يسمع بعض الناس أن سلعة سيرتفع ثمنها فيذهب ويشتريها من بائعٍ لا يعلم بهذا الارتفاع المتوقَّع؛ بغرض بيعها بعد ارتفاع ثمنها، وقد يشتريها وقت الغلاء ويجمعها متربصًا زيادة السعر، فما حكم هذا الفعل؟ وهل اختصاص تاجر معين بإنتاج أو تصنيع سلعة معينة وبيعه لها بالسعر الذي يراه من قبيل الاحتكار المنهي عنه أم لا؟
الاحتكار
من إحدى خصائص المعاملات المالية في الإسلام مراعاتها لمصالح أطراف المعاملة جميعًا بحيث لا يلحق ضرر مؤثِّر بأحد الأطراف، وتلك الخصيصة طبيعة لما يمليه العدل الكامل الذي رسَّخته الشريعة الإسلامية، وكل ذلك لأن المعاملات مبناها على التشاحح لا المسامحة، ولأجل تحقيق هذا المقصد نهى الشارع عن بعض الممارسات التي قد تضر بمصالح بعض أطرافها، وسدَّ بطريقة محكمة منافذ هذه الممارسات بما يجفف منابعها.
من تلك الممارسات ما يعرف بـ"الاحتكار" الذي هو أحد الأسباب الرئيسة في ظهور ما يعرف بـ"السوق السوداء".
والاحتكار في اللغة يأتي لمعانٍ، منها: الضيق، والقلة، والاحتباس، والاستبداد. وكل المعاني والاستعمالات اللغوية للاحتكار تحمل معنى سوء الخلق، وكون الإنسان ظالمًا في معاملاته، بما ينبِّئ عن نفرة النفس عن هذه الممارسة الضارة.
وتعريف الفقهاء للاحتكار فيه تباين نظرًا لما ضمَّنه كل فقيه من شروط وأحكام قد لا يراها فقيه آخر؛ فعند الشافعية: هو شراء طعام غير محتاج إليه وقتَ الغلاء لا الرخص وإمساكه وبيعه بأكثر من ثمنه للتضييق. "نهاية المحتاج" (3/ 472، ط. دار الفكر).
وعرَّفه الحنفية بأنه: حبس الطعام للغلاء. "العناية" (10/ 58، ط. دار الفكر).
وعند الحنابلة: هو شراء قوت الآدمي وادِّخاره للضرر. "المبدع" (4/ 47، ط. دار الكتب العلمية).
ولم يذكر المالكية حدًّا للاحتكار، لكن المأخوذ من كلامهم أنه حبس شيء من الطعام أو غيره في وقت يضرُّ احتكاره فيه بالناس. "البيان والتحصيل" (17/ 284، ط. دار الغرب الإسلامي).
والمعنى الملاحظ في كل هذه التعريفات أن الاحتكار فيه تضييق على الناس يلحق بهم ضررًا، وأنه يتحقق بشراء الشيء وقت الغلاء وحبسه مع احتياج الناس إليه ليبيعه بأزيد من ثمنه.
وقد ورد النهي عن الاحتكار في عدة أحاديث، منها: حديث معمر رضي الله عنه: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ» رواه مسلم، وفي رواية: «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ».
ومنها: حديث أبي أمامة رضي الله عنه: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّمَ أَنْ يُحْتَكَرَ الطَّعَامُ" رواه الحاكم في "المستدرك" وغيره.
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «مَنِ احْتَكَرَ حُكْرَةً، يُرِيدُ أَنْ يُغْلِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ خَاطِئٌ» رواه أحمد والحاكم والبيهقي واللفظ لأحمد.
وحديث معقل بن يسار رضي الله عنه: «مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يَقْذِفَهُ فِي مُعْظَمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه أحمد والحاكم والبيهقي والطبراني.
وروي بسند ضعيف: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ» رواه ابن ماجه والبيهقي في "السنن".
وقد حمل جمهور الفقهاء هذه الأحاديث على الحرمة؛ لأن نفي الاحتكار الوارد في حديث معمر رضي الله عنه أبلغ في الدلالة على التحريم من النهي، لأنه بمعنى لا ينبغي لأحد أن يفعل هذا، كما أن المخطئ هو الآثم العاصي؛ يقول الإمام الشوكاني في "نيل الأوطار" (5/ 261، ط. دار الحديث) بعد إيراده أحاديث الاحتكار: [ولا شك أن أحاديث الباب تنتهض بمجموعها للاستدلال على عدم جواز الاحتكار ولو فرض عدم ثبوت شيء منها في الصحيح، فكيف وحديث معمر المذكور في "صحيح مسلم"، والتصريح بأن المحتكر خاطئ كافٍ في إفادة عدم الجواز] اهـ.
والتصريح بالطعام في حديث أبي أمامة رضي الله عنه لا يصلح حمل النهي المطلق في الأحاديث الأخرى عليه؛ لاحتمال كونه من باب التنصيص على فرد من أفراد المطلق لا لنفي الحكم عما عداه.
لكن هذا التحريم لا يثبت إلا بشروط، يكاد يتفق الفقهاء على ثلاثة منها، وهي: الشراء وقت الغلاء، والمراد بالشراء شراء السلعة الموجودة في البلد، والحبس مع تربص الغلاء، وإحداث ضرر بالناس جراء الحبس. "بدائع الصنائع" (5/ 129، ط. دار الكتب العلمية)، و"مواهب الجليل" (4/ 227، ط. دار الفكر)، و"أسنى المطالب" (2/ 37، ط. دار الكتاب الإسلامي)، و"المغني" (4/ 154، ط. دار الفكر)، و"الشرح الكبير" لابن أبي عمر (4/ 47، ط. دار الكتاب العربي).
فإذا اختل واحد من هذه الثلاثة فلا يكون احتكارًا، فلو حبس السلعة ولم يكن للناس في المحبوس حاجة، أو حبسها مع بيعها بثمن المثل، أو اشتراها في حال الضيق والغلاء ليربح فيها بلا حبس، فلا يُعدُّ احتكارًا؛ وكذا لو حبس ما تنتجه أرضه من زرع أو مصنعه من سلع، أو استورد سلعة من خارج البلد وحبسها فلا يُعدُّ احتكارًا ولو مع غلو ثمنها، شريطة ألا يكون بالناس ضرورة إليها بحيث يصيبهم ضرر بالحبس؛ لأن المقصد من منع الاحتكار إنما هو الضرر الواقع على مجموع المستهلكين جرَّاء حبس السلعة وقت الضيق والغلاء، وهذه الصور نصَّ عليها فقهاء الشافعية وبعضها تفهم من ظاهر العبارات؛ يقول الإمام الماوردي في "الحاوي" (5/ 411، ط. دار الكتب العلمية): [وأما الاحتكار والتربص بالأمتعة، فلا يكره في غير الأقوات، وأما الأقوات فلا يكره احتكارها مع سعة الأقوات ورخص الأسعار؛ لأن احتكارها عند الحاجة إليها، وأما احتكارها مع الضيق والغلاء وشدة الحاجة إليها فمكروه محرَّم... ولو اشتراها في حال الغلاء والضيق طالبًا لربحها لم يكن احتكارًا] اهـ.
ويقول الإمام الجويني في "النهاية" (6/ 64، ط. دار المنهاج): [قال الأصحاب: ... مَن يشتري الطعام في وقت الرخص وكساد الأسواق، ويحبسه ليبيعه إذا غلا فلا بأس؛ فإن أصل احتكاره وتربصه كان في رخاء الأسعار حيث لا ضرار، وربما يكون ما ادَّخره قائمًا مقام الذُّخْر للناس، ولولا ادخاره لكان يضيع ويتفرق، وكذلك مَن اتفقت له غلة من ضيعته فحبسها على أي قصد أراد لم يتعرض للوعيد. والقول في هذا الآن يتعلق بقطب عظيم، وهو أن الناس إذا كانوا يتهاوون على الردى، وقد أسرع فيهم الموتان -أي الموت والهلاك- العظيم الذريع، وانتهى كل واحد إلى استحلال الميتة وطعام الغير، فالقول في هذا وفي كل ما يدَّخره كل إنسان لنفسه ولعياله ليس بالهين] اهـ.
ويقول الإمام العمراني في "البيان" (5/ 357، ط. دار المنهاج): [إذا جَلَب الرجل الطعام من بلد إلى بلد، أو اشتراه في وقت رخصه، أو جاءه من ضيعته فحبسه عن الناس فإن ذلك ليس باحتكار، إلا أن يكون بالناس ضرورة وعنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله سنة، فيجب عليه بيع الفضل، فإن لم يفعل أجبره السلطان على ذلك؛ لأن في ذلك نفعًا للناس من غير ضرورةٍ عليه] اهـ.
ويقول الإمام السبكي فيما ينقله عنه الإمام الشوكاني في "نيل الأوطار" (5/ 262): [الذي ينبغي أن يقال في ذلك أنه إن مَنَع غيره من الشراء وحصل به ضيق حُرِّمَ، وإن كانت الأسعار رخيصة وكان القَدْر الذي يشتريه لا حاجة بالناس إليه فليس لمنعه من شرائه وادخاره إلى وقت حاجة الناس إليه معنًى. قال القاضي حسين والرُّوياني: وربما يكون هذا حسنة لأنه ينفع به الناس... وإذا كان في وقت قحط كان في ادخار العسل والسمن والشَّيْرَج -وهو زيت السمسم- وأمثالها إضرار، فينبغي أن يُقضَى بتحريمه، وإذا لم يكن إضرار فلا يخلو احتكار الأقوات عن كراهة. وقال القاضي حسين: إذا كان الناس يحتاجون الثياب ونحوها لشدة البرد أو لستر العورة فكره لمن عنده ذلك إمساكه. قال السبكي: إن أراد كراهة تحريم فظاهر، وإن أراد كراهة تنزيه فبعيد] اهـ.
والحاصل أن العلة في منع الاحتكار ليست ذات الاحتكار، بل الإضرار بالناس، ولهذا يقول الإمام البيهقي في "المعرفة" (8/ 206، ط. دار الوعي بحلب بالاشتراك) بعد ذكره حديث معمر رضي الله عنه: [إنما أراد -والله أعلم- إذا احتكر من طعام الناس ما يكون فيه ضرر عليهم دون ما لا ضرر فيه] اهـ.
والإضرار معنًى مشترك بين مرتبة الضرورة والحاجة، فإذا أَلجأ الاحتكارُ الناسَ إلى مرتبة الضرورة أو الحاجة فهذا الاحتكار المحرَّم، والذي يتحقق باحتكار أي شيء ولا يخص الطعام دون غيره؛ ذلك أن اختلاف الفقهاء فيما يكون فيه الاحتكار إنما هو خلاف في الصورة فقط -خلاف لفظي-، فعند المالكية أن الاحتكار يكون في كل شيء، سواء في الأقوات أم غيرها وإن كان ذهبًا وفضة، وهو قول أبي يوسف من الحنفية. وقال الشافعية والحنابلة إنه خاص بالأقوات فقط، وهو المفتى به عند الحنفية، وخصَّ الحنابلة القوت بقوت الآدمي، فلا احتكار عندهم في قوت البهائم، لكن القائلين باختصاصه بالأقوات اشترطوا ألَّا يكون للناس في المحبوس -ونعني به غير الأقوات- ضرورة، ومعناه عدم الجواز عند اضطرار الناس أو حاجتهم إلى الشيء الـمُحْتَكَر، وحالة الاضطرار أو الحاجة هي ما يصدق عليها معنى الاحتكار كما أوضحنا، فإذا لم يكن للناس حاجة في السلعة، ولم يضطروا إلى شرائها، فليس فيها احتكار وإن حبسها البائع وغلا ثمنها.
ففي "الدر المختار" للإمام الحَصْكَفي الحنفي (6/ 399، ط. دار الفكر): [(ولا يكون محتكرًا بحبس غلة أرضه) بلا خلاف] اهـ.
يقول العلامة ابن عابدين مُحشِّيًا: [والظاهر أن المراد أنه لا يأثم إثم المحتكر وإن أثم بانتظار الغلاء أو القحط؛ لنية السوء للمسلمين. وهل يجبر على بيعه؟ الظاهر: نعم، إن اضطر الناس إليه. تأمل] اهـ.
فغلة الأرض ومثلها منتجات المصنع لو حبسها لا إثم في احتكارها، ومع ذلك فللحاكم بيعها عليه إن اضطر الناس إليها.
وفي "حاشية الجمل على شرح المنهج" (3/ 93، ط. دار الفكر): [خرج بالأقواتِ الأمتعةُ، فلا يحرم احتكارها ما لم تدع إليها ضرورة] اهـ.
ويقول العلامة البهوتي في "كشاف القناع" (3/ 187، ط. عالم الكتب): [(ولا يحرم) الاحتكار (في الإدام كالعسل والزيت) ونحوهما، (ولا) احتكار (علف البهائم)؛ لأن هذه الأشياء لا تعمُّ الحاجة إليها أشبهت الثياب والحيوان] اهـ.
والتعليل بعدم عموم الحاجة مُؤذِنٌ بأنه إذا عمت الحاجة فلا ريب في الحرمة، وهذا ما يفهم من نصوص الحنابلة عند البحث عن علة تحريم الاحتكار في الأقوات؛ ففي "شرح المنتهى" للبهوتي (2/ 27، ط. عالم الكتب): [(ويُجبَر) مُحتَكِر (على بيعه) أي: ما احتكره من قوت آدمي، (كما يبيع الناس) لعموم المصلحة ودعاء الحاجة] اهـ.
ومما ينبغي الإشارة إليه أن الفقهاء حذَّروا أيضًا مما يشبه الاحتكار، كما فيما يحدث من بعض التجار في إغراق السوق بسلعة معينة وخفض سعرها لإكراه بعض التجار على الخروج من السوق، وهذا يئول إلى ما يسمى في العرف الاقتصادي بـ"احتكار العَرْض"، وصورته سيطرة فرد أو جماعة على فرع من فروع الإنتاج ومن ثَمَّ يتحكم هذا الفرد أو هذه الجماعة في الأسعار في مواجهة عدد من المشترين، والمقصد من منع هذه الصورة لا لأن فيها معنى الاحتكار، بل لما فيها من ضرر بالعامة، وقد يستدل على منع الصورة الأولى بما رواه مالك والبيهقي وعبد الرزاق من حديث ابن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرَّ على حاطب بن أبي بَلْتعة رضي الله عنه وهو يبيع زبيبًا له في السوق، فقال له عمر رضي الله عنه: "إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع عن سوقنا".
والوجه فيه خشية عمر رضي الله عنه محاولة احتكار السوق عن طريق إخراج بعض أهله منه بسبب خفض الأسعار.
أما الصورة الثانية فقد نص عليها العلامة ابن عابدين؛ ففي "تنوير الأبصار" للعلامة التمرتاشي: [(ولا يحجر حرٌّ مكلفٌ بسفهٍ بل مفت ماجن وطبيب جاهل ومكار مفلس)]، يقول العلامة ابن عابدين: [ألحق بهذه الثلاثة ثلاثة أخرى: المحتكر، وأرباب الطعام إذا تعدوا في البيع بالقيمة، وما لو أسلم عبدًا لذمي وامتنع من بيعه باعه القاضي. اهـ. قلت: وباب الأمر بالمعروف أوسع من هذا. تأمل. تنبيه: يعلم من هذا عدم جواز ما عليه أهل بعض الصنائع والحرف من منعهم من أراد الاشتغال في حرفتهم وهو متقن لها أو أراد تعلمها، فلا يحلُّ التحجير، كما أفتى به في "الحامدية"] اهـ. "رد المحتار" (6/ 148).
وبناءً على ما سبق: فشراء السلع المتوقَّع ارتفاع سعرها طلبًا للربح إن تمَّ بيعها بثمن مثلها بلا حبس فهو جائز، وإن اشتراها وقت الغلاء وحبسها متربصًا زيادة السعر مع حاجة الناس إلى ما حبسه فهو من الاحتكار المحرَّم، ولا بأس بحبس تاجر نتاج متجره أو مصنعه وبيعه بالسعر الذي يراه ما لم تكن هناك ضرورة أو حاجة بالناس للسلعة المحبوسة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
من إحدى خصائص المعاملات المالية في الإسلام مراعاتها لمصالح أطراف المعاملة جميعًا بحيث لا يلحق ضرر مؤثِّر بأحد الأطراف، وتلك الخصيصة طبيعة لما يمليه العدل الكامل الذي رسَّخته الشريعة الإسلامية، وكل ذلك لأن المعاملات مبناها على التشاحح لا المسامحة، ولأجل تحقيق هذا المقصد نهى الشارع عن بعض الممارسات التي قد تضر بمصالح بعض أطرافها، وسدَّ بطريقة محكمة منافذ هذه الممارسات بما يجفف منابعها.
من تلك الممارسات ما يعرف بـ"الاحتكار" الذي هو أحد الأسباب الرئيسة في ظهور ما يعرف بـ"السوق السوداء".
والاحتكار في اللغة يأتي لمعانٍ، منها: الضيق، والقلة، والاحتباس، والاستبداد. وكل المعاني والاستعمالات اللغوية للاحتكار تحمل معنى سوء الخلق، وكون الإنسان ظالمًا في معاملاته، بما ينبِّئ عن نفرة النفس عن هذه الممارسة الضارة.
وتعريف الفقهاء للاحتكار فيه تباين نظرًا لما ضمَّنه كل فقيه من شروط وأحكام قد لا يراها فقيه آخر؛ فعند الشافعية: هو شراء طعام غير محتاج إليه وقتَ الغلاء لا الرخص وإمساكه وبيعه بأكثر من ثمنه للتضييق. "نهاية المحتاج" (3/ 472، ط. دار الفكر).
وعرَّفه الحنفية بأنه: حبس الطعام للغلاء. "العناية" (10/ 58، ط. دار الفكر).
وعند الحنابلة: هو شراء قوت الآدمي وادِّخاره للضرر. "المبدع" (4/ 47، ط. دار الكتب العلمية).
ولم يذكر المالكية حدًّا للاحتكار، لكن المأخوذ من كلامهم أنه حبس شيء من الطعام أو غيره في وقت يضرُّ احتكاره فيه بالناس. "البيان والتحصيل" (17/ 284، ط. دار الغرب الإسلامي).
والمعنى الملاحظ في كل هذه التعريفات أن الاحتكار فيه تضييق على الناس يلحق بهم ضررًا، وأنه يتحقق بشراء الشيء وقت الغلاء وحبسه مع احتياج الناس إليه ليبيعه بأزيد من ثمنه.
وقد ورد النهي عن الاحتكار في عدة أحاديث، منها: حديث معمر رضي الله عنه: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ» رواه مسلم، وفي رواية: «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ».
ومنها: حديث أبي أمامة رضي الله عنه: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّمَ أَنْ يُحْتَكَرَ الطَّعَامُ" رواه الحاكم في "المستدرك" وغيره.
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «مَنِ احْتَكَرَ حُكْرَةً، يُرِيدُ أَنْ يُغْلِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ خَاطِئٌ» رواه أحمد والحاكم والبيهقي واللفظ لأحمد.
وحديث معقل بن يسار رضي الله عنه: «مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يَقْذِفَهُ فِي مُعْظَمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه أحمد والحاكم والبيهقي والطبراني.
وروي بسند ضعيف: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ» رواه ابن ماجه والبيهقي في "السنن".
وقد حمل جمهور الفقهاء هذه الأحاديث على الحرمة؛ لأن نفي الاحتكار الوارد في حديث معمر رضي الله عنه أبلغ في الدلالة على التحريم من النهي، لأنه بمعنى لا ينبغي لأحد أن يفعل هذا، كما أن المخطئ هو الآثم العاصي؛ يقول الإمام الشوكاني في "نيل الأوطار" (5/ 261، ط. دار الحديث) بعد إيراده أحاديث الاحتكار: [ولا شك أن أحاديث الباب تنتهض بمجموعها للاستدلال على عدم جواز الاحتكار ولو فرض عدم ثبوت شيء منها في الصحيح، فكيف وحديث معمر المذكور في "صحيح مسلم"، والتصريح بأن المحتكر خاطئ كافٍ في إفادة عدم الجواز] اهـ.
والتصريح بالطعام في حديث أبي أمامة رضي الله عنه لا يصلح حمل النهي المطلق في الأحاديث الأخرى عليه؛ لاحتمال كونه من باب التنصيص على فرد من أفراد المطلق لا لنفي الحكم عما عداه.
لكن هذا التحريم لا يثبت إلا بشروط، يكاد يتفق الفقهاء على ثلاثة منها، وهي: الشراء وقت الغلاء، والمراد بالشراء شراء السلعة الموجودة في البلد، والحبس مع تربص الغلاء، وإحداث ضرر بالناس جراء الحبس. "بدائع الصنائع" (5/ 129، ط. دار الكتب العلمية)، و"مواهب الجليل" (4/ 227، ط. دار الفكر)، و"أسنى المطالب" (2/ 37، ط. دار الكتاب الإسلامي)، و"المغني" (4/ 154، ط. دار الفكر)، و"الشرح الكبير" لابن أبي عمر (4/ 47، ط. دار الكتاب العربي).
فإذا اختل واحد من هذه الثلاثة فلا يكون احتكارًا، فلو حبس السلعة ولم يكن للناس في المحبوس حاجة، أو حبسها مع بيعها بثمن المثل، أو اشتراها في حال الضيق والغلاء ليربح فيها بلا حبس، فلا يُعدُّ احتكارًا؛ وكذا لو حبس ما تنتجه أرضه من زرع أو مصنعه من سلع، أو استورد سلعة من خارج البلد وحبسها فلا يُعدُّ احتكارًا ولو مع غلو ثمنها، شريطة ألا يكون بالناس ضرورة إليها بحيث يصيبهم ضرر بالحبس؛ لأن المقصد من منع الاحتكار إنما هو الضرر الواقع على مجموع المستهلكين جرَّاء حبس السلعة وقت الضيق والغلاء، وهذه الصور نصَّ عليها فقهاء الشافعية وبعضها تفهم من ظاهر العبارات؛ يقول الإمام الماوردي في "الحاوي" (5/ 411، ط. دار الكتب العلمية): [وأما الاحتكار والتربص بالأمتعة، فلا يكره في غير الأقوات، وأما الأقوات فلا يكره احتكارها مع سعة الأقوات ورخص الأسعار؛ لأن احتكارها عند الحاجة إليها، وأما احتكارها مع الضيق والغلاء وشدة الحاجة إليها فمكروه محرَّم... ولو اشتراها في حال الغلاء والضيق طالبًا لربحها لم يكن احتكارًا] اهـ.
ويقول الإمام الجويني في "النهاية" (6/ 64، ط. دار المنهاج): [قال الأصحاب: ... مَن يشتري الطعام في وقت الرخص وكساد الأسواق، ويحبسه ليبيعه إذا غلا فلا بأس؛ فإن أصل احتكاره وتربصه كان في رخاء الأسعار حيث لا ضرار، وربما يكون ما ادَّخره قائمًا مقام الذُّخْر للناس، ولولا ادخاره لكان يضيع ويتفرق، وكذلك مَن اتفقت له غلة من ضيعته فحبسها على أي قصد أراد لم يتعرض للوعيد. والقول في هذا الآن يتعلق بقطب عظيم، وهو أن الناس إذا كانوا يتهاوون على الردى، وقد أسرع فيهم الموتان -أي الموت والهلاك- العظيم الذريع، وانتهى كل واحد إلى استحلال الميتة وطعام الغير، فالقول في هذا وفي كل ما يدَّخره كل إنسان لنفسه ولعياله ليس بالهين] اهـ.
ويقول الإمام العمراني في "البيان" (5/ 357، ط. دار المنهاج): [إذا جَلَب الرجل الطعام من بلد إلى بلد، أو اشتراه في وقت رخصه، أو جاءه من ضيعته فحبسه عن الناس فإن ذلك ليس باحتكار، إلا أن يكون بالناس ضرورة وعنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله سنة، فيجب عليه بيع الفضل، فإن لم يفعل أجبره السلطان على ذلك؛ لأن في ذلك نفعًا للناس من غير ضرورةٍ عليه] اهـ.
ويقول الإمام السبكي فيما ينقله عنه الإمام الشوكاني في "نيل الأوطار" (5/ 262): [الذي ينبغي أن يقال في ذلك أنه إن مَنَع غيره من الشراء وحصل به ضيق حُرِّمَ، وإن كانت الأسعار رخيصة وكان القَدْر الذي يشتريه لا حاجة بالناس إليه فليس لمنعه من شرائه وادخاره إلى وقت حاجة الناس إليه معنًى. قال القاضي حسين والرُّوياني: وربما يكون هذا حسنة لأنه ينفع به الناس... وإذا كان في وقت قحط كان في ادخار العسل والسمن والشَّيْرَج -وهو زيت السمسم- وأمثالها إضرار، فينبغي أن يُقضَى بتحريمه، وإذا لم يكن إضرار فلا يخلو احتكار الأقوات عن كراهة. وقال القاضي حسين: إذا كان الناس يحتاجون الثياب ونحوها لشدة البرد أو لستر العورة فكره لمن عنده ذلك إمساكه. قال السبكي: إن أراد كراهة تحريم فظاهر، وإن أراد كراهة تنزيه فبعيد] اهـ.
والحاصل أن العلة في منع الاحتكار ليست ذات الاحتكار، بل الإضرار بالناس، ولهذا يقول الإمام البيهقي في "المعرفة" (8/ 206، ط. دار الوعي بحلب بالاشتراك) بعد ذكره حديث معمر رضي الله عنه: [إنما أراد -والله أعلم- إذا احتكر من طعام الناس ما يكون فيه ضرر عليهم دون ما لا ضرر فيه] اهـ.
والإضرار معنًى مشترك بين مرتبة الضرورة والحاجة، فإذا أَلجأ الاحتكارُ الناسَ إلى مرتبة الضرورة أو الحاجة فهذا الاحتكار المحرَّم، والذي يتحقق باحتكار أي شيء ولا يخص الطعام دون غيره؛ ذلك أن اختلاف الفقهاء فيما يكون فيه الاحتكار إنما هو خلاف في الصورة فقط -خلاف لفظي-، فعند المالكية أن الاحتكار يكون في كل شيء، سواء في الأقوات أم غيرها وإن كان ذهبًا وفضة، وهو قول أبي يوسف من الحنفية. وقال الشافعية والحنابلة إنه خاص بالأقوات فقط، وهو المفتى به عند الحنفية، وخصَّ الحنابلة القوت بقوت الآدمي، فلا احتكار عندهم في قوت البهائم، لكن القائلين باختصاصه بالأقوات اشترطوا ألَّا يكون للناس في المحبوس -ونعني به غير الأقوات- ضرورة، ومعناه عدم الجواز عند اضطرار الناس أو حاجتهم إلى الشيء الـمُحْتَكَر، وحالة الاضطرار أو الحاجة هي ما يصدق عليها معنى الاحتكار كما أوضحنا، فإذا لم يكن للناس حاجة في السلعة، ولم يضطروا إلى شرائها، فليس فيها احتكار وإن حبسها البائع وغلا ثمنها.
ففي "الدر المختار" للإمام الحَصْكَفي الحنفي (6/ 399، ط. دار الفكر): [(ولا يكون محتكرًا بحبس غلة أرضه) بلا خلاف] اهـ.
يقول العلامة ابن عابدين مُحشِّيًا: [والظاهر أن المراد أنه لا يأثم إثم المحتكر وإن أثم بانتظار الغلاء أو القحط؛ لنية السوء للمسلمين. وهل يجبر على بيعه؟ الظاهر: نعم، إن اضطر الناس إليه. تأمل] اهـ.
فغلة الأرض ومثلها منتجات المصنع لو حبسها لا إثم في احتكارها، ومع ذلك فللحاكم بيعها عليه إن اضطر الناس إليها.
وفي "حاشية الجمل على شرح المنهج" (3/ 93، ط. دار الفكر): [خرج بالأقواتِ الأمتعةُ، فلا يحرم احتكارها ما لم تدع إليها ضرورة] اهـ.
ويقول العلامة البهوتي في "كشاف القناع" (3/ 187، ط. عالم الكتب): [(ولا يحرم) الاحتكار (في الإدام كالعسل والزيت) ونحوهما، (ولا) احتكار (علف البهائم)؛ لأن هذه الأشياء لا تعمُّ الحاجة إليها أشبهت الثياب والحيوان] اهـ.
والتعليل بعدم عموم الحاجة مُؤذِنٌ بأنه إذا عمت الحاجة فلا ريب في الحرمة، وهذا ما يفهم من نصوص الحنابلة عند البحث عن علة تحريم الاحتكار في الأقوات؛ ففي "شرح المنتهى" للبهوتي (2/ 27، ط. عالم الكتب): [(ويُجبَر) مُحتَكِر (على بيعه) أي: ما احتكره من قوت آدمي، (كما يبيع الناس) لعموم المصلحة ودعاء الحاجة] اهـ.
ومما ينبغي الإشارة إليه أن الفقهاء حذَّروا أيضًا مما يشبه الاحتكار، كما فيما يحدث من بعض التجار في إغراق السوق بسلعة معينة وخفض سعرها لإكراه بعض التجار على الخروج من السوق، وهذا يئول إلى ما يسمى في العرف الاقتصادي بـ"احتكار العَرْض"، وصورته سيطرة فرد أو جماعة على فرع من فروع الإنتاج ومن ثَمَّ يتحكم هذا الفرد أو هذه الجماعة في الأسعار في مواجهة عدد من المشترين، والمقصد من منع هذه الصورة لا لأن فيها معنى الاحتكار، بل لما فيها من ضرر بالعامة، وقد يستدل على منع الصورة الأولى بما رواه مالك والبيهقي وعبد الرزاق من حديث ابن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرَّ على حاطب بن أبي بَلْتعة رضي الله عنه وهو يبيع زبيبًا له في السوق، فقال له عمر رضي الله عنه: "إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع عن سوقنا".
والوجه فيه خشية عمر رضي الله عنه محاولة احتكار السوق عن طريق إخراج بعض أهله منه بسبب خفض الأسعار.
أما الصورة الثانية فقد نص عليها العلامة ابن عابدين؛ ففي "تنوير الأبصار" للعلامة التمرتاشي: [(ولا يحجر حرٌّ مكلفٌ بسفهٍ بل مفت ماجن وطبيب جاهل ومكار مفلس)]، يقول العلامة ابن عابدين: [ألحق بهذه الثلاثة ثلاثة أخرى: المحتكر، وأرباب الطعام إذا تعدوا في البيع بالقيمة، وما لو أسلم عبدًا لذمي وامتنع من بيعه باعه القاضي. اهـ. قلت: وباب الأمر بالمعروف أوسع من هذا. تأمل. تنبيه: يعلم من هذا عدم جواز ما عليه أهل بعض الصنائع والحرف من منعهم من أراد الاشتغال في حرفتهم وهو متقن لها أو أراد تعلمها، فلا يحلُّ التحجير، كما أفتى به في "الحامدية"] اهـ. "رد المحتار" (6/ 148).
وبناءً على ما سبق: فشراء السلع المتوقَّع ارتفاع سعرها طلبًا للربح إن تمَّ بيعها بثمن مثلها بلا حبس فهو جائز، وإن اشتراها وقت الغلاء وحبسها متربصًا زيادة السعر مع حاجة الناس إلى ما حبسه فهو من الاحتكار المحرَّم، ولا بأس بحبس تاجر نتاج متجره أو مصنعه وبيعه بالسعر الذي يراه ما لم تكن هناك ضرورة أو حاجة بالناس للسلعة المحبوسة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
الاحتكار
يسمع بعض الناس أن سلعة سيرتفع ثمنها فيذهب ويشتريها من بائعٍ لا يعلم بهذا الارتفاع المتوقَّع؛ بغرض بيعها بعد ارتفاع ثمنها، وقد يشتريها وقت الغلاء ويجمعها متربصًا زيادة السعر، فما حكم هذا الفعل؟ وهل اختصاص تاجر معين بإنتاج أو تصنيع سلعة معينة وبيعه لها بالسعر الذي يراه من قبيل الاحتكار المنهي عنه أم لا؟
من إحدى خصائص المعاملات المالية في الإسلام مراعاتها لمصالح أطراف المعاملة جميعًا بحيث لا يلحق ضرر مؤثِّر بأحد الأطراف، وتلك الخصيصة طبيعة لما يمليه العدل الكامل الذي رسَّخته الشريعة الإسلامية، وكل ذلك لأن المعاملات مبناها على التشاحح لا المسامحة، ولأجل تحقيق هذا المقصد نهى الشارع عن بعض الممارسات التي قد تضر بمصالح بعض أطرافها، وسدَّ بطريقة محكمة منافذ هذه الممارسات بما يجفف منابعها.
من تلك الممارسات ما يعرف بـ"الاحتكار" الذي هو أحد الأسباب الرئيسة في ظهور ما يعرف بـ"السوق السوداء".
والاحتكار في اللغة يأتي لمعانٍ، منها: الضيق، والقلة، والاحتباس، والاستبداد. وكل المعاني والاستعمالات اللغوية للاحتكار تحمل معنى سوء الخلق، وكون الإنسان ظالمًا في معاملاته، بما ينبِّئ عن نفرة النفس عن هذه الممارسة الضارة.
وتعريف الفقهاء للاحتكار فيه تباين نظرًا لما ضمَّنه كل فقيه من شروط وأحكام قد لا يراها فقيه آخر؛ فعند الشافعية: هو شراء طعام غير محتاج إليه وقتَ الغلاء لا الرخص وإمساكه وبيعه بأكثر من ثمنه للتضييق. "نهاية المحتاج" (3/ 472، ط. دار الفكر).
وعرَّفه الحنفية بأنه: حبس الطعام للغلاء. "العناية" (10/ 58، ط. دار الفكر).
وعند الحنابلة: هو شراء قوت الآدمي وادِّخاره للضرر. "المبدع" (4/ 47، ط. دار الكتب العلمية).
ولم يذكر المالكية حدًّا للاحتكار، لكن المأخوذ من كلامهم أنه حبس شيء من الطعام أو غيره في وقت يضرُّ احتكاره فيه بالناس. "البيان والتحصيل" (17/ 284، ط. دار الغرب الإسلامي).
والمعنى الملاحظ في كل هذه التعريفات أن الاحتكار فيه تضييق على الناس يلحق بهم ضررًا، وأنه يتحقق بشراء الشيء وقت الغلاء وحبسه مع احتياج الناس إليه ليبيعه بأزيد من ثمنه.
وقد ورد النهي عن الاحتكار في عدة أحاديث، منها: حديث معمر رضي الله عنه: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ» رواه مسلم، وفي رواية: «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ».
ومنها: حديث أبي أمامة رضي الله عنه: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّمَ أَنْ يُحْتَكَرَ الطَّعَامُ" رواه الحاكم في "المستدرك" وغيره.
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «مَنِ احْتَكَرَ حُكْرَةً، يُرِيدُ أَنْ يُغْلِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ خَاطِئٌ» رواه أحمد والحاكم والبيهقي واللفظ لأحمد.
وحديث معقل بن يسار رضي الله عنه: «مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يَقْذِفَهُ فِي مُعْظَمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه أحمد والحاكم والبيهقي والطبراني.
وروي بسند ضعيف: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ» رواه ابن ماجه والبيهقي في "السنن".
وقد حمل جمهور الفقهاء هذه الأحاديث على الحرمة؛ لأن نفي الاحتكار الوارد في حديث معمر رضي الله عنه أبلغ في الدلالة على التحريم من النهي، لأنه بمعنى لا ينبغي لأحد أن يفعل هذا، كما أن المخطئ هو الآثم العاصي؛ يقول الإمام الشوكاني في "نيل الأوطار" (5/ 261، ط. دار الحديث) بعد إيراده أحاديث الاحتكار: [ولا شك أن أحاديث الباب تنتهض بمجموعها للاستدلال على عدم جواز الاحتكار ولو فرض عدم ثبوت شيء منها في الصحيح، فكيف وحديث معمر المذكور في "صحيح مسلم"، والتصريح بأن المحتكر خاطئ كافٍ في إفادة عدم الجواز] اهـ.
والتصريح بالطعام في حديث أبي أمامة رضي الله عنه لا يصلح حمل النهي المطلق في الأحاديث الأخرى عليه؛ لاحتمال كونه من باب التنصيص على فرد من أفراد المطلق لا لنفي الحكم عما عداه.
لكن هذا التحريم لا يثبت إلا بشروط، يكاد يتفق الفقهاء على ثلاثة منها، وهي: الشراء وقت الغلاء، والمراد بالشراء شراء السلعة الموجودة في البلد، والحبس مع تربص الغلاء، وإحداث ضرر بالناس جراء الحبس. "بدائع الصنائع" (5/ 129، ط. دار الكتب العلمية)، و"مواهب الجليل" (4/ 227، ط. دار الفكر)، و"أسنى المطالب" (2/ 37، ط. دار الكتاب الإسلامي)، و"المغني" (4/ 154، ط. دار الفكر)، و"الشرح الكبير" لابن أبي عمر (4/ 47، ط. دار الكتاب العربي).
فإذا اختل واحد من هذه الثلاثة فلا يكون احتكارًا، فلو حبس السلعة ولم يكن للناس في المحبوس حاجة، أو حبسها مع بيعها بثمن المثل، أو اشتراها في حال الضيق والغلاء ليربح فيها بلا حبس، فلا يُعدُّ احتكارًا؛ وكذا لو حبس ما تنتجه أرضه من زرع أو مصنعه من سلع، أو استورد سلعة من خارج البلد وحبسها فلا يُعدُّ احتكارًا ولو مع غلو ثمنها، شريطة ألا يكون بالناس ضرورة إليها بحيث يصيبهم ضرر بالحبس؛ لأن المقصد من منع الاحتكار إنما هو الضرر الواقع على مجموع المستهلكين جرَّاء حبس السلعة وقت الضيق والغلاء، وهذه الصور نصَّ عليها فقهاء الشافعية وبعضها تفهم من ظاهر العبارات؛ يقول الإمام الماوردي في "الحاوي" (5/ 411، ط. دار الكتب العلمية): [وأما الاحتكار والتربص بالأمتعة، فلا يكره في غير الأقوات، وأما الأقوات فلا يكره احتكارها مع سعة الأقوات ورخص الأسعار؛ لأن احتكارها عند الحاجة إليها، وأما احتكارها مع الضيق والغلاء وشدة الحاجة إليها فمكروه محرَّم... ولو اشتراها في حال الغلاء والضيق طالبًا لربحها لم يكن احتكارًا] اهـ.
ويقول الإمام الجويني في "النهاية" (6/ 64، ط. دار المنهاج): [قال الأصحاب: ... مَن يشتري الطعام في وقت الرخص وكساد الأسواق، ويحبسه ليبيعه إذا غلا فلا بأس؛ فإن أصل احتكاره وتربصه كان في رخاء الأسعار حيث لا ضرار، وربما يكون ما ادَّخره قائمًا مقام الذُّخْر للناس، ولولا ادخاره لكان يضيع ويتفرق، وكذلك مَن اتفقت له غلة من ضيعته فحبسها على أي قصد أراد لم يتعرض للوعيد. والقول في هذا الآن يتعلق بقطب عظيم، وهو أن الناس إذا كانوا يتهاوون على الردى، وقد أسرع فيهم الموتان -أي الموت والهلاك- العظيم الذريع، وانتهى كل واحد إلى استحلال الميتة وطعام الغير، فالقول في هذا وفي كل ما يدَّخره كل إنسان لنفسه ولعياله ليس بالهين] اهـ.
ويقول الإمام العمراني في "البيان" (5/ 357، ط. دار المنهاج): [إذا جَلَب الرجل الطعام من بلد إلى بلد، أو اشتراه في وقت رخصه، أو جاءه من ضيعته فحبسه عن الناس فإن ذلك ليس باحتكار، إلا أن يكون بالناس ضرورة وعنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله سنة، فيجب عليه بيع الفضل، فإن لم يفعل أجبره السلطان على ذلك؛ لأن في ذلك نفعًا للناس من غير ضرورةٍ عليه] اهـ.
ويقول الإمام السبكي فيما ينقله عنه الإمام الشوكاني في "نيل الأوطار" (5/ 262): [الذي ينبغي أن يقال في ذلك أنه إن مَنَع غيره من الشراء وحصل به ضيق حُرِّمَ، وإن كانت الأسعار رخيصة وكان القَدْر الذي يشتريه لا حاجة بالناس إليه فليس لمنعه من شرائه وادخاره إلى وقت حاجة الناس إليه معنًى. قال القاضي حسين والرُّوياني: وربما يكون هذا حسنة لأنه ينفع به الناس... وإذا كان في وقت قحط كان في ادخار العسل والسمن والشَّيْرَج -وهو زيت السمسم- وأمثالها إضرار، فينبغي أن يُقضَى بتحريمه، وإذا لم يكن إضرار فلا يخلو احتكار الأقوات عن كراهة. وقال القاضي حسين: إذا كان الناس يحتاجون الثياب ونحوها لشدة البرد أو لستر العورة فكره لمن عنده ذلك إمساكه. قال السبكي: إن أراد كراهة تحريم فظاهر، وإن أراد كراهة تنزيه فبعيد] اهـ.
والحاصل أن العلة في منع الاحتكار ليست ذات الاحتكار، بل الإضرار بالناس، ولهذا يقول الإمام البيهقي في "المعرفة" (8/ 206، ط. دار الوعي بحلب بالاشتراك) بعد ذكره حديث معمر رضي الله عنه: [إنما أراد -والله أعلم- إذا احتكر من طعام الناس ما يكون فيه ضرر عليهم دون ما لا ضرر فيه] اهـ.
والإضرار معنًى مشترك بين مرتبة الضرورة والحاجة، فإذا أَلجأ الاحتكارُ الناسَ إلى مرتبة الضرورة أو الحاجة فهذا الاحتكار المحرَّم، والذي يتحقق باحتكار أي شيء ولا يخص الطعام دون غيره؛ ذلك أن اختلاف الفقهاء فيما يكون فيه الاحتكار إنما هو خلاف في الصورة فقط -خلاف لفظي-، فعند المالكية أن الاحتكار يكون في كل شيء، سواء في الأقوات أم غيرها وإن كان ذهبًا وفضة، وهو قول أبي يوسف من الحنفية. وقال الشافعية والحنابلة إنه خاص بالأقوات فقط، وهو المفتى به عند الحنفية، وخصَّ الحنابلة القوت بقوت الآدمي، فلا احتكار عندهم في قوت البهائم، لكن القائلين باختصاصه بالأقوات اشترطوا ألَّا يكون للناس في المحبوس -ونعني به غير الأقوات- ضرورة، ومعناه عدم الجواز عند اضطرار الناس أو حاجتهم إلى الشيء الـمُحْتَكَر، وحالة الاضطرار أو الحاجة هي ما يصدق عليها معنى الاحتكار كما أوضحنا، فإذا لم يكن للناس حاجة في السلعة، ولم يضطروا إلى شرائها، فليس فيها احتكار وإن حبسها البائع وغلا ثمنها.
ففي "الدر المختار" للإمام الحَصْكَفي الحنفي (6/ 399، ط. دار الفكر): [(ولا يكون محتكرًا بحبس غلة أرضه) بلا خلاف] اهـ.
يقول العلامة ابن عابدين مُحشِّيًا: [والظاهر أن المراد أنه لا يأثم إثم المحتكر وإن أثم بانتظار الغلاء أو القحط؛ لنية السوء للمسلمين. وهل يجبر على بيعه؟ الظاهر: نعم، إن اضطر الناس إليه. تأمل] اهـ.
فغلة الأرض ومثلها منتجات المصنع لو حبسها لا إثم في احتكارها، ومع ذلك فللحاكم بيعها عليه إن اضطر الناس إليها.
وفي "حاشية الجمل على شرح المنهج" (3/ 93، ط. دار الفكر): [خرج بالأقواتِ الأمتعةُ، فلا يحرم احتكارها ما لم تدع إليها ضرورة] اهـ.
ويقول العلامة البهوتي في "كشاف القناع" (3/ 187، ط. عالم الكتب): [(ولا يحرم) الاحتكار (في الإدام كالعسل والزيت) ونحوهما، (ولا) احتكار (علف البهائم)؛ لأن هذه الأشياء لا تعمُّ الحاجة إليها أشبهت الثياب والحيوان] اهـ.
والتعليل بعدم عموم الحاجة مُؤذِنٌ بأنه إذا عمت الحاجة فلا ريب في الحرمة، وهذا ما يفهم من نصوص الحنابلة عند البحث عن علة تحريم الاحتكار في الأقوات؛ ففي "شرح المنتهى" للبهوتي (2/ 27، ط. عالم الكتب): [(ويُجبَر) مُحتَكِر (على بيعه) أي: ما احتكره من قوت آدمي، (كما يبيع الناس) لعموم المصلحة ودعاء الحاجة] اهـ.
ومما ينبغي الإشارة إليه أن الفقهاء حذَّروا أيضًا مما يشبه الاحتكار، كما فيما يحدث من بعض التجار في إغراق السوق بسلعة معينة وخفض سعرها لإكراه بعض التجار على الخروج من السوق، وهذا يئول إلى ما يسمى في العرف الاقتصادي بـ"احتكار العَرْض"، وصورته سيطرة فرد أو جماعة على فرع من فروع الإنتاج ومن ثَمَّ يتحكم هذا الفرد أو هذه الجماعة في الأسعار في مواجهة عدد من المشترين، والمقصد من منع هذه الصورة لا لأن فيها معنى الاحتكار، بل لما فيها من ضرر بالعامة، وقد يستدل على منع الصورة الأولى بما رواه مالك والبيهقي وعبد الرزاق من حديث ابن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرَّ على حاطب بن أبي بَلْتعة رضي الله عنه وهو يبيع زبيبًا له في السوق، فقال له عمر رضي الله عنه: "إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع عن سوقنا".
والوجه فيه خشية عمر رضي الله عنه محاولة احتكار السوق عن طريق إخراج بعض أهله منه بسبب خفض الأسعار.
أما الصورة الثانية فقد نص عليها العلامة ابن عابدين؛ ففي "تنوير الأبصار" للعلامة التمرتاشي: [(ولا يحجر حرٌّ مكلفٌ بسفهٍ بل مفت ماجن وطبيب جاهل ومكار مفلس)]، يقول العلامة ابن عابدين: [ألحق بهذه الثلاثة ثلاثة أخرى: المحتكر، وأرباب الطعام إذا تعدوا في البيع بالقيمة، وما لو أسلم عبدًا لذمي وامتنع من بيعه باعه القاضي. اهـ. قلت: وباب الأمر بالمعروف أوسع من هذا. تأمل. تنبيه: يعلم من هذا عدم جواز ما عليه أهل بعض الصنائع والحرف من منعهم من أراد الاشتغال في حرفتهم وهو متقن لها أو أراد تعلمها، فلا يحلُّ التحجير، كما أفتى به في "الحامدية"] اهـ. "رد المحتار" (6/ 148).
وبناءً على ما سبق: فشراء السلع المتوقَّع ارتفاع سعرها طلبًا للربح إن تمَّ بيعها بثمن مثلها بلا حبس فهو جائز، وإن اشتراها وقت الغلاء وحبسها متربصًا زيادة السعر مع حاجة الناس إلى ما حبسه فهو من الاحتكار المحرَّم، ولا بأس بحبس تاجر نتاج متجره أو مصنعه وبيعه بالسعر الذي يراه ما لم تكن هناك ضرورة أو حاجة بالناس للسلعة المحبوسة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
من إحدى خصائص المعاملات المالية في الإسلام مراعاتها لمصالح أطراف المعاملة جميعًا بحيث لا يلحق ضرر مؤثِّر بأحد الأطراف، وتلك الخصيصة طبيعة لما يمليه العدل الكامل الذي رسَّخته الشريعة الإسلامية، وكل ذلك لأن المعاملات مبناها على التشاحح لا المسامحة، ولأجل تحقيق هذا المقصد نهى الشارع عن بعض الممارسات التي قد تضر بمصالح بعض أطرافها، وسدَّ بطريقة محكمة منافذ هذه الممارسات بما يجفف منابعها.
من تلك الممارسات ما يعرف بـ"الاحتكار" الذي هو أحد الأسباب الرئيسة في ظهور ما يعرف بـ"السوق السوداء".
والاحتكار في اللغة يأتي لمعانٍ، منها: الضيق، والقلة، والاحتباس، والاستبداد. وكل المعاني والاستعمالات اللغوية للاحتكار تحمل معنى سوء الخلق، وكون الإنسان ظالمًا في معاملاته، بما ينبِّئ عن نفرة النفس عن هذه الممارسة الضارة.
وتعريف الفقهاء للاحتكار فيه تباين نظرًا لما ضمَّنه كل فقيه من شروط وأحكام قد لا يراها فقيه آخر؛ فعند الشافعية: هو شراء طعام غير محتاج إليه وقتَ الغلاء لا الرخص وإمساكه وبيعه بأكثر من ثمنه للتضييق. "نهاية المحتاج" (3/ 472، ط. دار الفكر).
وعرَّفه الحنفية بأنه: حبس الطعام للغلاء. "العناية" (10/ 58، ط. دار الفكر).
وعند الحنابلة: هو شراء قوت الآدمي وادِّخاره للضرر. "المبدع" (4/ 47، ط. دار الكتب العلمية).
ولم يذكر المالكية حدًّا للاحتكار، لكن المأخوذ من كلامهم أنه حبس شيء من الطعام أو غيره في وقت يضرُّ احتكاره فيه بالناس. "البيان والتحصيل" (17/ 284، ط. دار الغرب الإسلامي).
والمعنى الملاحظ في كل هذه التعريفات أن الاحتكار فيه تضييق على الناس يلحق بهم ضررًا، وأنه يتحقق بشراء الشيء وقت الغلاء وحبسه مع احتياج الناس إليه ليبيعه بأزيد من ثمنه.
وقد ورد النهي عن الاحتكار في عدة أحاديث، منها: حديث معمر رضي الله عنه: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ» رواه مسلم، وفي رواية: «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ».
ومنها: حديث أبي أمامة رضي الله عنه: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّمَ أَنْ يُحْتَكَرَ الطَّعَامُ" رواه الحاكم في "المستدرك" وغيره.
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «مَنِ احْتَكَرَ حُكْرَةً، يُرِيدُ أَنْ يُغْلِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ خَاطِئٌ» رواه أحمد والحاكم والبيهقي واللفظ لأحمد.
وحديث معقل بن يسار رضي الله عنه: «مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يَقْذِفَهُ فِي مُعْظَمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه أحمد والحاكم والبيهقي والطبراني.
وروي بسند ضعيف: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ» رواه ابن ماجه والبيهقي في "السنن".
وقد حمل جمهور الفقهاء هذه الأحاديث على الحرمة؛ لأن نفي الاحتكار الوارد في حديث معمر رضي الله عنه أبلغ في الدلالة على التحريم من النهي، لأنه بمعنى لا ينبغي لأحد أن يفعل هذا، كما أن المخطئ هو الآثم العاصي؛ يقول الإمام الشوكاني في "نيل الأوطار" (5/ 261، ط. دار الحديث) بعد إيراده أحاديث الاحتكار: [ولا شك أن أحاديث الباب تنتهض بمجموعها للاستدلال على عدم جواز الاحتكار ولو فرض عدم ثبوت شيء منها في الصحيح، فكيف وحديث معمر المذكور في "صحيح مسلم"، والتصريح بأن المحتكر خاطئ كافٍ في إفادة عدم الجواز] اهـ.
والتصريح بالطعام في حديث أبي أمامة رضي الله عنه لا يصلح حمل النهي المطلق في الأحاديث الأخرى عليه؛ لاحتمال كونه من باب التنصيص على فرد من أفراد المطلق لا لنفي الحكم عما عداه.
لكن هذا التحريم لا يثبت إلا بشروط، يكاد يتفق الفقهاء على ثلاثة منها، وهي: الشراء وقت الغلاء، والمراد بالشراء شراء السلعة الموجودة في البلد، والحبس مع تربص الغلاء، وإحداث ضرر بالناس جراء الحبس. "بدائع الصنائع" (5/ 129، ط. دار الكتب العلمية)، و"مواهب الجليل" (4/ 227، ط. دار الفكر)، و"أسنى المطالب" (2/ 37، ط. دار الكتاب الإسلامي)، و"المغني" (4/ 154، ط. دار الفكر)، و"الشرح الكبير" لابن أبي عمر (4/ 47، ط. دار الكتاب العربي).
فإذا اختل واحد من هذه الثلاثة فلا يكون احتكارًا، فلو حبس السلعة ولم يكن للناس في المحبوس حاجة، أو حبسها مع بيعها بثمن المثل، أو اشتراها في حال الضيق والغلاء ليربح فيها بلا حبس، فلا يُعدُّ احتكارًا؛ وكذا لو حبس ما تنتجه أرضه من زرع أو مصنعه من سلع، أو استورد سلعة من خارج البلد وحبسها فلا يُعدُّ احتكارًا ولو مع غلو ثمنها، شريطة ألا يكون بالناس ضرورة إليها بحيث يصيبهم ضرر بالحبس؛ لأن المقصد من منع الاحتكار إنما هو الضرر الواقع على مجموع المستهلكين جرَّاء حبس السلعة وقت الضيق والغلاء، وهذه الصور نصَّ عليها فقهاء الشافعية وبعضها تفهم من ظاهر العبارات؛ يقول الإمام الماوردي في "الحاوي" (5/ 411، ط. دار الكتب العلمية): [وأما الاحتكار والتربص بالأمتعة، فلا يكره في غير الأقوات، وأما الأقوات فلا يكره احتكارها مع سعة الأقوات ورخص الأسعار؛ لأن احتكارها عند الحاجة إليها، وأما احتكارها مع الضيق والغلاء وشدة الحاجة إليها فمكروه محرَّم... ولو اشتراها في حال الغلاء والضيق طالبًا لربحها لم يكن احتكارًا] اهـ.
ويقول الإمام الجويني في "النهاية" (6/ 64، ط. دار المنهاج): [قال الأصحاب: ... مَن يشتري الطعام في وقت الرخص وكساد الأسواق، ويحبسه ليبيعه إذا غلا فلا بأس؛ فإن أصل احتكاره وتربصه كان في رخاء الأسعار حيث لا ضرار، وربما يكون ما ادَّخره قائمًا مقام الذُّخْر للناس، ولولا ادخاره لكان يضيع ويتفرق، وكذلك مَن اتفقت له غلة من ضيعته فحبسها على أي قصد أراد لم يتعرض للوعيد. والقول في هذا الآن يتعلق بقطب عظيم، وهو أن الناس إذا كانوا يتهاوون على الردى، وقد أسرع فيهم الموتان -أي الموت والهلاك- العظيم الذريع، وانتهى كل واحد إلى استحلال الميتة وطعام الغير، فالقول في هذا وفي كل ما يدَّخره كل إنسان لنفسه ولعياله ليس بالهين] اهـ.
ويقول الإمام العمراني في "البيان" (5/ 357، ط. دار المنهاج): [إذا جَلَب الرجل الطعام من بلد إلى بلد، أو اشتراه في وقت رخصه، أو جاءه من ضيعته فحبسه عن الناس فإن ذلك ليس باحتكار، إلا أن يكون بالناس ضرورة وعنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله سنة، فيجب عليه بيع الفضل، فإن لم يفعل أجبره السلطان على ذلك؛ لأن في ذلك نفعًا للناس من غير ضرورةٍ عليه] اهـ.
ويقول الإمام السبكي فيما ينقله عنه الإمام الشوكاني في "نيل الأوطار" (5/ 262): [الذي ينبغي أن يقال في ذلك أنه إن مَنَع غيره من الشراء وحصل به ضيق حُرِّمَ، وإن كانت الأسعار رخيصة وكان القَدْر الذي يشتريه لا حاجة بالناس إليه فليس لمنعه من شرائه وادخاره إلى وقت حاجة الناس إليه معنًى. قال القاضي حسين والرُّوياني: وربما يكون هذا حسنة لأنه ينفع به الناس... وإذا كان في وقت قحط كان في ادخار العسل والسمن والشَّيْرَج -وهو زيت السمسم- وأمثالها إضرار، فينبغي أن يُقضَى بتحريمه، وإذا لم يكن إضرار فلا يخلو احتكار الأقوات عن كراهة. وقال القاضي حسين: إذا كان الناس يحتاجون الثياب ونحوها لشدة البرد أو لستر العورة فكره لمن عنده ذلك إمساكه. قال السبكي: إن أراد كراهة تحريم فظاهر، وإن أراد كراهة تنزيه فبعيد] اهـ.
والحاصل أن العلة في منع الاحتكار ليست ذات الاحتكار، بل الإضرار بالناس، ولهذا يقول الإمام البيهقي في "المعرفة" (8/ 206، ط. دار الوعي بحلب بالاشتراك) بعد ذكره حديث معمر رضي الله عنه: [إنما أراد -والله أعلم- إذا احتكر من طعام الناس ما يكون فيه ضرر عليهم دون ما لا ضرر فيه] اهـ.
والإضرار معنًى مشترك بين مرتبة الضرورة والحاجة، فإذا أَلجأ الاحتكارُ الناسَ إلى مرتبة الضرورة أو الحاجة فهذا الاحتكار المحرَّم، والذي يتحقق باحتكار أي شيء ولا يخص الطعام دون غيره؛ ذلك أن اختلاف الفقهاء فيما يكون فيه الاحتكار إنما هو خلاف في الصورة فقط -خلاف لفظي-، فعند المالكية أن الاحتكار يكون في كل شيء، سواء في الأقوات أم غيرها وإن كان ذهبًا وفضة، وهو قول أبي يوسف من الحنفية. وقال الشافعية والحنابلة إنه خاص بالأقوات فقط، وهو المفتى به عند الحنفية، وخصَّ الحنابلة القوت بقوت الآدمي، فلا احتكار عندهم في قوت البهائم، لكن القائلين باختصاصه بالأقوات اشترطوا ألَّا يكون للناس في المحبوس -ونعني به غير الأقوات- ضرورة، ومعناه عدم الجواز عند اضطرار الناس أو حاجتهم إلى الشيء الـمُحْتَكَر، وحالة الاضطرار أو الحاجة هي ما يصدق عليها معنى الاحتكار كما أوضحنا، فإذا لم يكن للناس حاجة في السلعة، ولم يضطروا إلى شرائها، فليس فيها احتكار وإن حبسها البائع وغلا ثمنها.
ففي "الدر المختار" للإمام الحَصْكَفي الحنفي (6/ 399، ط. دار الفكر): [(ولا يكون محتكرًا بحبس غلة أرضه) بلا خلاف] اهـ.
يقول العلامة ابن عابدين مُحشِّيًا: [والظاهر أن المراد أنه لا يأثم إثم المحتكر وإن أثم بانتظار الغلاء أو القحط؛ لنية السوء للمسلمين. وهل يجبر على بيعه؟ الظاهر: نعم، إن اضطر الناس إليه. تأمل] اهـ.
فغلة الأرض ومثلها منتجات المصنع لو حبسها لا إثم في احتكارها، ومع ذلك فللحاكم بيعها عليه إن اضطر الناس إليها.
وفي "حاشية الجمل على شرح المنهج" (3/ 93، ط. دار الفكر): [خرج بالأقواتِ الأمتعةُ، فلا يحرم احتكارها ما لم تدع إليها ضرورة] اهـ.
ويقول العلامة البهوتي في "كشاف القناع" (3/ 187، ط. عالم الكتب): [(ولا يحرم) الاحتكار (في الإدام كالعسل والزيت) ونحوهما، (ولا) احتكار (علف البهائم)؛ لأن هذه الأشياء لا تعمُّ الحاجة إليها أشبهت الثياب والحيوان] اهـ.
والتعليل بعدم عموم الحاجة مُؤذِنٌ بأنه إذا عمت الحاجة فلا ريب في الحرمة، وهذا ما يفهم من نصوص الحنابلة عند البحث عن علة تحريم الاحتكار في الأقوات؛ ففي "شرح المنتهى" للبهوتي (2/ 27، ط. عالم الكتب): [(ويُجبَر) مُحتَكِر (على بيعه) أي: ما احتكره من قوت آدمي، (كما يبيع الناس) لعموم المصلحة ودعاء الحاجة] اهـ.
ومما ينبغي الإشارة إليه أن الفقهاء حذَّروا أيضًا مما يشبه الاحتكار، كما فيما يحدث من بعض التجار في إغراق السوق بسلعة معينة وخفض سعرها لإكراه بعض التجار على الخروج من السوق، وهذا يئول إلى ما يسمى في العرف الاقتصادي بـ"احتكار العَرْض"، وصورته سيطرة فرد أو جماعة على فرع من فروع الإنتاج ومن ثَمَّ يتحكم هذا الفرد أو هذه الجماعة في الأسعار في مواجهة عدد من المشترين، والمقصد من منع هذه الصورة لا لأن فيها معنى الاحتكار، بل لما فيها من ضرر بالعامة، وقد يستدل على منع الصورة الأولى بما رواه مالك والبيهقي وعبد الرزاق من حديث ابن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرَّ على حاطب بن أبي بَلْتعة رضي الله عنه وهو يبيع زبيبًا له في السوق، فقال له عمر رضي الله عنه: "إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع عن سوقنا".
والوجه فيه خشية عمر رضي الله عنه محاولة احتكار السوق عن طريق إخراج بعض أهله منه بسبب خفض الأسعار.
أما الصورة الثانية فقد نص عليها العلامة ابن عابدين؛ ففي "تنوير الأبصار" للعلامة التمرتاشي: [(ولا يحجر حرٌّ مكلفٌ بسفهٍ بل مفت ماجن وطبيب جاهل ومكار مفلس)]، يقول العلامة ابن عابدين: [ألحق بهذه الثلاثة ثلاثة أخرى: المحتكر، وأرباب الطعام إذا تعدوا في البيع بالقيمة، وما لو أسلم عبدًا لذمي وامتنع من بيعه باعه القاضي. اهـ. قلت: وباب الأمر بالمعروف أوسع من هذا. تأمل. تنبيه: يعلم من هذا عدم جواز ما عليه أهل بعض الصنائع والحرف من منعهم من أراد الاشتغال في حرفتهم وهو متقن لها أو أراد تعلمها، فلا يحلُّ التحجير، كما أفتى به في "الحامدية"] اهـ. "رد المحتار" (6/ 148).
وبناءً على ما سبق: فشراء السلع المتوقَّع ارتفاع سعرها طلبًا للربح إن تمَّ بيعها بثمن مثلها بلا حبس فهو جائز، وإن اشتراها وقت الغلاء وحبسها متربصًا زيادة السعر مع حاجة الناس إلى ما حبسه فهو من الاحتكار المحرَّم، ولا بأس بحبس تاجر نتاج متجره أو مصنعه وبيعه بالسعر الذي يراه ما لم تكن هناك ضرورة أو حاجة بالناس للسلعة المحبوسة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.