يتردد كثيرًا على ألسنة بعض الناس أن من ادعى الإجماع فهو كاذب، وينسبون ذلك إلى الإمام أحمد بن حنبل، ويذهبون -بناءً على ذلك- إلى أن الإجماع ليس بحجة، ولا يمكن وقوعه أصلًا، فما الصحيح من كل ذلك؟
الإجماع حجيته وإمكانه
مادة الجيم والميم والعين أصل يدل على تضام الشيء، ومنه الإجماع بمعنى الإعداد والعزيمة على الأمر إذا تعدى بنفسه؛ كقوله تعالى: ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ﴾ [يونس: 71].
أما إذا تعدى بحرف الجر "على" فيكون بمعنى الاتفاق، يقال: أجمعوا عليه إذا اتفقوا عليه، وهذا أمر مجمع عليه أي متفق عليه. راجع: (مادة: ج م ع) في "معجم مقاييس اللغة" لابن فارس (10/ 179، ط. دار الفكر)، و"لسان العرب" لابن منظور (8/ 75، ط. دار صادر)، و"تاج العروس" للزبيدي (20/ 463، ط. دار الهداية).
واصطلاحًا -كما في "شرح جمع الجوامع" لجلال الدين المحلي (2/ 209، ط. دار الكتب العلمية)-: [هو اتفاق مجتهدي الأمة بعد وفاة نبيها محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عصرٍ على أي أمرٍ كان] اهـ.
وللإجماع أهمية كبيرة في الشريعة الإسلامية، حتى قال إمام الحرمين في "البرهان" (1/ 436، ط. دار الوفاء بالمنصورة): [الإجماع عصام الشريعة وعمادها، وإليه استنادها] اهـ.
فهو الضابط لهوية دين الإسلام، إذ يحافظ على ما اتفق عليه المسلمون من الثوابت التي لا تختلف باختلاف الزمان والمكان، وتنبع الحاجة إليه من الحاجة إلى قطع دابر التحريف في الدين بتحويل الظني إلى قطعي لا يقبل المنازعة فيه.
ومعنى حجية الإجماع: أنه يجب على كل مكلف الأخذ به، والعمل بموجبه، واعتقاد أن الحكم المجمع عليه حق لا يجوز مخالفته، ولا إعادة الاجتهاد في مستنده.
وفهم تلك الحجية يتوقف على أمور:
أولًا: إمكان وقوع الإجماع.
ثانيًا: إمكان العلم به من المجتهدين أنفسهم إذا وقع منهم.
ثالثًا: إمكان نقله إلي من يحتج به بطريق السماع والرواية نقلًا صحيحًا.
والإجماع قسمان: إجماع الخاصة، وإجماع العامة.
القسم الأول: إجماع الخاصة:
والمراد بهم المجتهدون وحدهم، وقد ذهب الأكثرون من علماء الأمة إلى إمكان الأمور الثلاثة السابق ذكرها، وإلى أن الإجماع حجة، والأقلون منهم قد نفوا حجيته.
وقد استدلوا على حجية الإجماع بآيات من كتاب الله، وأحاديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما استدلوا بالمعقول، على أن الدليل العقلي المستند على استقراء الكتاب والسنة بجملتها أقوى في هذا الشأن من الاستدلال بالأدلة التفصيلية الجزئية، وهو أن الإجماع واقع بالفعل، والوقوع أكبر أدلة الإمكان، وممكن العلم به، والحاجة إليه ضرورة دينية.
أما أنه واقع بالفعل فذلك يظهر من اتفاق جميع المسلمين مجتهدين وعوام، المسمى بـ"إجماع العامة" -كما سيأتي بيانه-، على وجوب الصلوات الخمس، وصوم رمضان، والزكاة، ونحوها، فالإجماع واقع بالفعل، وهذا أكبر دليل على إمكانه، كما أن العلم به، ونقله إلينا واقعان بالفعل، فدل على أنهما ممكنان أيضًا، والاتفاق على أحكام ما يجعل هذه الأحكام متيقنة، معلومة من الدين بالضرورة، باقية إلى يوم القيامة قطعًا، ولا مجال للقول بأن النصوص الواردة فيها هي التي أفادتنا العلم بها وبدوامها؛ وذلك لأن هذه النصوص ظنية الدلالة ومحتملة النسخ، فأتى الإجماع فرفع ظنية الدلالة ونفى احتمال النسخ.
وإذا كان حصول هذا الاتفاق -إجماع العامة- والعلم به، ونقله إلينا أمورًا ممكنة، فبالأولى يمكن ذلك كله في اتفاق المجتهدين -وهو إجماع الخاصة- وحدهم على حكم شرعي؛ وذلك لأنه إذا أمكن ذلك للأمة قاطبة، وهم أكثر عددًا، بل عددهم غير محصورٍ، كان ذلك أولى بالنسبة للمجتهدين وحدهم لقلتهم، ولأنه قد أمكن ذلك فيهم -أي: المجتهدين- وهم في ضمن الكل -أي: الأمة قاطبة- ولمعرفتهم بأعيانهم التي تسهل معرفة آرائهم، أثبت وقوع إجماع الخاصة المتنازع فيه، والقطع به، فإنا نقطع بأن أئمة الصحابة والتابعين قد أجمعوا على تقديم القاطع على المظنون، وما ذلك القطع إلا بثبوته عنهم، ونقله إلينا، ويلزم من الوقوع الإمكان بلا خلاف. انظر: "حقيقة الإجماع وحجيته" للشيخ عبد الغني عبد الخالق (ص: 12).
والنافون لحجية إجماع الخاصة فريقان:
الفريق الأول: نفى الحجية فقط.
والفريق الثاني: نفى إمكان الأمور الثلاثة معًا -وهى نفي الإمكان والحجية والنقل-، وقالوا باستحالة الإجماع.
- فالفريق الأول: وهو من أنكر الحجية ولم ينكر الإمكان؛ فمنهم: النَّظَّام، والشيعة الإمامية، وجعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر من المعتزلة، والخوارج -كما ذكره الإمام البيضاوي-.
وقال العلامة ابن الحاجب: بعض الخوارج، ومثله في "مسلم الثبوت". انظر: "نهاية السول" للإسنوي (3/ 245، ط. عالم الكتب)، و"شرح المختصر" للعضد (2/ 319، ط. دار الكتب العلمية)، و"فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت" لعبد العلي محمد الأنصاري (2/ 262، ط. المطبعة الأميرية).
والمفهوم مما قاله أبو جعفر الطوسي في كتابه "عدة الأصول" -من كتب الشيعة- (3/ 64، ط. مؤسسة آل البيت للطباعة والنشر) أن الشيعة يقرون بالإجماع ما دام فيه إمامهم، وحيث إن أئمتهم من المجتهدين عندنا فسيتفقون معنا في مدة أئمتهم الاثني عشر، وسيختلفون فيما بعد ذلك حيث إن الإمام المعصوم عندهم محجوب عنا بغيابه في السرداب على زعمهم، وأما غير الإمامية كالزيدية فمع الجمهور في إثبات الإجماع.
- أما الفريق الثاني: القائل باستحالة الإجماع ونفي إمكان الأمور الثلاثة المتقدمة؛ فهو فريق غير معين على وجه التحديد، ولم يتعرض لذكره بالتفصيل وتسمية القائلين بهذا المذهب من حكوه؛ كالإمام الغزالي والعلامة الآمدي، والإمام البيضاوي، وابن السبكي.
قال العلامة ابن الحاجب في "المختصر مع حواشيه" (2/ 316، ط. دار الكتب العلمية): [إنه النظام وبعض الروافض] اهـ.
ولعله يقصد ببعض الروافض غلاتهم. انظر: "الإجماع عند الأصوليين" لفضيلة الدكتور/ علي جمعة (ص: 33، ط. دار الرسالة).
القسم الثاني: إجماع العامة:
وهو الإجماع على المعلوم من الدين بالضرورة، فلا نزاع في حجيته، ولا فيما تتوقف عليه هذه الحجية، وهو ما يسمى بـ"إجماع العامة" كما نقل عن الإمام الشافعي رضي الله عنه، وهو الإجماع الذي أجمعت عليه الأمة قاطبة، مجتهدوها وعوامها.
وقد اتفق المسلمون على وقوع هذا الإجماع، وعلم المجتهدين به، وصحة نقله للأمة فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، وذلك كإجماعهم على وجوب الصلاة والزكاة، وعلى أن الصلوات المفروضة خمس في اليوم والليلة، إلى غير ذلك من كل أمر يكفر جاحده، أو المتردد في ثبوته، حتى لو كان مستند الإجماع ظنيا في ثبوته، أو في دلالته.
والدليل على إمكان وقوع إجماع العامة وإمكان العلم به وإمكان نقله هو الحصول الفعلي الذي نراه جليًّا في كثير من الأحكام الشرعية، بل في أكثر مسائل الشرع الأصلية، فقد أجمعت الأمة على أن شهر الصيام هو رمضان، وعلى أن الكعبة هي القبلة، وعلى أنه لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع نسوة، وإلى حل البيع، والإجارة، وحرمة الغيبة، والنميمة، والكذب، وشهادة الزور، وأكل الخنزير، وأجمعت على فرض الحجاب على النساء، وعلى حفظ العقل، والنفس، والعرض، والدين، والمال، إلى غير ذلك من الكثير الذي لا يجوز مخالفته بحال.
والمعلوم من الدين بالضرورة لا يستوي الناس كلهم في إدراكه والعلم به على حد سواء؛ بل قد يختلف الناس في تحصيله، فأحكام الإيلاء والظهار قد يجهلها كثير من المسلمين مع أنها من المعلوم من الدين بالضرورة عند العلماء، وإن من الأحكام ما قد يخفى على بعض طلبة العلم، كعقوبة اعتزال النساء في قصة المخلفين في غزوة تبوك، والخبر في "الصحيحين"، فإنها لا تجوز لإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو أمر خاص برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإجماع، لا يجوز لحاكم من بعده أن يستدل به، فيفعله كنوع تعزير على من أخطأ نفس الخطأ.
وفائدة الإجماع بهذه الصفة السابقة أنه ينفي ظنية الدليل، ويصبح الدليل بعده قطعيًّا لا يجوز النظر فيه نظرًا يخالف ذلك الإجماع، ومن أمثلة نفي الإجماع لظنية الدليل، وجعله قطعيًا الإجماع على أن الوضوء سابق على الصلاة مع إيهام النص في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]؛ حيث أجمعت الأمة على أن الوضوء قبل الصلاة، وأن المراد من الآية: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم؛ قال الإمام الرازي في "تفسيره" (11/ 153، ط. دار الفكر): [اعلم أن المراد بقوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ ليس المراد نفس القيام، ويدل عليه وجهان:
الأول: أنه لو كان المراد بذلك لزم تأخير الوضوء عن الصلاة، وأنه باطل بالإجماع.
الثاني: أنهم أجمعوا على أنه لو غسل الأعضاء قبل الصلاة قاعدًا، أو مضطجعًا لكان قد خرج عن العهدة، بل المراد منه: إذا شمرتم للقيام إلى الصلاة، وأردتم ذلك، وهذا وإن كان مجازًا إلا أنه مشهور متعارف، ويدل عليه أن الإرادة الجازمة سبب لحصول الفعل، وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز مشهور] اهـ.
فيكون معنى قوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ إذا أردتم أداء الصلاة والاشتغال بإقامتها، فلا يجوز لأحد من الناس أن يقوم بتحليل لغوي يتوصل به إلى حكم يخالف ذلك المجمع عليه، فيقول مثلًا: إن كلمة "قمتم" فعل ماض، والفاء في "فاغسلوا" للتعقيب، فالوضوء بعد الصلاة؛ بل إن قائل ذلك يكفر لمخالفته الإجماع.
وكذلك الإجماع على حرمة الخمر، ولم يرد لفظ التحريم في القرآن، بل ورد قوله تعالى في شأن الخمر: ﴿فَاْجِتَنِبُوهُ﴾ [المائدة: 90] التي أجمعت الأمة على أنها للتحريم، فلا يجوز أن يحملها أحدهم على الإرشاد أو الكراهة لعدم استعمال لفظ "تحريم" مثلًا.
يقول الإمام القرطبي في "تفسيره" (8/ 160، ط. مؤسسة الرسالة): [قوله تعالى: ﴿فَاْجِتَنِبُوهُ﴾ يريد: أبعدوه، واجعلوه ناحية، فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور، واقترنت بصيغة الأمر مع نصوص الأحاديث، وإجماع الأمة، فحصل الاجتناب في جهة التحريم، فبهذا حرمت الخمر. ولا خلاف بين علماء المسلمين أن سورة المائدة نزلت بتحريم الخمر، وهي مدنية من آخر ما نزل، وورد التحريم في الميتة والدم ولحم الخنزير في قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ﴾ [الأنعام: 145] وغيرها من الآي خبرا، وفي الخمر نهيا وزجرا، وهو أقوى التحريم وأوكده. روي عن ابن عباس أنه قال: لما نزل تحريم الخمر، مشى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض، وقالوا: حرمت الخمر وجعلت عدلا للشرك. يعني: أنه قرنها بذبح الأنصاب، وذلك شرك، ثم علق: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فعلق الفلاح بالأمر، وذلك يدل على تأكيد الوجوب، والله أعلم] اهـ.
وقد أطلق القطعية على حجية الإجماع إمام الأصوليين الإمام الشافعي، والإمام أبو بكر الصيرفي، والإمام أبو إسحاق الشيرازي، والإمام الخطيب البغدادي، وإمام الحرمين الجويني، والإمام ابن برهان، وشيخ الإسلام الغزالي، والعلامة الدبوسي، بل نقل غير واحد إجماع القائلين بحجية الإجماع على أنه قطعي، ومنهم الإمام الرازي مع أنه خالف ذلك، ونسبه الأصفهاني إلى الأكثرين؛ قال العلامة ابن النجار في "شرح الكوكب" (ص: 226، ط. مكتبة العبيكان): [(وهو) أي: الإجماع (حجة قاطعة بالشرع) أي: بدليل الشرع كونه حجة قاطعة. وهذا مذهب الأئمة الأعلام، منهم الأربعة وأتباعهم وغيرهم من المتكلمين. وقال الآمدي والرازي: هو حجة ظنية لا قطعية] اهـ.
وقال الإمام القرافي في "نفائس الأصول" (6/ 2770، ط. مكتبة نزار مصطفى الباز بمكة المكرمة): [فالإجماع قطعي، وأصله قطعي، لكن بعض مدركه ليس قطعيا، وذلك لا يقدح في أن المجموع يفيد القطع، ولا في أن المطلوب قطعي. سلمنا أن المدرك ظني، لكن لا يلزم أن المدلول لا يكون قطعيًّا كما تقدم بيانه في أن الحكم معلوم، والظن واقع في طريقه، ويثبت هنالك أن المبني على الشك معلوم، فضلًا عن المبني على الظن] اهـ.
كما أجاب جوابًا حسنًا طويلًا على اعتراض المعترض على حجية الإجماع بقوله: "إن الفقهاء أثبتوا الإجماع بعمومات الآيات والأخبار، وأجمعوا على أن المنكر لما تدل عليه هذه العمومات لا يكفر ولا يفسق إذا كان ذلك الإنكار لتأويل، ثم يقولون: الحكم الذي دل عليه الإجماع مقطوع به، ومخالفه كافر".
فقال الإمام القرافي (6/ 2583) مجيبًا على هذا الاعتراض: [الإجماع قطعي لأجل دلالة كل عموم، لا بالنظر إلى ذلك العموم وحده، بل جميع أصول الفقه قطعية، ومدرك القطع فيها يحصل لمن حصل له الاستقراء التام في نصوص الشريعة وأقضية الصحابة في فتاويهم ومناظراتهم، والاطلاع على كثرة واردات السنة في أعيان تلك المسائل، فيحصل القطع حينئذ، أما بمجرد آية أو خبر فلا، فهذا هو معنى قول العلماء: مسائل أصول الفقه قطعية، وليس من الممكن أن يوضع في كتاب جميع تلك الأمور التي تحصل العلم، كما أنا نقطع بسخاء حاتم، وبشجاعة علي؛ لكثرة الاستقراء لأخبارهما، ولو أنا لم نجد إلا كتابا سطرت فيه حكايات كثيرة عنهما لم يحصل لنا القطع، فوضع العلماء في كتب أصول الفقه أصول المدارك دون نهاياتها تنبيها عليه، وحينئذ يتجه قولهم: إن مخالف الإجماع يكفر لمخالفته القطعي، ومخالف العموم لا يكفر لمخالفته الظني، وليس في ذلك ترجيح الفرع على الأصل؛ لأن أصل الإجماع في التحقيق إنما هو ذلك المجموع الذي أشرنا إليه، ولو خالف أحد ذلك المجموع كفرناه وسوينا بين الفرع والأصل، بل نكفره بذلك الأصل القطعي بطريق الأولى، لكونه أصلا قطعيا، وإذا لم نكفره بمخالفة عموم واحد نكون قد رجحنا الفرع على بعض أصله، ولا غرو في ذلك حينئذ، فتأمل ذلك، فإن المصنف -يقصد الإمام الرازي- قد أكثر التشنيع في هذا المقام، وأداه صعوبة هذا الموضوع إلى أن قال: الإجماع ظني، وهو خلاف إجماع من تقدمه -كما حكاه هو هاهنا- وما سببه إلا عدم النظر في هذا البحث، فتأمله تخلص من الضوائق إن شاء الله تعالى] اهـ.
أما قول الإمام أحمد: "من ادعى الإجماع فهو كاذب"، فقد اشتهر هذا القول عنه، جاء في "مسودة آل تيمية" (ص: 315، ط. مطبعة المدني): [وقد أطلق القول في رواية عبد الله فقال: من ادعى الإجماع فقد كذب، لعل الناس قد اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا إذا لم يبلغه] اهـ.
وروى ابن حزم بإسناده إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل -كما في "المحلى" (10/ 422، ط. الطبعة المنيرية)- قال: [سمعت أبي يقول: ما يدعي فيه الرجل الإجماع هو الكذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، ولم ينته إليه، فيقول: لا نعلم الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، ولم يبلغني ذلك] اهـ.
وقد ذكر العلماء عدة احتمالات للمراد من عبارة الإمام أحمد:
منها: أنه يحتمل أن يكون كلامه في إنكار أصل الإجماع، وهذا الاحتمال مردود؛ لأنه مناف للآيات والأحاديث التي استدل بها العلماء على حجية الإجماع، فهو أحد المصادر التشريعية المعتمدة عند جمهور العلماء، بل يجب علينا أن نعتقد أنه لا يذهب مذهب المخالفين للجمهور، فإن الإمام أحمد من الذين استدلوا بالإجماع على بعض المسائل الفقهية، وكذلك فإن أتباع الإمام من الحنابلة كتبهم مملوءة بعبارات تؤكد اتفاقهم على حجية الإجماع، ومن ذلك قول الإمام ابن قدامة في "روضة الناظر" (ص: 138، ط. جامعة الإمام محمد بن سعود): [الإجماع حجة قاطعة عند الجمهور] اهـ، وقول الشيخ ابن تيمية في "المسودة" (ص: 315): [الإجماع متصور وهو حجة قاطعة] اهـ، وقول ابن اللحام في "مختصره" (ص: 74، ط. جامعة الملك عبد العزيز): [وهو -أي الإجماع- حجة قاطعة] اهـ.
وكذلك قد سبق النقل عن العلامة ابن النجار فيما يؤيد هذا المعنى، وقد ورد عن الإمام أحمد الاعتماد على الإجماع في إثبات أحكام بعض المسائل الفقهية؛ مثال ذلك قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204]؛ قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (1/ 636، ط. دار الفكر): [قال أحمد في رواية أبي داود: أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة] اهـ.
ومنها: أنه يحتمل أن يكون كلامه في حق من ينقل إجماع المجتهدين من أهل عصره بعد اتساع رقعة الإسلام وانتشار المجتهدين في الأقطار البعيدة جدًّا، فإنه لا يمكن العلم به ولا نقله في مثل هذه الحالة، وهذا الاحتمال لا ينافي صحة نقل الإجماع في العصور السابقة على عصر الإمام أحمد.
ومنها: احتمال أنه أراد من ينقل إجماع غير الصحابة، فيكون قد ذهب إلى أن الإجماع مختص بعصر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كما هو مذهب الظاهرية.
لكن هذا الاحتمال مردود؛ لأن الأدلة التي استند إليها علماء الأصول في إثبات حجية الإجماع متناولة بعمومها لأهل كل عصر؛ عصر الصحابة، وعصر التابعين، وهكذا، فيكون قصر الإجماع على عصر الصحابة فقط تخصيصا بلا مخصص، وهذا لا يصح، فإن أهل الحق في كل عصر، وليس فقط في عصر الصحابة.
ومنها؛ وهو الصحيح: أن يحمل قول الإمام أحمد على أنه قاله في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف، أو قاله على جهة الورع؛ لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه، أو قاله في "الإجماع السكوتي"، فلا يقال فيه: "أجمعوا"؛ لاحتمال أن الساكت مخالف، ولكن يقال فيه: "قال فلان، ولا نعلم له مخالفًا"، أو قاله للإنكار على المعتزلة الذين يدعون إجماع الناس على ما يقولونه، وكانوا من أقل الناس معرفة بأقوال الصحابة والتابعين، فكلامه للتنفير من دعوى الإجماع من غير حجة وبرهان، وهذا الاحتمال الأخير هو ما رجحه العلامة ابن رجب كما نقله عنه العلامة المرداوي في "التحبير" (4/ 1528).
فلا ينبغي ادعاء الإجماع لمن ليس من أهل الشأن، ولا تقبل دعوى حصول الإجماع أو حكايته إلا ممن كان خبيرا بأقوال المجتهدين.
ومما سبق: يتبين معنى الإجماع وثبوت حجيته، ووجه الحاجة التشريعية إلى الأخذ به، كما يتبين خطأ من يستشهد على بطلانه وعدم إمكان انعقاده بما ينقل عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه مِن كذب مَن ادعى الإجماع؛ كما ذكرنا تفسير ذلك في الفتوى ووضحنا مراد الإمام أحمد مما قاله بما لا يتنافى مع احتجاج الإمام أحمد نفسه بالإجماع في العديد من مسائل الفقه الإسلامي.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
مادة الجيم والميم والعين أصل يدل على تضام الشيء، ومنه الإجماع بمعنى الإعداد والعزيمة على الأمر إذا تعدى بنفسه؛ كقوله تعالى: ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ﴾ [يونس: 71].
أما إذا تعدى بحرف الجر "على" فيكون بمعنى الاتفاق، يقال: أجمعوا عليه إذا اتفقوا عليه، وهذا أمر مجمع عليه أي متفق عليه. راجع: (مادة: ج م ع) في "معجم مقاييس اللغة" لابن فارس (10/ 179، ط. دار الفكر)، و"لسان العرب" لابن منظور (8/ 75، ط. دار صادر)، و"تاج العروس" للزبيدي (20/ 463، ط. دار الهداية).
واصطلاحًا -كما في "شرح جمع الجوامع" لجلال الدين المحلي (2/ 209، ط. دار الكتب العلمية)-: [هو اتفاق مجتهدي الأمة بعد وفاة نبيها محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عصرٍ على أي أمرٍ كان] اهـ.
وللإجماع أهمية كبيرة في الشريعة الإسلامية، حتى قال إمام الحرمين في "البرهان" (1/ 436، ط. دار الوفاء بالمنصورة): [الإجماع عصام الشريعة وعمادها، وإليه استنادها] اهـ.
فهو الضابط لهوية دين الإسلام، إذ يحافظ على ما اتفق عليه المسلمون من الثوابت التي لا تختلف باختلاف الزمان والمكان، وتنبع الحاجة إليه من الحاجة إلى قطع دابر التحريف في الدين بتحويل الظني إلى قطعي لا يقبل المنازعة فيه.
ومعنى حجية الإجماع: أنه يجب على كل مكلف الأخذ به، والعمل بموجبه، واعتقاد أن الحكم المجمع عليه حق لا يجوز مخالفته، ولا إعادة الاجتهاد في مستنده.
وفهم تلك الحجية يتوقف على أمور:
أولًا: إمكان وقوع الإجماع.
ثانيًا: إمكان العلم به من المجتهدين أنفسهم إذا وقع منهم.
ثالثًا: إمكان نقله إلي من يحتج به بطريق السماع والرواية نقلًا صحيحًا.
والإجماع قسمان: إجماع الخاصة، وإجماع العامة.
القسم الأول: إجماع الخاصة:
والمراد بهم المجتهدون وحدهم، وقد ذهب الأكثرون من علماء الأمة إلى إمكان الأمور الثلاثة السابق ذكرها، وإلى أن الإجماع حجة، والأقلون منهم قد نفوا حجيته.
وقد استدلوا على حجية الإجماع بآيات من كتاب الله، وأحاديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما استدلوا بالمعقول، على أن الدليل العقلي المستند على استقراء الكتاب والسنة بجملتها أقوى في هذا الشأن من الاستدلال بالأدلة التفصيلية الجزئية، وهو أن الإجماع واقع بالفعل، والوقوع أكبر أدلة الإمكان، وممكن العلم به، والحاجة إليه ضرورة دينية.
أما أنه واقع بالفعل فذلك يظهر من اتفاق جميع المسلمين مجتهدين وعوام، المسمى بـ"إجماع العامة" -كما سيأتي بيانه-، على وجوب الصلوات الخمس، وصوم رمضان، والزكاة، ونحوها، فالإجماع واقع بالفعل، وهذا أكبر دليل على إمكانه، كما أن العلم به، ونقله إلينا واقعان بالفعل، فدل على أنهما ممكنان أيضًا، والاتفاق على أحكام ما يجعل هذه الأحكام متيقنة، معلومة من الدين بالضرورة، باقية إلى يوم القيامة قطعًا، ولا مجال للقول بأن النصوص الواردة فيها هي التي أفادتنا العلم بها وبدوامها؛ وذلك لأن هذه النصوص ظنية الدلالة ومحتملة النسخ، فأتى الإجماع فرفع ظنية الدلالة ونفى احتمال النسخ.
وإذا كان حصول هذا الاتفاق -إجماع العامة- والعلم به، ونقله إلينا أمورًا ممكنة، فبالأولى يمكن ذلك كله في اتفاق المجتهدين -وهو إجماع الخاصة- وحدهم على حكم شرعي؛ وذلك لأنه إذا أمكن ذلك للأمة قاطبة، وهم أكثر عددًا، بل عددهم غير محصورٍ، كان ذلك أولى بالنسبة للمجتهدين وحدهم لقلتهم، ولأنه قد أمكن ذلك فيهم -أي: المجتهدين- وهم في ضمن الكل -أي: الأمة قاطبة- ولمعرفتهم بأعيانهم التي تسهل معرفة آرائهم، أثبت وقوع إجماع الخاصة المتنازع فيه، والقطع به، فإنا نقطع بأن أئمة الصحابة والتابعين قد أجمعوا على تقديم القاطع على المظنون، وما ذلك القطع إلا بثبوته عنهم، ونقله إلينا، ويلزم من الوقوع الإمكان بلا خلاف. انظر: "حقيقة الإجماع وحجيته" للشيخ عبد الغني عبد الخالق (ص: 12).
والنافون لحجية إجماع الخاصة فريقان:
الفريق الأول: نفى الحجية فقط.
والفريق الثاني: نفى إمكان الأمور الثلاثة معًا -وهى نفي الإمكان والحجية والنقل-، وقالوا باستحالة الإجماع.
- فالفريق الأول: وهو من أنكر الحجية ولم ينكر الإمكان؛ فمنهم: النَّظَّام، والشيعة الإمامية، وجعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر من المعتزلة، والخوارج -كما ذكره الإمام البيضاوي-.
وقال العلامة ابن الحاجب: بعض الخوارج، ومثله في "مسلم الثبوت". انظر: "نهاية السول" للإسنوي (3/ 245، ط. عالم الكتب)، و"شرح المختصر" للعضد (2/ 319، ط. دار الكتب العلمية)، و"فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت" لعبد العلي محمد الأنصاري (2/ 262، ط. المطبعة الأميرية).
والمفهوم مما قاله أبو جعفر الطوسي في كتابه "عدة الأصول" -من كتب الشيعة- (3/ 64، ط. مؤسسة آل البيت للطباعة والنشر) أن الشيعة يقرون بالإجماع ما دام فيه إمامهم، وحيث إن أئمتهم من المجتهدين عندنا فسيتفقون معنا في مدة أئمتهم الاثني عشر، وسيختلفون فيما بعد ذلك حيث إن الإمام المعصوم عندهم محجوب عنا بغيابه في السرداب على زعمهم، وأما غير الإمامية كالزيدية فمع الجمهور في إثبات الإجماع.
- أما الفريق الثاني: القائل باستحالة الإجماع ونفي إمكان الأمور الثلاثة المتقدمة؛ فهو فريق غير معين على وجه التحديد، ولم يتعرض لذكره بالتفصيل وتسمية القائلين بهذا المذهب من حكوه؛ كالإمام الغزالي والعلامة الآمدي، والإمام البيضاوي، وابن السبكي.
قال العلامة ابن الحاجب في "المختصر مع حواشيه" (2/ 316، ط. دار الكتب العلمية): [إنه النظام وبعض الروافض] اهـ.
ولعله يقصد ببعض الروافض غلاتهم. انظر: "الإجماع عند الأصوليين" لفضيلة الدكتور/ علي جمعة (ص: 33، ط. دار الرسالة).
القسم الثاني: إجماع العامة:
وهو الإجماع على المعلوم من الدين بالضرورة، فلا نزاع في حجيته، ولا فيما تتوقف عليه هذه الحجية، وهو ما يسمى بـ"إجماع العامة" كما نقل عن الإمام الشافعي رضي الله عنه، وهو الإجماع الذي أجمعت عليه الأمة قاطبة، مجتهدوها وعوامها.
وقد اتفق المسلمون على وقوع هذا الإجماع، وعلم المجتهدين به، وصحة نقله للأمة فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، وذلك كإجماعهم على وجوب الصلاة والزكاة، وعلى أن الصلوات المفروضة خمس في اليوم والليلة، إلى غير ذلك من كل أمر يكفر جاحده، أو المتردد في ثبوته، حتى لو كان مستند الإجماع ظنيا في ثبوته، أو في دلالته.
والدليل على إمكان وقوع إجماع العامة وإمكان العلم به وإمكان نقله هو الحصول الفعلي الذي نراه جليًّا في كثير من الأحكام الشرعية، بل في أكثر مسائل الشرع الأصلية، فقد أجمعت الأمة على أن شهر الصيام هو رمضان، وعلى أن الكعبة هي القبلة، وعلى أنه لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع نسوة، وإلى حل البيع، والإجارة، وحرمة الغيبة، والنميمة، والكذب، وشهادة الزور، وأكل الخنزير، وأجمعت على فرض الحجاب على النساء، وعلى حفظ العقل، والنفس، والعرض، والدين، والمال، إلى غير ذلك من الكثير الذي لا يجوز مخالفته بحال.
والمعلوم من الدين بالضرورة لا يستوي الناس كلهم في إدراكه والعلم به على حد سواء؛ بل قد يختلف الناس في تحصيله، فأحكام الإيلاء والظهار قد يجهلها كثير من المسلمين مع أنها من المعلوم من الدين بالضرورة عند العلماء، وإن من الأحكام ما قد يخفى على بعض طلبة العلم، كعقوبة اعتزال النساء في قصة المخلفين في غزوة تبوك، والخبر في "الصحيحين"، فإنها لا تجوز لإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو أمر خاص برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإجماع، لا يجوز لحاكم من بعده أن يستدل به، فيفعله كنوع تعزير على من أخطأ نفس الخطأ.
وفائدة الإجماع بهذه الصفة السابقة أنه ينفي ظنية الدليل، ويصبح الدليل بعده قطعيًّا لا يجوز النظر فيه نظرًا يخالف ذلك الإجماع، ومن أمثلة نفي الإجماع لظنية الدليل، وجعله قطعيًا الإجماع على أن الوضوء سابق على الصلاة مع إيهام النص في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]؛ حيث أجمعت الأمة على أن الوضوء قبل الصلاة، وأن المراد من الآية: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم؛ قال الإمام الرازي في "تفسيره" (11/ 153، ط. دار الفكر): [اعلم أن المراد بقوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ ليس المراد نفس القيام، ويدل عليه وجهان:
الأول: أنه لو كان المراد بذلك لزم تأخير الوضوء عن الصلاة، وأنه باطل بالإجماع.
الثاني: أنهم أجمعوا على أنه لو غسل الأعضاء قبل الصلاة قاعدًا، أو مضطجعًا لكان قد خرج عن العهدة، بل المراد منه: إذا شمرتم للقيام إلى الصلاة، وأردتم ذلك، وهذا وإن كان مجازًا إلا أنه مشهور متعارف، ويدل عليه أن الإرادة الجازمة سبب لحصول الفعل، وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز مشهور] اهـ.
فيكون معنى قوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ إذا أردتم أداء الصلاة والاشتغال بإقامتها، فلا يجوز لأحد من الناس أن يقوم بتحليل لغوي يتوصل به إلى حكم يخالف ذلك المجمع عليه، فيقول مثلًا: إن كلمة "قمتم" فعل ماض، والفاء في "فاغسلوا" للتعقيب، فالوضوء بعد الصلاة؛ بل إن قائل ذلك يكفر لمخالفته الإجماع.
وكذلك الإجماع على حرمة الخمر، ولم يرد لفظ التحريم في القرآن، بل ورد قوله تعالى في شأن الخمر: ﴿فَاْجِتَنِبُوهُ﴾ [المائدة: 90] التي أجمعت الأمة على أنها للتحريم، فلا يجوز أن يحملها أحدهم على الإرشاد أو الكراهة لعدم استعمال لفظ "تحريم" مثلًا.
يقول الإمام القرطبي في "تفسيره" (8/ 160، ط. مؤسسة الرسالة): [قوله تعالى: ﴿فَاْجِتَنِبُوهُ﴾ يريد: أبعدوه، واجعلوه ناحية، فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور، واقترنت بصيغة الأمر مع نصوص الأحاديث، وإجماع الأمة، فحصل الاجتناب في جهة التحريم، فبهذا حرمت الخمر. ولا خلاف بين علماء المسلمين أن سورة المائدة نزلت بتحريم الخمر، وهي مدنية من آخر ما نزل، وورد التحريم في الميتة والدم ولحم الخنزير في قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ﴾ [الأنعام: 145] وغيرها من الآي خبرا، وفي الخمر نهيا وزجرا، وهو أقوى التحريم وأوكده. روي عن ابن عباس أنه قال: لما نزل تحريم الخمر، مشى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض، وقالوا: حرمت الخمر وجعلت عدلا للشرك. يعني: أنه قرنها بذبح الأنصاب، وذلك شرك، ثم علق: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فعلق الفلاح بالأمر، وذلك يدل على تأكيد الوجوب، والله أعلم] اهـ.
وقد أطلق القطعية على حجية الإجماع إمام الأصوليين الإمام الشافعي، والإمام أبو بكر الصيرفي، والإمام أبو إسحاق الشيرازي، والإمام الخطيب البغدادي، وإمام الحرمين الجويني، والإمام ابن برهان، وشيخ الإسلام الغزالي، والعلامة الدبوسي، بل نقل غير واحد إجماع القائلين بحجية الإجماع على أنه قطعي، ومنهم الإمام الرازي مع أنه خالف ذلك، ونسبه الأصفهاني إلى الأكثرين؛ قال العلامة ابن النجار في "شرح الكوكب" (ص: 226، ط. مكتبة العبيكان): [(وهو) أي: الإجماع (حجة قاطعة بالشرع) أي: بدليل الشرع كونه حجة قاطعة. وهذا مذهب الأئمة الأعلام، منهم الأربعة وأتباعهم وغيرهم من المتكلمين. وقال الآمدي والرازي: هو حجة ظنية لا قطعية] اهـ.
وقال الإمام القرافي في "نفائس الأصول" (6/ 2770، ط. مكتبة نزار مصطفى الباز بمكة المكرمة): [فالإجماع قطعي، وأصله قطعي، لكن بعض مدركه ليس قطعيا، وذلك لا يقدح في أن المجموع يفيد القطع، ولا في أن المطلوب قطعي. سلمنا أن المدرك ظني، لكن لا يلزم أن المدلول لا يكون قطعيًّا كما تقدم بيانه في أن الحكم معلوم، والظن واقع في طريقه، ويثبت هنالك أن المبني على الشك معلوم، فضلًا عن المبني على الظن] اهـ.
كما أجاب جوابًا حسنًا طويلًا على اعتراض المعترض على حجية الإجماع بقوله: "إن الفقهاء أثبتوا الإجماع بعمومات الآيات والأخبار، وأجمعوا على أن المنكر لما تدل عليه هذه العمومات لا يكفر ولا يفسق إذا كان ذلك الإنكار لتأويل، ثم يقولون: الحكم الذي دل عليه الإجماع مقطوع به، ومخالفه كافر".
فقال الإمام القرافي (6/ 2583) مجيبًا على هذا الاعتراض: [الإجماع قطعي لأجل دلالة كل عموم، لا بالنظر إلى ذلك العموم وحده، بل جميع أصول الفقه قطعية، ومدرك القطع فيها يحصل لمن حصل له الاستقراء التام في نصوص الشريعة وأقضية الصحابة في فتاويهم ومناظراتهم، والاطلاع على كثرة واردات السنة في أعيان تلك المسائل، فيحصل القطع حينئذ، أما بمجرد آية أو خبر فلا، فهذا هو معنى قول العلماء: مسائل أصول الفقه قطعية، وليس من الممكن أن يوضع في كتاب جميع تلك الأمور التي تحصل العلم، كما أنا نقطع بسخاء حاتم، وبشجاعة علي؛ لكثرة الاستقراء لأخبارهما، ولو أنا لم نجد إلا كتابا سطرت فيه حكايات كثيرة عنهما لم يحصل لنا القطع، فوضع العلماء في كتب أصول الفقه أصول المدارك دون نهاياتها تنبيها عليه، وحينئذ يتجه قولهم: إن مخالف الإجماع يكفر لمخالفته القطعي، ومخالف العموم لا يكفر لمخالفته الظني، وليس في ذلك ترجيح الفرع على الأصل؛ لأن أصل الإجماع في التحقيق إنما هو ذلك المجموع الذي أشرنا إليه، ولو خالف أحد ذلك المجموع كفرناه وسوينا بين الفرع والأصل، بل نكفره بذلك الأصل القطعي بطريق الأولى، لكونه أصلا قطعيا، وإذا لم نكفره بمخالفة عموم واحد نكون قد رجحنا الفرع على بعض أصله، ولا غرو في ذلك حينئذ، فتأمل ذلك، فإن المصنف -يقصد الإمام الرازي- قد أكثر التشنيع في هذا المقام، وأداه صعوبة هذا الموضوع إلى أن قال: الإجماع ظني، وهو خلاف إجماع من تقدمه -كما حكاه هو هاهنا- وما سببه إلا عدم النظر في هذا البحث، فتأمله تخلص من الضوائق إن شاء الله تعالى] اهـ.
أما قول الإمام أحمد: "من ادعى الإجماع فهو كاذب"، فقد اشتهر هذا القول عنه، جاء في "مسودة آل تيمية" (ص: 315، ط. مطبعة المدني): [وقد أطلق القول في رواية عبد الله فقال: من ادعى الإجماع فقد كذب، لعل الناس قد اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا إذا لم يبلغه] اهـ.
وروى ابن حزم بإسناده إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل -كما في "المحلى" (10/ 422، ط. الطبعة المنيرية)- قال: [سمعت أبي يقول: ما يدعي فيه الرجل الإجماع هو الكذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، ولم ينته إليه، فيقول: لا نعلم الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، ولم يبلغني ذلك] اهـ.
وقد ذكر العلماء عدة احتمالات للمراد من عبارة الإمام أحمد:
منها: أنه يحتمل أن يكون كلامه في إنكار أصل الإجماع، وهذا الاحتمال مردود؛ لأنه مناف للآيات والأحاديث التي استدل بها العلماء على حجية الإجماع، فهو أحد المصادر التشريعية المعتمدة عند جمهور العلماء، بل يجب علينا أن نعتقد أنه لا يذهب مذهب المخالفين للجمهور، فإن الإمام أحمد من الذين استدلوا بالإجماع على بعض المسائل الفقهية، وكذلك فإن أتباع الإمام من الحنابلة كتبهم مملوءة بعبارات تؤكد اتفاقهم على حجية الإجماع، ومن ذلك قول الإمام ابن قدامة في "روضة الناظر" (ص: 138، ط. جامعة الإمام محمد بن سعود): [الإجماع حجة قاطعة عند الجمهور] اهـ، وقول الشيخ ابن تيمية في "المسودة" (ص: 315): [الإجماع متصور وهو حجة قاطعة] اهـ، وقول ابن اللحام في "مختصره" (ص: 74، ط. جامعة الملك عبد العزيز): [وهو -أي الإجماع- حجة قاطعة] اهـ.
وكذلك قد سبق النقل عن العلامة ابن النجار فيما يؤيد هذا المعنى، وقد ورد عن الإمام أحمد الاعتماد على الإجماع في إثبات أحكام بعض المسائل الفقهية؛ مثال ذلك قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204]؛ قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (1/ 636، ط. دار الفكر): [قال أحمد في رواية أبي داود: أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة] اهـ.
ومنها: أنه يحتمل أن يكون كلامه في حق من ينقل إجماع المجتهدين من أهل عصره بعد اتساع رقعة الإسلام وانتشار المجتهدين في الأقطار البعيدة جدًّا، فإنه لا يمكن العلم به ولا نقله في مثل هذه الحالة، وهذا الاحتمال لا ينافي صحة نقل الإجماع في العصور السابقة على عصر الإمام أحمد.
ومنها: احتمال أنه أراد من ينقل إجماع غير الصحابة، فيكون قد ذهب إلى أن الإجماع مختص بعصر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كما هو مذهب الظاهرية.
لكن هذا الاحتمال مردود؛ لأن الأدلة التي استند إليها علماء الأصول في إثبات حجية الإجماع متناولة بعمومها لأهل كل عصر؛ عصر الصحابة، وعصر التابعين، وهكذا، فيكون قصر الإجماع على عصر الصحابة فقط تخصيصا بلا مخصص، وهذا لا يصح، فإن أهل الحق في كل عصر، وليس فقط في عصر الصحابة.
ومنها؛ وهو الصحيح: أن يحمل قول الإمام أحمد على أنه قاله في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف، أو قاله على جهة الورع؛ لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه، أو قاله في "الإجماع السكوتي"، فلا يقال فيه: "أجمعوا"؛ لاحتمال أن الساكت مخالف، ولكن يقال فيه: "قال فلان، ولا نعلم له مخالفًا"، أو قاله للإنكار على المعتزلة الذين يدعون إجماع الناس على ما يقولونه، وكانوا من أقل الناس معرفة بأقوال الصحابة والتابعين، فكلامه للتنفير من دعوى الإجماع من غير حجة وبرهان، وهذا الاحتمال الأخير هو ما رجحه العلامة ابن رجب كما نقله عنه العلامة المرداوي في "التحبير" (4/ 1528).
فلا ينبغي ادعاء الإجماع لمن ليس من أهل الشأن، ولا تقبل دعوى حصول الإجماع أو حكايته إلا ممن كان خبيرا بأقوال المجتهدين.
ومما سبق: يتبين معنى الإجماع وثبوت حجيته، ووجه الحاجة التشريعية إلى الأخذ به، كما يتبين خطأ من يستشهد على بطلانه وعدم إمكان انعقاده بما ينقل عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه مِن كذب مَن ادعى الإجماع؛ كما ذكرنا تفسير ذلك في الفتوى ووضحنا مراد الإمام أحمد مما قاله بما لا يتنافى مع احتجاج الإمام أحمد نفسه بالإجماع في العديد من مسائل الفقه الإسلامي.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
الإجماع حجيته وإمكانه
يتردد كثيرًا على ألسنة بعض الناس أن من ادعى الإجماع فهو كاذب، وينسبون ذلك إلى الإمام أحمد بن حنبل، ويذهبون -بناءً على ذلك- إلى أن الإجماع ليس بحجة، ولا يمكن وقوعه أصلًا، فما الصحيح من كل ذلك؟
مادة الجيم والميم والعين أصل يدل على تضام الشيء، ومنه الإجماع بمعنى الإعداد والعزيمة على الأمر إذا تعدى بنفسه؛ كقوله تعالى: ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ﴾ [يونس: 71].
أما إذا تعدى بحرف الجر "على" فيكون بمعنى الاتفاق، يقال: أجمعوا عليه إذا اتفقوا عليه، وهذا أمر مجمع عليه أي متفق عليه. راجع: (مادة: ج م ع) في "معجم مقاييس اللغة" لابن فارس (10/ 179، ط. دار الفكر)، و"لسان العرب" لابن منظور (8/ 75، ط. دار صادر)، و"تاج العروس" للزبيدي (20/ 463، ط. دار الهداية).
واصطلاحًا -كما في "شرح جمع الجوامع" لجلال الدين المحلي (2/ 209، ط. دار الكتب العلمية)-: [هو اتفاق مجتهدي الأمة بعد وفاة نبيها محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عصرٍ على أي أمرٍ كان] اهـ.
وللإجماع أهمية كبيرة في الشريعة الإسلامية، حتى قال إمام الحرمين في "البرهان" (1/ 436، ط. دار الوفاء بالمنصورة): [الإجماع عصام الشريعة وعمادها، وإليه استنادها] اهـ.
فهو الضابط لهوية دين الإسلام، إذ يحافظ على ما اتفق عليه المسلمون من الثوابت التي لا تختلف باختلاف الزمان والمكان، وتنبع الحاجة إليه من الحاجة إلى قطع دابر التحريف في الدين بتحويل الظني إلى قطعي لا يقبل المنازعة فيه.
ومعنى حجية الإجماع: أنه يجب على كل مكلف الأخذ به، والعمل بموجبه، واعتقاد أن الحكم المجمع عليه حق لا يجوز مخالفته، ولا إعادة الاجتهاد في مستنده.
وفهم تلك الحجية يتوقف على أمور:
أولًا: إمكان وقوع الإجماع.
ثانيًا: إمكان العلم به من المجتهدين أنفسهم إذا وقع منهم.
ثالثًا: إمكان نقله إلي من يحتج به بطريق السماع والرواية نقلًا صحيحًا.
والإجماع قسمان: إجماع الخاصة، وإجماع العامة.
القسم الأول: إجماع الخاصة:
والمراد بهم المجتهدون وحدهم، وقد ذهب الأكثرون من علماء الأمة إلى إمكان الأمور الثلاثة السابق ذكرها، وإلى أن الإجماع حجة، والأقلون منهم قد نفوا حجيته.
وقد استدلوا على حجية الإجماع بآيات من كتاب الله، وأحاديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما استدلوا بالمعقول، على أن الدليل العقلي المستند على استقراء الكتاب والسنة بجملتها أقوى في هذا الشأن من الاستدلال بالأدلة التفصيلية الجزئية، وهو أن الإجماع واقع بالفعل، والوقوع أكبر أدلة الإمكان، وممكن العلم به، والحاجة إليه ضرورة دينية.
أما أنه واقع بالفعل فذلك يظهر من اتفاق جميع المسلمين مجتهدين وعوام، المسمى بـ"إجماع العامة" -كما سيأتي بيانه-، على وجوب الصلوات الخمس، وصوم رمضان، والزكاة، ونحوها، فالإجماع واقع بالفعل، وهذا أكبر دليل على إمكانه، كما أن العلم به، ونقله إلينا واقعان بالفعل، فدل على أنهما ممكنان أيضًا، والاتفاق على أحكام ما يجعل هذه الأحكام متيقنة، معلومة من الدين بالضرورة، باقية إلى يوم القيامة قطعًا، ولا مجال للقول بأن النصوص الواردة فيها هي التي أفادتنا العلم بها وبدوامها؛ وذلك لأن هذه النصوص ظنية الدلالة ومحتملة النسخ، فأتى الإجماع فرفع ظنية الدلالة ونفى احتمال النسخ.
وإذا كان حصول هذا الاتفاق -إجماع العامة- والعلم به، ونقله إلينا أمورًا ممكنة، فبالأولى يمكن ذلك كله في اتفاق المجتهدين -وهو إجماع الخاصة- وحدهم على حكم شرعي؛ وذلك لأنه إذا أمكن ذلك للأمة قاطبة، وهم أكثر عددًا، بل عددهم غير محصورٍ، كان ذلك أولى بالنسبة للمجتهدين وحدهم لقلتهم، ولأنه قد أمكن ذلك فيهم -أي: المجتهدين- وهم في ضمن الكل -أي: الأمة قاطبة- ولمعرفتهم بأعيانهم التي تسهل معرفة آرائهم، أثبت وقوع إجماع الخاصة المتنازع فيه، والقطع به، فإنا نقطع بأن أئمة الصحابة والتابعين قد أجمعوا على تقديم القاطع على المظنون، وما ذلك القطع إلا بثبوته عنهم، ونقله إلينا، ويلزم من الوقوع الإمكان بلا خلاف. انظر: "حقيقة الإجماع وحجيته" للشيخ عبد الغني عبد الخالق (ص: 12).
والنافون لحجية إجماع الخاصة فريقان:
الفريق الأول: نفى الحجية فقط.
والفريق الثاني: نفى إمكان الأمور الثلاثة معًا -وهى نفي الإمكان والحجية والنقل-، وقالوا باستحالة الإجماع.
- فالفريق الأول: وهو من أنكر الحجية ولم ينكر الإمكان؛ فمنهم: النَّظَّام، والشيعة الإمامية، وجعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر من المعتزلة، والخوارج -كما ذكره الإمام البيضاوي-.
وقال العلامة ابن الحاجب: بعض الخوارج، ومثله في "مسلم الثبوت". انظر: "نهاية السول" للإسنوي (3/ 245، ط. عالم الكتب)، و"شرح المختصر" للعضد (2/ 319، ط. دار الكتب العلمية)، و"فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت" لعبد العلي محمد الأنصاري (2/ 262، ط. المطبعة الأميرية).
والمفهوم مما قاله أبو جعفر الطوسي في كتابه "عدة الأصول" -من كتب الشيعة- (3/ 64، ط. مؤسسة آل البيت للطباعة والنشر) أن الشيعة يقرون بالإجماع ما دام فيه إمامهم، وحيث إن أئمتهم من المجتهدين عندنا فسيتفقون معنا في مدة أئمتهم الاثني عشر، وسيختلفون فيما بعد ذلك حيث إن الإمام المعصوم عندهم محجوب عنا بغيابه في السرداب على زعمهم، وأما غير الإمامية كالزيدية فمع الجمهور في إثبات الإجماع.
- أما الفريق الثاني: القائل باستحالة الإجماع ونفي إمكان الأمور الثلاثة المتقدمة؛ فهو فريق غير معين على وجه التحديد، ولم يتعرض لذكره بالتفصيل وتسمية القائلين بهذا المذهب من حكوه؛ كالإمام الغزالي والعلامة الآمدي، والإمام البيضاوي، وابن السبكي.
قال العلامة ابن الحاجب في "المختصر مع حواشيه" (2/ 316، ط. دار الكتب العلمية): [إنه النظام وبعض الروافض] اهـ.
ولعله يقصد ببعض الروافض غلاتهم. انظر: "الإجماع عند الأصوليين" لفضيلة الدكتور/ علي جمعة (ص: 33، ط. دار الرسالة).
القسم الثاني: إجماع العامة:
وهو الإجماع على المعلوم من الدين بالضرورة، فلا نزاع في حجيته، ولا فيما تتوقف عليه هذه الحجية، وهو ما يسمى بـ"إجماع العامة" كما نقل عن الإمام الشافعي رضي الله عنه، وهو الإجماع الذي أجمعت عليه الأمة قاطبة، مجتهدوها وعوامها.
وقد اتفق المسلمون على وقوع هذا الإجماع، وعلم المجتهدين به، وصحة نقله للأمة فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، وذلك كإجماعهم على وجوب الصلاة والزكاة، وعلى أن الصلوات المفروضة خمس في اليوم والليلة، إلى غير ذلك من كل أمر يكفر جاحده، أو المتردد في ثبوته، حتى لو كان مستند الإجماع ظنيا في ثبوته، أو في دلالته.
والدليل على إمكان وقوع إجماع العامة وإمكان العلم به وإمكان نقله هو الحصول الفعلي الذي نراه جليًّا في كثير من الأحكام الشرعية، بل في أكثر مسائل الشرع الأصلية، فقد أجمعت الأمة على أن شهر الصيام هو رمضان، وعلى أن الكعبة هي القبلة، وعلى أنه لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع نسوة، وإلى حل البيع، والإجارة، وحرمة الغيبة، والنميمة، والكذب، وشهادة الزور، وأكل الخنزير، وأجمعت على فرض الحجاب على النساء، وعلى حفظ العقل، والنفس، والعرض، والدين، والمال، إلى غير ذلك من الكثير الذي لا يجوز مخالفته بحال.
والمعلوم من الدين بالضرورة لا يستوي الناس كلهم في إدراكه والعلم به على حد سواء؛ بل قد يختلف الناس في تحصيله، فأحكام الإيلاء والظهار قد يجهلها كثير من المسلمين مع أنها من المعلوم من الدين بالضرورة عند العلماء، وإن من الأحكام ما قد يخفى على بعض طلبة العلم، كعقوبة اعتزال النساء في قصة المخلفين في غزوة تبوك، والخبر في "الصحيحين"، فإنها لا تجوز لإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو أمر خاص برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإجماع، لا يجوز لحاكم من بعده أن يستدل به، فيفعله كنوع تعزير على من أخطأ نفس الخطأ.
وفائدة الإجماع بهذه الصفة السابقة أنه ينفي ظنية الدليل، ويصبح الدليل بعده قطعيًّا لا يجوز النظر فيه نظرًا يخالف ذلك الإجماع، ومن أمثلة نفي الإجماع لظنية الدليل، وجعله قطعيًا الإجماع على أن الوضوء سابق على الصلاة مع إيهام النص في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]؛ حيث أجمعت الأمة على أن الوضوء قبل الصلاة، وأن المراد من الآية: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم؛ قال الإمام الرازي في "تفسيره" (11/ 153، ط. دار الفكر): [اعلم أن المراد بقوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ ليس المراد نفس القيام، ويدل عليه وجهان:
الأول: أنه لو كان المراد بذلك لزم تأخير الوضوء عن الصلاة، وأنه باطل بالإجماع.
الثاني: أنهم أجمعوا على أنه لو غسل الأعضاء قبل الصلاة قاعدًا، أو مضطجعًا لكان قد خرج عن العهدة، بل المراد منه: إذا شمرتم للقيام إلى الصلاة، وأردتم ذلك، وهذا وإن كان مجازًا إلا أنه مشهور متعارف، ويدل عليه أن الإرادة الجازمة سبب لحصول الفعل، وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز مشهور] اهـ.
فيكون معنى قوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ إذا أردتم أداء الصلاة والاشتغال بإقامتها، فلا يجوز لأحد من الناس أن يقوم بتحليل لغوي يتوصل به إلى حكم يخالف ذلك المجمع عليه، فيقول مثلًا: إن كلمة "قمتم" فعل ماض، والفاء في "فاغسلوا" للتعقيب، فالوضوء بعد الصلاة؛ بل إن قائل ذلك يكفر لمخالفته الإجماع.
وكذلك الإجماع على حرمة الخمر، ولم يرد لفظ التحريم في القرآن، بل ورد قوله تعالى في شأن الخمر: ﴿فَاْجِتَنِبُوهُ﴾ [المائدة: 90] التي أجمعت الأمة على أنها للتحريم، فلا يجوز أن يحملها أحدهم على الإرشاد أو الكراهة لعدم استعمال لفظ "تحريم" مثلًا.
يقول الإمام القرطبي في "تفسيره" (8/ 160، ط. مؤسسة الرسالة): [قوله تعالى: ﴿فَاْجِتَنِبُوهُ﴾ يريد: أبعدوه، واجعلوه ناحية، فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور، واقترنت بصيغة الأمر مع نصوص الأحاديث، وإجماع الأمة، فحصل الاجتناب في جهة التحريم، فبهذا حرمت الخمر. ولا خلاف بين علماء المسلمين أن سورة المائدة نزلت بتحريم الخمر، وهي مدنية من آخر ما نزل، وورد التحريم في الميتة والدم ولحم الخنزير في قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ﴾ [الأنعام: 145] وغيرها من الآي خبرا، وفي الخمر نهيا وزجرا، وهو أقوى التحريم وأوكده. روي عن ابن عباس أنه قال: لما نزل تحريم الخمر، مشى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض، وقالوا: حرمت الخمر وجعلت عدلا للشرك. يعني: أنه قرنها بذبح الأنصاب، وذلك شرك، ثم علق: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فعلق الفلاح بالأمر، وذلك يدل على تأكيد الوجوب، والله أعلم] اهـ.
وقد أطلق القطعية على حجية الإجماع إمام الأصوليين الإمام الشافعي، والإمام أبو بكر الصيرفي، والإمام أبو إسحاق الشيرازي، والإمام الخطيب البغدادي، وإمام الحرمين الجويني، والإمام ابن برهان، وشيخ الإسلام الغزالي، والعلامة الدبوسي، بل نقل غير واحد إجماع القائلين بحجية الإجماع على أنه قطعي، ومنهم الإمام الرازي مع أنه خالف ذلك، ونسبه الأصفهاني إلى الأكثرين؛ قال العلامة ابن النجار في "شرح الكوكب" (ص: 226، ط. مكتبة العبيكان): [(وهو) أي: الإجماع (حجة قاطعة بالشرع) أي: بدليل الشرع كونه حجة قاطعة. وهذا مذهب الأئمة الأعلام، منهم الأربعة وأتباعهم وغيرهم من المتكلمين. وقال الآمدي والرازي: هو حجة ظنية لا قطعية] اهـ.
وقال الإمام القرافي في "نفائس الأصول" (6/ 2770، ط. مكتبة نزار مصطفى الباز بمكة المكرمة): [فالإجماع قطعي، وأصله قطعي، لكن بعض مدركه ليس قطعيا، وذلك لا يقدح في أن المجموع يفيد القطع، ولا في أن المطلوب قطعي. سلمنا أن المدرك ظني، لكن لا يلزم أن المدلول لا يكون قطعيًّا كما تقدم بيانه في أن الحكم معلوم، والظن واقع في طريقه، ويثبت هنالك أن المبني على الشك معلوم، فضلًا عن المبني على الظن] اهـ.
كما أجاب جوابًا حسنًا طويلًا على اعتراض المعترض على حجية الإجماع بقوله: "إن الفقهاء أثبتوا الإجماع بعمومات الآيات والأخبار، وأجمعوا على أن المنكر لما تدل عليه هذه العمومات لا يكفر ولا يفسق إذا كان ذلك الإنكار لتأويل، ثم يقولون: الحكم الذي دل عليه الإجماع مقطوع به، ومخالفه كافر".
فقال الإمام القرافي (6/ 2583) مجيبًا على هذا الاعتراض: [الإجماع قطعي لأجل دلالة كل عموم، لا بالنظر إلى ذلك العموم وحده، بل جميع أصول الفقه قطعية، ومدرك القطع فيها يحصل لمن حصل له الاستقراء التام في نصوص الشريعة وأقضية الصحابة في فتاويهم ومناظراتهم، والاطلاع على كثرة واردات السنة في أعيان تلك المسائل، فيحصل القطع حينئذ، أما بمجرد آية أو خبر فلا، فهذا هو معنى قول العلماء: مسائل أصول الفقه قطعية، وليس من الممكن أن يوضع في كتاب جميع تلك الأمور التي تحصل العلم، كما أنا نقطع بسخاء حاتم، وبشجاعة علي؛ لكثرة الاستقراء لأخبارهما، ولو أنا لم نجد إلا كتابا سطرت فيه حكايات كثيرة عنهما لم يحصل لنا القطع، فوضع العلماء في كتب أصول الفقه أصول المدارك دون نهاياتها تنبيها عليه، وحينئذ يتجه قولهم: إن مخالف الإجماع يكفر لمخالفته القطعي، ومخالف العموم لا يكفر لمخالفته الظني، وليس في ذلك ترجيح الفرع على الأصل؛ لأن أصل الإجماع في التحقيق إنما هو ذلك المجموع الذي أشرنا إليه، ولو خالف أحد ذلك المجموع كفرناه وسوينا بين الفرع والأصل، بل نكفره بذلك الأصل القطعي بطريق الأولى، لكونه أصلا قطعيا، وإذا لم نكفره بمخالفة عموم واحد نكون قد رجحنا الفرع على بعض أصله، ولا غرو في ذلك حينئذ، فتأمل ذلك، فإن المصنف -يقصد الإمام الرازي- قد أكثر التشنيع في هذا المقام، وأداه صعوبة هذا الموضوع إلى أن قال: الإجماع ظني، وهو خلاف إجماع من تقدمه -كما حكاه هو هاهنا- وما سببه إلا عدم النظر في هذا البحث، فتأمله تخلص من الضوائق إن شاء الله تعالى] اهـ.
أما قول الإمام أحمد: "من ادعى الإجماع فهو كاذب"، فقد اشتهر هذا القول عنه، جاء في "مسودة آل تيمية" (ص: 315، ط. مطبعة المدني): [وقد أطلق القول في رواية عبد الله فقال: من ادعى الإجماع فقد كذب، لعل الناس قد اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا إذا لم يبلغه] اهـ.
وروى ابن حزم بإسناده إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل -كما في "المحلى" (10/ 422، ط. الطبعة المنيرية)- قال: [سمعت أبي يقول: ما يدعي فيه الرجل الإجماع هو الكذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، ولم ينته إليه، فيقول: لا نعلم الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، ولم يبلغني ذلك] اهـ.
وقد ذكر العلماء عدة احتمالات للمراد من عبارة الإمام أحمد:
منها: أنه يحتمل أن يكون كلامه في إنكار أصل الإجماع، وهذا الاحتمال مردود؛ لأنه مناف للآيات والأحاديث التي استدل بها العلماء على حجية الإجماع، فهو أحد المصادر التشريعية المعتمدة عند جمهور العلماء، بل يجب علينا أن نعتقد أنه لا يذهب مذهب المخالفين للجمهور، فإن الإمام أحمد من الذين استدلوا بالإجماع على بعض المسائل الفقهية، وكذلك فإن أتباع الإمام من الحنابلة كتبهم مملوءة بعبارات تؤكد اتفاقهم على حجية الإجماع، ومن ذلك قول الإمام ابن قدامة في "روضة الناظر" (ص: 138، ط. جامعة الإمام محمد بن سعود): [الإجماع حجة قاطعة عند الجمهور] اهـ، وقول الشيخ ابن تيمية في "المسودة" (ص: 315): [الإجماع متصور وهو حجة قاطعة] اهـ، وقول ابن اللحام في "مختصره" (ص: 74، ط. جامعة الملك عبد العزيز): [وهو -أي الإجماع- حجة قاطعة] اهـ.
وكذلك قد سبق النقل عن العلامة ابن النجار فيما يؤيد هذا المعنى، وقد ورد عن الإمام أحمد الاعتماد على الإجماع في إثبات أحكام بعض المسائل الفقهية؛ مثال ذلك قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204]؛ قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (1/ 636، ط. دار الفكر): [قال أحمد في رواية أبي داود: أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة] اهـ.
ومنها: أنه يحتمل أن يكون كلامه في حق من ينقل إجماع المجتهدين من أهل عصره بعد اتساع رقعة الإسلام وانتشار المجتهدين في الأقطار البعيدة جدًّا، فإنه لا يمكن العلم به ولا نقله في مثل هذه الحالة، وهذا الاحتمال لا ينافي صحة نقل الإجماع في العصور السابقة على عصر الإمام أحمد.
ومنها: احتمال أنه أراد من ينقل إجماع غير الصحابة، فيكون قد ذهب إلى أن الإجماع مختص بعصر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كما هو مذهب الظاهرية.
لكن هذا الاحتمال مردود؛ لأن الأدلة التي استند إليها علماء الأصول في إثبات حجية الإجماع متناولة بعمومها لأهل كل عصر؛ عصر الصحابة، وعصر التابعين، وهكذا، فيكون قصر الإجماع على عصر الصحابة فقط تخصيصا بلا مخصص، وهذا لا يصح، فإن أهل الحق في كل عصر، وليس فقط في عصر الصحابة.
ومنها؛ وهو الصحيح: أن يحمل قول الإمام أحمد على أنه قاله في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف، أو قاله على جهة الورع؛ لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه، أو قاله في "الإجماع السكوتي"، فلا يقال فيه: "أجمعوا"؛ لاحتمال أن الساكت مخالف، ولكن يقال فيه: "قال فلان، ولا نعلم له مخالفًا"، أو قاله للإنكار على المعتزلة الذين يدعون إجماع الناس على ما يقولونه، وكانوا من أقل الناس معرفة بأقوال الصحابة والتابعين، فكلامه للتنفير من دعوى الإجماع من غير حجة وبرهان، وهذا الاحتمال الأخير هو ما رجحه العلامة ابن رجب كما نقله عنه العلامة المرداوي في "التحبير" (4/ 1528).
فلا ينبغي ادعاء الإجماع لمن ليس من أهل الشأن، ولا تقبل دعوى حصول الإجماع أو حكايته إلا ممن كان خبيرا بأقوال المجتهدين.
ومما سبق: يتبين معنى الإجماع وثبوت حجيته، ووجه الحاجة التشريعية إلى الأخذ به، كما يتبين خطأ من يستشهد على بطلانه وعدم إمكان انعقاده بما ينقل عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه مِن كذب مَن ادعى الإجماع؛ كما ذكرنا تفسير ذلك في الفتوى ووضحنا مراد الإمام أحمد مما قاله بما لا يتنافى مع احتجاج الإمام أحمد نفسه بالإجماع في العديد من مسائل الفقه الإسلامي.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
مادة الجيم والميم والعين أصل يدل على تضام الشيء، ومنه الإجماع بمعنى الإعداد والعزيمة على الأمر إذا تعدى بنفسه؛ كقوله تعالى: ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ﴾ [يونس: 71].
أما إذا تعدى بحرف الجر "على" فيكون بمعنى الاتفاق، يقال: أجمعوا عليه إذا اتفقوا عليه، وهذا أمر مجمع عليه أي متفق عليه. راجع: (مادة: ج م ع) في "معجم مقاييس اللغة" لابن فارس (10/ 179، ط. دار الفكر)، و"لسان العرب" لابن منظور (8/ 75، ط. دار صادر)، و"تاج العروس" للزبيدي (20/ 463، ط. دار الهداية).
واصطلاحًا -كما في "شرح جمع الجوامع" لجلال الدين المحلي (2/ 209، ط. دار الكتب العلمية)-: [هو اتفاق مجتهدي الأمة بعد وفاة نبيها محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عصرٍ على أي أمرٍ كان] اهـ.
وللإجماع أهمية كبيرة في الشريعة الإسلامية، حتى قال إمام الحرمين في "البرهان" (1/ 436، ط. دار الوفاء بالمنصورة): [الإجماع عصام الشريعة وعمادها، وإليه استنادها] اهـ.
فهو الضابط لهوية دين الإسلام، إذ يحافظ على ما اتفق عليه المسلمون من الثوابت التي لا تختلف باختلاف الزمان والمكان، وتنبع الحاجة إليه من الحاجة إلى قطع دابر التحريف في الدين بتحويل الظني إلى قطعي لا يقبل المنازعة فيه.
ومعنى حجية الإجماع: أنه يجب على كل مكلف الأخذ به، والعمل بموجبه، واعتقاد أن الحكم المجمع عليه حق لا يجوز مخالفته، ولا إعادة الاجتهاد في مستنده.
وفهم تلك الحجية يتوقف على أمور:
أولًا: إمكان وقوع الإجماع.
ثانيًا: إمكان العلم به من المجتهدين أنفسهم إذا وقع منهم.
ثالثًا: إمكان نقله إلي من يحتج به بطريق السماع والرواية نقلًا صحيحًا.
والإجماع قسمان: إجماع الخاصة، وإجماع العامة.
القسم الأول: إجماع الخاصة:
والمراد بهم المجتهدون وحدهم، وقد ذهب الأكثرون من علماء الأمة إلى إمكان الأمور الثلاثة السابق ذكرها، وإلى أن الإجماع حجة، والأقلون منهم قد نفوا حجيته.
وقد استدلوا على حجية الإجماع بآيات من كتاب الله، وأحاديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما استدلوا بالمعقول، على أن الدليل العقلي المستند على استقراء الكتاب والسنة بجملتها أقوى في هذا الشأن من الاستدلال بالأدلة التفصيلية الجزئية، وهو أن الإجماع واقع بالفعل، والوقوع أكبر أدلة الإمكان، وممكن العلم به، والحاجة إليه ضرورة دينية.
أما أنه واقع بالفعل فذلك يظهر من اتفاق جميع المسلمين مجتهدين وعوام، المسمى بـ"إجماع العامة" -كما سيأتي بيانه-، على وجوب الصلوات الخمس، وصوم رمضان، والزكاة، ونحوها، فالإجماع واقع بالفعل، وهذا أكبر دليل على إمكانه، كما أن العلم به، ونقله إلينا واقعان بالفعل، فدل على أنهما ممكنان أيضًا، والاتفاق على أحكام ما يجعل هذه الأحكام متيقنة، معلومة من الدين بالضرورة، باقية إلى يوم القيامة قطعًا، ولا مجال للقول بأن النصوص الواردة فيها هي التي أفادتنا العلم بها وبدوامها؛ وذلك لأن هذه النصوص ظنية الدلالة ومحتملة النسخ، فأتى الإجماع فرفع ظنية الدلالة ونفى احتمال النسخ.
وإذا كان حصول هذا الاتفاق -إجماع العامة- والعلم به، ونقله إلينا أمورًا ممكنة، فبالأولى يمكن ذلك كله في اتفاق المجتهدين -وهو إجماع الخاصة- وحدهم على حكم شرعي؛ وذلك لأنه إذا أمكن ذلك للأمة قاطبة، وهم أكثر عددًا، بل عددهم غير محصورٍ، كان ذلك أولى بالنسبة للمجتهدين وحدهم لقلتهم، ولأنه قد أمكن ذلك فيهم -أي: المجتهدين- وهم في ضمن الكل -أي: الأمة قاطبة- ولمعرفتهم بأعيانهم التي تسهل معرفة آرائهم، أثبت وقوع إجماع الخاصة المتنازع فيه، والقطع به، فإنا نقطع بأن أئمة الصحابة والتابعين قد أجمعوا على تقديم القاطع على المظنون، وما ذلك القطع إلا بثبوته عنهم، ونقله إلينا، ويلزم من الوقوع الإمكان بلا خلاف. انظر: "حقيقة الإجماع وحجيته" للشيخ عبد الغني عبد الخالق (ص: 12).
والنافون لحجية إجماع الخاصة فريقان:
الفريق الأول: نفى الحجية فقط.
والفريق الثاني: نفى إمكان الأمور الثلاثة معًا -وهى نفي الإمكان والحجية والنقل-، وقالوا باستحالة الإجماع.
- فالفريق الأول: وهو من أنكر الحجية ولم ينكر الإمكان؛ فمنهم: النَّظَّام، والشيعة الإمامية، وجعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر من المعتزلة، والخوارج -كما ذكره الإمام البيضاوي-.
وقال العلامة ابن الحاجب: بعض الخوارج، ومثله في "مسلم الثبوت". انظر: "نهاية السول" للإسنوي (3/ 245، ط. عالم الكتب)، و"شرح المختصر" للعضد (2/ 319، ط. دار الكتب العلمية)، و"فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت" لعبد العلي محمد الأنصاري (2/ 262، ط. المطبعة الأميرية).
والمفهوم مما قاله أبو جعفر الطوسي في كتابه "عدة الأصول" -من كتب الشيعة- (3/ 64، ط. مؤسسة آل البيت للطباعة والنشر) أن الشيعة يقرون بالإجماع ما دام فيه إمامهم، وحيث إن أئمتهم من المجتهدين عندنا فسيتفقون معنا في مدة أئمتهم الاثني عشر، وسيختلفون فيما بعد ذلك حيث إن الإمام المعصوم عندهم محجوب عنا بغيابه في السرداب على زعمهم، وأما غير الإمامية كالزيدية فمع الجمهور في إثبات الإجماع.
- أما الفريق الثاني: القائل باستحالة الإجماع ونفي إمكان الأمور الثلاثة المتقدمة؛ فهو فريق غير معين على وجه التحديد، ولم يتعرض لذكره بالتفصيل وتسمية القائلين بهذا المذهب من حكوه؛ كالإمام الغزالي والعلامة الآمدي، والإمام البيضاوي، وابن السبكي.
قال العلامة ابن الحاجب في "المختصر مع حواشيه" (2/ 316، ط. دار الكتب العلمية): [إنه النظام وبعض الروافض] اهـ.
ولعله يقصد ببعض الروافض غلاتهم. انظر: "الإجماع عند الأصوليين" لفضيلة الدكتور/ علي جمعة (ص: 33، ط. دار الرسالة).
القسم الثاني: إجماع العامة:
وهو الإجماع على المعلوم من الدين بالضرورة، فلا نزاع في حجيته، ولا فيما تتوقف عليه هذه الحجية، وهو ما يسمى بـ"إجماع العامة" كما نقل عن الإمام الشافعي رضي الله عنه، وهو الإجماع الذي أجمعت عليه الأمة قاطبة، مجتهدوها وعوامها.
وقد اتفق المسلمون على وقوع هذا الإجماع، وعلم المجتهدين به، وصحة نقله للأمة فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، وذلك كإجماعهم على وجوب الصلاة والزكاة، وعلى أن الصلوات المفروضة خمس في اليوم والليلة، إلى غير ذلك من كل أمر يكفر جاحده، أو المتردد في ثبوته، حتى لو كان مستند الإجماع ظنيا في ثبوته، أو في دلالته.
والدليل على إمكان وقوع إجماع العامة وإمكان العلم به وإمكان نقله هو الحصول الفعلي الذي نراه جليًّا في كثير من الأحكام الشرعية، بل في أكثر مسائل الشرع الأصلية، فقد أجمعت الأمة على أن شهر الصيام هو رمضان، وعلى أن الكعبة هي القبلة، وعلى أنه لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع نسوة، وإلى حل البيع، والإجارة، وحرمة الغيبة، والنميمة، والكذب، وشهادة الزور، وأكل الخنزير، وأجمعت على فرض الحجاب على النساء، وعلى حفظ العقل، والنفس، والعرض، والدين، والمال، إلى غير ذلك من الكثير الذي لا يجوز مخالفته بحال.
والمعلوم من الدين بالضرورة لا يستوي الناس كلهم في إدراكه والعلم به على حد سواء؛ بل قد يختلف الناس في تحصيله، فأحكام الإيلاء والظهار قد يجهلها كثير من المسلمين مع أنها من المعلوم من الدين بالضرورة عند العلماء، وإن من الأحكام ما قد يخفى على بعض طلبة العلم، كعقوبة اعتزال النساء في قصة المخلفين في غزوة تبوك، والخبر في "الصحيحين"، فإنها لا تجوز لإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو أمر خاص برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإجماع، لا يجوز لحاكم من بعده أن يستدل به، فيفعله كنوع تعزير على من أخطأ نفس الخطأ.
وفائدة الإجماع بهذه الصفة السابقة أنه ينفي ظنية الدليل، ويصبح الدليل بعده قطعيًّا لا يجوز النظر فيه نظرًا يخالف ذلك الإجماع، ومن أمثلة نفي الإجماع لظنية الدليل، وجعله قطعيًا الإجماع على أن الوضوء سابق على الصلاة مع إيهام النص في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]؛ حيث أجمعت الأمة على أن الوضوء قبل الصلاة، وأن المراد من الآية: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم؛ قال الإمام الرازي في "تفسيره" (11/ 153، ط. دار الفكر): [اعلم أن المراد بقوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ ليس المراد نفس القيام، ويدل عليه وجهان:
الأول: أنه لو كان المراد بذلك لزم تأخير الوضوء عن الصلاة، وأنه باطل بالإجماع.
الثاني: أنهم أجمعوا على أنه لو غسل الأعضاء قبل الصلاة قاعدًا، أو مضطجعًا لكان قد خرج عن العهدة، بل المراد منه: إذا شمرتم للقيام إلى الصلاة، وأردتم ذلك، وهذا وإن كان مجازًا إلا أنه مشهور متعارف، ويدل عليه أن الإرادة الجازمة سبب لحصول الفعل، وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز مشهور] اهـ.
فيكون معنى قوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ إذا أردتم أداء الصلاة والاشتغال بإقامتها، فلا يجوز لأحد من الناس أن يقوم بتحليل لغوي يتوصل به إلى حكم يخالف ذلك المجمع عليه، فيقول مثلًا: إن كلمة "قمتم" فعل ماض، والفاء في "فاغسلوا" للتعقيب، فالوضوء بعد الصلاة؛ بل إن قائل ذلك يكفر لمخالفته الإجماع.
وكذلك الإجماع على حرمة الخمر، ولم يرد لفظ التحريم في القرآن، بل ورد قوله تعالى في شأن الخمر: ﴿فَاْجِتَنِبُوهُ﴾ [المائدة: 90] التي أجمعت الأمة على أنها للتحريم، فلا يجوز أن يحملها أحدهم على الإرشاد أو الكراهة لعدم استعمال لفظ "تحريم" مثلًا.
يقول الإمام القرطبي في "تفسيره" (8/ 160، ط. مؤسسة الرسالة): [قوله تعالى: ﴿فَاْجِتَنِبُوهُ﴾ يريد: أبعدوه، واجعلوه ناحية، فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور، واقترنت بصيغة الأمر مع نصوص الأحاديث، وإجماع الأمة، فحصل الاجتناب في جهة التحريم، فبهذا حرمت الخمر. ولا خلاف بين علماء المسلمين أن سورة المائدة نزلت بتحريم الخمر، وهي مدنية من آخر ما نزل، وورد التحريم في الميتة والدم ولحم الخنزير في قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ﴾ [الأنعام: 145] وغيرها من الآي خبرا، وفي الخمر نهيا وزجرا، وهو أقوى التحريم وأوكده. روي عن ابن عباس أنه قال: لما نزل تحريم الخمر، مشى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض، وقالوا: حرمت الخمر وجعلت عدلا للشرك. يعني: أنه قرنها بذبح الأنصاب، وذلك شرك، ثم علق: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فعلق الفلاح بالأمر، وذلك يدل على تأكيد الوجوب، والله أعلم] اهـ.
وقد أطلق القطعية على حجية الإجماع إمام الأصوليين الإمام الشافعي، والإمام أبو بكر الصيرفي، والإمام أبو إسحاق الشيرازي، والإمام الخطيب البغدادي، وإمام الحرمين الجويني، والإمام ابن برهان، وشيخ الإسلام الغزالي، والعلامة الدبوسي، بل نقل غير واحد إجماع القائلين بحجية الإجماع على أنه قطعي، ومنهم الإمام الرازي مع أنه خالف ذلك، ونسبه الأصفهاني إلى الأكثرين؛ قال العلامة ابن النجار في "شرح الكوكب" (ص: 226، ط. مكتبة العبيكان): [(وهو) أي: الإجماع (حجة قاطعة بالشرع) أي: بدليل الشرع كونه حجة قاطعة. وهذا مذهب الأئمة الأعلام، منهم الأربعة وأتباعهم وغيرهم من المتكلمين. وقال الآمدي والرازي: هو حجة ظنية لا قطعية] اهـ.
وقال الإمام القرافي في "نفائس الأصول" (6/ 2770، ط. مكتبة نزار مصطفى الباز بمكة المكرمة): [فالإجماع قطعي، وأصله قطعي، لكن بعض مدركه ليس قطعيا، وذلك لا يقدح في أن المجموع يفيد القطع، ولا في أن المطلوب قطعي. سلمنا أن المدرك ظني، لكن لا يلزم أن المدلول لا يكون قطعيًّا كما تقدم بيانه في أن الحكم معلوم، والظن واقع في طريقه، ويثبت هنالك أن المبني على الشك معلوم، فضلًا عن المبني على الظن] اهـ.
كما أجاب جوابًا حسنًا طويلًا على اعتراض المعترض على حجية الإجماع بقوله: "إن الفقهاء أثبتوا الإجماع بعمومات الآيات والأخبار، وأجمعوا على أن المنكر لما تدل عليه هذه العمومات لا يكفر ولا يفسق إذا كان ذلك الإنكار لتأويل، ثم يقولون: الحكم الذي دل عليه الإجماع مقطوع به، ومخالفه كافر".
فقال الإمام القرافي (6/ 2583) مجيبًا على هذا الاعتراض: [الإجماع قطعي لأجل دلالة كل عموم، لا بالنظر إلى ذلك العموم وحده، بل جميع أصول الفقه قطعية، ومدرك القطع فيها يحصل لمن حصل له الاستقراء التام في نصوص الشريعة وأقضية الصحابة في فتاويهم ومناظراتهم، والاطلاع على كثرة واردات السنة في أعيان تلك المسائل، فيحصل القطع حينئذ، أما بمجرد آية أو خبر فلا، فهذا هو معنى قول العلماء: مسائل أصول الفقه قطعية، وليس من الممكن أن يوضع في كتاب جميع تلك الأمور التي تحصل العلم، كما أنا نقطع بسخاء حاتم، وبشجاعة علي؛ لكثرة الاستقراء لأخبارهما، ولو أنا لم نجد إلا كتابا سطرت فيه حكايات كثيرة عنهما لم يحصل لنا القطع، فوضع العلماء في كتب أصول الفقه أصول المدارك دون نهاياتها تنبيها عليه، وحينئذ يتجه قولهم: إن مخالف الإجماع يكفر لمخالفته القطعي، ومخالف العموم لا يكفر لمخالفته الظني، وليس في ذلك ترجيح الفرع على الأصل؛ لأن أصل الإجماع في التحقيق إنما هو ذلك المجموع الذي أشرنا إليه، ولو خالف أحد ذلك المجموع كفرناه وسوينا بين الفرع والأصل، بل نكفره بذلك الأصل القطعي بطريق الأولى، لكونه أصلا قطعيا، وإذا لم نكفره بمخالفة عموم واحد نكون قد رجحنا الفرع على بعض أصله، ولا غرو في ذلك حينئذ، فتأمل ذلك، فإن المصنف -يقصد الإمام الرازي- قد أكثر التشنيع في هذا المقام، وأداه صعوبة هذا الموضوع إلى أن قال: الإجماع ظني، وهو خلاف إجماع من تقدمه -كما حكاه هو هاهنا- وما سببه إلا عدم النظر في هذا البحث، فتأمله تخلص من الضوائق إن شاء الله تعالى] اهـ.
أما قول الإمام أحمد: "من ادعى الإجماع فهو كاذب"، فقد اشتهر هذا القول عنه، جاء في "مسودة آل تيمية" (ص: 315، ط. مطبعة المدني): [وقد أطلق القول في رواية عبد الله فقال: من ادعى الإجماع فقد كذب، لعل الناس قد اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا إذا لم يبلغه] اهـ.
وروى ابن حزم بإسناده إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل -كما في "المحلى" (10/ 422، ط. الطبعة المنيرية)- قال: [سمعت أبي يقول: ما يدعي فيه الرجل الإجماع هو الكذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، ولم ينته إليه، فيقول: لا نعلم الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، ولم يبلغني ذلك] اهـ.
وقد ذكر العلماء عدة احتمالات للمراد من عبارة الإمام أحمد:
منها: أنه يحتمل أن يكون كلامه في إنكار أصل الإجماع، وهذا الاحتمال مردود؛ لأنه مناف للآيات والأحاديث التي استدل بها العلماء على حجية الإجماع، فهو أحد المصادر التشريعية المعتمدة عند جمهور العلماء، بل يجب علينا أن نعتقد أنه لا يذهب مذهب المخالفين للجمهور، فإن الإمام أحمد من الذين استدلوا بالإجماع على بعض المسائل الفقهية، وكذلك فإن أتباع الإمام من الحنابلة كتبهم مملوءة بعبارات تؤكد اتفاقهم على حجية الإجماع، ومن ذلك قول الإمام ابن قدامة في "روضة الناظر" (ص: 138، ط. جامعة الإمام محمد بن سعود): [الإجماع حجة قاطعة عند الجمهور] اهـ، وقول الشيخ ابن تيمية في "المسودة" (ص: 315): [الإجماع متصور وهو حجة قاطعة] اهـ، وقول ابن اللحام في "مختصره" (ص: 74، ط. جامعة الملك عبد العزيز): [وهو -أي الإجماع- حجة قاطعة] اهـ.
وكذلك قد سبق النقل عن العلامة ابن النجار فيما يؤيد هذا المعنى، وقد ورد عن الإمام أحمد الاعتماد على الإجماع في إثبات أحكام بعض المسائل الفقهية؛ مثال ذلك قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204]؛ قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (1/ 636، ط. دار الفكر): [قال أحمد في رواية أبي داود: أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة] اهـ.
ومنها: أنه يحتمل أن يكون كلامه في حق من ينقل إجماع المجتهدين من أهل عصره بعد اتساع رقعة الإسلام وانتشار المجتهدين في الأقطار البعيدة جدًّا، فإنه لا يمكن العلم به ولا نقله في مثل هذه الحالة، وهذا الاحتمال لا ينافي صحة نقل الإجماع في العصور السابقة على عصر الإمام أحمد.
ومنها: احتمال أنه أراد من ينقل إجماع غير الصحابة، فيكون قد ذهب إلى أن الإجماع مختص بعصر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كما هو مذهب الظاهرية.
لكن هذا الاحتمال مردود؛ لأن الأدلة التي استند إليها علماء الأصول في إثبات حجية الإجماع متناولة بعمومها لأهل كل عصر؛ عصر الصحابة، وعصر التابعين، وهكذا، فيكون قصر الإجماع على عصر الصحابة فقط تخصيصا بلا مخصص، وهذا لا يصح، فإن أهل الحق في كل عصر، وليس فقط في عصر الصحابة.
ومنها؛ وهو الصحيح: أن يحمل قول الإمام أحمد على أنه قاله في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف، أو قاله على جهة الورع؛ لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه، أو قاله في "الإجماع السكوتي"، فلا يقال فيه: "أجمعوا"؛ لاحتمال أن الساكت مخالف، ولكن يقال فيه: "قال فلان، ولا نعلم له مخالفًا"، أو قاله للإنكار على المعتزلة الذين يدعون إجماع الناس على ما يقولونه، وكانوا من أقل الناس معرفة بأقوال الصحابة والتابعين، فكلامه للتنفير من دعوى الإجماع من غير حجة وبرهان، وهذا الاحتمال الأخير هو ما رجحه العلامة ابن رجب كما نقله عنه العلامة المرداوي في "التحبير" (4/ 1528).
فلا ينبغي ادعاء الإجماع لمن ليس من أهل الشأن، ولا تقبل دعوى حصول الإجماع أو حكايته إلا ممن كان خبيرا بأقوال المجتهدين.
ومما سبق: يتبين معنى الإجماع وثبوت حجيته، ووجه الحاجة التشريعية إلى الأخذ به، كما يتبين خطأ من يستشهد على بطلانه وعدم إمكان انعقاده بما ينقل عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه مِن كذب مَن ادعى الإجماع؛ كما ذكرنا تفسير ذلك في الفتوى ووضحنا مراد الإمام أحمد مما قاله بما لا يتنافى مع احتجاج الإمام أحمد نفسه بالإجماع في العديد من مسائل الفقه الإسلامي.
والله سبحانه وتعالى أعلم.