التعامل مع من أكثر ماله حرام

لدي متجر لبيع السلع الغذائية والأدوات المنزلية، ويسكن في نفس المنطقة شخص مشهور بالسمعة السيئة وباكتساب المال بطرق غير مشروعة، وله سوابق جنائية؛ كالسرقة والنصب وتجارة المخدرات، وإلى جانب هذا فإنه يتكسب أيضًا من مهنة مشروعة، ولكن عائدها قليل فيما يظهر، فهل يجوز أن أبيع له ما يريد شراءه من متجري، في حين أنني لا أعلم إذا كان المال الذي يدفعه لي قد اكتسبه من حلال أم من حرام؟

اكتساب المال بالطرق غير المشروعة يعتبر أكلًا لأموال الناس بالباطل، وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29]، ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188]، وحقيقة الأمر أن جميع الأموال التي يضع الإنسان يده عليها هي ملك لله تعالى وإنما تضاف لملكية الإنسان على سبيل المجاز وما هو إلا عبد من عباد الله قد استخلفه المالك الحق سبحانه في إدارة تلك الأموال على جهة الابتلاء والاختبار؛ قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 14]، وقال سبحانه: ﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ [النور: 33]، وقال تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: 7].

يقول الإمام القرطبي في "تفسيره" (17/ 238، ط. دار الكتب المصرية): [﴿مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له فيه إلا التصرف الذي يرضي الله] اهـ.

ويقول العلامة العبدري المالكي في "المدخل" (1/ 132، ط. دار التراث): [وإن كان للإنسان أن يتصرف في ماله لكن تصرفًا غير تام محجورًا عليه فيه؛ لأنه لا يملك الملك التام؛ لأنه أبيح له أن يصرفه في مواضع ومنع أن يصرفه في مواضع، فالمال في الحقيقة ليس هو ماله وإنما هو في يده على سبيل العارية على أن يصرفه في كذا ولا يصرفه في كذا، وهذا بيِّن منصوص عليه في القرآن والحديث] اهـ.

وبناء على هذا: فإن تصرف الإنسان في المال بأي صورة كانت هو في الحقيقة تصرف في غير ملكه، والتصرف في ملك الغير يتوقف على إذن صاحبه، وقد أذن الله تعالى للإنسان في اكتساب المال، والانتفاع به وإنفاقه بطرق مشروعة ومحددة، فما اكتسبه بغيرها لم يملكه ولم يكن له حق التصرف فيه ولو في وجوه البر، فلو تصدق بمال غصبه ظلمًا مع إمكان رده أثم على الغصب، وعلى تصرفه في المال ولم يكتب له ثواب الصدقة.

قال الإمام القرطبي المحدِّث في كتاب "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (3/ 59، ط. دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب): [وإنما لا يقبل الله الصدقة من المال الحرام؛ لأنه غير مملوك من المتصدق، وهو ممنوع من التصرف فيه، فلو قبلت منه لزم أن يكون مأمورًا به منهيًا عنه من وجه واحد وهو محال] اهـ.

وإذا كان ما في يد الإنسان من المال لم يكتسبه إلا بطرق غير مشروعة لم يكن ملكًا له، ولا يجوز لمن علم بحاله هذا أن يعامله ويقبض من عين هذا المال إلا ليرده على مالكه الأصلي إذا كان معروفًا أو يتصدق به عنه، وإلا فهو تعاون على الإثم والعدوان وأكل لأموال الناس بالباطل، يقول العلامة ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (1/ 210، ط. دار السلام): [ومتى علم أن عين الشيء حرام، أُخِذَ بوجه محرم، فإنَّه يحرم تناوله، وقد حكى الإجماع على ذلك ابن عبد البر وغيره] اهـ.

ويقول العلامة الدسوقي من المالكية في "حاشيته على الشرح الكبير" (3/ 277، ط. دار إحياء الكتب العربية): [وأما من كان كل ماله حرام وهو المراد بمستغرق الذمة؛ فهذا تمنع معاملته ومداينته ويمنع من التصرف المالي وغيره] اهـ.

ويقول الإمام النووي في "روضة الطالبين" (7/ 337، ط. المكتب الإسلامي): [دعاه مَن أكثر ماله حرام، كرهت إجابته كما تكره معاملته. فإن علم أن عين الطعام حرام، حرمت إجابته] اهـ.

ويقول العلامة ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (4/ 180، ط. دار إحياء التراث العربي): [وإذا اشترى ممن في ماله حرام وحلال؛ كالسلطان الظالم، والمرابي، فإن علم أن المبيع من حلال ماله، فهو حلال، وإن علم أنه حرام، فهو حرام] اهـ.

أما إذا كان قد اكتسب بعض المال بطرق مشروعة وبعضه بطرق غير مشروعة فإنه إذا أمكن تمييز حلال هذا المال عن حرامه؛ جاز التعامل بحلاله، وحرم التعامل بحرامه؛ لأن هذا هو الأصل في تداول الأموال.

أما إذا اختلط حلال المال بحرامه ولم يمكن التمييز بينهما، فلا يخلو الحال من أن يكون مقدار المال الحرام هو الأكثر الغالب، أو هو الأقل، أو يكون قد تساوى حلال المال وحرامه، أو تكون النسبة بينهما مجهولة؛ فما لم يكن مقدار الحرام هو الأكثر الغالب جاز التعامل؛ لأن الظاهر امتلاك الإنسان ما في يده، ولا يُعدل عن الظاهر إلا بعلم أو ظن غالب، ولا يحصل شيء من هذا إلا بتمييز المال الحرام أو بكونه غالبًا على الحلال، أما مجرد الشك أو التكهن فإنه لا يقوى على رفع الظاهر الراجح، كما أن مجاراة الشكوك في مثل هذا الأمر توقع الناس في المشقة والحرج وتعم بها بلواهم فلا بأس حينئذ من المعاملة؛ لأن القاعدة أن "ما عمت بليته خفت قضيته"، و"ما ضاق على الناس أمره اتسع حكمه". ينظر: "الأشباه والنظائر" للعلامة ابن نجيم (ص: 84، ط. دار الكتب العلمية)، و"فتح القدير" للعلامة ابن الهمام (9/ 310، ط. دار الكتب العلمية).

أما إذا كان الحرام هو الغالب، فالأصل حينئذ أن المعاملة تجوز مع الكراهة، لكن إذا ترتب على ترك المعاملة في هذه الحالة وقوع أحد الطرفين في الحرج أو حالة الضرورة، أو عمت بلوى الناس بذلك، جاز التعامل بلا كراهة؛ لأن وقوع التعامل بالمال الحرام يكون حينئذ محلّ ظن، بينما وقوع الحرج أو البلوى يكون محلّ قطع، والقطع مقدم على الظن، كما أنه قد تقرر في قواعد الفقه الإسلامي أنه "إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما" -"الأشباه والنظائر" للامام السيوطي (ص: 87، ط. دار الكتب العلمية)-، ومفسدة أخذ مال غير مقطوع بحرمانيته أخف من مفسدة وقوع الحرج أو الضرر أو عموم البلوى، ففي مثل هذه الأحوال يترجح القول بالجواز مطلقًا بلا كراهة.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الكرام يتعاملون بمختلف المعاملات وعقود التجارة مع اليهود والمشركين وهم لا تكاد تخلو أيديهم من المال الحرام، كأموال الربا وثمن الخمر والفسق والأصنام وغير ذلك من المنكرات، ومع هذا جاز معاملتهم؛ لعموم البلوى واختلاط حرام أموالهم بحلالها، وعدم تميز المال الحرام بسمة ظاهرة، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان من عادته أن يسأل من يعاملهم من غير المسلمين أو يستفصلهم عن الطريقة التي اكتسبوا بها أموالهم، ولا ورد ذلك عن الصحابة الكرام، ولا أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، مع القطع باكتساب غير المسلمين للكثير من الأموال بطرق محرمة شرعًا، وهذا مع قيام الاحتمال الكبير في انتقال تلك الأموال إلى أيدي المسلمين بمختلف التعاملات، والقاعدة الفقهية التي قررها الإمام الشافعي رضي الله عنه ووافقه فيها جمهور العلماء هي أن: "ترك الاستفصال في وقائع الأحوال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم من المقال". ينظر: "البحر المحيط" للعلامة الزركشي (4/ 201-203، ط. دار الكتبي)، و"شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع" (2/ 24، ط. دار الكتب العلمية)، وبحث "قاعدة ترك الاستفصال دراسة أصولية تطبيقية" (ص: 113) للدكتور عبد الرحمن القرني، مجلة "جامعة أم القرى" (جـ17، ع32، ذو الحجة 1425هـ).

فتعامل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته مع غير المسلمين دون استفصال عن جهة اكتساب المال، ينزل بمنزلة عموم الإذن في معاملتهم سواء كانت أموالهم حلالًا صرفًا أو كانت مختلطة لا يتميز حرامها من حلالها -وإن غلب الظن بأن أكثرها مكتسب من الحرام- ما دام التداول يتم بينهم وبين المسلمين بصورة من صور العقود المشروعة، أما عند تيقن أن ما في أيديهم من المال حرام صرف فهذا منهي عنه يحرم معاملتهم به أو تداوله كسائر المحرمات المنهي عن تداولها أو تداول أثمانها.

فقد روى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَمَهْرِ البَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الكَاهِنِ". وفي لفظ أبي داود: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَحِلُّ ثَمَنُ الْكَلْبِ، وَلَا حُلْوَانُ الْكَاهِنِ، وَلَا مَهْرُ الْبَغِيِّ».

وروى أبو داود في "سننه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ اللهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَثَمَنَهُ»، وروى أبو داود من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: «إِنَّ اللهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ».

والتعامل بالمال المختلط فيه الحلال والحرام دون أن يتبين أحدهما عن الآخر يعتبر من الشبهات التي يستحب اجتنابها استبراء للدين والعرض، ويكره الإقدام عليها من غير حاجة ملحة تدعو إليها، اتقاء للشبهات ومخافة للوقوع في الحرام؛ لما رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».

هذا ومذهب جمهور العلماء: هو أن معاملة مَن أكثر ماله حرام لا تحرم، وإنما تكره خوفًا من الوقوع في الحرام.

يقول العلامة الحموي من الحنفية في "غمز عيون البصائر" (1/ 192، ط. دار الكتب العلمية): [معاملة من أكثر ماله حرام ولم يتحقق المأخوذ من ماله عين الحرام فلا تحرم مبايعته؛ لإمكان الحلال وعدم التحريم، ولكن يكره خوفًا من الوقوع في الحرام، كذا في "فتح القدير"] اهـ.

ويقول العلامة الدسوقي المالكي في "حاشيته على الشرح الكبير" (3/ 277، ط. دار إحياء الكتب العربية): [اعلم أن من أكثر ماله حلال وأقله حرام المعتمد جواز معاملته ومداينته والأكل من ماله، كما قال ابن القاسم خلافًا لأصبغ القائل بحرمة ذلك، وأما من أكثر ماله حرام والقليل منه حلال، فمذهب ابن القاسم كراهة معاملته، ومداينته والأكل من ماله وهو المعتمد، خلافًا لأصبغ المحرم لذلك] اهـ.

ويقول الإمام النووي من الشافعية في "روضة الطالبين" (7/ 337): [دعاه من أكثر ماله حرام، كرهت إجابته كما تكره معاملته] اهـ.

ويقول الامام السيوطي الشافعي في "الأشباه والنظائر" (ص: 107): [معاملة من أكثر ماله حرام إذا لم يعرف عينه لا يحرم في الأصح، لكن يكره، وكذا الأخذ من عطايا السلطان إذا غلب الحرام في يده كما قال في "شرح المهذب": إن المشهور فيه الكراهة لا التحريم] اهـ.

ويقول العلامة ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (4/ 180): [إذا اشترى ممن في ماله حرام وحلال؛ كالسلطان الظالم والمرابي، فإن علم أن المبيع من حلال ماله فهو حلال، وإن علم أنه حرام فهو حرام...؛ لأن الظاهر أن ما في يد الإنسان ملكه، فإن لم يعلم من أيهما هو كرهناه؛ لاحتمال التحريم فيه، ولم يبطل البيع؛ لإمكان الحلال، قل الحرام أو كثر، وهذا هو الشبهة، وبقدر قلة الحرام وكثرته تكون كثرة الشبهة وقلتها] اهـ.

ويؤكد العلامة الرحيباني الحنبلي أن المعتمد في مذهب الحنابلة هو الكراهة سواء قل الحرام أو كثر؛ فيقول في "مطالب أولي النهى" (5/ 233، ط. المكتب الإسلامي): [(وتكره إجابة من في ماله) حلال و(حرام)؛ ككراهة (أكله منه ومعاملته وقبول هديته و) قبول (هبته و) قبول (صدقته) قلّ الحرام أو كثر، جزم به في "المغني" و"الشرح"، وقاله ابن عقيل في "الفصول"، وغيره، وهو المذهب، ويؤيده حديث: «وَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» (وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلته)] اهـ.

وفي المسألة مذاهب أخرى تخالف ما عليه الجمهور، فقد رخص طائفة من السلف؛ كالحسن ومكحول والزهري والفضيل بن عياض في مبايعة من يخالط ماله حرام، وقبول هديته، ومؤاكلته ما لم يعلم أنه من الحرام بعينه.

وورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّه سُئِل عمَّن له جار يأكل الرِّبا علانية، ولا يتحرَّج من مالٍ خبيثٍ يأخذه يدعوه إلى طعامه، فقال: "أجيبوهُ، فإنَّما المَهْنأُ لكم والوِزْر عليه".

وروي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه وسعيد بن جبير وإسحاق بن راهويه ومورق العجلي وإبراهيم النخعي وغيرهم مثل ذلك، وفي رواية عن ابن مسعود أن السائل قال له: لا أعلم له شيئًا إلا خبيثًا أو حرامًا، فقال: "أجيبوه".

وقد صحح الإمام أحمد هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولكنه عارضه بما روي عنه أنه قال: الإثم حواز القلوب.

وروي عن ابن سيرين في الرجل يُقضى من الربا، قال: لا بأس به، وعن الرجل يُقضى من القمار، قال: لا بأس به.

ورُوي عن الحسن خلاف هذا، وأنَّه قال: إنَّ هذه المكاسب قد فسدت، فخذوا منها شبه المضطر، وكان ممن لا يقبل ذلك ابن المسيب والقاسم بن محمد وبشر بن سعيد والثوري ومحمد بن واسع وابن المبارك وأحمد بن حنبل في رواية عنه رضي الله عنهم أجمعين. انظر: "المجموع" (9/ 432، ط. المنيرية)، و"جامع العلوم والحكم" للعلامة ابن رجب الحنبلي (1/ 208-210، ط. دار السلام).

وقد ذهب إلى القول بحرمة المعاملات المالية مع من أكثر ماله حرام طائفة أخرى من العلماء كما ذهب إلى ذلك الإمام الغزالي من الشافعية وكذا العز بن عبد السلام إذا كثر الحرام بحيث ندر وقوع الحلال.

وقال بالتحريم أيضًا أصبغ من المالكية.

واختلف الحنابلة: فذهب جمع منهم، كالشيرازي والأزجي إلى تحريم المعاملة مطلقًا ولو قل الحرام. واختار آخرون منهم الخرقي وابن الجوزي: حرمة التعامل إذا كان الحرام أكثر. واختار جمع منهم صاحب "الرعاية": أنه إن زاد الحرام على الثلث حرم التعامل وإلا فلا، والمعتمد في المذهب هو القول بالكراهة مطلقًا كما تقدم. انظر: "مطالب أولي النهى" (5/ 233)، و"الإنصاف" للعلامة المرداوي (8/ 322-323، ط. دار إحياء التراث العربي).

وقد سئل العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي: عن معاملة اليهود والنصارى وهم لا يخفى ما هم عليه، من بيع الخمور، وتعاطي الربا وغير ذلك، فهل تحل معاملتهم وقبول هداياهم وتحرم معاملة من أكثر ماله حرام أم لا؟ فأجاب رحمه الله بقوله في "الفتاوى الفقهية الكبرى" (2/ 233، ط. المكتبة الإسلامية): [حيث لم يتحقق حرامًا معينًا جازت معاملتهم وقبول هديتهم؛ فإنه صلى الله عليه وآله وسلم قبل هداياهم، أما إذا تحقق كأن رأى ذميًا يبيع خمرًا وقبض ثمنه وأعطاه للمسلم عن دين أو غيره؛ فإنه لا يحل للمسلم قبوله كما قاله الشيخان، ونقل الزركشي وابن العماد عن النص ما يوافقه ووجهه أن الاعتبار بعقيدتنا وإن كنا نقرهم على ذلك، وكذا يقال في الأكل من أموال الظلمة، ومن أكثر أمواله حرام؛ فيكره ما لم يعلم عين الحرام أو ما اختلط به ويمكن معرفة صاحبه كما في "المجموع"، فإن لم يمكن معرفته صار من أموال بيت المال، وحديث البيهقي وغيره: «مَنْ لَمْ يَسْأَلْ مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ وَلَا مِنْ أَيْنَ مَشْرَبُهُ لَمْ يُبَالِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ أَدْخَلَهُ» ظاهر فيمن يقدم على تناول ما حل بيده وإن علم أنه من حرام، فأما من لم يعلم فلا يصدق عليه ذلك وإن اقتضى الورع تركه.

وقول الإمام الغزالي في غير "البسيط" تحرم معاملة من أكثر ماله حرام بالغ في "المجموع" في رده وقال: ليس من مذهبنا وإنما حكاه أصحابنا عن الأبهري المالكي ولو علم أن أكثر ما في يد السوقة حرام لم يجب السؤال خلافًا للغزالي، ووافقه ابن عبد السلام فيما لو اعترف أن بيده ألف دينار حرام فيها واحد حلال، كما لو اختلطت حمامة برية بألف حمامة بلدية، وفرق بأن هنا أصلًا يعتمد عليه وهو اليد المقتضية للحل بخلافه في مسألة الحمامة، ومن ثم لم يخرجوه على القولين في النجاسة والطهارة؛ لأن الأصل هنا الحل وترجح باليد وليس هناك مثل هذا المرجح فثار الخلاف وفارق أيضًا ما لو اختلطت مذكيات محصورة بميتات محصورة بأن الميتة حرام لذاتها، ولا قرينة تدل عليها بخلاف الحلال بيد من أكثر ماله حرام] اهـ.

والذي نرجحه: هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء واعتمده علماء المذاهب الأربعة من القول بكراهة المعاملة إلا لحاجة أو ضرورة؛ لما قدمناه من الأدلة والقواعد ونقول العلماء، ولأن القول بالتحريم فيه حرج ومشقة على المكلفين كما أن فيه فتحًا لباب الوسوسة والخصومة وتبادل التهم بين الناس.

أما القول بالجواز مطلقًا فتعارضه النصوص التي تحث على اجتناب الشبهات، واستبراء المسلم لدينه وعرضه، كما أن الخروج من خلاف العلماء في مثل هذه الأمور مستحب.

وبناء على ما سبق وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز للسائل مع الكراهة أن يتعامل ماليًّا مع جاره الذي يشتبه في أن ماله مختلط فيه الحلال والحرام، ولو كان غالب ظن السائل أن الحرام هو الأكثر فيستحب له اجتناب التعامل معه وليدعه يتعامل مع من لا يرتاب في أمره، وهذا ما لم يكن الأمر يستدعي التعامل لضرورة أو حاجة ملحة، فإنه حينئذ يجوز بلا كراهة.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

اكتساب المال بالطرق غير المشروعة يعتبر أكلًا لأموال الناس بالباطل، وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29]، ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188]، وحقيقة الأمر أن جميع الأموال التي يضع الإنسان يده عليها هي ملك لله تعالى وإنما تضاف لملكية الإنسان على سبيل المجاز وما هو إلا عبد من عباد الله قد استخلفه المالك الحق سبحانه في إدارة تلك الأموال على جهة الابتلاء والاختبار؛ قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 14]، وقال سبحانه: ﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ [النور: 33]، وقال تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: 7].

يقول الإمام القرطبي في "تفسيره" (17/ 238، ط. دار الكتب المصرية): [﴿مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له فيه إلا التصرف الذي يرضي الله] اهـ.

ويقول العلامة العبدري المالكي في "المدخل" (1/ 132، ط. دار التراث): [وإن كان للإنسان أن يتصرف في ماله لكن تصرفًا غير تام محجورًا عليه فيه؛ لأنه لا يملك الملك التام؛ لأنه أبيح له أن يصرفه في مواضع ومنع أن يصرفه في مواضع، فالمال في الحقيقة ليس هو ماله وإنما هو في يده على سبيل العارية على أن يصرفه في كذا ولا يصرفه في كذا، وهذا بيِّن منصوص عليه في القرآن والحديث] اهـ.

وبناء على هذا: فإن تصرف الإنسان في المال بأي صورة كانت هو في الحقيقة تصرف في غير ملكه، والتصرف في ملك الغير يتوقف على إذن صاحبه، وقد أذن الله تعالى للإنسان في اكتساب المال، والانتفاع به وإنفاقه بطرق مشروعة ومحددة، فما اكتسبه بغيرها لم يملكه ولم يكن له حق التصرف فيه ولو في وجوه البر، فلو تصدق بمال غصبه ظلمًا مع إمكان رده أثم على الغصب، وعلى تصرفه في المال ولم يكتب له ثواب الصدقة.

قال الإمام القرطبي المحدِّث في كتاب "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (3/ 59، ط. دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب): [وإنما لا يقبل الله الصدقة من المال الحرام؛ لأنه غير مملوك من المتصدق، وهو ممنوع من التصرف فيه، فلو قبلت منه لزم أن يكون مأمورًا به منهيًا عنه من وجه واحد وهو محال] اهـ.

وإذا كان ما في يد الإنسان من المال لم يكتسبه إلا بطرق غير مشروعة لم يكن ملكًا له، ولا يجوز لمن علم بحاله هذا أن يعامله ويقبض من عين هذا المال إلا ليرده على مالكه الأصلي إذا كان معروفًا أو يتصدق به عنه، وإلا فهو تعاون على الإثم والعدوان وأكل لأموال الناس بالباطل، يقول العلامة ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (1/ 210، ط. دار السلام): [ومتى علم أن عين الشيء حرام، أُخِذَ بوجه محرم، فإنَّه يحرم تناوله، وقد حكى الإجماع على ذلك ابن عبد البر وغيره] اهـ.

ويقول العلامة الدسوقي من المالكية في "حاشيته على الشرح الكبير" (3/ 277، ط. دار إحياء الكتب العربية): [وأما من كان كل ماله حرام وهو المراد بمستغرق الذمة؛ فهذا تمنع معاملته ومداينته ويمنع من التصرف المالي وغيره] اهـ.

ويقول الإمام النووي في "روضة الطالبين" (7/ 337، ط. المكتب الإسلامي): [دعاه مَن أكثر ماله حرام، كرهت إجابته كما تكره معاملته. فإن علم أن عين الطعام حرام، حرمت إجابته] اهـ.

ويقول العلامة ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (4/ 180، ط. دار إحياء التراث العربي): [وإذا اشترى ممن في ماله حرام وحلال؛ كالسلطان الظالم، والمرابي، فإن علم أن المبيع من حلال ماله، فهو حلال، وإن علم أنه حرام، فهو حرام] اهـ.

أما إذا كان قد اكتسب بعض المال بطرق مشروعة وبعضه بطرق غير مشروعة فإنه إذا أمكن تمييز حلال هذا المال عن حرامه؛ جاز التعامل بحلاله، وحرم التعامل بحرامه؛ لأن هذا هو الأصل في تداول الأموال.

أما إذا اختلط حلال المال بحرامه ولم يمكن التمييز بينهما، فلا يخلو الحال من أن يكون مقدار المال الحرام هو الأكثر الغالب، أو هو الأقل، أو يكون قد تساوى حلال المال وحرامه، أو تكون النسبة بينهما مجهولة؛ فما لم يكن مقدار الحرام هو الأكثر الغالب جاز التعامل؛ لأن الظاهر امتلاك الإنسان ما في يده، ولا يُعدل عن الظاهر إلا بعلم أو ظن غالب، ولا يحصل شيء من هذا إلا بتمييز المال الحرام أو بكونه غالبًا على الحلال، أما مجرد الشك أو التكهن فإنه لا يقوى على رفع الظاهر الراجح، كما أن مجاراة الشكوك في مثل هذا الأمر توقع الناس في المشقة والحرج وتعم بها بلواهم فلا بأس حينئذ من المعاملة؛ لأن القاعدة أن "ما عمت بليته خفت قضيته"، و"ما ضاق على الناس أمره اتسع حكمه". ينظر: "الأشباه والنظائر" للعلامة ابن نجيم (ص: 84، ط. دار الكتب العلمية)، و"فتح القدير" للعلامة ابن الهمام (9/ 310، ط. دار الكتب العلمية).

أما إذا كان الحرام هو الغالب، فالأصل حينئذ أن المعاملة تجوز مع الكراهة، لكن إذا ترتب على ترك المعاملة في هذه الحالة وقوع أحد الطرفين في الحرج أو حالة الضرورة، أو عمت بلوى الناس بذلك، جاز التعامل بلا كراهة؛ لأن وقوع التعامل بالمال الحرام يكون حينئذ محلّ ظن، بينما وقوع الحرج أو البلوى يكون محلّ قطع، والقطع مقدم على الظن، كما أنه قد تقرر في قواعد الفقه الإسلامي أنه "إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما" -"الأشباه والنظائر" للامام السيوطي (ص: 87، ط. دار الكتب العلمية)-، ومفسدة أخذ مال غير مقطوع بحرمانيته أخف من مفسدة وقوع الحرج أو الضرر أو عموم البلوى، ففي مثل هذه الأحوال يترجح القول بالجواز مطلقًا بلا كراهة.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الكرام يتعاملون بمختلف المعاملات وعقود التجارة مع اليهود والمشركين وهم لا تكاد تخلو أيديهم من المال الحرام، كأموال الربا وثمن الخمر والفسق والأصنام وغير ذلك من المنكرات، ومع هذا جاز معاملتهم؛ لعموم البلوى واختلاط حرام أموالهم بحلالها، وعدم تميز المال الحرام بسمة ظاهرة، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان من عادته أن يسأل من يعاملهم من غير المسلمين أو يستفصلهم عن الطريقة التي اكتسبوا بها أموالهم، ولا ورد ذلك عن الصحابة الكرام، ولا أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، مع القطع باكتساب غير المسلمين للكثير من الأموال بطرق محرمة شرعًا، وهذا مع قيام الاحتمال الكبير في انتقال تلك الأموال إلى أيدي المسلمين بمختلف التعاملات، والقاعدة الفقهية التي قررها الإمام الشافعي رضي الله عنه ووافقه فيها جمهور العلماء هي أن: "ترك الاستفصال في وقائع الأحوال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم من المقال". ينظر: "البحر المحيط" للعلامة الزركشي (4/ 201-203، ط. دار الكتبي)، و"شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع" (2/ 24، ط. دار الكتب العلمية)، وبحث "قاعدة ترك الاستفصال دراسة أصولية تطبيقية" (ص: 113) للدكتور عبد الرحمن القرني، مجلة "جامعة أم القرى" (جـ17، ع32، ذو الحجة 1425هـ).

فتعامل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته مع غير المسلمين دون استفصال عن جهة اكتساب المال، ينزل بمنزلة عموم الإذن في معاملتهم سواء كانت أموالهم حلالًا صرفًا أو كانت مختلطة لا يتميز حرامها من حلالها -وإن غلب الظن بأن أكثرها مكتسب من الحرام- ما دام التداول يتم بينهم وبين المسلمين بصورة من صور العقود المشروعة، أما عند تيقن أن ما في أيديهم من المال حرام صرف فهذا منهي عنه يحرم معاملتهم به أو تداوله كسائر المحرمات المنهي عن تداولها أو تداول أثمانها.

فقد روى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَمَهْرِ البَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الكَاهِنِ". وفي لفظ أبي داود: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَحِلُّ ثَمَنُ الْكَلْبِ، وَلَا حُلْوَانُ الْكَاهِنِ، وَلَا مَهْرُ الْبَغِيِّ».

وروى أبو داود في "سننه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ اللهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَثَمَنَهُ»، وروى أبو داود من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: «إِنَّ اللهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ».

والتعامل بالمال المختلط فيه الحلال والحرام دون أن يتبين أحدهما عن الآخر يعتبر من الشبهات التي يستحب اجتنابها استبراء للدين والعرض، ويكره الإقدام عليها من غير حاجة ملحة تدعو إليها، اتقاء للشبهات ومخافة للوقوع في الحرام؛ لما رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».

هذا ومذهب جمهور العلماء: هو أن معاملة مَن أكثر ماله حرام لا تحرم، وإنما تكره خوفًا من الوقوع في الحرام.

يقول العلامة الحموي من الحنفية في "غمز عيون البصائر" (1/ 192، ط. دار الكتب العلمية): [معاملة من أكثر ماله حرام ولم يتحقق المأخوذ من ماله عين الحرام فلا تحرم مبايعته؛ لإمكان الحلال وعدم التحريم، ولكن يكره خوفًا من الوقوع في الحرام، كذا في "فتح القدير"] اهـ.

ويقول العلامة الدسوقي المالكي في "حاشيته على الشرح الكبير" (3/ 277، ط. دار إحياء الكتب العربية): [اعلم أن من أكثر ماله حلال وأقله حرام المعتمد جواز معاملته ومداينته والأكل من ماله، كما قال ابن القاسم خلافًا لأصبغ القائل بحرمة ذلك، وأما من أكثر ماله حرام والقليل منه حلال، فمذهب ابن القاسم كراهة معاملته، ومداينته والأكل من ماله وهو المعتمد، خلافًا لأصبغ المحرم لذلك] اهـ.

ويقول الإمام النووي من الشافعية في "روضة الطالبين" (7/ 337): [دعاه من أكثر ماله حرام، كرهت إجابته كما تكره معاملته] اهـ.

ويقول الامام السيوطي الشافعي في "الأشباه والنظائر" (ص: 107): [معاملة من أكثر ماله حرام إذا لم يعرف عينه لا يحرم في الأصح، لكن يكره، وكذا الأخذ من عطايا السلطان إذا غلب الحرام في يده كما قال في "شرح المهذب": إن المشهور فيه الكراهة لا التحريم] اهـ.

ويقول العلامة ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (4/ 180): [إذا اشترى ممن في ماله حرام وحلال؛ كالسلطان الظالم والمرابي، فإن علم أن المبيع من حلال ماله فهو حلال، وإن علم أنه حرام فهو حرام...؛ لأن الظاهر أن ما في يد الإنسان ملكه، فإن لم يعلم من أيهما هو كرهناه؛ لاحتمال التحريم فيه، ولم يبطل البيع؛ لإمكان الحلال، قل الحرام أو كثر، وهذا هو الشبهة، وبقدر قلة الحرام وكثرته تكون كثرة الشبهة وقلتها] اهـ.

ويؤكد العلامة الرحيباني الحنبلي أن المعتمد في مذهب الحنابلة هو الكراهة سواء قل الحرام أو كثر؛ فيقول في "مطالب أولي النهى" (5/ 233، ط. المكتب الإسلامي): [(وتكره إجابة من في ماله) حلال و(حرام)؛ ككراهة (أكله منه ومعاملته وقبول هديته و) قبول (هبته و) قبول (صدقته) قلّ الحرام أو كثر، جزم به في "المغني" و"الشرح"، وقاله ابن عقيل في "الفصول"، وغيره، وهو المذهب، ويؤيده حديث: «وَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» (وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلته)] اهـ.

وفي المسألة مذاهب أخرى تخالف ما عليه الجمهور، فقد رخص طائفة من السلف؛ كالحسن ومكحول والزهري والفضيل بن عياض في مبايعة من يخالط ماله حرام، وقبول هديته، ومؤاكلته ما لم يعلم أنه من الحرام بعينه.

وورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّه سُئِل عمَّن له جار يأكل الرِّبا علانية، ولا يتحرَّج من مالٍ خبيثٍ يأخذه يدعوه إلى طعامه، فقال: "أجيبوهُ، فإنَّما المَهْنأُ لكم والوِزْر عليه".

وروي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه وسعيد بن جبير وإسحاق بن راهويه ومورق العجلي وإبراهيم النخعي وغيرهم مثل ذلك، وفي رواية عن ابن مسعود أن السائل قال له: لا أعلم له شيئًا إلا خبيثًا أو حرامًا، فقال: "أجيبوه".

وقد صحح الإمام أحمد هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولكنه عارضه بما روي عنه أنه قال: الإثم حواز القلوب.

وروي عن ابن سيرين في الرجل يُقضى من الربا، قال: لا بأس به، وعن الرجل يُقضى من القمار، قال: لا بأس به.

ورُوي عن الحسن خلاف هذا، وأنَّه قال: إنَّ هذه المكاسب قد فسدت، فخذوا منها شبه المضطر، وكان ممن لا يقبل ذلك ابن المسيب والقاسم بن محمد وبشر بن سعيد والثوري ومحمد بن واسع وابن المبارك وأحمد بن حنبل في رواية عنه رضي الله عنهم أجمعين. انظر: "المجموع" (9/ 432، ط. المنيرية)، و"جامع العلوم والحكم" للعلامة ابن رجب الحنبلي (1/ 208-210، ط. دار السلام).

وقد ذهب إلى القول بحرمة المعاملات المالية مع من أكثر ماله حرام طائفة أخرى من العلماء كما ذهب إلى ذلك الإمام الغزالي من الشافعية وكذا العز بن عبد السلام إذا كثر الحرام بحيث ندر وقوع الحلال.

وقال بالتحريم أيضًا أصبغ من المالكية.

واختلف الحنابلة: فذهب جمع منهم، كالشيرازي والأزجي إلى تحريم المعاملة مطلقًا ولو قل الحرام. واختار آخرون منهم الخرقي وابن الجوزي: حرمة التعامل إذا كان الحرام أكثر. واختار جمع منهم صاحب "الرعاية": أنه إن زاد الحرام على الثلث حرم التعامل وإلا فلا، والمعتمد في المذهب هو القول بالكراهة مطلقًا كما تقدم. انظر: "مطالب أولي النهى" (5/ 233)، و"الإنصاف" للعلامة المرداوي (8/ 322-323، ط. دار إحياء التراث العربي).

وقد سئل العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي: عن معاملة اليهود والنصارى وهم لا يخفى ما هم عليه، من بيع الخمور، وتعاطي الربا وغير ذلك، فهل تحل معاملتهم وقبول هداياهم وتحرم معاملة من أكثر ماله حرام أم لا؟ فأجاب رحمه الله بقوله في "الفتاوى الفقهية الكبرى" (2/ 233، ط. المكتبة الإسلامية): [حيث لم يتحقق حرامًا معينًا جازت معاملتهم وقبول هديتهم؛ فإنه صلى الله عليه وآله وسلم قبل هداياهم، أما إذا تحقق كأن رأى ذميًا يبيع خمرًا وقبض ثمنه وأعطاه للمسلم عن دين أو غيره؛ فإنه لا يحل للمسلم قبوله كما قاله الشيخان، ونقل الزركشي وابن العماد عن النص ما يوافقه ووجهه أن الاعتبار بعقيدتنا وإن كنا نقرهم على ذلك، وكذا يقال في الأكل من أموال الظلمة، ومن أكثر أمواله حرام؛ فيكره ما لم يعلم عين الحرام أو ما اختلط به ويمكن معرفة صاحبه كما في "المجموع"، فإن لم يمكن معرفته صار من أموال بيت المال، وحديث البيهقي وغيره: «مَنْ لَمْ يَسْأَلْ مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ وَلَا مِنْ أَيْنَ مَشْرَبُهُ لَمْ يُبَالِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ أَدْخَلَهُ» ظاهر فيمن يقدم على تناول ما حل بيده وإن علم أنه من حرام، فأما من لم يعلم فلا يصدق عليه ذلك وإن اقتضى الورع تركه.

وقول الإمام الغزالي في غير "البسيط" تحرم معاملة من أكثر ماله حرام بالغ في "المجموع" في رده وقال: ليس من مذهبنا وإنما حكاه أصحابنا عن الأبهري المالكي ولو علم أن أكثر ما في يد السوقة حرام لم يجب السؤال خلافًا للغزالي، ووافقه ابن عبد السلام فيما لو اعترف أن بيده ألف دينار حرام فيها واحد حلال، كما لو اختلطت حمامة برية بألف حمامة بلدية، وفرق بأن هنا أصلًا يعتمد عليه وهو اليد المقتضية للحل بخلافه في مسألة الحمامة، ومن ثم لم يخرجوه على القولين في النجاسة والطهارة؛ لأن الأصل هنا الحل وترجح باليد وليس هناك مثل هذا المرجح فثار الخلاف وفارق أيضًا ما لو اختلطت مذكيات محصورة بميتات محصورة بأن الميتة حرام لذاتها، ولا قرينة تدل عليها بخلاف الحلال بيد من أكثر ماله حرام] اهـ.

والذي نرجحه: هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء واعتمده علماء المذاهب الأربعة من القول بكراهة المعاملة إلا لحاجة أو ضرورة؛ لما قدمناه من الأدلة والقواعد ونقول العلماء، ولأن القول بالتحريم فيه حرج ومشقة على المكلفين كما أن فيه فتحًا لباب الوسوسة والخصومة وتبادل التهم بين الناس.

أما القول بالجواز مطلقًا فتعارضه النصوص التي تحث على اجتناب الشبهات، واستبراء المسلم لدينه وعرضه، كما أن الخروج من خلاف العلماء في مثل هذه الأمور مستحب.

وبناء على ما سبق وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز للسائل مع الكراهة أن يتعامل ماليًّا مع جاره الذي يشتبه في أن ماله مختلط فيه الحلال والحرام، ولو كان غالب ظن السائل أن الحرام هو الأكثر فيستحب له اجتناب التعامل معه وليدعه يتعامل مع من لا يرتاب في أمره، وهذا ما لم يكن الأمر يستدعي التعامل لضرورة أو حاجة ملحة، فإنه حينئذ يجوز بلا كراهة.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

التعامل مع من أكثر ماله حرام

لدي متجر لبيع السلع الغذائية والأدوات المنزلية، ويسكن في نفس المنطقة شخص مشهور بالسمعة السيئة وباكتساب المال بطرق غير مشروعة، وله سوابق جنائية؛ كالسرقة والنصب وتجارة المخدرات، وإلى جانب هذا فإنه يتكسب أيضًا من مهنة مشروعة، ولكن عائدها قليل فيما يظهر، فهل يجوز أن أبيع له ما يريد شراءه من متجري، في حين أنني لا أعلم إذا كان المال الذي يدفعه لي قد اكتسبه من حلال أم من حرام؟

اكتساب المال بالطرق غير المشروعة يعتبر أكلًا لأموال الناس بالباطل، وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29]، ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188]، وحقيقة الأمر أن جميع الأموال التي يضع الإنسان يده عليها هي ملك لله تعالى وإنما تضاف لملكية الإنسان على سبيل المجاز وما هو إلا عبد من عباد الله قد استخلفه المالك الحق سبحانه في إدارة تلك الأموال على جهة الابتلاء والاختبار؛ قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 14]، وقال سبحانه: ﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ [النور: 33]، وقال تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: 7].

يقول الإمام القرطبي في "تفسيره" (17/ 238، ط. دار الكتب المصرية): [﴿مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له فيه إلا التصرف الذي يرضي الله] اهـ.

ويقول العلامة العبدري المالكي في "المدخل" (1/ 132، ط. دار التراث): [وإن كان للإنسان أن يتصرف في ماله لكن تصرفًا غير تام محجورًا عليه فيه؛ لأنه لا يملك الملك التام؛ لأنه أبيح له أن يصرفه في مواضع ومنع أن يصرفه في مواضع، فالمال في الحقيقة ليس هو ماله وإنما هو في يده على سبيل العارية على أن يصرفه في كذا ولا يصرفه في كذا، وهذا بيِّن منصوص عليه في القرآن والحديث] اهـ.

وبناء على هذا: فإن تصرف الإنسان في المال بأي صورة كانت هو في الحقيقة تصرف في غير ملكه، والتصرف في ملك الغير يتوقف على إذن صاحبه، وقد أذن الله تعالى للإنسان في اكتساب المال، والانتفاع به وإنفاقه بطرق مشروعة ومحددة، فما اكتسبه بغيرها لم يملكه ولم يكن له حق التصرف فيه ولو في وجوه البر، فلو تصدق بمال غصبه ظلمًا مع إمكان رده أثم على الغصب، وعلى تصرفه في المال ولم يكتب له ثواب الصدقة.

قال الإمام القرطبي المحدِّث في كتاب "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (3/ 59، ط. دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب): [وإنما لا يقبل الله الصدقة من المال الحرام؛ لأنه غير مملوك من المتصدق، وهو ممنوع من التصرف فيه، فلو قبلت منه لزم أن يكون مأمورًا به منهيًا عنه من وجه واحد وهو محال] اهـ.

وإذا كان ما في يد الإنسان من المال لم يكتسبه إلا بطرق غير مشروعة لم يكن ملكًا له، ولا يجوز لمن علم بحاله هذا أن يعامله ويقبض من عين هذا المال إلا ليرده على مالكه الأصلي إذا كان معروفًا أو يتصدق به عنه، وإلا فهو تعاون على الإثم والعدوان وأكل لأموال الناس بالباطل، يقول العلامة ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (1/ 210، ط. دار السلام): [ومتى علم أن عين الشيء حرام، أُخِذَ بوجه محرم، فإنَّه يحرم تناوله، وقد حكى الإجماع على ذلك ابن عبد البر وغيره] اهـ.

ويقول العلامة الدسوقي من المالكية في "حاشيته على الشرح الكبير" (3/ 277، ط. دار إحياء الكتب العربية): [وأما من كان كل ماله حرام وهو المراد بمستغرق الذمة؛ فهذا تمنع معاملته ومداينته ويمنع من التصرف المالي وغيره] اهـ.

ويقول الإمام النووي في "روضة الطالبين" (7/ 337، ط. المكتب الإسلامي): [دعاه مَن أكثر ماله حرام، كرهت إجابته كما تكره معاملته. فإن علم أن عين الطعام حرام، حرمت إجابته] اهـ.

ويقول العلامة ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (4/ 180، ط. دار إحياء التراث العربي): [وإذا اشترى ممن في ماله حرام وحلال؛ كالسلطان الظالم، والمرابي، فإن علم أن المبيع من حلال ماله، فهو حلال، وإن علم أنه حرام، فهو حرام] اهـ.

أما إذا كان قد اكتسب بعض المال بطرق مشروعة وبعضه بطرق غير مشروعة فإنه إذا أمكن تمييز حلال هذا المال عن حرامه؛ جاز التعامل بحلاله، وحرم التعامل بحرامه؛ لأن هذا هو الأصل في تداول الأموال.

أما إذا اختلط حلال المال بحرامه ولم يمكن التمييز بينهما، فلا يخلو الحال من أن يكون مقدار المال الحرام هو الأكثر الغالب، أو هو الأقل، أو يكون قد تساوى حلال المال وحرامه، أو تكون النسبة بينهما مجهولة؛ فما لم يكن مقدار الحرام هو الأكثر الغالب جاز التعامل؛ لأن الظاهر امتلاك الإنسان ما في يده، ولا يُعدل عن الظاهر إلا بعلم أو ظن غالب، ولا يحصل شيء من هذا إلا بتمييز المال الحرام أو بكونه غالبًا على الحلال، أما مجرد الشك أو التكهن فإنه لا يقوى على رفع الظاهر الراجح، كما أن مجاراة الشكوك في مثل هذا الأمر توقع الناس في المشقة والحرج وتعم بها بلواهم فلا بأس حينئذ من المعاملة؛ لأن القاعدة أن "ما عمت بليته خفت قضيته"، و"ما ضاق على الناس أمره اتسع حكمه". ينظر: "الأشباه والنظائر" للعلامة ابن نجيم (ص: 84، ط. دار الكتب العلمية)، و"فتح القدير" للعلامة ابن الهمام (9/ 310، ط. دار الكتب العلمية).

أما إذا كان الحرام هو الغالب، فالأصل حينئذ أن المعاملة تجوز مع الكراهة، لكن إذا ترتب على ترك المعاملة في هذه الحالة وقوع أحد الطرفين في الحرج أو حالة الضرورة، أو عمت بلوى الناس بذلك، جاز التعامل بلا كراهة؛ لأن وقوع التعامل بالمال الحرام يكون حينئذ محلّ ظن، بينما وقوع الحرج أو البلوى يكون محلّ قطع، والقطع مقدم على الظن، كما أنه قد تقرر في قواعد الفقه الإسلامي أنه "إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما" -"الأشباه والنظائر" للامام السيوطي (ص: 87، ط. دار الكتب العلمية)-، ومفسدة أخذ مال غير مقطوع بحرمانيته أخف من مفسدة وقوع الحرج أو الضرر أو عموم البلوى، ففي مثل هذه الأحوال يترجح القول بالجواز مطلقًا بلا كراهة.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الكرام يتعاملون بمختلف المعاملات وعقود التجارة مع اليهود والمشركين وهم لا تكاد تخلو أيديهم من المال الحرام، كأموال الربا وثمن الخمر والفسق والأصنام وغير ذلك من المنكرات، ومع هذا جاز معاملتهم؛ لعموم البلوى واختلاط حرام أموالهم بحلالها، وعدم تميز المال الحرام بسمة ظاهرة، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان من عادته أن يسأل من يعاملهم من غير المسلمين أو يستفصلهم عن الطريقة التي اكتسبوا بها أموالهم، ولا ورد ذلك عن الصحابة الكرام، ولا أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، مع القطع باكتساب غير المسلمين للكثير من الأموال بطرق محرمة شرعًا، وهذا مع قيام الاحتمال الكبير في انتقال تلك الأموال إلى أيدي المسلمين بمختلف التعاملات، والقاعدة الفقهية التي قررها الإمام الشافعي رضي الله عنه ووافقه فيها جمهور العلماء هي أن: "ترك الاستفصال في وقائع الأحوال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم من المقال". ينظر: "البحر المحيط" للعلامة الزركشي (4/ 201-203، ط. دار الكتبي)، و"شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع" (2/ 24، ط. دار الكتب العلمية)، وبحث "قاعدة ترك الاستفصال دراسة أصولية تطبيقية" (ص: 113) للدكتور عبد الرحمن القرني، مجلة "جامعة أم القرى" (جـ17، ع32، ذو الحجة 1425هـ).

فتعامل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته مع غير المسلمين دون استفصال عن جهة اكتساب المال، ينزل بمنزلة عموم الإذن في معاملتهم سواء كانت أموالهم حلالًا صرفًا أو كانت مختلطة لا يتميز حرامها من حلالها -وإن غلب الظن بأن أكثرها مكتسب من الحرام- ما دام التداول يتم بينهم وبين المسلمين بصورة من صور العقود المشروعة، أما عند تيقن أن ما في أيديهم من المال حرام صرف فهذا منهي عنه يحرم معاملتهم به أو تداوله كسائر المحرمات المنهي عن تداولها أو تداول أثمانها.

فقد روى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَمَهْرِ البَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الكَاهِنِ". وفي لفظ أبي داود: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَحِلُّ ثَمَنُ الْكَلْبِ، وَلَا حُلْوَانُ الْكَاهِنِ، وَلَا مَهْرُ الْبَغِيِّ».

وروى أبو داود في "سننه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ اللهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَثَمَنَهُ»، وروى أبو داود من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: «إِنَّ اللهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ».

والتعامل بالمال المختلط فيه الحلال والحرام دون أن يتبين أحدهما عن الآخر يعتبر من الشبهات التي يستحب اجتنابها استبراء للدين والعرض، ويكره الإقدام عليها من غير حاجة ملحة تدعو إليها، اتقاء للشبهات ومخافة للوقوع في الحرام؛ لما رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».

هذا ومذهب جمهور العلماء: هو أن معاملة مَن أكثر ماله حرام لا تحرم، وإنما تكره خوفًا من الوقوع في الحرام.

يقول العلامة الحموي من الحنفية في "غمز عيون البصائر" (1/ 192، ط. دار الكتب العلمية): [معاملة من أكثر ماله حرام ولم يتحقق المأخوذ من ماله عين الحرام فلا تحرم مبايعته؛ لإمكان الحلال وعدم التحريم، ولكن يكره خوفًا من الوقوع في الحرام، كذا في "فتح القدير"] اهـ.

ويقول العلامة الدسوقي المالكي في "حاشيته على الشرح الكبير" (3/ 277، ط. دار إحياء الكتب العربية): [اعلم أن من أكثر ماله حلال وأقله حرام المعتمد جواز معاملته ومداينته والأكل من ماله، كما قال ابن القاسم خلافًا لأصبغ القائل بحرمة ذلك، وأما من أكثر ماله حرام والقليل منه حلال، فمذهب ابن القاسم كراهة معاملته، ومداينته والأكل من ماله وهو المعتمد، خلافًا لأصبغ المحرم لذلك] اهـ.

ويقول الإمام النووي من الشافعية في "روضة الطالبين" (7/ 337): [دعاه من أكثر ماله حرام، كرهت إجابته كما تكره معاملته] اهـ.

ويقول الامام السيوطي الشافعي في "الأشباه والنظائر" (ص: 107): [معاملة من أكثر ماله حرام إذا لم يعرف عينه لا يحرم في الأصح، لكن يكره، وكذا الأخذ من عطايا السلطان إذا غلب الحرام في يده كما قال في "شرح المهذب": إن المشهور فيه الكراهة لا التحريم] اهـ.

ويقول العلامة ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (4/ 180): [إذا اشترى ممن في ماله حرام وحلال؛ كالسلطان الظالم والمرابي، فإن علم أن المبيع من حلال ماله فهو حلال، وإن علم أنه حرام فهو حرام...؛ لأن الظاهر أن ما في يد الإنسان ملكه، فإن لم يعلم من أيهما هو كرهناه؛ لاحتمال التحريم فيه، ولم يبطل البيع؛ لإمكان الحلال، قل الحرام أو كثر، وهذا هو الشبهة، وبقدر قلة الحرام وكثرته تكون كثرة الشبهة وقلتها] اهـ.

ويؤكد العلامة الرحيباني الحنبلي أن المعتمد في مذهب الحنابلة هو الكراهة سواء قل الحرام أو كثر؛ فيقول في "مطالب أولي النهى" (5/ 233، ط. المكتب الإسلامي): [(وتكره إجابة من في ماله) حلال و(حرام)؛ ككراهة (أكله منه ومعاملته وقبول هديته و) قبول (هبته و) قبول (صدقته) قلّ الحرام أو كثر، جزم به في "المغني" و"الشرح"، وقاله ابن عقيل في "الفصول"، وغيره، وهو المذهب، ويؤيده حديث: «وَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» (وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلته)] اهـ.

وفي المسألة مذاهب أخرى تخالف ما عليه الجمهور، فقد رخص طائفة من السلف؛ كالحسن ومكحول والزهري والفضيل بن عياض في مبايعة من يخالط ماله حرام، وقبول هديته، ومؤاكلته ما لم يعلم أنه من الحرام بعينه.

وورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّه سُئِل عمَّن له جار يأكل الرِّبا علانية، ولا يتحرَّج من مالٍ خبيثٍ يأخذه يدعوه إلى طعامه، فقال: "أجيبوهُ، فإنَّما المَهْنأُ لكم والوِزْر عليه".

وروي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه وسعيد بن جبير وإسحاق بن راهويه ومورق العجلي وإبراهيم النخعي وغيرهم مثل ذلك، وفي رواية عن ابن مسعود أن السائل قال له: لا أعلم له شيئًا إلا خبيثًا أو حرامًا، فقال: "أجيبوه".

وقد صحح الإمام أحمد هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولكنه عارضه بما روي عنه أنه قال: الإثم حواز القلوب.

وروي عن ابن سيرين في الرجل يُقضى من الربا، قال: لا بأس به، وعن الرجل يُقضى من القمار، قال: لا بأس به.

ورُوي عن الحسن خلاف هذا، وأنَّه قال: إنَّ هذه المكاسب قد فسدت، فخذوا منها شبه المضطر، وكان ممن لا يقبل ذلك ابن المسيب والقاسم بن محمد وبشر بن سعيد والثوري ومحمد بن واسع وابن المبارك وأحمد بن حنبل في رواية عنه رضي الله عنهم أجمعين. انظر: "المجموع" (9/ 432، ط. المنيرية)، و"جامع العلوم والحكم" للعلامة ابن رجب الحنبلي (1/ 208-210، ط. دار السلام).

وقد ذهب إلى القول بحرمة المعاملات المالية مع من أكثر ماله حرام طائفة أخرى من العلماء كما ذهب إلى ذلك الإمام الغزالي من الشافعية وكذا العز بن عبد السلام إذا كثر الحرام بحيث ندر وقوع الحلال.

وقال بالتحريم أيضًا أصبغ من المالكية.

واختلف الحنابلة: فذهب جمع منهم، كالشيرازي والأزجي إلى تحريم المعاملة مطلقًا ولو قل الحرام. واختار آخرون منهم الخرقي وابن الجوزي: حرمة التعامل إذا كان الحرام أكثر. واختار جمع منهم صاحب "الرعاية": أنه إن زاد الحرام على الثلث حرم التعامل وإلا فلا، والمعتمد في المذهب هو القول بالكراهة مطلقًا كما تقدم. انظر: "مطالب أولي النهى" (5/ 233)، و"الإنصاف" للعلامة المرداوي (8/ 322-323، ط. دار إحياء التراث العربي).

وقد سئل العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي: عن معاملة اليهود والنصارى وهم لا يخفى ما هم عليه، من بيع الخمور، وتعاطي الربا وغير ذلك، فهل تحل معاملتهم وقبول هداياهم وتحرم معاملة من أكثر ماله حرام أم لا؟ فأجاب رحمه الله بقوله في "الفتاوى الفقهية الكبرى" (2/ 233، ط. المكتبة الإسلامية): [حيث لم يتحقق حرامًا معينًا جازت معاملتهم وقبول هديتهم؛ فإنه صلى الله عليه وآله وسلم قبل هداياهم، أما إذا تحقق كأن رأى ذميًا يبيع خمرًا وقبض ثمنه وأعطاه للمسلم عن دين أو غيره؛ فإنه لا يحل للمسلم قبوله كما قاله الشيخان، ونقل الزركشي وابن العماد عن النص ما يوافقه ووجهه أن الاعتبار بعقيدتنا وإن كنا نقرهم على ذلك، وكذا يقال في الأكل من أموال الظلمة، ومن أكثر أمواله حرام؛ فيكره ما لم يعلم عين الحرام أو ما اختلط به ويمكن معرفة صاحبه كما في "المجموع"، فإن لم يمكن معرفته صار من أموال بيت المال، وحديث البيهقي وغيره: «مَنْ لَمْ يَسْأَلْ مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ وَلَا مِنْ أَيْنَ مَشْرَبُهُ لَمْ يُبَالِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ أَدْخَلَهُ» ظاهر فيمن يقدم على تناول ما حل بيده وإن علم أنه من حرام، فأما من لم يعلم فلا يصدق عليه ذلك وإن اقتضى الورع تركه.

وقول الإمام الغزالي في غير "البسيط" تحرم معاملة من أكثر ماله حرام بالغ في "المجموع" في رده وقال: ليس من مذهبنا وإنما حكاه أصحابنا عن الأبهري المالكي ولو علم أن أكثر ما في يد السوقة حرام لم يجب السؤال خلافًا للغزالي، ووافقه ابن عبد السلام فيما لو اعترف أن بيده ألف دينار حرام فيها واحد حلال، كما لو اختلطت حمامة برية بألف حمامة بلدية، وفرق بأن هنا أصلًا يعتمد عليه وهو اليد المقتضية للحل بخلافه في مسألة الحمامة، ومن ثم لم يخرجوه على القولين في النجاسة والطهارة؛ لأن الأصل هنا الحل وترجح باليد وليس هناك مثل هذا المرجح فثار الخلاف وفارق أيضًا ما لو اختلطت مذكيات محصورة بميتات محصورة بأن الميتة حرام لذاتها، ولا قرينة تدل عليها بخلاف الحلال بيد من أكثر ماله حرام] اهـ.

والذي نرجحه: هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء واعتمده علماء المذاهب الأربعة من القول بكراهة المعاملة إلا لحاجة أو ضرورة؛ لما قدمناه من الأدلة والقواعد ونقول العلماء، ولأن القول بالتحريم فيه حرج ومشقة على المكلفين كما أن فيه فتحًا لباب الوسوسة والخصومة وتبادل التهم بين الناس.

أما القول بالجواز مطلقًا فتعارضه النصوص التي تحث على اجتناب الشبهات، واستبراء المسلم لدينه وعرضه، كما أن الخروج من خلاف العلماء في مثل هذه الأمور مستحب.

وبناء على ما سبق وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز للسائل مع الكراهة أن يتعامل ماليًّا مع جاره الذي يشتبه في أن ماله مختلط فيه الحلال والحرام، ولو كان غالب ظن السائل أن الحرام هو الأكثر فيستحب له اجتناب التعامل معه وليدعه يتعامل مع من لا يرتاب في أمره، وهذا ما لم يكن الأمر يستدعي التعامل لضرورة أو حاجة ملحة، فإنه حينئذ يجوز بلا كراهة.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

اكتساب المال بالطرق غير المشروعة يعتبر أكلًا لأموال الناس بالباطل، وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29]، ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188]، وحقيقة الأمر أن جميع الأموال التي يضع الإنسان يده عليها هي ملك لله تعالى وإنما تضاف لملكية الإنسان على سبيل المجاز وما هو إلا عبد من عباد الله قد استخلفه المالك الحق سبحانه في إدارة تلك الأموال على جهة الابتلاء والاختبار؛ قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 14]، وقال سبحانه: ﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ [النور: 33]، وقال تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: 7].

يقول الإمام القرطبي في "تفسيره" (17/ 238، ط. دار الكتب المصرية): [﴿مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له فيه إلا التصرف الذي يرضي الله] اهـ.

ويقول العلامة العبدري المالكي في "المدخل" (1/ 132، ط. دار التراث): [وإن كان للإنسان أن يتصرف في ماله لكن تصرفًا غير تام محجورًا عليه فيه؛ لأنه لا يملك الملك التام؛ لأنه أبيح له أن يصرفه في مواضع ومنع أن يصرفه في مواضع، فالمال في الحقيقة ليس هو ماله وإنما هو في يده على سبيل العارية على أن يصرفه في كذا ولا يصرفه في كذا، وهذا بيِّن منصوص عليه في القرآن والحديث] اهـ.

وبناء على هذا: فإن تصرف الإنسان في المال بأي صورة كانت هو في الحقيقة تصرف في غير ملكه، والتصرف في ملك الغير يتوقف على إذن صاحبه، وقد أذن الله تعالى للإنسان في اكتساب المال، والانتفاع به وإنفاقه بطرق مشروعة ومحددة، فما اكتسبه بغيرها لم يملكه ولم يكن له حق التصرف فيه ولو في وجوه البر، فلو تصدق بمال غصبه ظلمًا مع إمكان رده أثم على الغصب، وعلى تصرفه في المال ولم يكتب له ثواب الصدقة.

قال الإمام القرطبي المحدِّث في كتاب "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (3/ 59، ط. دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب): [وإنما لا يقبل الله الصدقة من المال الحرام؛ لأنه غير مملوك من المتصدق، وهو ممنوع من التصرف فيه، فلو قبلت منه لزم أن يكون مأمورًا به منهيًا عنه من وجه واحد وهو محال] اهـ.

وإذا كان ما في يد الإنسان من المال لم يكتسبه إلا بطرق غير مشروعة لم يكن ملكًا له، ولا يجوز لمن علم بحاله هذا أن يعامله ويقبض من عين هذا المال إلا ليرده على مالكه الأصلي إذا كان معروفًا أو يتصدق به عنه، وإلا فهو تعاون على الإثم والعدوان وأكل لأموال الناس بالباطل، يقول العلامة ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (1/ 210، ط. دار السلام): [ومتى علم أن عين الشيء حرام، أُخِذَ بوجه محرم، فإنَّه يحرم تناوله، وقد حكى الإجماع على ذلك ابن عبد البر وغيره] اهـ.

ويقول العلامة الدسوقي من المالكية في "حاشيته على الشرح الكبير" (3/ 277، ط. دار إحياء الكتب العربية): [وأما من كان كل ماله حرام وهو المراد بمستغرق الذمة؛ فهذا تمنع معاملته ومداينته ويمنع من التصرف المالي وغيره] اهـ.

ويقول الإمام النووي في "روضة الطالبين" (7/ 337، ط. المكتب الإسلامي): [دعاه مَن أكثر ماله حرام، كرهت إجابته كما تكره معاملته. فإن علم أن عين الطعام حرام، حرمت إجابته] اهـ.

ويقول العلامة ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (4/ 180، ط. دار إحياء التراث العربي): [وإذا اشترى ممن في ماله حرام وحلال؛ كالسلطان الظالم، والمرابي، فإن علم أن المبيع من حلال ماله، فهو حلال، وإن علم أنه حرام، فهو حرام] اهـ.

أما إذا كان قد اكتسب بعض المال بطرق مشروعة وبعضه بطرق غير مشروعة فإنه إذا أمكن تمييز حلال هذا المال عن حرامه؛ جاز التعامل بحلاله، وحرم التعامل بحرامه؛ لأن هذا هو الأصل في تداول الأموال.

أما إذا اختلط حلال المال بحرامه ولم يمكن التمييز بينهما، فلا يخلو الحال من أن يكون مقدار المال الحرام هو الأكثر الغالب، أو هو الأقل، أو يكون قد تساوى حلال المال وحرامه، أو تكون النسبة بينهما مجهولة؛ فما لم يكن مقدار الحرام هو الأكثر الغالب جاز التعامل؛ لأن الظاهر امتلاك الإنسان ما في يده، ولا يُعدل عن الظاهر إلا بعلم أو ظن غالب، ولا يحصل شيء من هذا إلا بتمييز المال الحرام أو بكونه غالبًا على الحلال، أما مجرد الشك أو التكهن فإنه لا يقوى على رفع الظاهر الراجح، كما أن مجاراة الشكوك في مثل هذا الأمر توقع الناس في المشقة والحرج وتعم بها بلواهم فلا بأس حينئذ من المعاملة؛ لأن القاعدة أن "ما عمت بليته خفت قضيته"، و"ما ضاق على الناس أمره اتسع حكمه". ينظر: "الأشباه والنظائر" للعلامة ابن نجيم (ص: 84، ط. دار الكتب العلمية)، و"فتح القدير" للعلامة ابن الهمام (9/ 310، ط. دار الكتب العلمية).

أما إذا كان الحرام هو الغالب، فالأصل حينئذ أن المعاملة تجوز مع الكراهة، لكن إذا ترتب على ترك المعاملة في هذه الحالة وقوع أحد الطرفين في الحرج أو حالة الضرورة، أو عمت بلوى الناس بذلك، جاز التعامل بلا كراهة؛ لأن وقوع التعامل بالمال الحرام يكون حينئذ محلّ ظن، بينما وقوع الحرج أو البلوى يكون محلّ قطع، والقطع مقدم على الظن، كما أنه قد تقرر في قواعد الفقه الإسلامي أنه "إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما" -"الأشباه والنظائر" للامام السيوطي (ص: 87، ط. دار الكتب العلمية)-، ومفسدة أخذ مال غير مقطوع بحرمانيته أخف من مفسدة وقوع الحرج أو الضرر أو عموم البلوى، ففي مثل هذه الأحوال يترجح القول بالجواز مطلقًا بلا كراهة.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الكرام يتعاملون بمختلف المعاملات وعقود التجارة مع اليهود والمشركين وهم لا تكاد تخلو أيديهم من المال الحرام، كأموال الربا وثمن الخمر والفسق والأصنام وغير ذلك من المنكرات، ومع هذا جاز معاملتهم؛ لعموم البلوى واختلاط حرام أموالهم بحلالها، وعدم تميز المال الحرام بسمة ظاهرة، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان من عادته أن يسأل من يعاملهم من غير المسلمين أو يستفصلهم عن الطريقة التي اكتسبوا بها أموالهم، ولا ورد ذلك عن الصحابة الكرام، ولا أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، مع القطع باكتساب غير المسلمين للكثير من الأموال بطرق محرمة شرعًا، وهذا مع قيام الاحتمال الكبير في انتقال تلك الأموال إلى أيدي المسلمين بمختلف التعاملات، والقاعدة الفقهية التي قررها الإمام الشافعي رضي الله عنه ووافقه فيها جمهور العلماء هي أن: "ترك الاستفصال في وقائع الأحوال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم من المقال". ينظر: "البحر المحيط" للعلامة الزركشي (4/ 201-203، ط. دار الكتبي)، و"شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع" (2/ 24، ط. دار الكتب العلمية)، وبحث "قاعدة ترك الاستفصال دراسة أصولية تطبيقية" (ص: 113) للدكتور عبد الرحمن القرني، مجلة "جامعة أم القرى" (جـ17، ع32، ذو الحجة 1425هـ).

فتعامل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته مع غير المسلمين دون استفصال عن جهة اكتساب المال، ينزل بمنزلة عموم الإذن في معاملتهم سواء كانت أموالهم حلالًا صرفًا أو كانت مختلطة لا يتميز حرامها من حلالها -وإن غلب الظن بأن أكثرها مكتسب من الحرام- ما دام التداول يتم بينهم وبين المسلمين بصورة من صور العقود المشروعة، أما عند تيقن أن ما في أيديهم من المال حرام صرف فهذا منهي عنه يحرم معاملتهم به أو تداوله كسائر المحرمات المنهي عن تداولها أو تداول أثمانها.

فقد روى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَمَهْرِ البَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الكَاهِنِ". وفي لفظ أبي داود: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَحِلُّ ثَمَنُ الْكَلْبِ، وَلَا حُلْوَانُ الْكَاهِنِ، وَلَا مَهْرُ الْبَغِيِّ».

وروى أبو داود في "سننه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ اللهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَثَمَنَهُ»، وروى أبو داود من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: «إِنَّ اللهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ».

والتعامل بالمال المختلط فيه الحلال والحرام دون أن يتبين أحدهما عن الآخر يعتبر من الشبهات التي يستحب اجتنابها استبراء للدين والعرض، ويكره الإقدام عليها من غير حاجة ملحة تدعو إليها، اتقاء للشبهات ومخافة للوقوع في الحرام؛ لما رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».

هذا ومذهب جمهور العلماء: هو أن معاملة مَن أكثر ماله حرام لا تحرم، وإنما تكره خوفًا من الوقوع في الحرام.

يقول العلامة الحموي من الحنفية في "غمز عيون البصائر" (1/ 192، ط. دار الكتب العلمية): [معاملة من أكثر ماله حرام ولم يتحقق المأخوذ من ماله عين الحرام فلا تحرم مبايعته؛ لإمكان الحلال وعدم التحريم، ولكن يكره خوفًا من الوقوع في الحرام، كذا في "فتح القدير"] اهـ.

ويقول العلامة الدسوقي المالكي في "حاشيته على الشرح الكبير" (3/ 277، ط. دار إحياء الكتب العربية): [اعلم أن من أكثر ماله حلال وأقله حرام المعتمد جواز معاملته ومداينته والأكل من ماله، كما قال ابن القاسم خلافًا لأصبغ القائل بحرمة ذلك، وأما من أكثر ماله حرام والقليل منه حلال، فمذهب ابن القاسم كراهة معاملته، ومداينته والأكل من ماله وهو المعتمد، خلافًا لأصبغ المحرم لذلك] اهـ.

ويقول الإمام النووي من الشافعية في "روضة الطالبين" (7/ 337): [دعاه من أكثر ماله حرام، كرهت إجابته كما تكره معاملته] اهـ.

ويقول الامام السيوطي الشافعي في "الأشباه والنظائر" (ص: 107): [معاملة من أكثر ماله حرام إذا لم يعرف عينه لا يحرم في الأصح، لكن يكره، وكذا الأخذ من عطايا السلطان إذا غلب الحرام في يده كما قال في "شرح المهذب": إن المشهور فيه الكراهة لا التحريم] اهـ.

ويقول العلامة ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (4/ 180): [إذا اشترى ممن في ماله حرام وحلال؛ كالسلطان الظالم والمرابي، فإن علم أن المبيع من حلال ماله فهو حلال، وإن علم أنه حرام فهو حرام...؛ لأن الظاهر أن ما في يد الإنسان ملكه، فإن لم يعلم من أيهما هو كرهناه؛ لاحتمال التحريم فيه، ولم يبطل البيع؛ لإمكان الحلال، قل الحرام أو كثر، وهذا هو الشبهة، وبقدر قلة الحرام وكثرته تكون كثرة الشبهة وقلتها] اهـ.

ويؤكد العلامة الرحيباني الحنبلي أن المعتمد في مذهب الحنابلة هو الكراهة سواء قل الحرام أو كثر؛ فيقول في "مطالب أولي النهى" (5/ 233، ط. المكتب الإسلامي): [(وتكره إجابة من في ماله) حلال و(حرام)؛ ككراهة (أكله منه ومعاملته وقبول هديته و) قبول (هبته و) قبول (صدقته) قلّ الحرام أو كثر، جزم به في "المغني" و"الشرح"، وقاله ابن عقيل في "الفصول"، وغيره، وهو المذهب، ويؤيده حديث: «وَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» (وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلته)] اهـ.

وفي المسألة مذاهب أخرى تخالف ما عليه الجمهور، فقد رخص طائفة من السلف؛ كالحسن ومكحول والزهري والفضيل بن عياض في مبايعة من يخالط ماله حرام، وقبول هديته، ومؤاكلته ما لم يعلم أنه من الحرام بعينه.

وورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّه سُئِل عمَّن له جار يأكل الرِّبا علانية، ولا يتحرَّج من مالٍ خبيثٍ يأخذه يدعوه إلى طعامه، فقال: "أجيبوهُ، فإنَّما المَهْنأُ لكم والوِزْر عليه".

وروي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه وسعيد بن جبير وإسحاق بن راهويه ومورق العجلي وإبراهيم النخعي وغيرهم مثل ذلك، وفي رواية عن ابن مسعود أن السائل قال له: لا أعلم له شيئًا إلا خبيثًا أو حرامًا، فقال: "أجيبوه".

وقد صحح الإمام أحمد هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولكنه عارضه بما روي عنه أنه قال: الإثم حواز القلوب.

وروي عن ابن سيرين في الرجل يُقضى من الربا، قال: لا بأس به، وعن الرجل يُقضى من القمار، قال: لا بأس به.

ورُوي عن الحسن خلاف هذا، وأنَّه قال: إنَّ هذه المكاسب قد فسدت، فخذوا منها شبه المضطر، وكان ممن لا يقبل ذلك ابن المسيب والقاسم بن محمد وبشر بن سعيد والثوري ومحمد بن واسع وابن المبارك وأحمد بن حنبل في رواية عنه رضي الله عنهم أجمعين. انظر: "المجموع" (9/ 432، ط. المنيرية)، و"جامع العلوم والحكم" للعلامة ابن رجب الحنبلي (1/ 208-210، ط. دار السلام).

وقد ذهب إلى القول بحرمة المعاملات المالية مع من أكثر ماله حرام طائفة أخرى من العلماء كما ذهب إلى ذلك الإمام الغزالي من الشافعية وكذا العز بن عبد السلام إذا كثر الحرام بحيث ندر وقوع الحلال.

وقال بالتحريم أيضًا أصبغ من المالكية.

واختلف الحنابلة: فذهب جمع منهم، كالشيرازي والأزجي إلى تحريم المعاملة مطلقًا ولو قل الحرام. واختار آخرون منهم الخرقي وابن الجوزي: حرمة التعامل إذا كان الحرام أكثر. واختار جمع منهم صاحب "الرعاية": أنه إن زاد الحرام على الثلث حرم التعامل وإلا فلا، والمعتمد في المذهب هو القول بالكراهة مطلقًا كما تقدم. انظر: "مطالب أولي النهى" (5/ 233)، و"الإنصاف" للعلامة المرداوي (8/ 322-323، ط. دار إحياء التراث العربي).

وقد سئل العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي: عن معاملة اليهود والنصارى وهم لا يخفى ما هم عليه، من بيع الخمور، وتعاطي الربا وغير ذلك، فهل تحل معاملتهم وقبول هداياهم وتحرم معاملة من أكثر ماله حرام أم لا؟ فأجاب رحمه الله بقوله في "الفتاوى الفقهية الكبرى" (2/ 233، ط. المكتبة الإسلامية): [حيث لم يتحقق حرامًا معينًا جازت معاملتهم وقبول هديتهم؛ فإنه صلى الله عليه وآله وسلم قبل هداياهم، أما إذا تحقق كأن رأى ذميًا يبيع خمرًا وقبض ثمنه وأعطاه للمسلم عن دين أو غيره؛ فإنه لا يحل للمسلم قبوله كما قاله الشيخان، ونقل الزركشي وابن العماد عن النص ما يوافقه ووجهه أن الاعتبار بعقيدتنا وإن كنا نقرهم على ذلك، وكذا يقال في الأكل من أموال الظلمة، ومن أكثر أمواله حرام؛ فيكره ما لم يعلم عين الحرام أو ما اختلط به ويمكن معرفة صاحبه كما في "المجموع"، فإن لم يمكن معرفته صار من أموال بيت المال، وحديث البيهقي وغيره: «مَنْ لَمْ يَسْأَلْ مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ وَلَا مِنْ أَيْنَ مَشْرَبُهُ لَمْ يُبَالِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ أَدْخَلَهُ» ظاهر فيمن يقدم على تناول ما حل بيده وإن علم أنه من حرام، فأما من لم يعلم فلا يصدق عليه ذلك وإن اقتضى الورع تركه.

وقول الإمام الغزالي في غير "البسيط" تحرم معاملة من أكثر ماله حرام بالغ في "المجموع" في رده وقال: ليس من مذهبنا وإنما حكاه أصحابنا عن الأبهري المالكي ولو علم أن أكثر ما في يد السوقة حرام لم يجب السؤال خلافًا للغزالي، ووافقه ابن عبد السلام فيما لو اعترف أن بيده ألف دينار حرام فيها واحد حلال، كما لو اختلطت حمامة برية بألف حمامة بلدية، وفرق بأن هنا أصلًا يعتمد عليه وهو اليد المقتضية للحل بخلافه في مسألة الحمامة، ومن ثم لم يخرجوه على القولين في النجاسة والطهارة؛ لأن الأصل هنا الحل وترجح باليد وليس هناك مثل هذا المرجح فثار الخلاف وفارق أيضًا ما لو اختلطت مذكيات محصورة بميتات محصورة بأن الميتة حرام لذاتها، ولا قرينة تدل عليها بخلاف الحلال بيد من أكثر ماله حرام] اهـ.

والذي نرجحه: هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء واعتمده علماء المذاهب الأربعة من القول بكراهة المعاملة إلا لحاجة أو ضرورة؛ لما قدمناه من الأدلة والقواعد ونقول العلماء، ولأن القول بالتحريم فيه حرج ومشقة على المكلفين كما أن فيه فتحًا لباب الوسوسة والخصومة وتبادل التهم بين الناس.

أما القول بالجواز مطلقًا فتعارضه النصوص التي تحث على اجتناب الشبهات، واستبراء المسلم لدينه وعرضه، كما أن الخروج من خلاف العلماء في مثل هذه الأمور مستحب.

وبناء على ما سبق وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز للسائل مع الكراهة أن يتعامل ماليًّا مع جاره الذي يشتبه في أن ماله مختلط فيه الحلال والحرام، ولو كان غالب ظن السائل أن الحرام هو الأكثر فيستحب له اجتناب التعامل معه وليدعه يتعامل مع من لا يرتاب في أمره، وهذا ما لم يكن الأمر يستدعي التعامل لضرورة أو حاجة ملحة، فإنه حينئذ يجوز بلا كراهة.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;