا من باب قتل وعبورا: قطعته إلى الجانب الآخر، والمعبر وِزَان جعفر: شط نهر هُيِّئ للعبور، والمِعبر بكسر الميم ما يُعبَر عليه من سفينة أو قنطرة. وعبرت الرؤيا عبرا أيضا وعبارة: فسرتها، وبالتثقيل مبالغة. وفي التنزيل: ﴿إن كنتم للرؤيا تعبرون [يوسف:43]، وعبرت السبيل بمعنى: مررت، فعابر السبيل: مارُّ الطريق. وقوله تعالى ﴿إلا عابري سبيل [النساء: 43]. قال الأزهري: معناه: إلا مسافرين؛ لأن المسافر قد يعوزه الماء، وقيل: المراد: إلا مارين في المسجد غير مريدين للصلاة». (المصباح المنير 2/389، مادة: ع ب ر، ط. المكتبة العلمية).

وقال القرطبي: «قوله تعالى: ﴿يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي [يوسف: 43] جمع الرؤيا رؤى: أي: أخبروني بحكم هذه الرؤيا ﴿إن كنتم للرؤيا تعبرون [يوسف: 43]، العبارة مشتقة من عبور النهر، فمعنى عبرت النهر: بلغت شاطئه، فعابر الرؤيا يعبر بما يؤول إليه أمرها». (الجامع لأحكام القرآن 9 /200، ط. دار الكتب المصرية).

وعن حقيقة الرؤيا قال الإمام النووي: «مذهب أهل السنة في حقيقة الرؤيا أن الله تعالى يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنه جعلها عَلَمًا على أمور أُخَر يخلقها في ثاني الحال أو كان قد خلقها فإذا خلق في قلب النائم الطيران وليس بطائر فأكثر ما فيه أنه اعتقد أمرا على خلاف ما هو فيكون ذلك الاعتقاد عَلَمًا على غيره كما يكون خلق الله سبحانه وتعالى الغيم عَلَمًا على المطر والجميع خلق الله تعالى ولكن يخلق الرؤيا والاعتقادات التي جعلها عَلَمًا على ما يسر بغير حضرة الشيطان ويخلق ما هو عَلم على ما يضر بحضرة الشيطان فينسب إلى الشيطان مجازا لحضوره عندها وإن كان لا فعل له حقيقة، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((الرؤيا من الله والحلم من الشيطان)) لا على أن الشيطان يفعل شيئا، فالرؤيا اسم للمحبوب والحلم اسم للمكروه. هذا كلام المازري، وقال غيره: أضاف الرؤيا المحبوبة إلى الله إضافة تشريف بخلاف المكروهة وإن كانتا جميعا من خلق الله تعالى وتدبيره وبإرادته ولا فعل للشيطان فيهما لكنه يحضر المكروهة ويرتضيها ويسر بها». (شرح النووي على مسلم 15/17، ط. دار إحياء التراث العربي).

قال الحافظ ابن حجر: «الرؤيا إدراكات علقها الله تعالى في قلب العبد على يدي ملك أو شيطان إما بأسمائها -أي حقيقتها- وإما بكناها -أي بعبارتها- وإما تخليط، ونظيرها في اليقظة الخواطر؛ فإنها قد تأتي على نسق في قصة وقد تأتي مسترسلة غير محصلة. هذا حاصل قول الأستاذ أبي إسحاق قال وذهب القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أنها اعتقادات واحتج بأن الرائي قد يرى نفسه بهيمة أو طائرا مثلا وليس هذا إدراكا فوجب أن يكون اعتقادا لأن الاعتقاد قد يكون على خلاف المعتقد، قال ابن العربي: والأول أولى، والذي يكون من قبيل ما ذكره ابن الطيب من قبيل المثل فالإدراك إنما يتعلق به لا بأصل الذات. انتهى ملخصا». (فتح الباري لابن حجر 12/352، ط. دار المعرفة).

وتعبير الرؤيا تكلم عنه المفسرون عند الآيات التي تعرضت لهذا الأمر، خاصة سورة يوسف، ويضع المحدثون في كتب السنة أبوابا لتعبير الرؤيا.

وحكم تفسير الرؤيا مشروع لمن يحسنه؛ لأن الله تعالى أوجد الرؤيا ليستفيد منها الناس عن طريق من يعلم تأويلها منهم، كما هو الحال في القرآن والسنة، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، وقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7]. فمن لم يكن من أهل الذكر في هذا الشأن فلا يحل له أن يتكلم فيه، بل هو مقصور على أهل العلم به.

قال ابن عبد البر: «قيل لمالك رحمه الله أيعبر الرؤيا كلُّ أحدٍ؟ فقال: أبالنبوة يُلعب؟ وقال مالك: لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، فإن رأى خيرا أخبر به، وإن رأى مكروها فليقل خيرا أو ليصمت. قيل: فهل يعبرها على الخير وهي عنده على المكروه؛ لقول من قال إنها على ما أُوِّلت عليه؟ فقال: لا. ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة، فلا يتلاعب بالنبوة». (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 1/ 288، ط. وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية – المغرب).

قال أبو الوليد الباجي: «ولا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، وأما من لا يعلم ذلك ولا يحسنها فليترك». (المنتقى شرح الموطأ 7 / 278).
وقد جوَّز النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أن يعبر الرؤيا، وأخبره بأنه أصاب وأخطأ، فعن ابن عباس أنه كان يحدث أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أرى الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها بأيديهم، فالمستكثر والمستقل، وأرى سببا واصلا، من السماء إلى الأرض، فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل من بعدك فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به، ثم وصل له فعلا. قال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت، والله لتدعني فلأعبرنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعبرها»، قال أبو بكر: أما الظلة فظلة الإسلام، وأما الذي ينطف من السمن والعسل فالقرآن حلاوته ولينه، وأما ما يتكفف الناس من ذلك فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه، تأخذ به فيُعليك الله به، ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت، أصبتُ أم أخطأتُ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أصبت بعضا وأخطأت بعضا»، قال: فوالله يا رسول الله لتحدثني ما الذي أخطأتُ؟ قال «لا تقسم». (متفق عليه واللفظ لمسلم).
وقد اعتاد مصنفو السنة على أن يضعوا في تقسيمهم للكتب كتاب التعبير، أي كتاب تعبير الرؤيا.

ولما كان المجتهد يجوز عليه الخطأ كان معبر الرؤيا كذلك، ولذا لم تكن حجة شرعية، وإن كان يستأنس بها في فضائل الأعمال والأشخاص وفيما له أصل في الشرع.

قال الزركشي: «الصحيح أن المنام لا يُثبت حكما شرعيا ولا بينة، وإن كانت رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حقا، والشيطان لا يتمثل به، ولكن النائم ليس من أهل التحمل والرواية لعدم تحفظه، وأما المنام الذي روي في الأذان، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل به، فليس الحجة فيه المنام، بل الحجة فيه أمره بذلك في مدارك العلم». (البحر المحيط في أصول الفقه 8 / 118، ط. دار الكتب العلمية).

وعن أنواع الرؤيا روى أبو هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان آخر الزمان، لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا، والرؤيا ثلاثة: رؤيا بشرى من الله عز وجل، ورؤيا مما يحدث الإنسان نفسه، ورؤيا من تحزين الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فلا يحدث به، وليقم وليصل، والقيد في المنام ثبات في الدين، والغل أكرهه)). (متفق عليه).

قال الإمام البغوي: «وقوله: «الرؤيا ثلاثة» فيه بيان أن ليس كل ما يراه الإنسان في منامه يكون صحيحا، ويجوز تعبيره، إنما الصحيح منها ما كان من الله عز وجل يأتيك به ملك الرؤيا من نسخة أم الكتاب، وما سوى ذلك أضغاث أحلام لا تأويل لها. وهي على أنواع قد يكون من فعل الشيطان يلعب بالإنسان، أو يريه ما يحزنه، وله مكايد يحزن بها بني آدم، كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنه: ﴿إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا [المجادلة: 10]، ومِن لعب الشيطان به الاحتلام الذي يوجب الغسل، فلا يكون له تأويل، وقد يكون ذلك من حديث النفس، كمن يكون في أمر، أو حرفة يرى نفسه في ذلك الأمر، والعاشق يرى معشوقه ونحو ذلك، وقد يكون ذلك من مزاج الطبيعة». (شرح السنة 21/211، ط. المكتب الإسلامي).

وأما عن استمداد علم التعبير فالأصل فيه أنه ملكة كملكة الفقه بالنسبة للفقيه. ولما كان هذا العلم قديما لم يكن القرآن والسنة هما المصدر الوحيد له، وإنما هما من المصادر، ويتبين ذلك من أقسام تأويل الرؤيا كما سيأتي.

واعلم أن تأويل الرؤيا ينقسم أقساما، فقد يكون بدلالة من جهة الكتاب، أو من جهة السنة، أو من الأمثال السائرة بين الناس، وقد يقع التأويل على الأسماء والمعاني، وقد يقع على الضد والقلب.

فالتأويل بدلالة القرآن، كالحبل يعبر بالعهد، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿واعتصموا بحبل الله [آل عمران: 103].
والسفينة تعبر بالنجاة، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿فأنجيناه وأصحاب السفينة [العنكبوت:15].

وأما التأويل بدلالة الحديث كالغراب، يعبر بالرجل الفاسق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه فاسقا، والفأرة يعبر بالمرأة الفاسقة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها فويسقة، والتأويل بالأمثال، كالصائغ يعبر بالكذاب، لقولهم: أكذب الناس الصواغون، وحفر الحفرة يعبر بالمكر، لقولهم: من حفر حفرة وقع فيها، والتأويل بالأسامي، كمن رأى رجلا يسمى راشدا يعبر بالرشد، وإن كان يسمى سالما يعبر بالسلامة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم كأنا في دار عقبة بن رافع، فأتينا برطب من رطب ابن طاب، فأولت الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب)).

وأما التأويل بالضد والقلب، فكما أن الخوف في النوم يعبر بالأمن، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا [النور: 55]، والأمن فيه يعبر بالخوف.

وقد يتغير حكم التأويل بالزيادة والنقصان، كقولهم في البكاء: إنه فرح، فإن كان معه صوت ورنة، فهو مصيبة. وفي الضحك: إنه حزن، فإن كان تبسما فصالح.

وقد يتغير التأويل عن أصله باختلاف حال الرائي كالغل في النوم مكروه، وهو في حق الرجل الصالح قبض اليد عن الشر، وكان ابن سيرين يقول في الرجل يخطب على المنبر يصيب سلطانا، فإن لم يكن من أهله يصلب، وسأل رجل ابن سيرين، قال: رأيت في المنام كأني أؤذن. قال: تحج. وسأله آخر، فأول بقطع يده في السرقة، فقيل له في التأويلين، فقال: رأيت الأول على سيماء حسنة، فأولت قوله سبحانه وتعالى: ﴿وأذن في الناس بالحج [الحج: 27]، ولم أرض هيئة الثاني، فأولت قوله عز وجل: ﴿ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون [يوسف:70]، وقد يرى الرجل في منامه فيصيبه عين ما رأى حقيقة من ولاية، أو حج، أو قدوم غائب، أو خير، أو نكبة، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الفتح، فكان كذلك، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق﴾ [الفتح: 27]. وقد يرى الشيء في المنام للرجل، ويكون التأويل لولده، أو قريبه، أو سميه، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم مبايعة أبي جهل معه، فكان ذلك لابنه عكرمة، فلما أسلم، قال عليه السلام: ((هو هذا))، ورأى لأسيد بن العاص ولاية مكة، فكان لابنه عتاب بن أسيد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة. (ينظر: شرح السنة 12/219ـ 225 ملخصا).

وقال ابن القيم: «قالوا: قد ضرب الله سبحانه الأمثال وصرفها قدرا وشرعا ويقظة ومناما، ودل عباده على الاعتبار بذلك، وعبورهم من الشيء إلى نظيره، واستدلالهم بالنظير على النظير، بل هذا أهل عبارة الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة ونوع من أنواع الوحي؛ فإنها مبنية على القياس والتمثيل، واعتبار المعقول بالمحسوس، ألا ترى أن الثياب في التأويل كالقمص تدل على الدين، فما كان فيها من طول أو قصر أو نظافة أو دنس فهو في الدين كما أول النبي صلى الله عليه وسلم القميص بالدين والعلم، والقدر المشترك بينهما أن كلا منهما يستر صاحبه ويجمله بين الناس؛ فالقميص يستر بدنه والعلم والدين يستر روحه وقلبه ويجمله بين الناس». (إعلام الموقعين عن رب العالمين 1 /146ـ 149، ط. دار الكتب العلمية).

وأخرج مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن زفر بن صعصعة بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاة الغداة يقول: هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟ ويقول: ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة)).
قال الباجي: «قوله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاة الغداة: ((هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟))، يحتمل -والله أعلم- أن يرجو بذلك رؤيا مبشرة له صلى الله عليه وسلم وللمسلمين ويستدعي ذلك من عندهم فيما ربما توقف عنه الوحي فيه ويحتمل أن يريد بذلك تعليمهم العبادة وتنبيههم على فضلها ولذلك كان يقول: ((ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة)) حضًّا لهم على تعليمها والاهتبال بها ليبقى لهم بعده جزء من النبوة يدخل عليهم بها مسرة ويحضهم على مصلحة ويزجرهم بها عن معصيته». (المنتقى شرح الموطأ 7 / 277، ط. مطبعة السعادة).

وأما حكم الكذب في الرؤيا فعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من تحلم بحلم لم يره كُلِّف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل)) (أخرجه البخاري).
وقوله: ((تحلم بحلم)) تكلف الحلم أو ادعى أنه رأى حلما.
و((كُلِّف)) أي يوم القيامة، وذلك التكليف نوع من العذاب.
و((يعقد)) يوصل.
و((لن يفعل)) لن يقدر على ذلك، وهو كناية عن استمرار العذاب عليه.
وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أفْرَى الفِرَى أن يُرِيَ عينيه ما لم تر)) (أخرجه البخاري).
قوله: ((أفْرَى الفِرَى)) أشد الكذب وأكذب الكذبات، والفِرَى جمع الفِريَة وهي الكذبة الفادحة التي يُتعجَّب منها.
و«يُرِي عينيه» يدَّعي أنه رأى رؤيا وهو لم ير شيئا.

وقد عقد البخاري في صحيحه: «باب من كذب في حُلمه»، قال ابن حجر: «قوله: باب من كذب في حُلمه، أي فهو مذموم أو التقدير: بابُ إِثمِ من كذب في حُلمه، والحُلم -بضم المهملة وسكون اللام- ما يراه النائم... والمراد بالتكلف نوع من التعذيب وأما الكذب على المنام فقال الطبري إنما اشتد فيه الوعيد مع أن الكذب في اليقظة قد يكون أشد مفسدة منه إذ قد تكون شهادة في قتل أو حد أو أخذ مال لأن الكذب في المنام كذب على الله أنه أراه ما لم يره، والكذب على الله أشد من الكذب على المخلوقين لقوله تعالى: ﴿ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم..﴾ الآية، وإنما كان الكذب في المنام كذبا على الله لحديث: (الرؤيا جزء من النبوة) وما كان من أجزاء النبوة فهو من قبل الله تعالى. انتهى ملخصا». (فتح الباري لابن حجر 12 / 428).

وبناء على ما سبق ذكره وبيانه فتأويل الرؤى المنامية ملكة، ويستمد من الكتاب والسنة وأمثلة القوم وعاداتهم، ولقد كان في الأمم السابقة، ولا يصح الإقدام على تأويل الرؤيا إلا لمن كان عالما بأصول التأويل. والله تعالى أعلم.
 

التفاصيل ....

الأصل في التعبير أنه من العبور والتجاوز، والمقصود هنا أنه من العبور إلى من يكون من المآل فيها.
قال الفيومي: «عبرت النهر عبرا من باب قتل وعبورا: قطعته إلى الجانب الآخر، والمعبر وِزَان جعفر: شط نهر هُيِّئ للعبور، والمِعبر بكسر الميم ما يُعبَر عليه من سفينة أو قنطرة. وعبرت الرؤيا عبرا أيضا وعبارة: فسرتها، وبالتثقيل مبالغة. وفي التنزيل: ﴿إن كنتم للرؤيا تعبرون [يوسف:43]، وعبرت السبيل بمعنى: مررت، فعابر السبيل: مارُّ الطريق. وقوله تعالى ﴿إلا عابري سبيل [النساء: 43]. قال الأزهري: معناه: إلا مسافرين؛ لأن المسافر قد يعوزه الماء، وقيل: المراد: إلا مارين في المسجد غير مريدين للصلاة». (المصباح المنير 2/389، مادة: ع ب ر، ط. المكتبة العلمية).

وقال القرطبي: «قوله تعالى: ﴿يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي [يوسف: 43] جمع الرؤيا رؤى: أي: أخبروني بحكم هذه الرؤيا ﴿إن كنتم للرؤيا تعبرون [يوسف: 43]، العبارة مشتقة من عبور النهر، فمعنى عبرت النهر: بلغت شاطئه، فعابر الرؤيا يعبر بما يؤول إليه أمرها». (الجامع لأحكام القرآن 9 /200، ط. دار الكتب المصرية).

وعن حقيقة الرؤيا قال الإمام النووي: «مذهب أهل السنة في حقيقة الرؤيا أن الله تعالى يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنه جعلها عَلَمًا على أمور أُخَر يخلقها في ثاني الحال أو كان قد خلقها فإذا خلق في قلب النائم الطيران وليس بطائر فأكثر ما فيه أنه اعتقد أمرا على خلاف ما هو فيكون ذلك الاعتقاد عَلَمًا على غيره كما يكون خلق الله سبحانه وتعالى الغيم عَلَمًا على المطر والجميع خلق الله تعالى ولكن يخلق الرؤيا والاعتقادات التي جعلها عَلَمًا على ما يسر بغير حضرة الشيطان ويخلق ما هو عَلم على ما يضر بحضرة الشيطان فينسب إلى الشيطان مجازا لحضوره عندها وإن كان لا فعل له حقيقة، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((الرؤيا من الله والحلم من الشيطان)) لا على أن الشيطان يفعل شيئا، فالرؤيا اسم للمحبوب والحلم اسم للمكروه. هذا كلام المازري، وقال غيره: أضاف الرؤيا المحبوبة إلى الله إضافة تشريف بخلاف المكروهة وإن كانتا جميعا من خلق الله تعالى وتدبيره وبإرادته ولا فعل للشيطان فيهما لكنه يحضر المكروهة ويرتضيها ويسر بها». (شرح النووي على مسلم 15/17، ط. دار إحياء التراث العربي).

قال الحافظ ابن حجر: «الرؤيا إدراكات علقها الله تعالى في قلب العبد على يدي ملك أو شيطان إما بأسمائها -أي حقيقتها- وإما بكناها -أي بعبارتها- وإما تخليط، ونظيرها في اليقظة الخواطر؛ فإنها قد تأتي على نسق في قصة وقد تأتي مسترسلة غير محصلة. هذا حاصل قول الأستاذ أبي إسحاق قال وذهب القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أنها اعتقادات واحتج بأن الرائي قد يرى نفسه بهيمة أو طائرا مثلا وليس هذا إدراكا فوجب أن يكون اعتقادا لأن الاعتقاد قد يكون على خلاف المعتقد، قال ابن العربي: والأول أولى، والذي يكون من قبيل ما ذكره ابن الطيب من قبيل المثل فالإدراك إنما يتعلق به لا بأصل الذات. انتهى ملخصا». (فتح الباري لابن حجر 12/352، ط. دار المعرفة).

وتعبير الرؤيا تكلم عنه المفسرون عند الآيات التي تعرضت لهذا الأمر، خاصة سورة يوسف، ويضع المحدثون في كتب السنة أبوابا لتعبير الرؤيا.

وحكم تفسير الرؤيا مشروع لمن يحسنه؛ لأن الله تعالى أوجد الرؤيا ليستفيد منها الناس عن طريق من يعلم تأويلها منهم، كما هو الحال في القرآن والسنة، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، وقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7]. فمن لم يكن من أهل الذكر في هذا الشأن فلا يحل له أن يتكلم فيه، بل هو مقصور على أهل العلم به.

قال ابن عبد البر: «قيل لمالك رحمه الله أيعبر الرؤيا كلُّ أحدٍ؟ فقال: أبالنبوة يُلعب؟ وقال مالك: لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، فإن رأى خيرا أخبر به، وإن رأى مكروها فليقل خيرا أو ليصمت. قيل: فهل يعبرها على الخير وهي عنده على المكروه؛ لقول من قال إنها على ما أُوِّلت عليه؟ فقال: لا. ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة، فلا يتلاعب بالنبوة». (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 1/ 288، ط. وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية – المغرب).

قال أبو الوليد الباجي: «ولا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، وأما من لا يعلم ذلك ولا يحسنها فليترك». (المنتقى شرح الموطأ 7 / 278).
وقد جوَّز النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أن يعبر الرؤيا، وأخبره بأنه أصاب وأخطأ، فعن ابن عباس أنه كان يحدث أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أرى الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها بأيديهم، فالمستكثر والمستقل، وأرى سببا واصلا، من السماء إلى الأرض، فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل من بعدك فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به، ثم وصل له فعلا. قال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت، والله لتدعني فلأعبرنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعبرها»، قال أبو بكر: أما الظلة فظلة الإسلام، وأما الذي ينطف من السمن والعسل فالقرآن حلاوته ولينه، وأما ما يتكفف الناس من ذلك فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه، تأخذ به فيُعليك الله به، ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت، أصبتُ أم أخطأتُ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أصبت بعضا وأخطأت بعضا»، قال: فوالله يا رسول الله لتحدثني ما الذي أخطأتُ؟ قال «لا تقسم». (متفق عليه واللفظ لمسلم).
وقد اعتاد مصنفو السنة على أن يضعوا في تقسيمهم للكتب كتاب التعبير، أي كتاب تعبير الرؤيا.

ولما كان المجتهد يجوز عليه الخطأ كان معبر الرؤيا كذلك، ولذا لم تكن حجة شرعية، وإن كان يستأنس بها في فضائل الأعمال والأشخاص وفيما له أصل في الشرع.

قال الزركشي: «الصحيح أن المنام لا يُثبت حكما شرعيا ولا بينة، وإن كانت رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حقا، والشيطان لا يتمثل به، ولكن النائم ليس من أهل التحمل والرواية لعدم تحفظه، وأما المنام الذي روي في الأذان، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل به، فليس الحجة فيه المنام، بل الحجة فيه أمره بذلك في مدارك العلم». (البحر المحيط في أصول الفقه 8 / 118، ط. دار الكتب العلمية).

وعن أنواع الرؤيا روى أبو هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان آخر الزمان، لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا، والرؤيا ثلاثة: رؤيا بشرى من الله عز وجل، ورؤيا مما يحدث الإنسان نفسه، ورؤيا من تحزين الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فلا يحدث به، وليقم وليصل، والقيد في المنام ثبات في الدين، والغل أكرهه)). (متفق عليه).

قال الإمام البغوي: «وقوله: «الرؤيا ثلاثة» فيه بيان أن ليس كل ما يراه الإنسان في منامه يكون صحيحا، ويجوز تعبيره، إنما الصحيح منها ما كان من الله عز وجل يأتيك به ملك الرؤيا من نسخة أم الكتاب، وما سوى ذلك أضغاث أحلام لا تأويل لها. وهي على أنواع قد يكون من فعل الشيطان يلعب بالإنسان، أو يريه ما يحزنه، وله مكايد يحزن بها بني آدم، كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنه: ﴿إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا [المجادلة: 10]، ومِن لعب الشيطان به الاحتلام الذي يوجب الغسل، فلا يكون له تأويل، وقد يكون ذلك من حديث النفس، كمن يكون في أمر، أو حرفة يرى نفسه في ذلك الأمر، والعاشق يرى معشوقه ونحو ذلك، وقد يكون ذلك من مزاج الطبيعة». (شرح السنة 21/211، ط. المكتب الإسلامي).

وأما عن استمداد علم التعبير فالأصل فيه أنه ملكة كملكة الفقه بالنسبة للفقيه. ولما كان هذا العلم قديما لم يكن القرآن والسنة هما المصدر الوحيد له، وإنما هما من المصادر، ويتبين ذلك من أقسام تأويل الرؤيا كما سيأتي.

واعلم أن تأويل الرؤيا ينقسم أقساما، فقد يكون بدلالة من جهة الكتاب، أو من جهة السنة، أو من الأمثال السائرة بين الناس، وقد يقع التأويل على الأسماء والمعاني، وقد يقع على الضد والقلب.

فالتأويل بدلالة القرآن، كالحبل يعبر بالعهد، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿واعتصموا بحبل الله [آل عمران: 103].
والسفينة تعبر بالنجاة، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿فأنجيناه وأصحاب السفينة [العنكبوت:15].

وأما التأويل بدلالة الحديث كالغراب، يعبر بالرجل الفاسق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه فاسقا، والفأرة يعبر بالمرأة الفاسقة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها فويسقة، والتأويل بالأمثال، كالصائغ يعبر بالكذاب، لقولهم: أكذب الناس الصواغون، وحفر الحفرة يعبر بالمكر، لقولهم: من حفر حفرة وقع فيها، والتأويل بالأسامي، كمن رأى رجلا يسمى راشدا يعبر بالرشد، وإن كان يسمى سالما يعبر بالسلامة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم كأنا في دار عقبة بن رافع، فأتينا برطب من رطب ابن طاب، فأولت الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب)).

وأما التأويل بالضد والقلب، فكما أن الخوف في النوم يعبر بالأمن، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا [النور: 55]، والأمن فيه يعبر بالخوف.

وقد يتغير حكم التأويل بالزيادة والنقصان، كقولهم في البكاء: إنه فرح، فإن كان معه صوت ورنة، فهو مصيبة. وفي الضحك: إنه حزن، فإن كان تبسما فصالح.

وقد يتغير التأويل عن أصله باختلاف حال الرائي كالغل في النوم مكروه، وهو في حق الرجل الصالح قبض اليد عن الشر، وكان ابن سيرين يقول في الرجل يخطب على المنبر يصيب سلطانا، فإن لم يكن من أهله يصلب، وسأل رجل ابن سيرين، قال: رأيت في المنام كأني أؤذن. قال: تحج. وسأله آخر، فأول بقطع يده في السرقة، فقيل له في التأويلين، فقال: رأيت الأول على سيماء حسنة، فأولت قوله سبحانه وتعالى: ﴿وأذن في الناس بالحج [الحج: 27]، ولم أرض هيئة الثاني، فأولت قوله عز وجل: ﴿ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون [يوسف:70]، وقد يرى الرجل في منامه فيصيبه عين ما رأى حقيقة من ولاية، أو حج، أو قدوم غائب، أو خير، أو نكبة، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الفتح، فكان كذلك، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق﴾ [الفتح: 27]. وقد يرى الشيء في المنام للرجل، ويكون التأويل لولده، أو قريبه، أو سميه، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم مبايعة أبي جهل معه، فكان ذلك لابنه عكرمة، فلما أسلم، قال عليه السلام: ((هو هذا))، ورأى لأسيد بن العاص ولاية مكة، فكان لابنه عتاب بن أسيد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة. (ينظر: شرح السنة 12/219ـ 225 ملخصا).

وقال ابن القيم: «قالوا: قد ضرب الله سبحانه الأمثال وصرفها قدرا وشرعا ويقظة ومناما، ودل عباده على الاعتبار بذلك، وعبورهم من الشيء إلى نظيره، واستدلالهم بالنظير على النظير، بل هذا أهل عبارة الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة ونوع من أنواع الوحي؛ فإنها مبنية على القياس والتمثيل، واعتبار المعقول بالمحسوس، ألا ترى أن الثياب في التأويل كالقمص تدل على الدين، فما كان فيها من طول أو قصر أو نظافة أو دنس فهو في الدين كما أول النبي صلى الله عليه وسلم القميص بالدين والعلم، والقدر المشترك بينهما أن كلا منهما يستر صاحبه ويجمله بين الناس؛ فالقميص يستر بدنه والعلم والدين يستر روحه وقلبه ويجمله بين الناس». (إعلام الموقعين عن رب العالمين 1 /146ـ 149، ط. دار الكتب العلمية).

وأخرج مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن زفر بن صعصعة بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاة الغداة يقول: هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟ ويقول: ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة)).
قال الباجي: «قوله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاة الغداة: ((هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟))، يحتمل -والله أعلم- أن يرجو بذلك رؤيا مبشرة له صلى الله عليه وسلم وللمسلمين ويستدعي ذلك من عندهم فيما ربما توقف عنه الوحي فيه ويحتمل أن يريد بذلك تعليمهم العبادة وتنبيههم على فضلها ولذلك كان يقول: ((ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة)) حضًّا لهم على تعليمها والاهتبال بها ليبقى لهم بعده جزء من النبوة يدخل عليهم بها مسرة ويحضهم على مصلحة ويزجرهم بها عن معصيته». (المنتقى شرح الموطأ 7 / 277، ط. مطبعة السعادة).

وأما حكم الكذب في الرؤيا فعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من تحلم بحلم لم يره كُلِّف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل)) (أخرجه البخاري).
وقوله: ((تحلم بحلم)) تكلف الحلم أو ادعى أنه رأى حلما.
و((كُلِّف)) أي يوم القيامة، وذلك التكليف نوع من العذاب.
و((يعقد)) يوصل.
و((لن يفعل)) لن يقدر على ذلك، وهو كناية عن استمرار العذاب عليه.
وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أفْرَى الفِرَى أن يُرِيَ عينيه ما لم تر)) (أخرجه البخاري).
قوله: ((أفْرَى الفِرَى)) أشد الكذب وأكذب الكذبات، والفِرَى جمع الفِريَة وهي الكذبة الفادحة التي يُتعجَّب منها.
و«يُرِي عينيه» يدَّعي أنه رأى رؤيا وهو لم ير شيئا.

وقد عقد البخاري في صحيحه: «باب من كذب في حُلمه»، قال ابن حجر: «قوله: باب من كذب في حُلمه، أي فهو مذموم أو التقدير: بابُ إِثمِ من كذب في حُلمه، والحُلم -بضم المهملة وسكون اللام- ما يراه النائم... والمراد بالتكلف نوع من التعذيب وأما الكذب على المنام فقال الطبري إنما اشتد فيه الوعيد مع أن الكذب في اليقظة قد يكون أشد مفسدة منه إذ قد تكون شهادة في قتل أو حد أو أخذ مال لأن الكذب في المنام كذب على الله أنه أراه ما لم يره، والكذب على الله أشد من الكذب على المخلوقين لقوله تعالى: ﴿ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم..﴾ الآية، وإنما كان الكذب في المنام كذبا على الله لحديث: (الرؤيا جزء من النبوة) وما كان من أجزاء النبوة فهو من قبل الله تعالى. انتهى ملخصا». (فتح الباري لابن حجر 12 / 428).

وبناء على ما سبق ذكره وبيانه فتأويل الرؤى المنامية ملكة، ويستمد من الكتاب والسنة وأمثلة القوم وعاداتهم، ولقد كان في الأمم السابقة، ولا يصح الإقدام على تأويل الرؤيا إلا لمن كان عالما بأصول التأويل. والله تعالى أعلم.
 

اقرأ أيضا
;