الفرق بين السَّلَم والاستصناع

ما الفرق بين عقد السَّلَم أو الاستصناع الذي قال الفقهاء بجوازه، وبيع ما ليس عند الإنسان الذي جاء النهي عنه في الحديث؟

شرعت الأحكام الفقهية المتعلقة بالمعاملات المالية وغيرها لتحقيق منافع الخلق وتلبية احتياجاتهم من خلال تلك المعاملات، وذلك في إطار من الأوامر والنواهي الشرعية التي تعمل على تحقيق العدالة في تحصيل كل طرف لمنفعته بتعامله مع الطرف الآخر، ومنع ما يؤدي إلى الشقاق والخلاف والنزاع بين الطرفين، فإن قطع المنازعات ضرورة؛ إذ هي مادة الفساد. انظر: "بدائع الصنائع" (5/ 143، 7/ 2، ط. دار الكتب العلمية).

يقول العلامة القرافي في "الفروق" (3/ 290، ط. عالم الكتب): [وها هنا قاعدة، وهي أَنَّ مَطْلُوبَ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَاحُ ذَاتِ الْعَيْنِ الْبَيْنِ وَحَسْمُ مَادَّةِ الْفَسَادِ وَالْفِتَنِ حَتَّى بَالَغَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تَحَابُّوا»] اهـ.

هذا، وقد روى أصحاب "السنن" عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، يَأْتِينِي الرَّجُلُ فَيُرِيدُ مِنِّي الْبَيْعَ لَيْسَ عِنْدِي، أَفَأَبْتَاعُهُ لَهُ مِنَ السُّوقِ؟ فَقَالَ: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ». فدل الحديث على عموم النهي عن بيع أي شيء قبل قبضه وحيازته، وقبل تحقق القدرة الفعلية على تسليمه، ويدخل في هذا من باب أولى بيع المعدوم.

ويؤكد هذا المعنى ما ورد في حديث آخر أخرجه أحمد في "مسنده" عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا، فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا وَمَا يُحَرَّمُ عَلَيَّ؟ قَالَ: «فَإِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ».

وتعميم هذا النَّهي في كل البيوع هو ما فهمه ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقد أخرج البخاري ومسلم -واللفظ له- في "صحيحيهما" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ». قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ.

وإذا كان مقصد الشريعة من سدِّ هذا الباب تحقيق مصالح المكلفين، ودَفْع ضرورتهم لحسم مواد النِّزاع والمخاصمات، فإنه لا شك أن المصلحة والحاجة المُلِحَّة قد تقتضي أيضًا التيسير في بعض المعاملات التي جرت بها العادة، أو عمَّت بها البلوى ولم يترتب عليها في الغالب ظلمٌ أو فسادٌ أو نزاعٌ، فتشرع مثل هذه المعاملات ويقال فيها: شرعت على خلاف الأصل، أو على خلاف القياس، أو على خلاف القاعدة، أو هي من مستثنياتها، ومنها عقود توصف بأنها عقود غرر جُوِّزت للحاجة، ومن هذا القبيل عَقْدَا السلم والاستصناع. انظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم ومعه "غمز عيون البصائر" (1/ 293-294، ط. دار الكتب العلمية). و"حاشية الرملي على أسنى المطالب" (2/ 122، ط. دار الكتاب الإسلامي).

[والسَّلَم لغة: له معان كثيرة: منها الإعطاء والترك، ويقال له السلف أيضًا، فيقال: أسلم وسلَّم وأسلف وسلَّف بمعنى واحد. ويُقَالُ: أَسْلَمَ وسَلَّمَ إِذا أَسْلَفَ؛ وَهُوَ أَن تُعْطِيَ ذَهَبًا وَفِضَّةً فِي سِلْعةٍ مَعْلُومَةٍ إِلى أَمَدٍ مَعْلُومٍ، فكأَنك قَدْ أَسْلَمْتَ الثَّمَنَ إِلى صَاحِبِ السِّلْعَةِ وسَلَّمْتَهُ إِليه. انظر: "لسان العرب" (12/ 295، 9/ 158، ط. دار صادر).

وشرعًا: هو: بيع شيء موصوف في الذمة. وهذه خاصته المتفق عليها، وقد سمي سلمًا لتسليم رأس المال في المجلس، وسلفًا لتقديم رأس المال. انظر: "مغني المحتاج" (3/ 3-4، ط. دار الكتب العلمية).

وقيل: هو شراء آجل بعاجل. أو بيع موصوف في الذمة إلى أجل. راجع: "حاشية ابن عابدين" (5/ 209، ط. دار الكتب العلمية). و"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 285، ط. دار الكتب العلمية).

والأصل في مشروعية السَّلَم قولُه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ [البقرة: 282]، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "نَزَلَتْ فِي السَّلَمِ".

وما رواه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ». وقد ثبت الإجماع على مشروعية السلم. راجع: "مغني المحتاج" (3/ 3)، و"كشاف القناع" (3/ 285).

وعقد السَّلَم مما تدعو إليه الحاجة، ومن هنا كان في مشروعيته رَفْعٌ للحرج عن الناس؛ فالمزارع مثلًا قد لا يكون عنده المال الذي ينفقه في إِصْلاح أرضه وَتَعَهُّدِ زرعه إلى أن يحصدَه وينتفعَ بثمنه، ولا يجد من يقرضه ما يحتاج إليه من المال، ولذلك فهو في حاجة إلى نوع من المعاملة يتمكن بها من الحصول على ما يحتاج إليه من المال، وإلا فاتت عليه مصلحةُ استثمارِ أرضه، وكان في حرج ومشقة وعَنَتٍ، فمن أجل ذلك أُبيح السلم.

قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (4/ 185، ط. دار إحياء التراث العربي): [ولأن بالناس حاجة إليه؛ لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم وعليها لتَكْمُل، وقد تُعْوِزُهُم النفقة، فجوز لهم السلم ليرتفقوا ويرتفق المسلم بالاسترخاص] اهـ.

وقد اختلف الفقهاء في كون مشروعية عقد السلم على وفق القياس ومقتضى القواعد العامة في الشريعة، أم أنها جاءت استثناءً على خلاف القياس لحاجة الناس إلى هذا العقد:

فذهب جمهور العلماء إلى أن السلم عقد جائز على خلاف القياس؛ قال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع" (5/ 212، ط. دار الكتب العلمية): [والرخصة في عرف الشرع اسم لما يغير عن الأمر الأصلي بعَارِضِ عُذْرٍ إلى تخفيفٍ ويُسْرٍ كرخصة تناول الميتة وشرب الخمر بالإكراه والمخمصة ونحو ذلك، فالترخُّص في السلم هو تغيير الحكم الأصلي، وهو حرمة بيع ما ليس عند الإنسان إلى الحل بعارض عذرًا لعدم ضرورة الإفلاس] اهـ.

وقال العلامة ابن نجيم في "البحر الرائق" (6/ 169، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وهو على خلاف القياس؛ إذ هو بيع المعدوم، ووجب المصير إليه بالنص والإجماع للحاجة] اهـ.

وفي "منح الجليل" من كتب المالكية (5/ 331، ط. دار الفكر) قال أبو عبد الله المالكي: [صرح في "المدونة" بأن السلم رخصة مستثناة من بيع ما ليس عند بائعه] اهـ.

وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (2/ 122، ط. دار الكتاب الإسلامي): [السلم عقدُ غررٍ جُوِّزَ للحاجة] اهـ.

وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (2/ 92، ط. عالم الكتب): [السلم رخصةٌ جاز للرفق] اهـ.

وذهب ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة إلى أن السلم عقد مشروع على وفق القياس، وليس فيه مخالفةٌ للقواعد الشرعية؛ قال الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/ 301، ط. دار الكتب العلمية): [وأما السَّلّم: فمن ظن أنه على خلاف القياس فَوَهِمَ دخولَه تحت قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تَبِعْ ما لَيسَ عندَك»، فإنه بيع معدوم، والقياس يمنع منه. والصواب أنه على وفق القياس، فإنه بيعٌ مضمونٌ في الذمة موصوفٌ مقدورٌ على تسليمه غالبًا، وهو كالمعاوضة على المنافع في الإجارة، وقد تقدم أنه على وفق القياس... وقد فطر الله العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له وبين السلم إليه في مغل مضمون في ذمته مقدور في العادة على تسليمه] اهـ. وقد ناقش العلامة الكمال ابن الهمام هذا الرأي في "فتح القدير" (7/ 71-72 ، ط. دار الفكر) وأطال في تفنيده.

أما الاستصناع فهو في اللغة: مصدر استصنع الشيء؛ أي دعا إلى صنعه، ويقال: اصطنع فلان بابًا: إذا سأل رجلًا أن يصنع له بابًا. انظر: "تاج العروس" (21/ 375، مادة: ص ن ع، ط. دار الهداية).

وفي الاصطلاح -على ما عرفه بعض الحنفية وصححه الكاساني في "البدائع" (5/ 2)- هو: عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل. فإذا قال شخص لآخر من أهل الصنائع: اصنع لي الشيء الفلاني بكذا درهمًا، وقبل الصانع ذلك، انعقد استصناعًا عند الحنفية.

ويرى أكثر الحنفية أن الاستصناع بيع عين شرط فيه العمل، أو هو بيع لكن للمشتري خيار الرؤية، فهو بيع إلا أنه ليس على إطلاقه، فخالف البيع المطلق في اشتراط العمل في الاستصناع، والمعروف أن البيع لا يشترط فيه العمل. وقال بعض الحنفية: إن الاستصناع إجارة محضة، وقيل: إنه إجارة ابتداء، بيع انتهاء. وذكر الحنفية أنه لو ضرب أجل للمستصنع فيه فهو سلم. انظر: "فتح القدير" (7/ 115-116، ط. دار الفكر). و"حاشية ابن عابدين" (5/ 223-225، ط. دار الكتب العلمية).

أما المالكية والشافعية فألحقوه بالسلم. انظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير" (3/ 287 ط. دار المعارف). و"المهذب" للشيرازي (1/ 297-298، ط. عيسى الحلبي).

أما الحنابلة فاختلفوا في تكييف الاستصناع: فقيل: لا يصح؛ لأنه بيع ما ليس عنده على غير وجه السلم. وقيل: يصح إن صح جمع بين بيع وإجارة منه بعقد واحد، لأنه بيع وسلم، أو شرط فيه نفع البائع. راجع: "الإنصاف" للمرداوي (4/ 300، ط. دار إحياء التراث العربي).

ويقول العلامة السرخسي في "المبسوط" (12/ 138، ط. دار المعرفة) في بيان أن الاستصناع جائز على خلاف القياس: [فالقياس أن لا يجوز ذلك؛ لأن المستصنع فيه مبيع وهو معدوم، وبيع المعدوم لا يجوز؛ لنهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان، ثم هذا في حكم بيع العين ولو كان موجودًا غَيْرَ مملوكٍ للعاقد لم يَجُزْ بيعُه، فكذلك إذا كان معدومًا، بل أولى، ولكنا نقول: نحن تركنا القياس لتعامل الناس في ذلك، فإنهم تعاملوه من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا من غير نَكِيرِ مُنْكِرٍ، وتعامل الناس من غير نكير أصلٌ من الأصول كبير] اهـ.

وبناءً على ما تقدم: فإن كلًّا من السلم والاستصناع مشروعٌ رخصةً لرَفْعِ الحاجة عن المكلفين وإن كانا يدخلان في عموم النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان، إلا أن المقصود بهذا النهي دَفْعُ ما يترتب عنه المنازعة والمفاسد، وقد جرت عادة الناس على التعامل بالسلم والاستصناع دون أن يترتب عليهما شيء من ذلك، فبقي ما عداهما مما يصدق عليه أنه بيع ما ليس عند الإنسان على الأصل العام المانع.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

شرعت الأحكام الفقهية المتعلقة بالمعاملات المالية وغيرها لتحقيق منافع الخلق وتلبية احتياجاتهم من خلال تلك المعاملات، وذلك في إطار من الأوامر والنواهي الشرعية التي تعمل على تحقيق العدالة في تحصيل كل طرف لمنفعته بتعامله مع الطرف الآخر، ومنع ما يؤدي إلى الشقاق والخلاف والنزاع بين الطرفين، فإن قطع المنازعات ضرورة؛ إذ هي مادة الفساد. انظر: "بدائع الصنائع" (5/ 143، 7/ 2، ط. دار الكتب العلمية).

يقول العلامة القرافي في "الفروق" (3/ 290، ط. عالم الكتب): [وها هنا قاعدة، وهي أَنَّ مَطْلُوبَ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَاحُ ذَاتِ الْعَيْنِ الْبَيْنِ وَحَسْمُ مَادَّةِ الْفَسَادِ وَالْفِتَنِ حَتَّى بَالَغَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تَحَابُّوا»] اهـ.

هذا، وقد روى أصحاب "السنن" عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، يَأْتِينِي الرَّجُلُ فَيُرِيدُ مِنِّي الْبَيْعَ لَيْسَ عِنْدِي، أَفَأَبْتَاعُهُ لَهُ مِنَ السُّوقِ؟ فَقَالَ: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ». فدل الحديث على عموم النهي عن بيع أي شيء قبل قبضه وحيازته، وقبل تحقق القدرة الفعلية على تسليمه، ويدخل في هذا من باب أولى بيع المعدوم.

ويؤكد هذا المعنى ما ورد في حديث آخر أخرجه أحمد في "مسنده" عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا، فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا وَمَا يُحَرَّمُ عَلَيَّ؟ قَالَ: «فَإِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ».

وتعميم هذا النَّهي في كل البيوع هو ما فهمه ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقد أخرج البخاري ومسلم -واللفظ له- في "صحيحيهما" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ». قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ.

وإذا كان مقصد الشريعة من سدِّ هذا الباب تحقيق مصالح المكلفين، ودَفْع ضرورتهم لحسم مواد النِّزاع والمخاصمات، فإنه لا شك أن المصلحة والحاجة المُلِحَّة قد تقتضي أيضًا التيسير في بعض المعاملات التي جرت بها العادة، أو عمَّت بها البلوى ولم يترتب عليها في الغالب ظلمٌ أو فسادٌ أو نزاعٌ، فتشرع مثل هذه المعاملات ويقال فيها: شرعت على خلاف الأصل، أو على خلاف القياس، أو على خلاف القاعدة، أو هي من مستثنياتها، ومنها عقود توصف بأنها عقود غرر جُوِّزت للحاجة، ومن هذا القبيل عَقْدَا السلم والاستصناع. انظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم ومعه "غمز عيون البصائر" (1/ 293-294، ط. دار الكتب العلمية). و"حاشية الرملي على أسنى المطالب" (2/ 122، ط. دار الكتاب الإسلامي).

[والسَّلَم لغة: له معان كثيرة: منها الإعطاء والترك، ويقال له السلف أيضًا، فيقال: أسلم وسلَّم وأسلف وسلَّف بمعنى واحد. ويُقَالُ: أَسْلَمَ وسَلَّمَ إِذا أَسْلَفَ؛ وَهُوَ أَن تُعْطِيَ ذَهَبًا وَفِضَّةً فِي سِلْعةٍ مَعْلُومَةٍ إِلى أَمَدٍ مَعْلُومٍ، فكأَنك قَدْ أَسْلَمْتَ الثَّمَنَ إِلى صَاحِبِ السِّلْعَةِ وسَلَّمْتَهُ إِليه. انظر: "لسان العرب" (12/ 295، 9/ 158، ط. دار صادر).

وشرعًا: هو: بيع شيء موصوف في الذمة. وهذه خاصته المتفق عليها، وقد سمي سلمًا لتسليم رأس المال في المجلس، وسلفًا لتقديم رأس المال. انظر: "مغني المحتاج" (3/ 3-4، ط. دار الكتب العلمية).

وقيل: هو شراء آجل بعاجل. أو بيع موصوف في الذمة إلى أجل. راجع: "حاشية ابن عابدين" (5/ 209، ط. دار الكتب العلمية). و"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 285، ط. دار الكتب العلمية).

والأصل في مشروعية السَّلَم قولُه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ [البقرة: 282]، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "نَزَلَتْ فِي السَّلَمِ".

وما رواه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ». وقد ثبت الإجماع على مشروعية السلم. راجع: "مغني المحتاج" (3/ 3)، و"كشاف القناع" (3/ 285).

وعقد السَّلَم مما تدعو إليه الحاجة، ومن هنا كان في مشروعيته رَفْعٌ للحرج عن الناس؛ فالمزارع مثلًا قد لا يكون عنده المال الذي ينفقه في إِصْلاح أرضه وَتَعَهُّدِ زرعه إلى أن يحصدَه وينتفعَ بثمنه، ولا يجد من يقرضه ما يحتاج إليه من المال، ولذلك فهو في حاجة إلى نوع من المعاملة يتمكن بها من الحصول على ما يحتاج إليه من المال، وإلا فاتت عليه مصلحةُ استثمارِ أرضه، وكان في حرج ومشقة وعَنَتٍ، فمن أجل ذلك أُبيح السلم.

قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (4/ 185، ط. دار إحياء التراث العربي): [ولأن بالناس حاجة إليه؛ لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم وعليها لتَكْمُل، وقد تُعْوِزُهُم النفقة، فجوز لهم السلم ليرتفقوا ويرتفق المسلم بالاسترخاص] اهـ.

وقد اختلف الفقهاء في كون مشروعية عقد السلم على وفق القياس ومقتضى القواعد العامة في الشريعة، أم أنها جاءت استثناءً على خلاف القياس لحاجة الناس إلى هذا العقد:

فذهب جمهور العلماء إلى أن السلم عقد جائز على خلاف القياس؛ قال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع" (5/ 212، ط. دار الكتب العلمية): [والرخصة في عرف الشرع اسم لما يغير عن الأمر الأصلي بعَارِضِ عُذْرٍ إلى تخفيفٍ ويُسْرٍ كرخصة تناول الميتة وشرب الخمر بالإكراه والمخمصة ونحو ذلك، فالترخُّص في السلم هو تغيير الحكم الأصلي، وهو حرمة بيع ما ليس عند الإنسان إلى الحل بعارض عذرًا لعدم ضرورة الإفلاس] اهـ.

وقال العلامة ابن نجيم في "البحر الرائق" (6/ 169، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وهو على خلاف القياس؛ إذ هو بيع المعدوم، ووجب المصير إليه بالنص والإجماع للحاجة] اهـ.

وفي "منح الجليل" من كتب المالكية (5/ 331، ط. دار الفكر) قال أبو عبد الله المالكي: [صرح في "المدونة" بأن السلم رخصة مستثناة من بيع ما ليس عند بائعه] اهـ.

وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (2/ 122، ط. دار الكتاب الإسلامي): [السلم عقدُ غررٍ جُوِّزَ للحاجة] اهـ.

وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (2/ 92، ط. عالم الكتب): [السلم رخصةٌ جاز للرفق] اهـ.

وذهب ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة إلى أن السلم عقد مشروع على وفق القياس، وليس فيه مخالفةٌ للقواعد الشرعية؛ قال الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/ 301، ط. دار الكتب العلمية): [وأما السَّلّم: فمن ظن أنه على خلاف القياس فَوَهِمَ دخولَه تحت قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تَبِعْ ما لَيسَ عندَك»، فإنه بيع معدوم، والقياس يمنع منه. والصواب أنه على وفق القياس، فإنه بيعٌ مضمونٌ في الذمة موصوفٌ مقدورٌ على تسليمه غالبًا، وهو كالمعاوضة على المنافع في الإجارة، وقد تقدم أنه على وفق القياس... وقد فطر الله العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له وبين السلم إليه في مغل مضمون في ذمته مقدور في العادة على تسليمه] اهـ. وقد ناقش العلامة الكمال ابن الهمام هذا الرأي في "فتح القدير" (7/ 71-72 ، ط. دار الفكر) وأطال في تفنيده.

أما الاستصناع فهو في اللغة: مصدر استصنع الشيء؛ أي دعا إلى صنعه، ويقال: اصطنع فلان بابًا: إذا سأل رجلًا أن يصنع له بابًا. انظر: "تاج العروس" (21/ 375، مادة: ص ن ع، ط. دار الهداية).

وفي الاصطلاح -على ما عرفه بعض الحنفية وصححه الكاساني في "البدائع" (5/ 2)- هو: عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل. فإذا قال شخص لآخر من أهل الصنائع: اصنع لي الشيء الفلاني بكذا درهمًا، وقبل الصانع ذلك، انعقد استصناعًا عند الحنفية.

ويرى أكثر الحنفية أن الاستصناع بيع عين شرط فيه العمل، أو هو بيع لكن للمشتري خيار الرؤية، فهو بيع إلا أنه ليس على إطلاقه، فخالف البيع المطلق في اشتراط العمل في الاستصناع، والمعروف أن البيع لا يشترط فيه العمل. وقال بعض الحنفية: إن الاستصناع إجارة محضة، وقيل: إنه إجارة ابتداء، بيع انتهاء. وذكر الحنفية أنه لو ضرب أجل للمستصنع فيه فهو سلم. انظر: "فتح القدير" (7/ 115-116، ط. دار الفكر). و"حاشية ابن عابدين" (5/ 223-225، ط. دار الكتب العلمية).

أما المالكية والشافعية فألحقوه بالسلم. انظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير" (3/ 287 ط. دار المعارف). و"المهذب" للشيرازي (1/ 297-298، ط. عيسى الحلبي).

أما الحنابلة فاختلفوا في تكييف الاستصناع: فقيل: لا يصح؛ لأنه بيع ما ليس عنده على غير وجه السلم. وقيل: يصح إن صح جمع بين بيع وإجارة منه بعقد واحد، لأنه بيع وسلم، أو شرط فيه نفع البائع. راجع: "الإنصاف" للمرداوي (4/ 300، ط. دار إحياء التراث العربي).

ويقول العلامة السرخسي في "المبسوط" (12/ 138، ط. دار المعرفة) في بيان أن الاستصناع جائز على خلاف القياس: [فالقياس أن لا يجوز ذلك؛ لأن المستصنع فيه مبيع وهو معدوم، وبيع المعدوم لا يجوز؛ لنهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان، ثم هذا في حكم بيع العين ولو كان موجودًا غَيْرَ مملوكٍ للعاقد لم يَجُزْ بيعُه، فكذلك إذا كان معدومًا، بل أولى، ولكنا نقول: نحن تركنا القياس لتعامل الناس في ذلك، فإنهم تعاملوه من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا من غير نَكِيرِ مُنْكِرٍ، وتعامل الناس من غير نكير أصلٌ من الأصول كبير] اهـ.

وبناءً على ما تقدم: فإن كلًّا من السلم والاستصناع مشروعٌ رخصةً لرَفْعِ الحاجة عن المكلفين وإن كانا يدخلان في عموم النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان، إلا أن المقصود بهذا النهي دَفْعُ ما يترتب عنه المنازعة والمفاسد، وقد جرت عادة الناس على التعامل بالسلم والاستصناع دون أن يترتب عليهما شيء من ذلك، فبقي ما عداهما مما يصدق عليه أنه بيع ما ليس عند الإنسان على الأصل العام المانع.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

الفرق بين السَّلَم والاستصناع

ما الفرق بين عقد السَّلَم أو الاستصناع الذي قال الفقهاء بجوازه، وبيع ما ليس عند الإنسان الذي جاء النهي عنه في الحديث؟

شرعت الأحكام الفقهية المتعلقة بالمعاملات المالية وغيرها لتحقيق منافع الخلق وتلبية احتياجاتهم من خلال تلك المعاملات، وذلك في إطار من الأوامر والنواهي الشرعية التي تعمل على تحقيق العدالة في تحصيل كل طرف لمنفعته بتعامله مع الطرف الآخر، ومنع ما يؤدي إلى الشقاق والخلاف والنزاع بين الطرفين، فإن قطع المنازعات ضرورة؛ إذ هي مادة الفساد. انظر: "بدائع الصنائع" (5/ 143، 7/ 2، ط. دار الكتب العلمية).

يقول العلامة القرافي في "الفروق" (3/ 290، ط. عالم الكتب): [وها هنا قاعدة، وهي أَنَّ مَطْلُوبَ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَاحُ ذَاتِ الْعَيْنِ الْبَيْنِ وَحَسْمُ مَادَّةِ الْفَسَادِ وَالْفِتَنِ حَتَّى بَالَغَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تَحَابُّوا»] اهـ.

هذا، وقد روى أصحاب "السنن" عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، يَأْتِينِي الرَّجُلُ فَيُرِيدُ مِنِّي الْبَيْعَ لَيْسَ عِنْدِي، أَفَأَبْتَاعُهُ لَهُ مِنَ السُّوقِ؟ فَقَالَ: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ». فدل الحديث على عموم النهي عن بيع أي شيء قبل قبضه وحيازته، وقبل تحقق القدرة الفعلية على تسليمه، ويدخل في هذا من باب أولى بيع المعدوم.

ويؤكد هذا المعنى ما ورد في حديث آخر أخرجه أحمد في "مسنده" عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا، فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا وَمَا يُحَرَّمُ عَلَيَّ؟ قَالَ: «فَإِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ».

وتعميم هذا النَّهي في كل البيوع هو ما فهمه ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقد أخرج البخاري ومسلم -واللفظ له- في "صحيحيهما" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ». قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ.

وإذا كان مقصد الشريعة من سدِّ هذا الباب تحقيق مصالح المكلفين، ودَفْع ضرورتهم لحسم مواد النِّزاع والمخاصمات، فإنه لا شك أن المصلحة والحاجة المُلِحَّة قد تقتضي أيضًا التيسير في بعض المعاملات التي جرت بها العادة، أو عمَّت بها البلوى ولم يترتب عليها في الغالب ظلمٌ أو فسادٌ أو نزاعٌ، فتشرع مثل هذه المعاملات ويقال فيها: شرعت على خلاف الأصل، أو على خلاف القياس، أو على خلاف القاعدة، أو هي من مستثنياتها، ومنها عقود توصف بأنها عقود غرر جُوِّزت للحاجة، ومن هذا القبيل عَقْدَا السلم والاستصناع. انظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم ومعه "غمز عيون البصائر" (1/ 293-294، ط. دار الكتب العلمية). و"حاشية الرملي على أسنى المطالب" (2/ 122، ط. دار الكتاب الإسلامي).

[والسَّلَم لغة: له معان كثيرة: منها الإعطاء والترك، ويقال له السلف أيضًا، فيقال: أسلم وسلَّم وأسلف وسلَّف بمعنى واحد. ويُقَالُ: أَسْلَمَ وسَلَّمَ إِذا أَسْلَفَ؛ وَهُوَ أَن تُعْطِيَ ذَهَبًا وَفِضَّةً فِي سِلْعةٍ مَعْلُومَةٍ إِلى أَمَدٍ مَعْلُومٍ، فكأَنك قَدْ أَسْلَمْتَ الثَّمَنَ إِلى صَاحِبِ السِّلْعَةِ وسَلَّمْتَهُ إِليه. انظر: "لسان العرب" (12/ 295، 9/ 158، ط. دار صادر).

وشرعًا: هو: بيع شيء موصوف في الذمة. وهذه خاصته المتفق عليها، وقد سمي سلمًا لتسليم رأس المال في المجلس، وسلفًا لتقديم رأس المال. انظر: "مغني المحتاج" (3/ 3-4، ط. دار الكتب العلمية).

وقيل: هو شراء آجل بعاجل. أو بيع موصوف في الذمة إلى أجل. راجع: "حاشية ابن عابدين" (5/ 209، ط. دار الكتب العلمية). و"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 285، ط. دار الكتب العلمية).

والأصل في مشروعية السَّلَم قولُه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ [البقرة: 282]، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "نَزَلَتْ فِي السَّلَمِ".

وما رواه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ». وقد ثبت الإجماع على مشروعية السلم. راجع: "مغني المحتاج" (3/ 3)، و"كشاف القناع" (3/ 285).

وعقد السَّلَم مما تدعو إليه الحاجة، ومن هنا كان في مشروعيته رَفْعٌ للحرج عن الناس؛ فالمزارع مثلًا قد لا يكون عنده المال الذي ينفقه في إِصْلاح أرضه وَتَعَهُّدِ زرعه إلى أن يحصدَه وينتفعَ بثمنه، ولا يجد من يقرضه ما يحتاج إليه من المال، ولذلك فهو في حاجة إلى نوع من المعاملة يتمكن بها من الحصول على ما يحتاج إليه من المال، وإلا فاتت عليه مصلحةُ استثمارِ أرضه، وكان في حرج ومشقة وعَنَتٍ، فمن أجل ذلك أُبيح السلم.

قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (4/ 185، ط. دار إحياء التراث العربي): [ولأن بالناس حاجة إليه؛ لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم وعليها لتَكْمُل، وقد تُعْوِزُهُم النفقة، فجوز لهم السلم ليرتفقوا ويرتفق المسلم بالاسترخاص] اهـ.

وقد اختلف الفقهاء في كون مشروعية عقد السلم على وفق القياس ومقتضى القواعد العامة في الشريعة، أم أنها جاءت استثناءً على خلاف القياس لحاجة الناس إلى هذا العقد:

فذهب جمهور العلماء إلى أن السلم عقد جائز على خلاف القياس؛ قال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع" (5/ 212، ط. دار الكتب العلمية): [والرخصة في عرف الشرع اسم لما يغير عن الأمر الأصلي بعَارِضِ عُذْرٍ إلى تخفيفٍ ويُسْرٍ كرخصة تناول الميتة وشرب الخمر بالإكراه والمخمصة ونحو ذلك، فالترخُّص في السلم هو تغيير الحكم الأصلي، وهو حرمة بيع ما ليس عند الإنسان إلى الحل بعارض عذرًا لعدم ضرورة الإفلاس] اهـ.

وقال العلامة ابن نجيم في "البحر الرائق" (6/ 169، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وهو على خلاف القياس؛ إذ هو بيع المعدوم، ووجب المصير إليه بالنص والإجماع للحاجة] اهـ.

وفي "منح الجليل" من كتب المالكية (5/ 331، ط. دار الفكر) قال أبو عبد الله المالكي: [صرح في "المدونة" بأن السلم رخصة مستثناة من بيع ما ليس عند بائعه] اهـ.

وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (2/ 122، ط. دار الكتاب الإسلامي): [السلم عقدُ غررٍ جُوِّزَ للحاجة] اهـ.

وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (2/ 92، ط. عالم الكتب): [السلم رخصةٌ جاز للرفق] اهـ.

وذهب ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة إلى أن السلم عقد مشروع على وفق القياس، وليس فيه مخالفةٌ للقواعد الشرعية؛ قال الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/ 301، ط. دار الكتب العلمية): [وأما السَّلّم: فمن ظن أنه على خلاف القياس فَوَهِمَ دخولَه تحت قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تَبِعْ ما لَيسَ عندَك»، فإنه بيع معدوم، والقياس يمنع منه. والصواب أنه على وفق القياس، فإنه بيعٌ مضمونٌ في الذمة موصوفٌ مقدورٌ على تسليمه غالبًا، وهو كالمعاوضة على المنافع في الإجارة، وقد تقدم أنه على وفق القياس... وقد فطر الله العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له وبين السلم إليه في مغل مضمون في ذمته مقدور في العادة على تسليمه] اهـ. وقد ناقش العلامة الكمال ابن الهمام هذا الرأي في "فتح القدير" (7/ 71-72 ، ط. دار الفكر) وأطال في تفنيده.

أما الاستصناع فهو في اللغة: مصدر استصنع الشيء؛ أي دعا إلى صنعه، ويقال: اصطنع فلان بابًا: إذا سأل رجلًا أن يصنع له بابًا. انظر: "تاج العروس" (21/ 375، مادة: ص ن ع، ط. دار الهداية).

وفي الاصطلاح -على ما عرفه بعض الحنفية وصححه الكاساني في "البدائع" (5/ 2)- هو: عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل. فإذا قال شخص لآخر من أهل الصنائع: اصنع لي الشيء الفلاني بكذا درهمًا، وقبل الصانع ذلك، انعقد استصناعًا عند الحنفية.

ويرى أكثر الحنفية أن الاستصناع بيع عين شرط فيه العمل، أو هو بيع لكن للمشتري خيار الرؤية، فهو بيع إلا أنه ليس على إطلاقه، فخالف البيع المطلق في اشتراط العمل في الاستصناع، والمعروف أن البيع لا يشترط فيه العمل. وقال بعض الحنفية: إن الاستصناع إجارة محضة، وقيل: إنه إجارة ابتداء، بيع انتهاء. وذكر الحنفية أنه لو ضرب أجل للمستصنع فيه فهو سلم. انظر: "فتح القدير" (7/ 115-116، ط. دار الفكر). و"حاشية ابن عابدين" (5/ 223-225، ط. دار الكتب العلمية).

أما المالكية والشافعية فألحقوه بالسلم. انظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير" (3/ 287 ط. دار المعارف). و"المهذب" للشيرازي (1/ 297-298، ط. عيسى الحلبي).

أما الحنابلة فاختلفوا في تكييف الاستصناع: فقيل: لا يصح؛ لأنه بيع ما ليس عنده على غير وجه السلم. وقيل: يصح إن صح جمع بين بيع وإجارة منه بعقد واحد، لأنه بيع وسلم، أو شرط فيه نفع البائع. راجع: "الإنصاف" للمرداوي (4/ 300، ط. دار إحياء التراث العربي).

ويقول العلامة السرخسي في "المبسوط" (12/ 138، ط. دار المعرفة) في بيان أن الاستصناع جائز على خلاف القياس: [فالقياس أن لا يجوز ذلك؛ لأن المستصنع فيه مبيع وهو معدوم، وبيع المعدوم لا يجوز؛ لنهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان، ثم هذا في حكم بيع العين ولو كان موجودًا غَيْرَ مملوكٍ للعاقد لم يَجُزْ بيعُه، فكذلك إذا كان معدومًا، بل أولى، ولكنا نقول: نحن تركنا القياس لتعامل الناس في ذلك، فإنهم تعاملوه من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا من غير نَكِيرِ مُنْكِرٍ، وتعامل الناس من غير نكير أصلٌ من الأصول كبير] اهـ.

وبناءً على ما تقدم: فإن كلًّا من السلم والاستصناع مشروعٌ رخصةً لرَفْعِ الحاجة عن المكلفين وإن كانا يدخلان في عموم النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان، إلا أن المقصود بهذا النهي دَفْعُ ما يترتب عنه المنازعة والمفاسد، وقد جرت عادة الناس على التعامل بالسلم والاستصناع دون أن يترتب عليهما شيء من ذلك، فبقي ما عداهما مما يصدق عليه أنه بيع ما ليس عند الإنسان على الأصل العام المانع.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

شرعت الأحكام الفقهية المتعلقة بالمعاملات المالية وغيرها لتحقيق منافع الخلق وتلبية احتياجاتهم من خلال تلك المعاملات، وذلك في إطار من الأوامر والنواهي الشرعية التي تعمل على تحقيق العدالة في تحصيل كل طرف لمنفعته بتعامله مع الطرف الآخر، ومنع ما يؤدي إلى الشقاق والخلاف والنزاع بين الطرفين، فإن قطع المنازعات ضرورة؛ إذ هي مادة الفساد. انظر: "بدائع الصنائع" (5/ 143، 7/ 2، ط. دار الكتب العلمية).

يقول العلامة القرافي في "الفروق" (3/ 290، ط. عالم الكتب): [وها هنا قاعدة، وهي أَنَّ مَطْلُوبَ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَاحُ ذَاتِ الْعَيْنِ الْبَيْنِ وَحَسْمُ مَادَّةِ الْفَسَادِ وَالْفِتَنِ حَتَّى بَالَغَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تَحَابُّوا»] اهـ.

هذا، وقد روى أصحاب "السنن" عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، يَأْتِينِي الرَّجُلُ فَيُرِيدُ مِنِّي الْبَيْعَ لَيْسَ عِنْدِي، أَفَأَبْتَاعُهُ لَهُ مِنَ السُّوقِ؟ فَقَالَ: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ». فدل الحديث على عموم النهي عن بيع أي شيء قبل قبضه وحيازته، وقبل تحقق القدرة الفعلية على تسليمه، ويدخل في هذا من باب أولى بيع المعدوم.

ويؤكد هذا المعنى ما ورد في حديث آخر أخرجه أحمد في "مسنده" عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا، فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا وَمَا يُحَرَّمُ عَلَيَّ؟ قَالَ: «فَإِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ».

وتعميم هذا النَّهي في كل البيوع هو ما فهمه ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقد أخرج البخاري ومسلم -واللفظ له- في "صحيحيهما" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ». قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ.

وإذا كان مقصد الشريعة من سدِّ هذا الباب تحقيق مصالح المكلفين، ودَفْع ضرورتهم لحسم مواد النِّزاع والمخاصمات، فإنه لا شك أن المصلحة والحاجة المُلِحَّة قد تقتضي أيضًا التيسير في بعض المعاملات التي جرت بها العادة، أو عمَّت بها البلوى ولم يترتب عليها في الغالب ظلمٌ أو فسادٌ أو نزاعٌ، فتشرع مثل هذه المعاملات ويقال فيها: شرعت على خلاف الأصل، أو على خلاف القياس، أو على خلاف القاعدة، أو هي من مستثنياتها، ومنها عقود توصف بأنها عقود غرر جُوِّزت للحاجة، ومن هذا القبيل عَقْدَا السلم والاستصناع. انظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم ومعه "غمز عيون البصائر" (1/ 293-294، ط. دار الكتب العلمية). و"حاشية الرملي على أسنى المطالب" (2/ 122، ط. دار الكتاب الإسلامي).

[والسَّلَم لغة: له معان كثيرة: منها الإعطاء والترك، ويقال له السلف أيضًا، فيقال: أسلم وسلَّم وأسلف وسلَّف بمعنى واحد. ويُقَالُ: أَسْلَمَ وسَلَّمَ إِذا أَسْلَفَ؛ وَهُوَ أَن تُعْطِيَ ذَهَبًا وَفِضَّةً فِي سِلْعةٍ مَعْلُومَةٍ إِلى أَمَدٍ مَعْلُومٍ، فكأَنك قَدْ أَسْلَمْتَ الثَّمَنَ إِلى صَاحِبِ السِّلْعَةِ وسَلَّمْتَهُ إِليه. انظر: "لسان العرب" (12/ 295، 9/ 158، ط. دار صادر).

وشرعًا: هو: بيع شيء موصوف في الذمة. وهذه خاصته المتفق عليها، وقد سمي سلمًا لتسليم رأس المال في المجلس، وسلفًا لتقديم رأس المال. انظر: "مغني المحتاج" (3/ 3-4، ط. دار الكتب العلمية).

وقيل: هو شراء آجل بعاجل. أو بيع موصوف في الذمة إلى أجل. راجع: "حاشية ابن عابدين" (5/ 209، ط. دار الكتب العلمية). و"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 285، ط. دار الكتب العلمية).

والأصل في مشروعية السَّلَم قولُه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ [البقرة: 282]، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "نَزَلَتْ فِي السَّلَمِ".

وما رواه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ». وقد ثبت الإجماع على مشروعية السلم. راجع: "مغني المحتاج" (3/ 3)، و"كشاف القناع" (3/ 285).

وعقد السَّلَم مما تدعو إليه الحاجة، ومن هنا كان في مشروعيته رَفْعٌ للحرج عن الناس؛ فالمزارع مثلًا قد لا يكون عنده المال الذي ينفقه في إِصْلاح أرضه وَتَعَهُّدِ زرعه إلى أن يحصدَه وينتفعَ بثمنه، ولا يجد من يقرضه ما يحتاج إليه من المال، ولذلك فهو في حاجة إلى نوع من المعاملة يتمكن بها من الحصول على ما يحتاج إليه من المال، وإلا فاتت عليه مصلحةُ استثمارِ أرضه، وكان في حرج ومشقة وعَنَتٍ، فمن أجل ذلك أُبيح السلم.

قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (4/ 185، ط. دار إحياء التراث العربي): [ولأن بالناس حاجة إليه؛ لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم وعليها لتَكْمُل، وقد تُعْوِزُهُم النفقة، فجوز لهم السلم ليرتفقوا ويرتفق المسلم بالاسترخاص] اهـ.

وقد اختلف الفقهاء في كون مشروعية عقد السلم على وفق القياس ومقتضى القواعد العامة في الشريعة، أم أنها جاءت استثناءً على خلاف القياس لحاجة الناس إلى هذا العقد:

فذهب جمهور العلماء إلى أن السلم عقد جائز على خلاف القياس؛ قال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع" (5/ 212، ط. دار الكتب العلمية): [والرخصة في عرف الشرع اسم لما يغير عن الأمر الأصلي بعَارِضِ عُذْرٍ إلى تخفيفٍ ويُسْرٍ كرخصة تناول الميتة وشرب الخمر بالإكراه والمخمصة ونحو ذلك، فالترخُّص في السلم هو تغيير الحكم الأصلي، وهو حرمة بيع ما ليس عند الإنسان إلى الحل بعارض عذرًا لعدم ضرورة الإفلاس] اهـ.

وقال العلامة ابن نجيم في "البحر الرائق" (6/ 169، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وهو على خلاف القياس؛ إذ هو بيع المعدوم، ووجب المصير إليه بالنص والإجماع للحاجة] اهـ.

وفي "منح الجليل" من كتب المالكية (5/ 331، ط. دار الفكر) قال أبو عبد الله المالكي: [صرح في "المدونة" بأن السلم رخصة مستثناة من بيع ما ليس عند بائعه] اهـ.

وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (2/ 122، ط. دار الكتاب الإسلامي): [السلم عقدُ غررٍ جُوِّزَ للحاجة] اهـ.

وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (2/ 92، ط. عالم الكتب): [السلم رخصةٌ جاز للرفق] اهـ.

وذهب ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة إلى أن السلم عقد مشروع على وفق القياس، وليس فيه مخالفةٌ للقواعد الشرعية؛ قال الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/ 301، ط. دار الكتب العلمية): [وأما السَّلّم: فمن ظن أنه على خلاف القياس فَوَهِمَ دخولَه تحت قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تَبِعْ ما لَيسَ عندَك»، فإنه بيع معدوم، والقياس يمنع منه. والصواب أنه على وفق القياس، فإنه بيعٌ مضمونٌ في الذمة موصوفٌ مقدورٌ على تسليمه غالبًا، وهو كالمعاوضة على المنافع في الإجارة، وقد تقدم أنه على وفق القياس... وقد فطر الله العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له وبين السلم إليه في مغل مضمون في ذمته مقدور في العادة على تسليمه] اهـ. وقد ناقش العلامة الكمال ابن الهمام هذا الرأي في "فتح القدير" (7/ 71-72 ، ط. دار الفكر) وأطال في تفنيده.

أما الاستصناع فهو في اللغة: مصدر استصنع الشيء؛ أي دعا إلى صنعه، ويقال: اصطنع فلان بابًا: إذا سأل رجلًا أن يصنع له بابًا. انظر: "تاج العروس" (21/ 375، مادة: ص ن ع، ط. دار الهداية).

وفي الاصطلاح -على ما عرفه بعض الحنفية وصححه الكاساني في "البدائع" (5/ 2)- هو: عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل. فإذا قال شخص لآخر من أهل الصنائع: اصنع لي الشيء الفلاني بكذا درهمًا، وقبل الصانع ذلك، انعقد استصناعًا عند الحنفية.

ويرى أكثر الحنفية أن الاستصناع بيع عين شرط فيه العمل، أو هو بيع لكن للمشتري خيار الرؤية، فهو بيع إلا أنه ليس على إطلاقه، فخالف البيع المطلق في اشتراط العمل في الاستصناع، والمعروف أن البيع لا يشترط فيه العمل. وقال بعض الحنفية: إن الاستصناع إجارة محضة، وقيل: إنه إجارة ابتداء، بيع انتهاء. وذكر الحنفية أنه لو ضرب أجل للمستصنع فيه فهو سلم. انظر: "فتح القدير" (7/ 115-116، ط. دار الفكر). و"حاشية ابن عابدين" (5/ 223-225، ط. دار الكتب العلمية).

أما المالكية والشافعية فألحقوه بالسلم. انظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير" (3/ 287 ط. دار المعارف). و"المهذب" للشيرازي (1/ 297-298، ط. عيسى الحلبي).

أما الحنابلة فاختلفوا في تكييف الاستصناع: فقيل: لا يصح؛ لأنه بيع ما ليس عنده على غير وجه السلم. وقيل: يصح إن صح جمع بين بيع وإجارة منه بعقد واحد، لأنه بيع وسلم، أو شرط فيه نفع البائع. راجع: "الإنصاف" للمرداوي (4/ 300، ط. دار إحياء التراث العربي).

ويقول العلامة السرخسي في "المبسوط" (12/ 138، ط. دار المعرفة) في بيان أن الاستصناع جائز على خلاف القياس: [فالقياس أن لا يجوز ذلك؛ لأن المستصنع فيه مبيع وهو معدوم، وبيع المعدوم لا يجوز؛ لنهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان، ثم هذا في حكم بيع العين ولو كان موجودًا غَيْرَ مملوكٍ للعاقد لم يَجُزْ بيعُه، فكذلك إذا كان معدومًا، بل أولى، ولكنا نقول: نحن تركنا القياس لتعامل الناس في ذلك، فإنهم تعاملوه من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا من غير نَكِيرِ مُنْكِرٍ، وتعامل الناس من غير نكير أصلٌ من الأصول كبير] اهـ.

وبناءً على ما تقدم: فإن كلًّا من السلم والاستصناع مشروعٌ رخصةً لرَفْعِ الحاجة عن المكلفين وإن كانا يدخلان في عموم النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان، إلا أن المقصود بهذا النهي دَفْعُ ما يترتب عنه المنازعة والمفاسد، وقد جرت عادة الناس على التعامل بالسلم والاستصناع دون أن يترتب عليهما شيء من ذلك، فبقي ما عداهما مما يصدق عليه أنه بيع ما ليس عند الإنسان على الأصل العام المانع.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;