الفرق بين التيسير والتساهل في الفتوى

 هل هناك فارق بين التيسير في الفتوى، وبين التساهل في الفتوى؟

 ورد عن أهل العلم ذم التساهل في الفتوى، وكثيرًا ما يلتبس الأمر على بعض الناس حتى يتخذوا مِن ذم العلماء للتساهل وتحريمه ذريعةً لذم مراعاة التيسير في الفتيا، وفي هذا خلط بين أمرين مختلفين تمامًا في خصائصهما وأحكامهما؛ فهناك فرق كبير بين التساهل والتيسير، وكما ورد عن العلماء ذم التساهل في الفتوى ورد عنهم أيضًا استحسان التيسير على الناس والتماس المخرج الشرعي لهم مما يشق عليهم التزامه، فالعلماء يفرقون بين الأمرين في الاصطلاح وإن تقارَبَا من حيث اللغة؛ قال الفيروزآبادي في "القاموس المحيط" (1/ 499-500، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت): [اليُسْرُ: ضدُّ العُسْرِ. وَتَيَسَّرَ واسْتَيْسَرَ: تَسَهَّلَ. ويَسَّرَهُ: سَهَّلَهُ، يكونُ في الخَيْرِ والشَّرِّ... والتَّياسُرُ: التَّساهُلُ] اهـ.

والتيسير في الشريعة هو: تشريع الأحكام على وجه روعيت فيه حاجة المكلف وقدرته على امتثال الأوامر واجتناب النواهي مع عدم الإخلال بالمبادئ الأساسية للتشريع. انظر: "مظاهر التيسير في الشريعة الإسلامية" لكمال جودة أبو المعاطي (ص: 7، بحث مقدم لنيل درجة الدكتوراه بجامعة الأزهر، القاهرة، عام 1975م).

والإفتاء هو: تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه فيما نزل به من وقائع، أو فيما أشكل عليه من أحكام الشرع. انظر: "شرح منتهى الإرادات" (3/ 482، ط. عالم الكتب).

فالفتوى هي تبيين لحكم الشرع في حادثة ما لمن سأل عنه، وهذا التبيين لا بد أن يكون صادرًا عن دليل معتبر شرعًا.

ودور المفتي هو بيان الحكم الشرعي لمن سأل عنه، وقد يأتيه استفتاء في مسألة قديمة تعددت فيها اجتهادات أهل العلم، وقد يأتيه في مسألة مستحدثة لم يتعرض لها السابقون وتحتاج للاجتهاد، وفي كلا الحالتين يجب على المفتي أن يبذل قصارى جهده في الوصول إلى الحكم الشرعي المناسب لواقعة السؤال؛ سواء كان بترجيحه لأحد أقوال المجتهدين، أو باجتهاده ونظره في الأدلة ونصوص الوحي، أو بتخريجه الفتوى على قواعد العلماء وأصول مذاهب المجتهدين، وعلى كل حال فعليه أن يضع نصب عينيه أن قصد الشريعة المباركة إلى التكليف هو قصد إلى ما يكون به صلاح العباد واستقامة أحوالهم الدنيوية والأخروية بما لا يشق عليهم امتثاله، فالتكليف في الإسلام تشريف مقرون بالتيسير والتخفيف.

وقد وردت في كتاب الله تعالى وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصوصٌ صريحة تدل على أصالة التيسير في الإسلام، وتنفي أن يكون العسر أو الحرج أو الإضرار بالمكلفين مقصدًا شرعيًّا، بالإضافة إلى أن المكلفين مأمورون بالرفق والتيسير على النفس وعلى الغير، وأولى الناس بذلك هم العلماء؛ لأنهم المبلغون عن الله شرعه، وهم من يهرع إليهم الناس إذا نزلت بهم نازلة لمعرفة حكم الله فيها وما ينبغي عليهم أن يفعلوه.

والله تعالى يقول: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، قال الخازن في "تفسيره" (1/ 156، ط. دار الفكر، بيروت) : [أي قد نفى عنكم الحرج في أمر الدين، قيل: ما خُيِّر رجل بين أمرين فاختار أيسرهما، إلا كان أحب إلى الله تعالى] اهـ.

ويقول عز وجل: ﴿مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6].

قال الإمام الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب" (11/ 139، ط. دار الكتب العلمية، بيروت): [اعلم أن هذه الآية أصل كبير معتبر في الشرع، وهو أن الأصل في المضار أن لا تكون مشروعة، ويدل عليه هذه الآية فإنه تعالى قال: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78] ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة : 185]، ويدل عليه من الأحاديث قوله عليه السلام: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ»، ويدل عليه أيضًا أن دفع الضرر مستحسن في العقول، فوجب أن يكون الأمر كذلك في الشرع؛ لقوله عليه السلام: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ الله حَسَنٌ»] اهـ.

وروى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أنس رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا».

قال الإمام المناوي في "فيض القدير" (6/ 461-462، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [«يَسِّروا» بفتح فتشديد أي خذوا بما فيه التيسير على الناس بذكر ما يؤلفهم لقبول الموعظة في جميع الأيام؛ لئلا يثقل عليهم فينفروا؛ وذلك لأن التيسير في التعليم يورث قبول الطاعة، ويرغب في العبادة، ويسهل به العلم والعمل «ولا تُعسِّروا» لا تشددوا، أردفه بنفي التعسير مع أن الأمر بشيء نهي عن ضده تصريحًا لما لزم ضمنًا للتأكيد، ذكره الكرماني، وأولى منه قول جمع: عقَّبه به إيذانًا بأن مراده نفي التعسير رأسًا ولو اقتصر على «يسروا» لصدق على كل من يَسَّر مرة وعَسَّر كثيرا، كذا قرره أئمة هذا الشأن ومنهم النووي وغيره] اهـ.

وروى البخاري في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بَال أعْرَابيٌّ في المسجدِ، فَقَامَ النَّاسُ إِلَيْهِ لِيَقَعُوا فِيهِ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «دَعُوهُ، وَأرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، فَإنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَم تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ».

قال الإمام المناوي في "فيض القدير" (2/ 573): [أكد التيسير بنفي ضده وهو التعسير؛ فقال: «ولم تبعثوا معسرين» إسناد البعث إليهم مجاز؛ لأنه المبعوث بما ذكر، لكن لما نابوا عنه في التبليغ أطلق عليهم ذلك إذ هم مبعوثون من قبله؛ أي مأمورون، وكان ذا شأنه مع كل من بعثه لجهة يقول: «يسروا ولا تعسروا»، وهذا قاله لمّا بال ذو الخُويصرة اليماني أو الأقرع بن حابس بالمسجد] اهـ.

وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بُعِثْتُ بالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، ومَنْ خالَفَ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» أخرجه الخطيب البغدادي، وقال الإمام المناوي في "فيض القدير" (3/ 203): [له طرقٌ ثلاثٌ ليس يبعد أن لا ينزل بسببها عن درجة الحسن] اهـ. وقال أيضًا: [«ومن خالف سنتي» أي طريقتي بأن شدد وعقد وتبتل وترهب «فليس مني» أي ليس من المتبعين لي العاملين بما بعثت به الممتثلين لما أمرت به من الرفق واللين والقيام بالحق والمساهلة مع الخلق، قال الحرالي: إنما بعث بالحنيفيةِ السمحةِ البيضاء النقية، واليسرِ الذي لا حرج فيه ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: 42] اهـ. واستنبط منه الشافعية قاعدة: "إن المشقة تجلب التيسير"] اهـ.

وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي -أَوْ عَلَى النَّاسِ- لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ». قال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (7/ 199، ط. وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب): [وفي هذا الحديث أدل الدلائل على فضل السواك والرغبة فيه، وفيه أيضًا دليل على فضل التيسير في أمور الديانة، وأن ما يشق منها مكروه؛ قال الله عز وجل: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه] اهـ.

وروى مسلم في "صحيحه" عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: «اللهُمَّ، مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ»، وفي هذا حثٌّ لمن تولى أمر الإفتاء ألَّا يشق على الأمة، بل عليه بالرفق والتيسير ما دام في الأمر سعةٌ ولم يترتب على التيسير فيه إثم؛ فقد أخرج البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ". وفي رواية أخرى عن السيدة عائشة رضي الله عنها: "وَلَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلَّا كَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ أَيْسَرُهُمَا، حَتَّى يَكُونَ إِثْمًا، فَإِذَا كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ الْإِثْمِ" رواه أحمد في "مسنده".

قال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (8/ 146-147): [في هذا الحديث دليل على أن المرء ينبغي له ترك ما عسر عليه من أمور الدنيا والآخرة، وترك الإلحاح فيه إذا لم يضطر إليه، والميل إلى اليسر أبدًا، فإن اليسر في الأمور كلها أحب إلى الله وإلى رسوله؛ قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وفي معنى هذا الأخذ برخص الله تعالى، ورخص رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والأخذ برخص العلماء ما لم يكن القول خطأ بيِّنًا... روينا عن محمد بن يحيى بن سلام عن أبيه قال: ينبغي للعالم أن يحمل الناس على الرخصة والسعة ما لم يخف المأثم... عن معمر قال: إنما العلم أن تسمع بالرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل واحد] اهـ.

هذا، والناظر في الأحكام الشرعية يرى بوضوح أنها مبنية على اليسر ووضع الحرج عن المكلفين، وهذا يعد من مزايا الشريعة الإسلامية مقارنة بما قبلها من الشرائع السماوية؛ كما جاء في قوله تعالى في وصف نبي الإسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157]، ولهذا فقد قرر العلماء قاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، واعتبروها إحدى القواعد الخمس الكبرى التي عليها مدار الفقه الإسلامي -انظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 7-8، ط. دار الكتب العلمية)-، كما قرروا قواعد أخرى محورها الرئيس هو التيسير أيضًا؛ كقاعدة: "الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم"، وقاعدة: "لا ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المجمع عليه"، وقاعدة: "الخروج من الخلاف مستحب"، وغير ذلك.

يقول الإمام الشاطبي في "الموافقات" (4/ 350-351، ط. دار ابن عفان): [إن دوران الحاجيات على التوسعة والتيسير ورفع الحرج والرفق (فبالنسبة إلى الدين) يظهر في مواضع شرعية الرخص في الطهارة؛ كالتيمم، ورفع حكم النجاسة فيما إذا عسر إزالتها، وفي الصلاة بالقصر، ورفع القضاء في الإغماء، والجمع، والصلاة قاعدًا وعلى جنب، وفي الصوم بالفطر في السفر والمرض، وكذلك سائر العبادات؛ فالقرآن إن نص على بعض التفاصيل؛ كالتيمم والقصر والفطر فذاك، وإلا؛ فالنصوص على رفع الحرج فيه كافية، وللمجتهد إجراء القاعدة والترخص بحسبها، والسنة أول قائم بذلك. (وبالنسبة إلى النفس) أيضًا يظهر في مواضع، منها مواضع الرخص؛ كالميتة للمضطر، وشرعية المواساة بالزكاة وغيرها، وإباحة الصيد وإن لم يتأت فيه من إراقة الدم المحرم ما يتأتى بالذكاة الأصلية. (وفي التناسل) من العقد على البُضْع من غير تسمية صداق، وإجازة بعض الجهالات فيه بناء على ترك المشاحة كما في البيوع، وجعل الطلاق ثلاثًا دون ما هو أكثر، وإباحة الطلاق من أصله، والخلع، وأشباه ذلك. (وبالنسبة إلى المال) أيضًا في الترخيص في الغرر اليسير، والجهالة التي لا انفكاك عنها في الغالب، ورخصة السَّلَم والعرايا والقرض والشفعة والقراض والمساقاة ونحوها، ومنه التوسعة في ادخار الأموال وإمساك ما هو فوق الحاجة منها، والتمتع بالطيبات من الحلال على جهة القصد من غير إسراف ولا إقتار. (وبالنسبة إلى العقل) في رفع الحرج عن المكره، وعن المضطر على قول من قال به في الخوف على النفس عند الجوع والعطش والمرض وما أشبه ذلك، كل ذلك داخل تحت قاعدة رفع الحرج؛ لأن أكثره اجتهادي، وبينت السنة منه ما يحتذى حذوه] اهـ.

أما التساهل في الفتوى فمعناه: أن يعجل المفتي فيفتي من غير نظر، أو بغير تثبت واستجماع للمصادر، أو أن يبادر إلى الفتوى لهوى في نفسه، أو يتبع الحيل المحرمة، أو نحو ذلك، فهذا الفعل لا خلاف في حرمته.

يقول الإمام النووي في "المجموع" (1/ 79-80، ط. المنيرية) مفرقًا بين التساهل والتيسير على الناس لتخليصهم مما يشق عليهم: [يحرم التساهل في الفتوى، ومن عرف به حرم استفتاؤه فمن التساهل: أن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه فلا بأس بالمبادرة، وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة. ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة، والتمسك بالشبه طلبًا للترخيص لمن يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره، وأما من صح قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها؛ لتخليص من ورطة يمين ونحوها فذلك حسن جميل. وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا، كقول سفيان: إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد] اهـ.

ومما سبق: يتجلى أن ثمت فارقًا جوهريًّا بين التساهل والتيسير في الإفتاء؛ فالتساهل ينشأ عن فوضى وتقصير في البحث، وهو نوع من الاستهتار والتلاعب، ولذا فحكمه الحرمة، بينما التيسير ينشأ عن رسوخٍ في العلم، وإدراكٍ لمقاصد الشريعة وأدلتها وطرائق الترجيح بينها، وعن درايةٍ بأحوال الناس وحاجتهم وواقعهم، فالتيسير نوع من إعمال القواعد العلمية المدروسة والمقننة بعنايةٍ من قِبل علماء الإسلام وأئمة الفقه، ولهذا فلا يخرج حكمه عن الندب أو الوجوب بحسب ما يقتضيه الواقع.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

 ورد عن أهل العلم ذم التساهل في الفتوى، وكثيرًا ما يلتبس الأمر على بعض الناس حتى يتخذوا مِن ذم العلماء للتساهل وتحريمه ذريعةً لذم مراعاة التيسير في الفتيا، وفي هذا خلط بين أمرين مختلفين تمامًا في خصائصهما وأحكامهما؛ فهناك فرق كبير بين التساهل والتيسير، وكما ورد عن العلماء ذم التساهل في الفتوى ورد عنهم أيضًا استحسان التيسير على الناس والتماس المخرج الشرعي لهم مما يشق عليهم التزامه، فالعلماء يفرقون بين الأمرين في الاصطلاح وإن تقارَبَا من حيث اللغة؛ قال الفيروزآبادي في "القاموس المحيط" (1/ 499-500، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت): [اليُسْرُ: ضدُّ العُسْرِ. وَتَيَسَّرَ واسْتَيْسَرَ: تَسَهَّلَ. ويَسَّرَهُ: سَهَّلَهُ، يكونُ في الخَيْرِ والشَّرِّ... والتَّياسُرُ: التَّساهُلُ] اهـ.

والتيسير في الشريعة هو: تشريع الأحكام على وجه روعيت فيه حاجة المكلف وقدرته على امتثال الأوامر واجتناب النواهي مع عدم الإخلال بالمبادئ الأساسية للتشريع. انظر: "مظاهر التيسير في الشريعة الإسلامية" لكمال جودة أبو المعاطي (ص: 7، بحث مقدم لنيل درجة الدكتوراه بجامعة الأزهر، القاهرة، عام 1975م).

والإفتاء هو: تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه فيما نزل به من وقائع، أو فيما أشكل عليه من أحكام الشرع. انظر: "شرح منتهى الإرادات" (3/ 482، ط. عالم الكتب).

فالفتوى هي تبيين لحكم الشرع في حادثة ما لمن سأل عنه، وهذا التبيين لا بد أن يكون صادرًا عن دليل معتبر شرعًا.

ودور المفتي هو بيان الحكم الشرعي لمن سأل عنه، وقد يأتيه استفتاء في مسألة قديمة تعددت فيها اجتهادات أهل العلم، وقد يأتيه في مسألة مستحدثة لم يتعرض لها السابقون وتحتاج للاجتهاد، وفي كلا الحالتين يجب على المفتي أن يبذل قصارى جهده في الوصول إلى الحكم الشرعي المناسب لواقعة السؤال؛ سواء كان بترجيحه لأحد أقوال المجتهدين، أو باجتهاده ونظره في الأدلة ونصوص الوحي، أو بتخريجه الفتوى على قواعد العلماء وأصول مذاهب المجتهدين، وعلى كل حال فعليه أن يضع نصب عينيه أن قصد الشريعة المباركة إلى التكليف هو قصد إلى ما يكون به صلاح العباد واستقامة أحوالهم الدنيوية والأخروية بما لا يشق عليهم امتثاله، فالتكليف في الإسلام تشريف مقرون بالتيسير والتخفيف.

وقد وردت في كتاب الله تعالى وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصوصٌ صريحة تدل على أصالة التيسير في الإسلام، وتنفي أن يكون العسر أو الحرج أو الإضرار بالمكلفين مقصدًا شرعيًّا، بالإضافة إلى أن المكلفين مأمورون بالرفق والتيسير على النفس وعلى الغير، وأولى الناس بذلك هم العلماء؛ لأنهم المبلغون عن الله شرعه، وهم من يهرع إليهم الناس إذا نزلت بهم نازلة لمعرفة حكم الله فيها وما ينبغي عليهم أن يفعلوه.

والله تعالى يقول: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، قال الخازن في "تفسيره" (1/ 156، ط. دار الفكر، بيروت) : [أي قد نفى عنكم الحرج في أمر الدين، قيل: ما خُيِّر رجل بين أمرين فاختار أيسرهما، إلا كان أحب إلى الله تعالى] اهـ.

ويقول عز وجل: ﴿مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6].

قال الإمام الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب" (11/ 139، ط. دار الكتب العلمية، بيروت): [اعلم أن هذه الآية أصل كبير معتبر في الشرع، وهو أن الأصل في المضار أن لا تكون مشروعة، ويدل عليه هذه الآية فإنه تعالى قال: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78] ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة : 185]، ويدل عليه من الأحاديث قوله عليه السلام: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ»، ويدل عليه أيضًا أن دفع الضرر مستحسن في العقول، فوجب أن يكون الأمر كذلك في الشرع؛ لقوله عليه السلام: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ الله حَسَنٌ»] اهـ.

وروى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أنس رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا».

قال الإمام المناوي في "فيض القدير" (6/ 461-462، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [«يَسِّروا» بفتح فتشديد أي خذوا بما فيه التيسير على الناس بذكر ما يؤلفهم لقبول الموعظة في جميع الأيام؛ لئلا يثقل عليهم فينفروا؛ وذلك لأن التيسير في التعليم يورث قبول الطاعة، ويرغب في العبادة، ويسهل به العلم والعمل «ولا تُعسِّروا» لا تشددوا، أردفه بنفي التعسير مع أن الأمر بشيء نهي عن ضده تصريحًا لما لزم ضمنًا للتأكيد، ذكره الكرماني، وأولى منه قول جمع: عقَّبه به إيذانًا بأن مراده نفي التعسير رأسًا ولو اقتصر على «يسروا» لصدق على كل من يَسَّر مرة وعَسَّر كثيرا، كذا قرره أئمة هذا الشأن ومنهم النووي وغيره] اهـ.

وروى البخاري في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بَال أعْرَابيٌّ في المسجدِ، فَقَامَ النَّاسُ إِلَيْهِ لِيَقَعُوا فِيهِ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «دَعُوهُ، وَأرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، فَإنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَم تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ».

قال الإمام المناوي في "فيض القدير" (2/ 573): [أكد التيسير بنفي ضده وهو التعسير؛ فقال: «ولم تبعثوا معسرين» إسناد البعث إليهم مجاز؛ لأنه المبعوث بما ذكر، لكن لما نابوا عنه في التبليغ أطلق عليهم ذلك إذ هم مبعوثون من قبله؛ أي مأمورون، وكان ذا شأنه مع كل من بعثه لجهة يقول: «يسروا ولا تعسروا»، وهذا قاله لمّا بال ذو الخُويصرة اليماني أو الأقرع بن حابس بالمسجد] اهـ.

وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بُعِثْتُ بالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، ومَنْ خالَفَ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» أخرجه الخطيب البغدادي، وقال الإمام المناوي في "فيض القدير" (3/ 203): [له طرقٌ ثلاثٌ ليس يبعد أن لا ينزل بسببها عن درجة الحسن] اهـ. وقال أيضًا: [«ومن خالف سنتي» أي طريقتي بأن شدد وعقد وتبتل وترهب «فليس مني» أي ليس من المتبعين لي العاملين بما بعثت به الممتثلين لما أمرت به من الرفق واللين والقيام بالحق والمساهلة مع الخلق، قال الحرالي: إنما بعث بالحنيفيةِ السمحةِ البيضاء النقية، واليسرِ الذي لا حرج فيه ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: 42] اهـ. واستنبط منه الشافعية قاعدة: "إن المشقة تجلب التيسير"] اهـ.

وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي -أَوْ عَلَى النَّاسِ- لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ». قال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (7/ 199، ط. وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب): [وفي هذا الحديث أدل الدلائل على فضل السواك والرغبة فيه، وفيه أيضًا دليل على فضل التيسير في أمور الديانة، وأن ما يشق منها مكروه؛ قال الله عز وجل: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه] اهـ.

وروى مسلم في "صحيحه" عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: «اللهُمَّ، مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ»، وفي هذا حثٌّ لمن تولى أمر الإفتاء ألَّا يشق على الأمة، بل عليه بالرفق والتيسير ما دام في الأمر سعةٌ ولم يترتب على التيسير فيه إثم؛ فقد أخرج البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ". وفي رواية أخرى عن السيدة عائشة رضي الله عنها: "وَلَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلَّا كَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ أَيْسَرُهُمَا، حَتَّى يَكُونَ إِثْمًا، فَإِذَا كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ الْإِثْمِ" رواه أحمد في "مسنده".

قال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (8/ 146-147): [في هذا الحديث دليل على أن المرء ينبغي له ترك ما عسر عليه من أمور الدنيا والآخرة، وترك الإلحاح فيه إذا لم يضطر إليه، والميل إلى اليسر أبدًا، فإن اليسر في الأمور كلها أحب إلى الله وإلى رسوله؛ قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وفي معنى هذا الأخذ برخص الله تعالى، ورخص رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والأخذ برخص العلماء ما لم يكن القول خطأ بيِّنًا... روينا عن محمد بن يحيى بن سلام عن أبيه قال: ينبغي للعالم أن يحمل الناس على الرخصة والسعة ما لم يخف المأثم... عن معمر قال: إنما العلم أن تسمع بالرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل واحد] اهـ.

هذا، والناظر في الأحكام الشرعية يرى بوضوح أنها مبنية على اليسر ووضع الحرج عن المكلفين، وهذا يعد من مزايا الشريعة الإسلامية مقارنة بما قبلها من الشرائع السماوية؛ كما جاء في قوله تعالى في وصف نبي الإسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157]، ولهذا فقد قرر العلماء قاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، واعتبروها إحدى القواعد الخمس الكبرى التي عليها مدار الفقه الإسلامي -انظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 7-8، ط. دار الكتب العلمية)-، كما قرروا قواعد أخرى محورها الرئيس هو التيسير أيضًا؛ كقاعدة: "الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم"، وقاعدة: "لا ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المجمع عليه"، وقاعدة: "الخروج من الخلاف مستحب"، وغير ذلك.

يقول الإمام الشاطبي في "الموافقات" (4/ 350-351، ط. دار ابن عفان): [إن دوران الحاجيات على التوسعة والتيسير ورفع الحرج والرفق (فبالنسبة إلى الدين) يظهر في مواضع شرعية الرخص في الطهارة؛ كالتيمم، ورفع حكم النجاسة فيما إذا عسر إزالتها، وفي الصلاة بالقصر، ورفع القضاء في الإغماء، والجمع، والصلاة قاعدًا وعلى جنب، وفي الصوم بالفطر في السفر والمرض، وكذلك سائر العبادات؛ فالقرآن إن نص على بعض التفاصيل؛ كالتيمم والقصر والفطر فذاك، وإلا؛ فالنصوص على رفع الحرج فيه كافية، وللمجتهد إجراء القاعدة والترخص بحسبها، والسنة أول قائم بذلك. (وبالنسبة إلى النفس) أيضًا يظهر في مواضع، منها مواضع الرخص؛ كالميتة للمضطر، وشرعية المواساة بالزكاة وغيرها، وإباحة الصيد وإن لم يتأت فيه من إراقة الدم المحرم ما يتأتى بالذكاة الأصلية. (وفي التناسل) من العقد على البُضْع من غير تسمية صداق، وإجازة بعض الجهالات فيه بناء على ترك المشاحة كما في البيوع، وجعل الطلاق ثلاثًا دون ما هو أكثر، وإباحة الطلاق من أصله، والخلع، وأشباه ذلك. (وبالنسبة إلى المال) أيضًا في الترخيص في الغرر اليسير، والجهالة التي لا انفكاك عنها في الغالب، ورخصة السَّلَم والعرايا والقرض والشفعة والقراض والمساقاة ونحوها، ومنه التوسعة في ادخار الأموال وإمساك ما هو فوق الحاجة منها، والتمتع بالطيبات من الحلال على جهة القصد من غير إسراف ولا إقتار. (وبالنسبة إلى العقل) في رفع الحرج عن المكره، وعن المضطر على قول من قال به في الخوف على النفس عند الجوع والعطش والمرض وما أشبه ذلك، كل ذلك داخل تحت قاعدة رفع الحرج؛ لأن أكثره اجتهادي، وبينت السنة منه ما يحتذى حذوه] اهـ.

أما التساهل في الفتوى فمعناه: أن يعجل المفتي فيفتي من غير نظر، أو بغير تثبت واستجماع للمصادر، أو أن يبادر إلى الفتوى لهوى في نفسه، أو يتبع الحيل المحرمة، أو نحو ذلك، فهذا الفعل لا خلاف في حرمته.

يقول الإمام النووي في "المجموع" (1/ 79-80، ط. المنيرية) مفرقًا بين التساهل والتيسير على الناس لتخليصهم مما يشق عليهم: [يحرم التساهل في الفتوى، ومن عرف به حرم استفتاؤه فمن التساهل: أن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه فلا بأس بالمبادرة، وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة. ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة، والتمسك بالشبه طلبًا للترخيص لمن يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره، وأما من صح قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها؛ لتخليص من ورطة يمين ونحوها فذلك حسن جميل. وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا، كقول سفيان: إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد] اهـ.

ومما سبق: يتجلى أن ثمت فارقًا جوهريًّا بين التساهل والتيسير في الإفتاء؛ فالتساهل ينشأ عن فوضى وتقصير في البحث، وهو نوع من الاستهتار والتلاعب، ولذا فحكمه الحرمة، بينما التيسير ينشأ عن رسوخٍ في العلم، وإدراكٍ لمقاصد الشريعة وأدلتها وطرائق الترجيح بينها، وعن درايةٍ بأحوال الناس وحاجتهم وواقعهم، فالتيسير نوع من إعمال القواعد العلمية المدروسة والمقننة بعنايةٍ من قِبل علماء الإسلام وأئمة الفقه، ولهذا فلا يخرج حكمه عن الندب أو الوجوب بحسب ما يقتضيه الواقع.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

الفرق بين التيسير والتساهل في الفتوى

 هل هناك فارق بين التيسير في الفتوى، وبين التساهل في الفتوى؟

 ورد عن أهل العلم ذم التساهل في الفتوى، وكثيرًا ما يلتبس الأمر على بعض الناس حتى يتخذوا مِن ذم العلماء للتساهل وتحريمه ذريعةً لذم مراعاة التيسير في الفتيا، وفي هذا خلط بين أمرين مختلفين تمامًا في خصائصهما وأحكامهما؛ فهناك فرق كبير بين التساهل والتيسير، وكما ورد عن العلماء ذم التساهل في الفتوى ورد عنهم أيضًا استحسان التيسير على الناس والتماس المخرج الشرعي لهم مما يشق عليهم التزامه، فالعلماء يفرقون بين الأمرين في الاصطلاح وإن تقارَبَا من حيث اللغة؛ قال الفيروزآبادي في "القاموس المحيط" (1/ 499-500، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت): [اليُسْرُ: ضدُّ العُسْرِ. وَتَيَسَّرَ واسْتَيْسَرَ: تَسَهَّلَ. ويَسَّرَهُ: سَهَّلَهُ، يكونُ في الخَيْرِ والشَّرِّ... والتَّياسُرُ: التَّساهُلُ] اهـ.

والتيسير في الشريعة هو: تشريع الأحكام على وجه روعيت فيه حاجة المكلف وقدرته على امتثال الأوامر واجتناب النواهي مع عدم الإخلال بالمبادئ الأساسية للتشريع. انظر: "مظاهر التيسير في الشريعة الإسلامية" لكمال جودة أبو المعاطي (ص: 7، بحث مقدم لنيل درجة الدكتوراه بجامعة الأزهر، القاهرة، عام 1975م).

والإفتاء هو: تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه فيما نزل به من وقائع، أو فيما أشكل عليه من أحكام الشرع. انظر: "شرح منتهى الإرادات" (3/ 482، ط. عالم الكتب).

فالفتوى هي تبيين لحكم الشرع في حادثة ما لمن سأل عنه، وهذا التبيين لا بد أن يكون صادرًا عن دليل معتبر شرعًا.

ودور المفتي هو بيان الحكم الشرعي لمن سأل عنه، وقد يأتيه استفتاء في مسألة قديمة تعددت فيها اجتهادات أهل العلم، وقد يأتيه في مسألة مستحدثة لم يتعرض لها السابقون وتحتاج للاجتهاد، وفي كلا الحالتين يجب على المفتي أن يبذل قصارى جهده في الوصول إلى الحكم الشرعي المناسب لواقعة السؤال؛ سواء كان بترجيحه لأحد أقوال المجتهدين، أو باجتهاده ونظره في الأدلة ونصوص الوحي، أو بتخريجه الفتوى على قواعد العلماء وأصول مذاهب المجتهدين، وعلى كل حال فعليه أن يضع نصب عينيه أن قصد الشريعة المباركة إلى التكليف هو قصد إلى ما يكون به صلاح العباد واستقامة أحوالهم الدنيوية والأخروية بما لا يشق عليهم امتثاله، فالتكليف في الإسلام تشريف مقرون بالتيسير والتخفيف.

وقد وردت في كتاب الله تعالى وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصوصٌ صريحة تدل على أصالة التيسير في الإسلام، وتنفي أن يكون العسر أو الحرج أو الإضرار بالمكلفين مقصدًا شرعيًّا، بالإضافة إلى أن المكلفين مأمورون بالرفق والتيسير على النفس وعلى الغير، وأولى الناس بذلك هم العلماء؛ لأنهم المبلغون عن الله شرعه، وهم من يهرع إليهم الناس إذا نزلت بهم نازلة لمعرفة حكم الله فيها وما ينبغي عليهم أن يفعلوه.

والله تعالى يقول: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، قال الخازن في "تفسيره" (1/ 156، ط. دار الفكر، بيروت) : [أي قد نفى عنكم الحرج في أمر الدين، قيل: ما خُيِّر رجل بين أمرين فاختار أيسرهما، إلا كان أحب إلى الله تعالى] اهـ.

ويقول عز وجل: ﴿مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6].

قال الإمام الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب" (11/ 139، ط. دار الكتب العلمية، بيروت): [اعلم أن هذه الآية أصل كبير معتبر في الشرع، وهو أن الأصل في المضار أن لا تكون مشروعة، ويدل عليه هذه الآية فإنه تعالى قال: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78] ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة : 185]، ويدل عليه من الأحاديث قوله عليه السلام: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ»، ويدل عليه أيضًا أن دفع الضرر مستحسن في العقول، فوجب أن يكون الأمر كذلك في الشرع؛ لقوله عليه السلام: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ الله حَسَنٌ»] اهـ.

وروى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أنس رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا».

قال الإمام المناوي في "فيض القدير" (6/ 461-462، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [«يَسِّروا» بفتح فتشديد أي خذوا بما فيه التيسير على الناس بذكر ما يؤلفهم لقبول الموعظة في جميع الأيام؛ لئلا يثقل عليهم فينفروا؛ وذلك لأن التيسير في التعليم يورث قبول الطاعة، ويرغب في العبادة، ويسهل به العلم والعمل «ولا تُعسِّروا» لا تشددوا، أردفه بنفي التعسير مع أن الأمر بشيء نهي عن ضده تصريحًا لما لزم ضمنًا للتأكيد، ذكره الكرماني، وأولى منه قول جمع: عقَّبه به إيذانًا بأن مراده نفي التعسير رأسًا ولو اقتصر على «يسروا» لصدق على كل من يَسَّر مرة وعَسَّر كثيرا، كذا قرره أئمة هذا الشأن ومنهم النووي وغيره] اهـ.

وروى البخاري في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بَال أعْرَابيٌّ في المسجدِ، فَقَامَ النَّاسُ إِلَيْهِ لِيَقَعُوا فِيهِ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «دَعُوهُ، وَأرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، فَإنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَم تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ».

قال الإمام المناوي في "فيض القدير" (2/ 573): [أكد التيسير بنفي ضده وهو التعسير؛ فقال: «ولم تبعثوا معسرين» إسناد البعث إليهم مجاز؛ لأنه المبعوث بما ذكر، لكن لما نابوا عنه في التبليغ أطلق عليهم ذلك إذ هم مبعوثون من قبله؛ أي مأمورون، وكان ذا شأنه مع كل من بعثه لجهة يقول: «يسروا ولا تعسروا»، وهذا قاله لمّا بال ذو الخُويصرة اليماني أو الأقرع بن حابس بالمسجد] اهـ.

وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بُعِثْتُ بالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، ومَنْ خالَفَ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» أخرجه الخطيب البغدادي، وقال الإمام المناوي في "فيض القدير" (3/ 203): [له طرقٌ ثلاثٌ ليس يبعد أن لا ينزل بسببها عن درجة الحسن] اهـ. وقال أيضًا: [«ومن خالف سنتي» أي طريقتي بأن شدد وعقد وتبتل وترهب «فليس مني» أي ليس من المتبعين لي العاملين بما بعثت به الممتثلين لما أمرت به من الرفق واللين والقيام بالحق والمساهلة مع الخلق، قال الحرالي: إنما بعث بالحنيفيةِ السمحةِ البيضاء النقية، واليسرِ الذي لا حرج فيه ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: 42] اهـ. واستنبط منه الشافعية قاعدة: "إن المشقة تجلب التيسير"] اهـ.

وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي -أَوْ عَلَى النَّاسِ- لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ». قال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (7/ 199، ط. وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب): [وفي هذا الحديث أدل الدلائل على فضل السواك والرغبة فيه، وفيه أيضًا دليل على فضل التيسير في أمور الديانة، وأن ما يشق منها مكروه؛ قال الله عز وجل: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه] اهـ.

وروى مسلم في "صحيحه" عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: «اللهُمَّ، مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ»، وفي هذا حثٌّ لمن تولى أمر الإفتاء ألَّا يشق على الأمة، بل عليه بالرفق والتيسير ما دام في الأمر سعةٌ ولم يترتب على التيسير فيه إثم؛ فقد أخرج البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ". وفي رواية أخرى عن السيدة عائشة رضي الله عنها: "وَلَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلَّا كَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ أَيْسَرُهُمَا، حَتَّى يَكُونَ إِثْمًا، فَإِذَا كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ الْإِثْمِ" رواه أحمد في "مسنده".

قال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (8/ 146-147): [في هذا الحديث دليل على أن المرء ينبغي له ترك ما عسر عليه من أمور الدنيا والآخرة، وترك الإلحاح فيه إذا لم يضطر إليه، والميل إلى اليسر أبدًا، فإن اليسر في الأمور كلها أحب إلى الله وإلى رسوله؛ قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وفي معنى هذا الأخذ برخص الله تعالى، ورخص رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والأخذ برخص العلماء ما لم يكن القول خطأ بيِّنًا... روينا عن محمد بن يحيى بن سلام عن أبيه قال: ينبغي للعالم أن يحمل الناس على الرخصة والسعة ما لم يخف المأثم... عن معمر قال: إنما العلم أن تسمع بالرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل واحد] اهـ.

هذا، والناظر في الأحكام الشرعية يرى بوضوح أنها مبنية على اليسر ووضع الحرج عن المكلفين، وهذا يعد من مزايا الشريعة الإسلامية مقارنة بما قبلها من الشرائع السماوية؛ كما جاء في قوله تعالى في وصف نبي الإسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157]، ولهذا فقد قرر العلماء قاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، واعتبروها إحدى القواعد الخمس الكبرى التي عليها مدار الفقه الإسلامي -انظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 7-8، ط. دار الكتب العلمية)-، كما قرروا قواعد أخرى محورها الرئيس هو التيسير أيضًا؛ كقاعدة: "الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم"، وقاعدة: "لا ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المجمع عليه"، وقاعدة: "الخروج من الخلاف مستحب"، وغير ذلك.

يقول الإمام الشاطبي في "الموافقات" (4/ 350-351، ط. دار ابن عفان): [إن دوران الحاجيات على التوسعة والتيسير ورفع الحرج والرفق (فبالنسبة إلى الدين) يظهر في مواضع شرعية الرخص في الطهارة؛ كالتيمم، ورفع حكم النجاسة فيما إذا عسر إزالتها، وفي الصلاة بالقصر، ورفع القضاء في الإغماء، والجمع، والصلاة قاعدًا وعلى جنب، وفي الصوم بالفطر في السفر والمرض، وكذلك سائر العبادات؛ فالقرآن إن نص على بعض التفاصيل؛ كالتيمم والقصر والفطر فذاك، وإلا؛ فالنصوص على رفع الحرج فيه كافية، وللمجتهد إجراء القاعدة والترخص بحسبها، والسنة أول قائم بذلك. (وبالنسبة إلى النفس) أيضًا يظهر في مواضع، منها مواضع الرخص؛ كالميتة للمضطر، وشرعية المواساة بالزكاة وغيرها، وإباحة الصيد وإن لم يتأت فيه من إراقة الدم المحرم ما يتأتى بالذكاة الأصلية. (وفي التناسل) من العقد على البُضْع من غير تسمية صداق، وإجازة بعض الجهالات فيه بناء على ترك المشاحة كما في البيوع، وجعل الطلاق ثلاثًا دون ما هو أكثر، وإباحة الطلاق من أصله، والخلع، وأشباه ذلك. (وبالنسبة إلى المال) أيضًا في الترخيص في الغرر اليسير، والجهالة التي لا انفكاك عنها في الغالب، ورخصة السَّلَم والعرايا والقرض والشفعة والقراض والمساقاة ونحوها، ومنه التوسعة في ادخار الأموال وإمساك ما هو فوق الحاجة منها، والتمتع بالطيبات من الحلال على جهة القصد من غير إسراف ولا إقتار. (وبالنسبة إلى العقل) في رفع الحرج عن المكره، وعن المضطر على قول من قال به في الخوف على النفس عند الجوع والعطش والمرض وما أشبه ذلك، كل ذلك داخل تحت قاعدة رفع الحرج؛ لأن أكثره اجتهادي، وبينت السنة منه ما يحتذى حذوه] اهـ.

أما التساهل في الفتوى فمعناه: أن يعجل المفتي فيفتي من غير نظر، أو بغير تثبت واستجماع للمصادر، أو أن يبادر إلى الفتوى لهوى في نفسه، أو يتبع الحيل المحرمة، أو نحو ذلك، فهذا الفعل لا خلاف في حرمته.

يقول الإمام النووي في "المجموع" (1/ 79-80، ط. المنيرية) مفرقًا بين التساهل والتيسير على الناس لتخليصهم مما يشق عليهم: [يحرم التساهل في الفتوى، ومن عرف به حرم استفتاؤه فمن التساهل: أن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه فلا بأس بالمبادرة، وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة. ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة، والتمسك بالشبه طلبًا للترخيص لمن يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره، وأما من صح قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها؛ لتخليص من ورطة يمين ونحوها فذلك حسن جميل. وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا، كقول سفيان: إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد] اهـ.

ومما سبق: يتجلى أن ثمت فارقًا جوهريًّا بين التساهل والتيسير في الإفتاء؛ فالتساهل ينشأ عن فوضى وتقصير في البحث، وهو نوع من الاستهتار والتلاعب، ولذا فحكمه الحرمة، بينما التيسير ينشأ عن رسوخٍ في العلم، وإدراكٍ لمقاصد الشريعة وأدلتها وطرائق الترجيح بينها، وعن درايةٍ بأحوال الناس وحاجتهم وواقعهم، فالتيسير نوع من إعمال القواعد العلمية المدروسة والمقننة بعنايةٍ من قِبل علماء الإسلام وأئمة الفقه، ولهذا فلا يخرج حكمه عن الندب أو الوجوب بحسب ما يقتضيه الواقع.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

 ورد عن أهل العلم ذم التساهل في الفتوى، وكثيرًا ما يلتبس الأمر على بعض الناس حتى يتخذوا مِن ذم العلماء للتساهل وتحريمه ذريعةً لذم مراعاة التيسير في الفتيا، وفي هذا خلط بين أمرين مختلفين تمامًا في خصائصهما وأحكامهما؛ فهناك فرق كبير بين التساهل والتيسير، وكما ورد عن العلماء ذم التساهل في الفتوى ورد عنهم أيضًا استحسان التيسير على الناس والتماس المخرج الشرعي لهم مما يشق عليهم التزامه، فالعلماء يفرقون بين الأمرين في الاصطلاح وإن تقارَبَا من حيث اللغة؛ قال الفيروزآبادي في "القاموس المحيط" (1/ 499-500، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت): [اليُسْرُ: ضدُّ العُسْرِ. وَتَيَسَّرَ واسْتَيْسَرَ: تَسَهَّلَ. ويَسَّرَهُ: سَهَّلَهُ، يكونُ في الخَيْرِ والشَّرِّ... والتَّياسُرُ: التَّساهُلُ] اهـ.

والتيسير في الشريعة هو: تشريع الأحكام على وجه روعيت فيه حاجة المكلف وقدرته على امتثال الأوامر واجتناب النواهي مع عدم الإخلال بالمبادئ الأساسية للتشريع. انظر: "مظاهر التيسير في الشريعة الإسلامية" لكمال جودة أبو المعاطي (ص: 7، بحث مقدم لنيل درجة الدكتوراه بجامعة الأزهر، القاهرة، عام 1975م).

والإفتاء هو: تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه فيما نزل به من وقائع، أو فيما أشكل عليه من أحكام الشرع. انظر: "شرح منتهى الإرادات" (3/ 482، ط. عالم الكتب).

فالفتوى هي تبيين لحكم الشرع في حادثة ما لمن سأل عنه، وهذا التبيين لا بد أن يكون صادرًا عن دليل معتبر شرعًا.

ودور المفتي هو بيان الحكم الشرعي لمن سأل عنه، وقد يأتيه استفتاء في مسألة قديمة تعددت فيها اجتهادات أهل العلم، وقد يأتيه في مسألة مستحدثة لم يتعرض لها السابقون وتحتاج للاجتهاد، وفي كلا الحالتين يجب على المفتي أن يبذل قصارى جهده في الوصول إلى الحكم الشرعي المناسب لواقعة السؤال؛ سواء كان بترجيحه لأحد أقوال المجتهدين، أو باجتهاده ونظره في الأدلة ونصوص الوحي، أو بتخريجه الفتوى على قواعد العلماء وأصول مذاهب المجتهدين، وعلى كل حال فعليه أن يضع نصب عينيه أن قصد الشريعة المباركة إلى التكليف هو قصد إلى ما يكون به صلاح العباد واستقامة أحوالهم الدنيوية والأخروية بما لا يشق عليهم امتثاله، فالتكليف في الإسلام تشريف مقرون بالتيسير والتخفيف.

وقد وردت في كتاب الله تعالى وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصوصٌ صريحة تدل على أصالة التيسير في الإسلام، وتنفي أن يكون العسر أو الحرج أو الإضرار بالمكلفين مقصدًا شرعيًّا، بالإضافة إلى أن المكلفين مأمورون بالرفق والتيسير على النفس وعلى الغير، وأولى الناس بذلك هم العلماء؛ لأنهم المبلغون عن الله شرعه، وهم من يهرع إليهم الناس إذا نزلت بهم نازلة لمعرفة حكم الله فيها وما ينبغي عليهم أن يفعلوه.

والله تعالى يقول: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، قال الخازن في "تفسيره" (1/ 156، ط. دار الفكر، بيروت) : [أي قد نفى عنكم الحرج في أمر الدين، قيل: ما خُيِّر رجل بين أمرين فاختار أيسرهما، إلا كان أحب إلى الله تعالى] اهـ.

ويقول عز وجل: ﴿مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6].

قال الإمام الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب" (11/ 139، ط. دار الكتب العلمية، بيروت): [اعلم أن هذه الآية أصل كبير معتبر في الشرع، وهو أن الأصل في المضار أن لا تكون مشروعة، ويدل عليه هذه الآية فإنه تعالى قال: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78] ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة : 185]، ويدل عليه من الأحاديث قوله عليه السلام: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ»، ويدل عليه أيضًا أن دفع الضرر مستحسن في العقول، فوجب أن يكون الأمر كذلك في الشرع؛ لقوله عليه السلام: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ الله حَسَنٌ»] اهـ.

وروى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أنس رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا».

قال الإمام المناوي في "فيض القدير" (6/ 461-462، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [«يَسِّروا» بفتح فتشديد أي خذوا بما فيه التيسير على الناس بذكر ما يؤلفهم لقبول الموعظة في جميع الأيام؛ لئلا يثقل عليهم فينفروا؛ وذلك لأن التيسير في التعليم يورث قبول الطاعة، ويرغب في العبادة، ويسهل به العلم والعمل «ولا تُعسِّروا» لا تشددوا، أردفه بنفي التعسير مع أن الأمر بشيء نهي عن ضده تصريحًا لما لزم ضمنًا للتأكيد، ذكره الكرماني، وأولى منه قول جمع: عقَّبه به إيذانًا بأن مراده نفي التعسير رأسًا ولو اقتصر على «يسروا» لصدق على كل من يَسَّر مرة وعَسَّر كثيرا، كذا قرره أئمة هذا الشأن ومنهم النووي وغيره] اهـ.

وروى البخاري في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بَال أعْرَابيٌّ في المسجدِ، فَقَامَ النَّاسُ إِلَيْهِ لِيَقَعُوا فِيهِ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «دَعُوهُ، وَأرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، فَإنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَم تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ».

قال الإمام المناوي في "فيض القدير" (2/ 573): [أكد التيسير بنفي ضده وهو التعسير؛ فقال: «ولم تبعثوا معسرين» إسناد البعث إليهم مجاز؛ لأنه المبعوث بما ذكر، لكن لما نابوا عنه في التبليغ أطلق عليهم ذلك إذ هم مبعوثون من قبله؛ أي مأمورون، وكان ذا شأنه مع كل من بعثه لجهة يقول: «يسروا ولا تعسروا»، وهذا قاله لمّا بال ذو الخُويصرة اليماني أو الأقرع بن حابس بالمسجد] اهـ.

وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بُعِثْتُ بالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، ومَنْ خالَفَ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» أخرجه الخطيب البغدادي، وقال الإمام المناوي في "فيض القدير" (3/ 203): [له طرقٌ ثلاثٌ ليس يبعد أن لا ينزل بسببها عن درجة الحسن] اهـ. وقال أيضًا: [«ومن خالف سنتي» أي طريقتي بأن شدد وعقد وتبتل وترهب «فليس مني» أي ليس من المتبعين لي العاملين بما بعثت به الممتثلين لما أمرت به من الرفق واللين والقيام بالحق والمساهلة مع الخلق، قال الحرالي: إنما بعث بالحنيفيةِ السمحةِ البيضاء النقية، واليسرِ الذي لا حرج فيه ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: 42] اهـ. واستنبط منه الشافعية قاعدة: "إن المشقة تجلب التيسير"] اهـ.

وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي -أَوْ عَلَى النَّاسِ- لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ». قال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (7/ 199، ط. وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب): [وفي هذا الحديث أدل الدلائل على فضل السواك والرغبة فيه، وفيه أيضًا دليل على فضل التيسير في أمور الديانة، وأن ما يشق منها مكروه؛ قال الله عز وجل: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه] اهـ.

وروى مسلم في "صحيحه" عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: «اللهُمَّ، مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ»، وفي هذا حثٌّ لمن تولى أمر الإفتاء ألَّا يشق على الأمة، بل عليه بالرفق والتيسير ما دام في الأمر سعةٌ ولم يترتب على التيسير فيه إثم؛ فقد أخرج البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ". وفي رواية أخرى عن السيدة عائشة رضي الله عنها: "وَلَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلَّا كَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ أَيْسَرُهُمَا، حَتَّى يَكُونَ إِثْمًا، فَإِذَا كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ الْإِثْمِ" رواه أحمد في "مسنده".

قال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (8/ 146-147): [في هذا الحديث دليل على أن المرء ينبغي له ترك ما عسر عليه من أمور الدنيا والآخرة، وترك الإلحاح فيه إذا لم يضطر إليه، والميل إلى اليسر أبدًا، فإن اليسر في الأمور كلها أحب إلى الله وإلى رسوله؛ قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وفي معنى هذا الأخذ برخص الله تعالى، ورخص رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والأخذ برخص العلماء ما لم يكن القول خطأ بيِّنًا... روينا عن محمد بن يحيى بن سلام عن أبيه قال: ينبغي للعالم أن يحمل الناس على الرخصة والسعة ما لم يخف المأثم... عن معمر قال: إنما العلم أن تسمع بالرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل واحد] اهـ.

هذا، والناظر في الأحكام الشرعية يرى بوضوح أنها مبنية على اليسر ووضع الحرج عن المكلفين، وهذا يعد من مزايا الشريعة الإسلامية مقارنة بما قبلها من الشرائع السماوية؛ كما جاء في قوله تعالى في وصف نبي الإسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157]، ولهذا فقد قرر العلماء قاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، واعتبروها إحدى القواعد الخمس الكبرى التي عليها مدار الفقه الإسلامي -انظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 7-8، ط. دار الكتب العلمية)-، كما قرروا قواعد أخرى محورها الرئيس هو التيسير أيضًا؛ كقاعدة: "الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم"، وقاعدة: "لا ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المجمع عليه"، وقاعدة: "الخروج من الخلاف مستحب"، وغير ذلك.

يقول الإمام الشاطبي في "الموافقات" (4/ 350-351، ط. دار ابن عفان): [إن دوران الحاجيات على التوسعة والتيسير ورفع الحرج والرفق (فبالنسبة إلى الدين) يظهر في مواضع شرعية الرخص في الطهارة؛ كالتيمم، ورفع حكم النجاسة فيما إذا عسر إزالتها، وفي الصلاة بالقصر، ورفع القضاء في الإغماء، والجمع، والصلاة قاعدًا وعلى جنب، وفي الصوم بالفطر في السفر والمرض، وكذلك سائر العبادات؛ فالقرآن إن نص على بعض التفاصيل؛ كالتيمم والقصر والفطر فذاك، وإلا؛ فالنصوص على رفع الحرج فيه كافية، وللمجتهد إجراء القاعدة والترخص بحسبها، والسنة أول قائم بذلك. (وبالنسبة إلى النفس) أيضًا يظهر في مواضع، منها مواضع الرخص؛ كالميتة للمضطر، وشرعية المواساة بالزكاة وغيرها، وإباحة الصيد وإن لم يتأت فيه من إراقة الدم المحرم ما يتأتى بالذكاة الأصلية. (وفي التناسل) من العقد على البُضْع من غير تسمية صداق، وإجازة بعض الجهالات فيه بناء على ترك المشاحة كما في البيوع، وجعل الطلاق ثلاثًا دون ما هو أكثر، وإباحة الطلاق من أصله، والخلع، وأشباه ذلك. (وبالنسبة إلى المال) أيضًا في الترخيص في الغرر اليسير، والجهالة التي لا انفكاك عنها في الغالب، ورخصة السَّلَم والعرايا والقرض والشفعة والقراض والمساقاة ونحوها، ومنه التوسعة في ادخار الأموال وإمساك ما هو فوق الحاجة منها، والتمتع بالطيبات من الحلال على جهة القصد من غير إسراف ولا إقتار. (وبالنسبة إلى العقل) في رفع الحرج عن المكره، وعن المضطر على قول من قال به في الخوف على النفس عند الجوع والعطش والمرض وما أشبه ذلك، كل ذلك داخل تحت قاعدة رفع الحرج؛ لأن أكثره اجتهادي، وبينت السنة منه ما يحتذى حذوه] اهـ.

أما التساهل في الفتوى فمعناه: أن يعجل المفتي فيفتي من غير نظر، أو بغير تثبت واستجماع للمصادر، أو أن يبادر إلى الفتوى لهوى في نفسه، أو يتبع الحيل المحرمة، أو نحو ذلك، فهذا الفعل لا خلاف في حرمته.

يقول الإمام النووي في "المجموع" (1/ 79-80، ط. المنيرية) مفرقًا بين التساهل والتيسير على الناس لتخليصهم مما يشق عليهم: [يحرم التساهل في الفتوى، ومن عرف به حرم استفتاؤه فمن التساهل: أن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه فلا بأس بالمبادرة، وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة. ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة، والتمسك بالشبه طلبًا للترخيص لمن يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره، وأما من صح قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها؛ لتخليص من ورطة يمين ونحوها فذلك حسن جميل. وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا، كقول سفيان: إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد] اهـ.

ومما سبق: يتجلى أن ثمت فارقًا جوهريًّا بين التساهل والتيسير في الإفتاء؛ فالتساهل ينشأ عن فوضى وتقصير في البحث، وهو نوع من الاستهتار والتلاعب، ولذا فحكمه الحرمة، بينما التيسير ينشأ عن رسوخٍ في العلم، وإدراكٍ لمقاصد الشريعة وأدلتها وطرائق الترجيح بينها، وعن درايةٍ بأحوال الناس وحاجتهم وواقعهم، فالتيسير نوع من إعمال القواعد العلمية المدروسة والمقننة بعنايةٍ من قِبل علماء الإسلام وأئمة الفقه، ولهذا فلا يخرج حكمه عن الندب أو الوجوب بحسب ما يقتضيه الواقع.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;