هل أصول الفقه قطعية أو ظنية؟
أصول الفقه بين القطعية والظنية
علم أصول الفقه واحد من العلوم الآلية الخادمة لغيرها، فهو أداة يتوصل بها المجتهدون إلى معرفة أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بأفعال المكلفين، وكذلك يتوصلون بها إلى معرفة المنهجية الصحيحة للتعامل مع نصوص الشريعة ومصادرها لاستفادة الفروع الفقهية منها.
ويُعرِّف الإمام البيضاوي أصول الفقه في "منهاج الوصول" (ص: 2، ط. المحمودية) فيذكر في تعريفه المحاور الثلاثة التي تدور حولها قواعد هذا العلم فيقول: [أصول الفقه: معرفة دلائل الفقه إجمالًا، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد] اهـ.
ويقول تاج الدين السبكي في "جمع الجوامع" (1/ 13، ط. دار الكتب العلمية): [أصول الفقه: دلائل الفقه الإجمالية. وقيل: معرفتها] اهـ.
قال العلامة المحلي في "شرحه على جمع الجوامع" (1/ 47، ط. دار الكتب العلمية) ومعه "حاشية الشيخ حسن العطار": [أي: معرفة دلائل الفقه الإجمالية. ورجح المصنف الأول بأنه أقرب إلى المدلول اللغوي إذ الأصول لغة الأدلة] اهـ.
وما ذكره السبكي يشير إلى اختلاف العلماء في تحديد المعنى المعبر عنه بـ(أصول الفقه)؛ أهو القواعد مطلقًا سواء وُجِد العارف بها أم لم يوجد، أم أن أصول الفقه ومبانيه الحقيقية هي العلم والملكة النفسانية المتعلقة بتلك القواعد والحاصلة من الإحاطة بها؟
ويوضح الشيخ العطار في "حاشيته على شرح المحلي على جمع الجوامع" (1/ 45) أن منشأ الخلاف هو اشتراك أسماء العلوم بين تلك الأمور؛ فيقول: [اعلم أن أسماء العلوم المخصوصة كالمنطق تطلق تارة على المعلومات المخصوصة فيقال مثلًا: فلان يعلم النحو، أي: يعلم تلك المعلومات المعينة؛ وأخرى على العلم بالمعلومات، وهو ظاهر، فعلى الأول حقيقة كل علم مسائله، وعلى الثاني حقيقته التصديقات بمسائله... ويطلق لفظ العلم أيضًا على الملكة] اهـ.
والخلاف في تحديد معاني المصطلحات -والتي منها أصول الفقه– غالبًا ما يترتب عليه نوع من الإشكالات والتعارض الظاهري بين الآراء، وعند تحرير محل النزاع يتضح أن الخلاف لفظي منفك الجهة، وهذا هو الحاصل في مسألة قطعية أصول الفقه.
والقطعية: مصدر صناعي من القطع، وهو يأتي في اللغة بمعنى الجزم والبَتِّ والفصل والإبانة.
يقول الإمام الجوهري في "الصحاح" في اللغة (2/ 85-86): [وقُطِعَ بفلان فهو مَقْطوعٌ به. وانْقُطِعَ به فهو مُنْقَطَعٌ به، إذا عجز عن سفره من نفقةٍ ذهبت، أو قامت عليه راحلته، أو أتاه أمر لا يقدر على أن يتحرَّك معه... وأقْطَعَ الرجلُ: إذا انْقَطَعَتْ حُجَّته وبكَّتوه بالحق فلم يُجب] اهـ.
قال الفيروزآبادي في "القاموس المحيط" (2/ 313): [قَطَعَهُ... بِالحُجَّةِ: بَكَّتَهُ] اهـ. أي غلبه وأفحمه فلم يجب.
وللمزيد ينظر: "الصحاح" (1/ 50)، و"تاج العروس" (1/ 5477).
وبهذا يتبين أن الدليل القطعي أو القاطع أو المقطوع به هو الدليل اليقيني الذي يفيد العلم، ولا يُقدَر على رده أو نقضه أو الجواب عنه، وليس من السائغ جريان الخلاف فيه، فالدليل القاطع يفصل بين الحق والباطل.
أما الظنية فمصدر صناعي من الظنِّ، ومعناه في اللغة كما قال الإمام الزبيدي في "تاج العروس" (35/ 365-366، ط. الفيصل): [التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد الغير الجازم... وقال المناوي: الظن الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض ويستعمل في اليقين والشك، وقال الراغب: الظن اسم لما يحصل من أمارة ومتى قويت أدت إلى العلم ومتى ضعفت لم تجاوز حد الوهم] اهـ.
وبهذا يتضح أن الدليل الظني يفيد ترجيح أحد الاحتمالات بغالب الظن، لكن مع جواز الخطأ في هذا الترجيح، فيستساغ معه النظر والاجتهاد وجريان الخلاف في الاعتداد به بلا نكير.
وقواعد أصول الفقه المدونة في كتب العلماء منها ما هو قطعي متفق عليه كحجية القرآن الكريم والسنة المتواترة، ومنها ما هو ظني مختلف فيه بين العلماء؛ كحجية عمل أهل المدينة، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، وشرع من قبلنا، وغير ذلك من الأدلة، فمن هذه الحيثية لا يمكن القول بأن جميع قواعد أصول الفقه قطعية، بل يقال: بعضها قطعي وبعضها ظني، ولذلك فإن بعض الفروع الفقهية قطعي لا يجوز الخلاف فيه، وبعضها ظني يتسع أمره لتعدد الآراء بلا نكير.
أما لو نظرنا من حيثية أخرى فسوف نجد أنه قد وردت عبارات عن بعض العلماء تؤيد القول بقطعية جميع أصول الفقه، حتى وإن اختلف فيها العلماء؛ لأنه سيكون من تفاوت إدراكهم لحقيقة ثابتة في نفس الأمر، فبعضهم يدركها من طريق قوي فيقطع بها، وبعضهم يدركها من طريق ضعيف فلا تتجاوز عنده مرتبة الظن.
ومن سلك هذا المسلك من العلماء قصد أن القواعد الأصولية في حقيقة الأمر قطعية، أما عِلْمُنَا بها فقد يتفاوت لقصور البحث ونقص الاستقراء، فمن واصل البحث وأتم الاستقراء توصل إلى القطع بقواعد الأصول.
يقول الإمام القرافي في "نفائس الأصول" (1/ 147-148، ط. نزار مصطفى الباز): [قواعد أصول الفقه كلها قطعية غير أن القطع لا يحصل بمجرد الاستدلال ببعض الظواهر، بل بكثرة الاستقراء لموارد الأدلة، ومن كثرت مطالعته لأقضية الصحابة رضوان الله عليهم، واستقراؤه لنصوص الكتاب والسنة، حصل له القطع... من أراد القطع بقواعد أصول الفقه من الإجماع والقياس وغيرهما فليتوجه للاستقراء التام في أقضية الصحابة ومناظراتهم وأجوبتهم وفتاويهم، ويكثر من الاطلاع على نصوص الكتاب والسنة، فيحصل له من جميع ذلك ومن القرائن الحالية والسياقات اللفظية القطع بهذه القواعد، والغفلة عن هذا المدرك هو الموجب لقول من قال: الإجماع ظني؛ لأنه لم يطلع إلا على نصوص يسيرة في بعض الكتب، فلا يجد في نفسه غير الظن، فيقول: سخاء حاتم مظنون، مع أنه في نفس الأمر مقطوع به عند غيره ممن كمل استقراؤه. هذه قاعدة جليلة شريفة ينبغي أن يتفطن لها، فإنها أصل كبير من أصول الإسلام وهي سر قول العلماء: إن قواعد الدين قطعية، وعدم العلم بها هو سبب المخالفة في ذلك، ومثال الفريقين كفريقين تواتر عند أحدهما قضية لم تتواتر عند الآخر فأفتى كل واحد منهما على مدركه من الظن والقطع، وقد تكون الرسالة المحمدية لم تبلغ لبعض الناس، وقد تبلغ بأخبار الآحاد، ولا يقدح ذلك في أنها قد قطع بها في نفس الأمر] اهـ.
لكن في موضع آخر يعلق القرافي على قول أبي الحسين البصري بأن المخطئ في أصول الفقه غير معذور، وأنه لا يجوز فيها التقليد، وأن المصيب في الأصول واحد كأصول الدين؛ فيقول (1/ 161): [ينبغي أن تعلم أن من أصول الفقه مسائل ضعيفة المدارك؛ كالإجماع السكوتي والإجماع على الحروب ونحو ذلك، فإن الخلاف فيها قوي، والمخالف فيها لم يخالف قاطعًا بل ظنًّا، فلا ينبغي تأثيمه، كما أنا في أصول الدين لا نؤثم من يقول: العرض يبقى زمنين، أو ينفي الخلاء وإثبات الملاء، وغير ذلك من المسائل التي ليس مقصودها من قواعد الدين الأصلية، وإنما هي من المسميات في ذلك العلم] اهـ.
وعلى هذا، فهناك جملة كثيرة من مسائل أصول الفقه مظنونة وضعيفة المدرك، لكن بعض القائلين بقطعية جميع أصول الفقه لم يعدها من الأصول بل عدها من المسائل الملحقة بالأصول لأجل بيان حقيقتها ومدى حجيتها ومرتبتها عند التعارض والترجيح، كما أنها قد تكون موجبة للعمل والفتوى لمن غلب على ظنه صحتها من المجتهدين.
ويقول إمام الحرمين الجويني في "البرهان" (1/ 78، ط. الوفاء): [فإن قيل: تفصيل أخبار الآحاد والأقيسة لا يلفى إلا في الأصول وليست قواطع. قلنا: حظ الأصولي إبانة القاطع في العمل بها، ولكن لا بد من ذكرها ليتبين المدلول ويرتبط الدليل به] اهـ.
يقول الإمام الغزالي في "المنخول" (ص: 4-5، ط. دار الفكر المعاصر): [ومقصوده -أي علم أصول الفقه- معرفة الأدلة القطعية المنصوبة على الأحكام التكليفية. وأخبار الآحاد ومسالك العبر والمقاييس المستثارة بطرق الاجتهاد ليس من الأصول؛ فإنها مظنونات بجانب أخذها مأخذ القطعيات، ولكن افتقر الأصولي إلى ذكرها لتبيين الصحيح من الفاسد، والمستند من الحائد؛ ولأن الترجيحات من مغمضات علم الأصول، ولا سبيل إليها إلا ببيان المراتب والدرجات] اهـ.
لكن ذهب الإمام الرازي في "المحصول" (1/ 80، ط. مؤسسة الرسالة) إلى: [أن أصول الفقه عبارة عن مجموع طرق الفقه على سبيل الإجمال، وكيفية الاستدلال بها، وكيفية حال المستدل بها] اهـ.
وقد قصد بقوله: "طرق الفقه" كلًّا من الأدلة القطعية والأمارات الظنية، فهي معدودة عنده من أصول الفقه؛ يقول الإمام الإسنوي في "نهاية السول" (1/ 16، ط. محمد علي صبيح): [واعلم أن التعبير بالأدلة مُخرج لكثير من أصول الفقه؛ كالعمومات وأخبار الآحاد والقياس والاستصحاب وغير ذلك؛ فإن الأصوليين وإن سلّموا العمل بها فليست عندهم أدلة للفقه بل أمارات له، فإن الدليل عندهم لا يطلق إلا على المقطوع به، ولهذا قال في "المحصول": (أصول الفقه مجموع طرق الفقه). ثم قال: (وقولنا طرق الفقه يتناول الأدلة والأمارات)] اهـ.
هذا، وقد وافق أكثر الأصوليين الإمام الرازي في اعتبار أصول الفقه تصدق على الأدلة القطعية والأمارات الظنية، وسموا كليهما أدلة، قال العلامة الفتوحي الحنبلي في شرح تعريف الدليل شرعًا؛ حيث يعرفه صاحب "الكوكب المنير" بأنه: [ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري]. فيقول العلامة الفتوحي في "شرحه عليه" (16، ط. مطبعة السنة المحمدية): [ويدخل في المطلوب الخبري ما يفيد القطع والظن، وهو مذهب أصحابنا وأكثر الفقهاء والأصوليين. والقول الثاني: أن ما أفاد القطع يُسمّى دليلًا، وما أفاد الظن يسمى أمارة] اهـ.
وعلى هذا: فأدلة الفقه سواء الإجمالية أو التفصيلية هي ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيها إلى القطع بالحكم الشرعي أو الظن به، فيشمل هذا الأدلة المختلف فيها؛ كعمل أهل المدينة والاستصحاب، والمتفق عليها؛ كالكتاب والسنة المتواترة.
هذا، وقد يراد بقطعية أصول الفقه أنها قاطعة في الإلزام بالأحكام الشرعية عند حصول غلبة الظن بها للمجتهد، سواء استفيدت تلك الأحكام من الأدلة المتفق عليها أم من الأدلة المختلف فيها، فالمجتهد الذي بحث ونظر حتى غلب على ظنه حجية الاستصلاح مثلًا، ثم نزلت نازلة فتوصل إلى حكمها بالاستصلاح بعد استفراغ وسعه: يجب عليه -قطعًا- العمل والإفتاء بما دل عليه الاستصلاح حينئذٍ، وإن كانت حجيته غير مقطوع بها لدى الأصوليين، ولذا قال الإمام البيضاوي في "منهاج الوصول" (ص: 2-3): [المجتهد إذا ظن الحكم وجب عليه الفتوى والعمل به؛ للدليل القاطع على وجوب اتباع الظن، فالحكم مقطوع به والظن في طريقه] اهـ.
وبعض العلماء أطلق اسم أصول الفقه على القواعد الفقهية ومقاصد الشريعة وكلياتها الثابتة باستقراء نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية متواترة المعنى، فتكون بهذا قطعية؛ لأن مبناها الاستقراء التام، أو الاستدلال العقلي القطعي. انظر: "الموافقات في أصول الشريعة" للشاطبي (1/ 29-30، ط. دار الفكر العربي).
يقول العلامة ابن نجيم الحنفي في بداية كتابه "الأشباه والنظائر" (1/ 14، ط. دار الكتب العلمية) واصفًا كليات القواعد الفقهية بقوله: [وهي أصول الفقه في الحقيقة] اهـ. وعنى بهذا عدة قواعد، منها: "الأمور بمقاصدها"، و"المشقة تجلب التيسير"، و"الضرر يزال"، ونحوها.
لكن هذا لا يسلم به جمهور أهل العلم، فالقواعد بمنزلة النصوص الجزئية وإن كانت صالحة للدلالة على أحكام فروع كثيرة غير متناهية إلا أن إثبات مثل هذه القواعد يفتقر أولًا لإثبات حجية مصادر استقرائها، وحجية التواتر المعنوي، ومعرفة كيفية استفادة المعاني من نصوص الوحي، وغير ذلك من الأمور التي لا بد من إدراكها أولًا قبل تقرير القاعدة الفقهية، والعلم الذي تخصص في دراسة تلك الأمور والبحث في الحجية والاستدلال وغيره، هو علم أصول الفقه على الحقيقة؛ إذ بغير تحرير مباحثه لا يمكن القطع بتلك القواعد والكليات والمقاصد الشرعية، فقواعد الفقه تفتقر لأصول الفقه كما يفتقر إليها فروعه.
وبناءً على ما سبق: فإن أصول الفقه تكون منها قواعد قطعية متفق عليها كما أن منها قواعد ظنية مختلفًا فيها، وهذا لا يمنع من الجزم بحكم الفروع الفقهية ووجوب العمل بها وإن كانت متفرعة على قواعد أصولية مختلف فيها كما تقدم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
علم أصول الفقه واحد من العلوم الآلية الخادمة لغيرها، فهو أداة يتوصل بها المجتهدون إلى معرفة أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بأفعال المكلفين، وكذلك يتوصلون بها إلى معرفة المنهجية الصحيحة للتعامل مع نصوص الشريعة ومصادرها لاستفادة الفروع الفقهية منها.
ويُعرِّف الإمام البيضاوي أصول الفقه في "منهاج الوصول" (ص: 2، ط. المحمودية) فيذكر في تعريفه المحاور الثلاثة التي تدور حولها قواعد هذا العلم فيقول: [أصول الفقه: معرفة دلائل الفقه إجمالًا، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد] اهـ.
ويقول تاج الدين السبكي في "جمع الجوامع" (1/ 13، ط. دار الكتب العلمية): [أصول الفقه: دلائل الفقه الإجمالية. وقيل: معرفتها] اهـ.
قال العلامة المحلي في "شرحه على جمع الجوامع" (1/ 47، ط. دار الكتب العلمية) ومعه "حاشية الشيخ حسن العطار": [أي: معرفة دلائل الفقه الإجمالية. ورجح المصنف الأول بأنه أقرب إلى المدلول اللغوي إذ الأصول لغة الأدلة] اهـ.
وما ذكره السبكي يشير إلى اختلاف العلماء في تحديد المعنى المعبر عنه بـ(أصول الفقه)؛ أهو القواعد مطلقًا سواء وُجِد العارف بها أم لم يوجد، أم أن أصول الفقه ومبانيه الحقيقية هي العلم والملكة النفسانية المتعلقة بتلك القواعد والحاصلة من الإحاطة بها؟
ويوضح الشيخ العطار في "حاشيته على شرح المحلي على جمع الجوامع" (1/ 45) أن منشأ الخلاف هو اشتراك أسماء العلوم بين تلك الأمور؛ فيقول: [اعلم أن أسماء العلوم المخصوصة كالمنطق تطلق تارة على المعلومات المخصوصة فيقال مثلًا: فلان يعلم النحو، أي: يعلم تلك المعلومات المعينة؛ وأخرى على العلم بالمعلومات، وهو ظاهر، فعلى الأول حقيقة كل علم مسائله، وعلى الثاني حقيقته التصديقات بمسائله... ويطلق لفظ العلم أيضًا على الملكة] اهـ.
والخلاف في تحديد معاني المصطلحات -والتي منها أصول الفقه– غالبًا ما يترتب عليه نوع من الإشكالات والتعارض الظاهري بين الآراء، وعند تحرير محل النزاع يتضح أن الخلاف لفظي منفك الجهة، وهذا هو الحاصل في مسألة قطعية أصول الفقه.
والقطعية: مصدر صناعي من القطع، وهو يأتي في اللغة بمعنى الجزم والبَتِّ والفصل والإبانة.
يقول الإمام الجوهري في "الصحاح" في اللغة (2/ 85-86): [وقُطِعَ بفلان فهو مَقْطوعٌ به. وانْقُطِعَ به فهو مُنْقَطَعٌ به، إذا عجز عن سفره من نفقةٍ ذهبت، أو قامت عليه راحلته، أو أتاه أمر لا يقدر على أن يتحرَّك معه... وأقْطَعَ الرجلُ: إذا انْقَطَعَتْ حُجَّته وبكَّتوه بالحق فلم يُجب] اهـ.
قال الفيروزآبادي في "القاموس المحيط" (2/ 313): [قَطَعَهُ... بِالحُجَّةِ: بَكَّتَهُ] اهـ. أي غلبه وأفحمه فلم يجب.
وللمزيد ينظر: "الصحاح" (1/ 50)، و"تاج العروس" (1/ 5477).
وبهذا يتبين أن الدليل القطعي أو القاطع أو المقطوع به هو الدليل اليقيني الذي يفيد العلم، ولا يُقدَر على رده أو نقضه أو الجواب عنه، وليس من السائغ جريان الخلاف فيه، فالدليل القاطع يفصل بين الحق والباطل.
أما الظنية فمصدر صناعي من الظنِّ، ومعناه في اللغة كما قال الإمام الزبيدي في "تاج العروس" (35/ 365-366، ط. الفيصل): [التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد الغير الجازم... وقال المناوي: الظن الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض ويستعمل في اليقين والشك، وقال الراغب: الظن اسم لما يحصل من أمارة ومتى قويت أدت إلى العلم ومتى ضعفت لم تجاوز حد الوهم] اهـ.
وبهذا يتضح أن الدليل الظني يفيد ترجيح أحد الاحتمالات بغالب الظن، لكن مع جواز الخطأ في هذا الترجيح، فيستساغ معه النظر والاجتهاد وجريان الخلاف في الاعتداد به بلا نكير.
وقواعد أصول الفقه المدونة في كتب العلماء منها ما هو قطعي متفق عليه كحجية القرآن الكريم والسنة المتواترة، ومنها ما هو ظني مختلف فيه بين العلماء؛ كحجية عمل أهل المدينة، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، وشرع من قبلنا، وغير ذلك من الأدلة، فمن هذه الحيثية لا يمكن القول بأن جميع قواعد أصول الفقه قطعية، بل يقال: بعضها قطعي وبعضها ظني، ولذلك فإن بعض الفروع الفقهية قطعي لا يجوز الخلاف فيه، وبعضها ظني يتسع أمره لتعدد الآراء بلا نكير.
أما لو نظرنا من حيثية أخرى فسوف نجد أنه قد وردت عبارات عن بعض العلماء تؤيد القول بقطعية جميع أصول الفقه، حتى وإن اختلف فيها العلماء؛ لأنه سيكون من تفاوت إدراكهم لحقيقة ثابتة في نفس الأمر، فبعضهم يدركها من طريق قوي فيقطع بها، وبعضهم يدركها من طريق ضعيف فلا تتجاوز عنده مرتبة الظن.
ومن سلك هذا المسلك من العلماء قصد أن القواعد الأصولية في حقيقة الأمر قطعية، أما عِلْمُنَا بها فقد يتفاوت لقصور البحث ونقص الاستقراء، فمن واصل البحث وأتم الاستقراء توصل إلى القطع بقواعد الأصول.
يقول الإمام القرافي في "نفائس الأصول" (1/ 147-148، ط. نزار مصطفى الباز): [قواعد أصول الفقه كلها قطعية غير أن القطع لا يحصل بمجرد الاستدلال ببعض الظواهر، بل بكثرة الاستقراء لموارد الأدلة، ومن كثرت مطالعته لأقضية الصحابة رضوان الله عليهم، واستقراؤه لنصوص الكتاب والسنة، حصل له القطع... من أراد القطع بقواعد أصول الفقه من الإجماع والقياس وغيرهما فليتوجه للاستقراء التام في أقضية الصحابة ومناظراتهم وأجوبتهم وفتاويهم، ويكثر من الاطلاع على نصوص الكتاب والسنة، فيحصل له من جميع ذلك ومن القرائن الحالية والسياقات اللفظية القطع بهذه القواعد، والغفلة عن هذا المدرك هو الموجب لقول من قال: الإجماع ظني؛ لأنه لم يطلع إلا على نصوص يسيرة في بعض الكتب، فلا يجد في نفسه غير الظن، فيقول: سخاء حاتم مظنون، مع أنه في نفس الأمر مقطوع به عند غيره ممن كمل استقراؤه. هذه قاعدة جليلة شريفة ينبغي أن يتفطن لها، فإنها أصل كبير من أصول الإسلام وهي سر قول العلماء: إن قواعد الدين قطعية، وعدم العلم بها هو سبب المخالفة في ذلك، ومثال الفريقين كفريقين تواتر عند أحدهما قضية لم تتواتر عند الآخر فأفتى كل واحد منهما على مدركه من الظن والقطع، وقد تكون الرسالة المحمدية لم تبلغ لبعض الناس، وقد تبلغ بأخبار الآحاد، ولا يقدح ذلك في أنها قد قطع بها في نفس الأمر] اهـ.
لكن في موضع آخر يعلق القرافي على قول أبي الحسين البصري بأن المخطئ في أصول الفقه غير معذور، وأنه لا يجوز فيها التقليد، وأن المصيب في الأصول واحد كأصول الدين؛ فيقول (1/ 161): [ينبغي أن تعلم أن من أصول الفقه مسائل ضعيفة المدارك؛ كالإجماع السكوتي والإجماع على الحروب ونحو ذلك، فإن الخلاف فيها قوي، والمخالف فيها لم يخالف قاطعًا بل ظنًّا، فلا ينبغي تأثيمه، كما أنا في أصول الدين لا نؤثم من يقول: العرض يبقى زمنين، أو ينفي الخلاء وإثبات الملاء، وغير ذلك من المسائل التي ليس مقصودها من قواعد الدين الأصلية، وإنما هي من المسميات في ذلك العلم] اهـ.
وعلى هذا، فهناك جملة كثيرة من مسائل أصول الفقه مظنونة وضعيفة المدرك، لكن بعض القائلين بقطعية جميع أصول الفقه لم يعدها من الأصول بل عدها من المسائل الملحقة بالأصول لأجل بيان حقيقتها ومدى حجيتها ومرتبتها عند التعارض والترجيح، كما أنها قد تكون موجبة للعمل والفتوى لمن غلب على ظنه صحتها من المجتهدين.
ويقول إمام الحرمين الجويني في "البرهان" (1/ 78، ط. الوفاء): [فإن قيل: تفصيل أخبار الآحاد والأقيسة لا يلفى إلا في الأصول وليست قواطع. قلنا: حظ الأصولي إبانة القاطع في العمل بها، ولكن لا بد من ذكرها ليتبين المدلول ويرتبط الدليل به] اهـ.
يقول الإمام الغزالي في "المنخول" (ص: 4-5، ط. دار الفكر المعاصر): [ومقصوده -أي علم أصول الفقه- معرفة الأدلة القطعية المنصوبة على الأحكام التكليفية. وأخبار الآحاد ومسالك العبر والمقاييس المستثارة بطرق الاجتهاد ليس من الأصول؛ فإنها مظنونات بجانب أخذها مأخذ القطعيات، ولكن افتقر الأصولي إلى ذكرها لتبيين الصحيح من الفاسد، والمستند من الحائد؛ ولأن الترجيحات من مغمضات علم الأصول، ولا سبيل إليها إلا ببيان المراتب والدرجات] اهـ.
لكن ذهب الإمام الرازي في "المحصول" (1/ 80، ط. مؤسسة الرسالة) إلى: [أن أصول الفقه عبارة عن مجموع طرق الفقه على سبيل الإجمال، وكيفية الاستدلال بها، وكيفية حال المستدل بها] اهـ.
وقد قصد بقوله: "طرق الفقه" كلًّا من الأدلة القطعية والأمارات الظنية، فهي معدودة عنده من أصول الفقه؛ يقول الإمام الإسنوي في "نهاية السول" (1/ 16، ط. محمد علي صبيح): [واعلم أن التعبير بالأدلة مُخرج لكثير من أصول الفقه؛ كالعمومات وأخبار الآحاد والقياس والاستصحاب وغير ذلك؛ فإن الأصوليين وإن سلّموا العمل بها فليست عندهم أدلة للفقه بل أمارات له، فإن الدليل عندهم لا يطلق إلا على المقطوع به، ولهذا قال في "المحصول": (أصول الفقه مجموع طرق الفقه). ثم قال: (وقولنا طرق الفقه يتناول الأدلة والأمارات)] اهـ.
هذا، وقد وافق أكثر الأصوليين الإمام الرازي في اعتبار أصول الفقه تصدق على الأدلة القطعية والأمارات الظنية، وسموا كليهما أدلة، قال العلامة الفتوحي الحنبلي في شرح تعريف الدليل شرعًا؛ حيث يعرفه صاحب "الكوكب المنير" بأنه: [ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري]. فيقول العلامة الفتوحي في "شرحه عليه" (16، ط. مطبعة السنة المحمدية): [ويدخل في المطلوب الخبري ما يفيد القطع والظن، وهو مذهب أصحابنا وأكثر الفقهاء والأصوليين. والقول الثاني: أن ما أفاد القطع يُسمّى دليلًا، وما أفاد الظن يسمى أمارة] اهـ.
وعلى هذا: فأدلة الفقه سواء الإجمالية أو التفصيلية هي ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيها إلى القطع بالحكم الشرعي أو الظن به، فيشمل هذا الأدلة المختلف فيها؛ كعمل أهل المدينة والاستصحاب، والمتفق عليها؛ كالكتاب والسنة المتواترة.
هذا، وقد يراد بقطعية أصول الفقه أنها قاطعة في الإلزام بالأحكام الشرعية عند حصول غلبة الظن بها للمجتهد، سواء استفيدت تلك الأحكام من الأدلة المتفق عليها أم من الأدلة المختلف فيها، فالمجتهد الذي بحث ونظر حتى غلب على ظنه حجية الاستصلاح مثلًا، ثم نزلت نازلة فتوصل إلى حكمها بالاستصلاح بعد استفراغ وسعه: يجب عليه -قطعًا- العمل والإفتاء بما دل عليه الاستصلاح حينئذٍ، وإن كانت حجيته غير مقطوع بها لدى الأصوليين، ولذا قال الإمام البيضاوي في "منهاج الوصول" (ص: 2-3): [المجتهد إذا ظن الحكم وجب عليه الفتوى والعمل به؛ للدليل القاطع على وجوب اتباع الظن، فالحكم مقطوع به والظن في طريقه] اهـ.
وبعض العلماء أطلق اسم أصول الفقه على القواعد الفقهية ومقاصد الشريعة وكلياتها الثابتة باستقراء نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية متواترة المعنى، فتكون بهذا قطعية؛ لأن مبناها الاستقراء التام، أو الاستدلال العقلي القطعي. انظر: "الموافقات في أصول الشريعة" للشاطبي (1/ 29-30، ط. دار الفكر العربي).
يقول العلامة ابن نجيم الحنفي في بداية كتابه "الأشباه والنظائر" (1/ 14، ط. دار الكتب العلمية) واصفًا كليات القواعد الفقهية بقوله: [وهي أصول الفقه في الحقيقة] اهـ. وعنى بهذا عدة قواعد، منها: "الأمور بمقاصدها"، و"المشقة تجلب التيسير"، و"الضرر يزال"، ونحوها.
لكن هذا لا يسلم به جمهور أهل العلم، فالقواعد بمنزلة النصوص الجزئية وإن كانت صالحة للدلالة على أحكام فروع كثيرة غير متناهية إلا أن إثبات مثل هذه القواعد يفتقر أولًا لإثبات حجية مصادر استقرائها، وحجية التواتر المعنوي، ومعرفة كيفية استفادة المعاني من نصوص الوحي، وغير ذلك من الأمور التي لا بد من إدراكها أولًا قبل تقرير القاعدة الفقهية، والعلم الذي تخصص في دراسة تلك الأمور والبحث في الحجية والاستدلال وغيره، هو علم أصول الفقه على الحقيقة؛ إذ بغير تحرير مباحثه لا يمكن القطع بتلك القواعد والكليات والمقاصد الشرعية، فقواعد الفقه تفتقر لأصول الفقه كما يفتقر إليها فروعه.
وبناءً على ما سبق: فإن أصول الفقه تكون منها قواعد قطعية متفق عليها كما أن منها قواعد ظنية مختلفًا فيها، وهذا لا يمنع من الجزم بحكم الفروع الفقهية ووجوب العمل بها وإن كانت متفرعة على قواعد أصولية مختلف فيها كما تقدم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
أصول الفقه بين القطعية والظنية
هل أصول الفقه قطعية أو ظنية؟
علم أصول الفقه واحد من العلوم الآلية الخادمة لغيرها، فهو أداة يتوصل بها المجتهدون إلى معرفة أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بأفعال المكلفين، وكذلك يتوصلون بها إلى معرفة المنهجية الصحيحة للتعامل مع نصوص الشريعة ومصادرها لاستفادة الفروع الفقهية منها.
ويُعرِّف الإمام البيضاوي أصول الفقه في "منهاج الوصول" (ص: 2، ط. المحمودية) فيذكر في تعريفه المحاور الثلاثة التي تدور حولها قواعد هذا العلم فيقول: [أصول الفقه: معرفة دلائل الفقه إجمالًا، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد] اهـ.
ويقول تاج الدين السبكي في "جمع الجوامع" (1/ 13، ط. دار الكتب العلمية): [أصول الفقه: دلائل الفقه الإجمالية. وقيل: معرفتها] اهـ.
قال العلامة المحلي في "شرحه على جمع الجوامع" (1/ 47، ط. دار الكتب العلمية) ومعه "حاشية الشيخ حسن العطار": [أي: معرفة دلائل الفقه الإجمالية. ورجح المصنف الأول بأنه أقرب إلى المدلول اللغوي إذ الأصول لغة الأدلة] اهـ.
وما ذكره السبكي يشير إلى اختلاف العلماء في تحديد المعنى المعبر عنه بـ(أصول الفقه)؛ أهو القواعد مطلقًا سواء وُجِد العارف بها أم لم يوجد، أم أن أصول الفقه ومبانيه الحقيقية هي العلم والملكة النفسانية المتعلقة بتلك القواعد والحاصلة من الإحاطة بها؟
ويوضح الشيخ العطار في "حاشيته على شرح المحلي على جمع الجوامع" (1/ 45) أن منشأ الخلاف هو اشتراك أسماء العلوم بين تلك الأمور؛ فيقول: [اعلم أن أسماء العلوم المخصوصة كالمنطق تطلق تارة على المعلومات المخصوصة فيقال مثلًا: فلان يعلم النحو، أي: يعلم تلك المعلومات المعينة؛ وأخرى على العلم بالمعلومات، وهو ظاهر، فعلى الأول حقيقة كل علم مسائله، وعلى الثاني حقيقته التصديقات بمسائله... ويطلق لفظ العلم أيضًا على الملكة] اهـ.
والخلاف في تحديد معاني المصطلحات -والتي منها أصول الفقه– غالبًا ما يترتب عليه نوع من الإشكالات والتعارض الظاهري بين الآراء، وعند تحرير محل النزاع يتضح أن الخلاف لفظي منفك الجهة، وهذا هو الحاصل في مسألة قطعية أصول الفقه.
والقطعية: مصدر صناعي من القطع، وهو يأتي في اللغة بمعنى الجزم والبَتِّ والفصل والإبانة.
يقول الإمام الجوهري في "الصحاح" في اللغة (2/ 85-86): [وقُطِعَ بفلان فهو مَقْطوعٌ به. وانْقُطِعَ به فهو مُنْقَطَعٌ به، إذا عجز عن سفره من نفقةٍ ذهبت، أو قامت عليه راحلته، أو أتاه أمر لا يقدر على أن يتحرَّك معه... وأقْطَعَ الرجلُ: إذا انْقَطَعَتْ حُجَّته وبكَّتوه بالحق فلم يُجب] اهـ.
قال الفيروزآبادي في "القاموس المحيط" (2/ 313): [قَطَعَهُ... بِالحُجَّةِ: بَكَّتَهُ] اهـ. أي غلبه وأفحمه فلم يجب.
وللمزيد ينظر: "الصحاح" (1/ 50)، و"تاج العروس" (1/ 5477).
وبهذا يتبين أن الدليل القطعي أو القاطع أو المقطوع به هو الدليل اليقيني الذي يفيد العلم، ولا يُقدَر على رده أو نقضه أو الجواب عنه، وليس من السائغ جريان الخلاف فيه، فالدليل القاطع يفصل بين الحق والباطل.
أما الظنية فمصدر صناعي من الظنِّ، ومعناه في اللغة كما قال الإمام الزبيدي في "تاج العروس" (35/ 365-366، ط. الفيصل): [التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد الغير الجازم... وقال المناوي: الظن الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض ويستعمل في اليقين والشك، وقال الراغب: الظن اسم لما يحصل من أمارة ومتى قويت أدت إلى العلم ومتى ضعفت لم تجاوز حد الوهم] اهـ.
وبهذا يتضح أن الدليل الظني يفيد ترجيح أحد الاحتمالات بغالب الظن، لكن مع جواز الخطأ في هذا الترجيح، فيستساغ معه النظر والاجتهاد وجريان الخلاف في الاعتداد به بلا نكير.
وقواعد أصول الفقه المدونة في كتب العلماء منها ما هو قطعي متفق عليه كحجية القرآن الكريم والسنة المتواترة، ومنها ما هو ظني مختلف فيه بين العلماء؛ كحجية عمل أهل المدينة، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، وشرع من قبلنا، وغير ذلك من الأدلة، فمن هذه الحيثية لا يمكن القول بأن جميع قواعد أصول الفقه قطعية، بل يقال: بعضها قطعي وبعضها ظني، ولذلك فإن بعض الفروع الفقهية قطعي لا يجوز الخلاف فيه، وبعضها ظني يتسع أمره لتعدد الآراء بلا نكير.
أما لو نظرنا من حيثية أخرى فسوف نجد أنه قد وردت عبارات عن بعض العلماء تؤيد القول بقطعية جميع أصول الفقه، حتى وإن اختلف فيها العلماء؛ لأنه سيكون من تفاوت إدراكهم لحقيقة ثابتة في نفس الأمر، فبعضهم يدركها من طريق قوي فيقطع بها، وبعضهم يدركها من طريق ضعيف فلا تتجاوز عنده مرتبة الظن.
ومن سلك هذا المسلك من العلماء قصد أن القواعد الأصولية في حقيقة الأمر قطعية، أما عِلْمُنَا بها فقد يتفاوت لقصور البحث ونقص الاستقراء، فمن واصل البحث وأتم الاستقراء توصل إلى القطع بقواعد الأصول.
يقول الإمام القرافي في "نفائس الأصول" (1/ 147-148، ط. نزار مصطفى الباز): [قواعد أصول الفقه كلها قطعية غير أن القطع لا يحصل بمجرد الاستدلال ببعض الظواهر، بل بكثرة الاستقراء لموارد الأدلة، ومن كثرت مطالعته لأقضية الصحابة رضوان الله عليهم، واستقراؤه لنصوص الكتاب والسنة، حصل له القطع... من أراد القطع بقواعد أصول الفقه من الإجماع والقياس وغيرهما فليتوجه للاستقراء التام في أقضية الصحابة ومناظراتهم وأجوبتهم وفتاويهم، ويكثر من الاطلاع على نصوص الكتاب والسنة، فيحصل له من جميع ذلك ومن القرائن الحالية والسياقات اللفظية القطع بهذه القواعد، والغفلة عن هذا المدرك هو الموجب لقول من قال: الإجماع ظني؛ لأنه لم يطلع إلا على نصوص يسيرة في بعض الكتب، فلا يجد في نفسه غير الظن، فيقول: سخاء حاتم مظنون، مع أنه في نفس الأمر مقطوع به عند غيره ممن كمل استقراؤه. هذه قاعدة جليلة شريفة ينبغي أن يتفطن لها، فإنها أصل كبير من أصول الإسلام وهي سر قول العلماء: إن قواعد الدين قطعية، وعدم العلم بها هو سبب المخالفة في ذلك، ومثال الفريقين كفريقين تواتر عند أحدهما قضية لم تتواتر عند الآخر فأفتى كل واحد منهما على مدركه من الظن والقطع، وقد تكون الرسالة المحمدية لم تبلغ لبعض الناس، وقد تبلغ بأخبار الآحاد، ولا يقدح ذلك في أنها قد قطع بها في نفس الأمر] اهـ.
لكن في موضع آخر يعلق القرافي على قول أبي الحسين البصري بأن المخطئ في أصول الفقه غير معذور، وأنه لا يجوز فيها التقليد، وأن المصيب في الأصول واحد كأصول الدين؛ فيقول (1/ 161): [ينبغي أن تعلم أن من أصول الفقه مسائل ضعيفة المدارك؛ كالإجماع السكوتي والإجماع على الحروب ونحو ذلك، فإن الخلاف فيها قوي، والمخالف فيها لم يخالف قاطعًا بل ظنًّا، فلا ينبغي تأثيمه، كما أنا في أصول الدين لا نؤثم من يقول: العرض يبقى زمنين، أو ينفي الخلاء وإثبات الملاء، وغير ذلك من المسائل التي ليس مقصودها من قواعد الدين الأصلية، وإنما هي من المسميات في ذلك العلم] اهـ.
وعلى هذا، فهناك جملة كثيرة من مسائل أصول الفقه مظنونة وضعيفة المدرك، لكن بعض القائلين بقطعية جميع أصول الفقه لم يعدها من الأصول بل عدها من المسائل الملحقة بالأصول لأجل بيان حقيقتها ومدى حجيتها ومرتبتها عند التعارض والترجيح، كما أنها قد تكون موجبة للعمل والفتوى لمن غلب على ظنه صحتها من المجتهدين.
ويقول إمام الحرمين الجويني في "البرهان" (1/ 78، ط. الوفاء): [فإن قيل: تفصيل أخبار الآحاد والأقيسة لا يلفى إلا في الأصول وليست قواطع. قلنا: حظ الأصولي إبانة القاطع في العمل بها، ولكن لا بد من ذكرها ليتبين المدلول ويرتبط الدليل به] اهـ.
يقول الإمام الغزالي في "المنخول" (ص: 4-5، ط. دار الفكر المعاصر): [ومقصوده -أي علم أصول الفقه- معرفة الأدلة القطعية المنصوبة على الأحكام التكليفية. وأخبار الآحاد ومسالك العبر والمقاييس المستثارة بطرق الاجتهاد ليس من الأصول؛ فإنها مظنونات بجانب أخذها مأخذ القطعيات، ولكن افتقر الأصولي إلى ذكرها لتبيين الصحيح من الفاسد، والمستند من الحائد؛ ولأن الترجيحات من مغمضات علم الأصول، ولا سبيل إليها إلا ببيان المراتب والدرجات] اهـ.
لكن ذهب الإمام الرازي في "المحصول" (1/ 80، ط. مؤسسة الرسالة) إلى: [أن أصول الفقه عبارة عن مجموع طرق الفقه على سبيل الإجمال، وكيفية الاستدلال بها، وكيفية حال المستدل بها] اهـ.
وقد قصد بقوله: "طرق الفقه" كلًّا من الأدلة القطعية والأمارات الظنية، فهي معدودة عنده من أصول الفقه؛ يقول الإمام الإسنوي في "نهاية السول" (1/ 16، ط. محمد علي صبيح): [واعلم أن التعبير بالأدلة مُخرج لكثير من أصول الفقه؛ كالعمومات وأخبار الآحاد والقياس والاستصحاب وغير ذلك؛ فإن الأصوليين وإن سلّموا العمل بها فليست عندهم أدلة للفقه بل أمارات له، فإن الدليل عندهم لا يطلق إلا على المقطوع به، ولهذا قال في "المحصول": (أصول الفقه مجموع طرق الفقه). ثم قال: (وقولنا طرق الفقه يتناول الأدلة والأمارات)] اهـ.
هذا، وقد وافق أكثر الأصوليين الإمام الرازي في اعتبار أصول الفقه تصدق على الأدلة القطعية والأمارات الظنية، وسموا كليهما أدلة، قال العلامة الفتوحي الحنبلي في شرح تعريف الدليل شرعًا؛ حيث يعرفه صاحب "الكوكب المنير" بأنه: [ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري]. فيقول العلامة الفتوحي في "شرحه عليه" (16، ط. مطبعة السنة المحمدية): [ويدخل في المطلوب الخبري ما يفيد القطع والظن، وهو مذهب أصحابنا وأكثر الفقهاء والأصوليين. والقول الثاني: أن ما أفاد القطع يُسمّى دليلًا، وما أفاد الظن يسمى أمارة] اهـ.
وعلى هذا: فأدلة الفقه سواء الإجمالية أو التفصيلية هي ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيها إلى القطع بالحكم الشرعي أو الظن به، فيشمل هذا الأدلة المختلف فيها؛ كعمل أهل المدينة والاستصحاب، والمتفق عليها؛ كالكتاب والسنة المتواترة.
هذا، وقد يراد بقطعية أصول الفقه أنها قاطعة في الإلزام بالأحكام الشرعية عند حصول غلبة الظن بها للمجتهد، سواء استفيدت تلك الأحكام من الأدلة المتفق عليها أم من الأدلة المختلف فيها، فالمجتهد الذي بحث ونظر حتى غلب على ظنه حجية الاستصلاح مثلًا، ثم نزلت نازلة فتوصل إلى حكمها بالاستصلاح بعد استفراغ وسعه: يجب عليه -قطعًا- العمل والإفتاء بما دل عليه الاستصلاح حينئذٍ، وإن كانت حجيته غير مقطوع بها لدى الأصوليين، ولذا قال الإمام البيضاوي في "منهاج الوصول" (ص: 2-3): [المجتهد إذا ظن الحكم وجب عليه الفتوى والعمل به؛ للدليل القاطع على وجوب اتباع الظن، فالحكم مقطوع به والظن في طريقه] اهـ.
وبعض العلماء أطلق اسم أصول الفقه على القواعد الفقهية ومقاصد الشريعة وكلياتها الثابتة باستقراء نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية متواترة المعنى، فتكون بهذا قطعية؛ لأن مبناها الاستقراء التام، أو الاستدلال العقلي القطعي. انظر: "الموافقات في أصول الشريعة" للشاطبي (1/ 29-30، ط. دار الفكر العربي).
يقول العلامة ابن نجيم الحنفي في بداية كتابه "الأشباه والنظائر" (1/ 14، ط. دار الكتب العلمية) واصفًا كليات القواعد الفقهية بقوله: [وهي أصول الفقه في الحقيقة] اهـ. وعنى بهذا عدة قواعد، منها: "الأمور بمقاصدها"، و"المشقة تجلب التيسير"، و"الضرر يزال"، ونحوها.
لكن هذا لا يسلم به جمهور أهل العلم، فالقواعد بمنزلة النصوص الجزئية وإن كانت صالحة للدلالة على أحكام فروع كثيرة غير متناهية إلا أن إثبات مثل هذه القواعد يفتقر أولًا لإثبات حجية مصادر استقرائها، وحجية التواتر المعنوي، ومعرفة كيفية استفادة المعاني من نصوص الوحي، وغير ذلك من الأمور التي لا بد من إدراكها أولًا قبل تقرير القاعدة الفقهية، والعلم الذي تخصص في دراسة تلك الأمور والبحث في الحجية والاستدلال وغيره، هو علم أصول الفقه على الحقيقة؛ إذ بغير تحرير مباحثه لا يمكن القطع بتلك القواعد والكليات والمقاصد الشرعية، فقواعد الفقه تفتقر لأصول الفقه كما يفتقر إليها فروعه.
وبناءً على ما سبق: فإن أصول الفقه تكون منها قواعد قطعية متفق عليها كما أن منها قواعد ظنية مختلفًا فيها، وهذا لا يمنع من الجزم بحكم الفروع الفقهية ووجوب العمل بها وإن كانت متفرعة على قواعد أصولية مختلف فيها كما تقدم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
علم أصول الفقه واحد من العلوم الآلية الخادمة لغيرها، فهو أداة يتوصل بها المجتهدون إلى معرفة أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بأفعال المكلفين، وكذلك يتوصلون بها إلى معرفة المنهجية الصحيحة للتعامل مع نصوص الشريعة ومصادرها لاستفادة الفروع الفقهية منها.
ويُعرِّف الإمام البيضاوي أصول الفقه في "منهاج الوصول" (ص: 2، ط. المحمودية) فيذكر في تعريفه المحاور الثلاثة التي تدور حولها قواعد هذا العلم فيقول: [أصول الفقه: معرفة دلائل الفقه إجمالًا، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد] اهـ.
ويقول تاج الدين السبكي في "جمع الجوامع" (1/ 13، ط. دار الكتب العلمية): [أصول الفقه: دلائل الفقه الإجمالية. وقيل: معرفتها] اهـ.
قال العلامة المحلي في "شرحه على جمع الجوامع" (1/ 47، ط. دار الكتب العلمية) ومعه "حاشية الشيخ حسن العطار": [أي: معرفة دلائل الفقه الإجمالية. ورجح المصنف الأول بأنه أقرب إلى المدلول اللغوي إذ الأصول لغة الأدلة] اهـ.
وما ذكره السبكي يشير إلى اختلاف العلماء في تحديد المعنى المعبر عنه بـ(أصول الفقه)؛ أهو القواعد مطلقًا سواء وُجِد العارف بها أم لم يوجد، أم أن أصول الفقه ومبانيه الحقيقية هي العلم والملكة النفسانية المتعلقة بتلك القواعد والحاصلة من الإحاطة بها؟
ويوضح الشيخ العطار في "حاشيته على شرح المحلي على جمع الجوامع" (1/ 45) أن منشأ الخلاف هو اشتراك أسماء العلوم بين تلك الأمور؛ فيقول: [اعلم أن أسماء العلوم المخصوصة كالمنطق تطلق تارة على المعلومات المخصوصة فيقال مثلًا: فلان يعلم النحو، أي: يعلم تلك المعلومات المعينة؛ وأخرى على العلم بالمعلومات، وهو ظاهر، فعلى الأول حقيقة كل علم مسائله، وعلى الثاني حقيقته التصديقات بمسائله... ويطلق لفظ العلم أيضًا على الملكة] اهـ.
والخلاف في تحديد معاني المصطلحات -والتي منها أصول الفقه– غالبًا ما يترتب عليه نوع من الإشكالات والتعارض الظاهري بين الآراء، وعند تحرير محل النزاع يتضح أن الخلاف لفظي منفك الجهة، وهذا هو الحاصل في مسألة قطعية أصول الفقه.
والقطعية: مصدر صناعي من القطع، وهو يأتي في اللغة بمعنى الجزم والبَتِّ والفصل والإبانة.
يقول الإمام الجوهري في "الصحاح" في اللغة (2/ 85-86): [وقُطِعَ بفلان فهو مَقْطوعٌ به. وانْقُطِعَ به فهو مُنْقَطَعٌ به، إذا عجز عن سفره من نفقةٍ ذهبت، أو قامت عليه راحلته، أو أتاه أمر لا يقدر على أن يتحرَّك معه... وأقْطَعَ الرجلُ: إذا انْقَطَعَتْ حُجَّته وبكَّتوه بالحق فلم يُجب] اهـ.
قال الفيروزآبادي في "القاموس المحيط" (2/ 313): [قَطَعَهُ... بِالحُجَّةِ: بَكَّتَهُ] اهـ. أي غلبه وأفحمه فلم يجب.
وللمزيد ينظر: "الصحاح" (1/ 50)، و"تاج العروس" (1/ 5477).
وبهذا يتبين أن الدليل القطعي أو القاطع أو المقطوع به هو الدليل اليقيني الذي يفيد العلم، ولا يُقدَر على رده أو نقضه أو الجواب عنه، وليس من السائغ جريان الخلاف فيه، فالدليل القاطع يفصل بين الحق والباطل.
أما الظنية فمصدر صناعي من الظنِّ، ومعناه في اللغة كما قال الإمام الزبيدي في "تاج العروس" (35/ 365-366، ط. الفيصل): [التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد الغير الجازم... وقال المناوي: الظن الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض ويستعمل في اليقين والشك، وقال الراغب: الظن اسم لما يحصل من أمارة ومتى قويت أدت إلى العلم ومتى ضعفت لم تجاوز حد الوهم] اهـ.
وبهذا يتضح أن الدليل الظني يفيد ترجيح أحد الاحتمالات بغالب الظن، لكن مع جواز الخطأ في هذا الترجيح، فيستساغ معه النظر والاجتهاد وجريان الخلاف في الاعتداد به بلا نكير.
وقواعد أصول الفقه المدونة في كتب العلماء منها ما هو قطعي متفق عليه كحجية القرآن الكريم والسنة المتواترة، ومنها ما هو ظني مختلف فيه بين العلماء؛ كحجية عمل أهل المدينة، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، وشرع من قبلنا، وغير ذلك من الأدلة، فمن هذه الحيثية لا يمكن القول بأن جميع قواعد أصول الفقه قطعية، بل يقال: بعضها قطعي وبعضها ظني، ولذلك فإن بعض الفروع الفقهية قطعي لا يجوز الخلاف فيه، وبعضها ظني يتسع أمره لتعدد الآراء بلا نكير.
أما لو نظرنا من حيثية أخرى فسوف نجد أنه قد وردت عبارات عن بعض العلماء تؤيد القول بقطعية جميع أصول الفقه، حتى وإن اختلف فيها العلماء؛ لأنه سيكون من تفاوت إدراكهم لحقيقة ثابتة في نفس الأمر، فبعضهم يدركها من طريق قوي فيقطع بها، وبعضهم يدركها من طريق ضعيف فلا تتجاوز عنده مرتبة الظن.
ومن سلك هذا المسلك من العلماء قصد أن القواعد الأصولية في حقيقة الأمر قطعية، أما عِلْمُنَا بها فقد يتفاوت لقصور البحث ونقص الاستقراء، فمن واصل البحث وأتم الاستقراء توصل إلى القطع بقواعد الأصول.
يقول الإمام القرافي في "نفائس الأصول" (1/ 147-148، ط. نزار مصطفى الباز): [قواعد أصول الفقه كلها قطعية غير أن القطع لا يحصل بمجرد الاستدلال ببعض الظواهر، بل بكثرة الاستقراء لموارد الأدلة، ومن كثرت مطالعته لأقضية الصحابة رضوان الله عليهم، واستقراؤه لنصوص الكتاب والسنة، حصل له القطع... من أراد القطع بقواعد أصول الفقه من الإجماع والقياس وغيرهما فليتوجه للاستقراء التام في أقضية الصحابة ومناظراتهم وأجوبتهم وفتاويهم، ويكثر من الاطلاع على نصوص الكتاب والسنة، فيحصل له من جميع ذلك ومن القرائن الحالية والسياقات اللفظية القطع بهذه القواعد، والغفلة عن هذا المدرك هو الموجب لقول من قال: الإجماع ظني؛ لأنه لم يطلع إلا على نصوص يسيرة في بعض الكتب، فلا يجد في نفسه غير الظن، فيقول: سخاء حاتم مظنون، مع أنه في نفس الأمر مقطوع به عند غيره ممن كمل استقراؤه. هذه قاعدة جليلة شريفة ينبغي أن يتفطن لها، فإنها أصل كبير من أصول الإسلام وهي سر قول العلماء: إن قواعد الدين قطعية، وعدم العلم بها هو سبب المخالفة في ذلك، ومثال الفريقين كفريقين تواتر عند أحدهما قضية لم تتواتر عند الآخر فأفتى كل واحد منهما على مدركه من الظن والقطع، وقد تكون الرسالة المحمدية لم تبلغ لبعض الناس، وقد تبلغ بأخبار الآحاد، ولا يقدح ذلك في أنها قد قطع بها في نفس الأمر] اهـ.
لكن في موضع آخر يعلق القرافي على قول أبي الحسين البصري بأن المخطئ في أصول الفقه غير معذور، وأنه لا يجوز فيها التقليد، وأن المصيب في الأصول واحد كأصول الدين؛ فيقول (1/ 161): [ينبغي أن تعلم أن من أصول الفقه مسائل ضعيفة المدارك؛ كالإجماع السكوتي والإجماع على الحروب ونحو ذلك، فإن الخلاف فيها قوي، والمخالف فيها لم يخالف قاطعًا بل ظنًّا، فلا ينبغي تأثيمه، كما أنا في أصول الدين لا نؤثم من يقول: العرض يبقى زمنين، أو ينفي الخلاء وإثبات الملاء، وغير ذلك من المسائل التي ليس مقصودها من قواعد الدين الأصلية، وإنما هي من المسميات في ذلك العلم] اهـ.
وعلى هذا، فهناك جملة كثيرة من مسائل أصول الفقه مظنونة وضعيفة المدرك، لكن بعض القائلين بقطعية جميع أصول الفقه لم يعدها من الأصول بل عدها من المسائل الملحقة بالأصول لأجل بيان حقيقتها ومدى حجيتها ومرتبتها عند التعارض والترجيح، كما أنها قد تكون موجبة للعمل والفتوى لمن غلب على ظنه صحتها من المجتهدين.
ويقول إمام الحرمين الجويني في "البرهان" (1/ 78، ط. الوفاء): [فإن قيل: تفصيل أخبار الآحاد والأقيسة لا يلفى إلا في الأصول وليست قواطع. قلنا: حظ الأصولي إبانة القاطع في العمل بها، ولكن لا بد من ذكرها ليتبين المدلول ويرتبط الدليل به] اهـ.
يقول الإمام الغزالي في "المنخول" (ص: 4-5، ط. دار الفكر المعاصر): [ومقصوده -أي علم أصول الفقه- معرفة الأدلة القطعية المنصوبة على الأحكام التكليفية. وأخبار الآحاد ومسالك العبر والمقاييس المستثارة بطرق الاجتهاد ليس من الأصول؛ فإنها مظنونات بجانب أخذها مأخذ القطعيات، ولكن افتقر الأصولي إلى ذكرها لتبيين الصحيح من الفاسد، والمستند من الحائد؛ ولأن الترجيحات من مغمضات علم الأصول، ولا سبيل إليها إلا ببيان المراتب والدرجات] اهـ.
لكن ذهب الإمام الرازي في "المحصول" (1/ 80، ط. مؤسسة الرسالة) إلى: [أن أصول الفقه عبارة عن مجموع طرق الفقه على سبيل الإجمال، وكيفية الاستدلال بها، وكيفية حال المستدل بها] اهـ.
وقد قصد بقوله: "طرق الفقه" كلًّا من الأدلة القطعية والأمارات الظنية، فهي معدودة عنده من أصول الفقه؛ يقول الإمام الإسنوي في "نهاية السول" (1/ 16، ط. محمد علي صبيح): [واعلم أن التعبير بالأدلة مُخرج لكثير من أصول الفقه؛ كالعمومات وأخبار الآحاد والقياس والاستصحاب وغير ذلك؛ فإن الأصوليين وإن سلّموا العمل بها فليست عندهم أدلة للفقه بل أمارات له، فإن الدليل عندهم لا يطلق إلا على المقطوع به، ولهذا قال في "المحصول": (أصول الفقه مجموع طرق الفقه). ثم قال: (وقولنا طرق الفقه يتناول الأدلة والأمارات)] اهـ.
هذا، وقد وافق أكثر الأصوليين الإمام الرازي في اعتبار أصول الفقه تصدق على الأدلة القطعية والأمارات الظنية، وسموا كليهما أدلة، قال العلامة الفتوحي الحنبلي في شرح تعريف الدليل شرعًا؛ حيث يعرفه صاحب "الكوكب المنير" بأنه: [ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري]. فيقول العلامة الفتوحي في "شرحه عليه" (16، ط. مطبعة السنة المحمدية): [ويدخل في المطلوب الخبري ما يفيد القطع والظن، وهو مذهب أصحابنا وأكثر الفقهاء والأصوليين. والقول الثاني: أن ما أفاد القطع يُسمّى دليلًا، وما أفاد الظن يسمى أمارة] اهـ.
وعلى هذا: فأدلة الفقه سواء الإجمالية أو التفصيلية هي ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيها إلى القطع بالحكم الشرعي أو الظن به، فيشمل هذا الأدلة المختلف فيها؛ كعمل أهل المدينة والاستصحاب، والمتفق عليها؛ كالكتاب والسنة المتواترة.
هذا، وقد يراد بقطعية أصول الفقه أنها قاطعة في الإلزام بالأحكام الشرعية عند حصول غلبة الظن بها للمجتهد، سواء استفيدت تلك الأحكام من الأدلة المتفق عليها أم من الأدلة المختلف فيها، فالمجتهد الذي بحث ونظر حتى غلب على ظنه حجية الاستصلاح مثلًا، ثم نزلت نازلة فتوصل إلى حكمها بالاستصلاح بعد استفراغ وسعه: يجب عليه -قطعًا- العمل والإفتاء بما دل عليه الاستصلاح حينئذٍ، وإن كانت حجيته غير مقطوع بها لدى الأصوليين، ولذا قال الإمام البيضاوي في "منهاج الوصول" (ص: 2-3): [المجتهد إذا ظن الحكم وجب عليه الفتوى والعمل به؛ للدليل القاطع على وجوب اتباع الظن، فالحكم مقطوع به والظن في طريقه] اهـ.
وبعض العلماء أطلق اسم أصول الفقه على القواعد الفقهية ومقاصد الشريعة وكلياتها الثابتة باستقراء نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية متواترة المعنى، فتكون بهذا قطعية؛ لأن مبناها الاستقراء التام، أو الاستدلال العقلي القطعي. انظر: "الموافقات في أصول الشريعة" للشاطبي (1/ 29-30، ط. دار الفكر العربي).
يقول العلامة ابن نجيم الحنفي في بداية كتابه "الأشباه والنظائر" (1/ 14، ط. دار الكتب العلمية) واصفًا كليات القواعد الفقهية بقوله: [وهي أصول الفقه في الحقيقة] اهـ. وعنى بهذا عدة قواعد، منها: "الأمور بمقاصدها"، و"المشقة تجلب التيسير"، و"الضرر يزال"، ونحوها.
لكن هذا لا يسلم به جمهور أهل العلم، فالقواعد بمنزلة النصوص الجزئية وإن كانت صالحة للدلالة على أحكام فروع كثيرة غير متناهية إلا أن إثبات مثل هذه القواعد يفتقر أولًا لإثبات حجية مصادر استقرائها، وحجية التواتر المعنوي، ومعرفة كيفية استفادة المعاني من نصوص الوحي، وغير ذلك من الأمور التي لا بد من إدراكها أولًا قبل تقرير القاعدة الفقهية، والعلم الذي تخصص في دراسة تلك الأمور والبحث في الحجية والاستدلال وغيره، هو علم أصول الفقه على الحقيقة؛ إذ بغير تحرير مباحثه لا يمكن القطع بتلك القواعد والكليات والمقاصد الشرعية، فقواعد الفقه تفتقر لأصول الفقه كما يفتقر إليها فروعه.
وبناءً على ما سبق: فإن أصول الفقه تكون منها قواعد قطعية متفق عليها كما أن منها قواعد ظنية مختلفًا فيها، وهذا لا يمنع من الجزم بحكم الفروع الفقهية ووجوب العمل بها وإن كانت متفرعة على قواعد أصولية مختلف فيها كما تقدم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.