الاختلاف الفقهي وضوابط إنكار المختلف فيه

هل كل مسألة اختلف فيها الفقهاء يكون اختلافهم فيها معتبرًا ولا يصح الإنكار على من خالف الرأي الراجح في المسألة؟

الاختلاف في اللغة: مصدر "اختلف" وهو ضد الاتفاق، والخِلاف: المُضادة، وهو مصدر "خَلَفَ"، وقد خالفهُ مخالفةً وخِلافًا، وتخالف القوم واختلفوا إذا ذَهَبَ كلُّ واحد إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر وهو ضد الاتفاق، وتخالف الأمران واختلفا لم يتفقا، وكل ما لم يتساو فقد تخالف واختلف. انظر: "المحكم" لابن سيده (5/ 200، مادة: خ ل ف، ط. دار الكتب العلمية)، و"المصباح المنير" للفيومي (ص: 179، مادة: خ ل ف، ط. المكتبة العلمية).
والخلاف والاختلاف معناهما واحد، سواء أكان في اللغة أم في الاصطلاح، ويظهر ذلك في كلام بعض العلماء من اللغويين والأصوليين والفقهاء، فهم يستعملون أحيانًا اللفظين بمعنى واحد، فكل أمرين خالف أحدهما الآخر خلافًا، فقد اختلفا اختلافًا، ومن ذلك قول الفقهاء من الحنفية في "الفتاوى الهندية" (3/ 312، ط. دار الفكر): [إن اختلف المتقدِّمون على قولين، ثم أجمع من بعدهم على أحد هذين القولين، فهذا الإجماع هل يرفع الخلاف المتقدم؟] اهـ. فما عبروا عنه أولًا بالاختلاف عبروا عنه ثانيًا بالخلاف فهما شيء واحد.
وفي "الدر المختار" للعلامة الحصكفي بـ"حاشية الإمام ابن عابدين" (5/ 403، ط. دار الفكر): [الأصل أن القضاء يصح في موضع الاختلاف لا الخلاف، والفرق أن للأول دليلًا لا الثاني،.. وعلَّق ابن عابدين عليه بقوله: [(قوله: والفرق... إلخ) هذه تفرقة عرفية، وإلا فقد قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ [البقرة: 213] ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: 4] ولا دليل لهم، والمراد: أنه خلاف لا دليل له بالنظر للمخالف، وإلا فالقائل اعتمد دليلًا] اهـ.
ومن العلماء مَن جعل بينهما فرقًا؛ يقول الإمام أبو البقاء الكفوي في كتابه "الكليات" (ص: 61، ط. مؤسسة الرسالة): [والاختلاف: هو أن يكون الطريق مختلفًا والمقصود واحدًا. والخلاف: هو أن يكون كلاهما مختلفًا. والاختلاف: ما يستند إلى دليل، والخلاف: ما لا يستند إلى دليل... فالاختلاف من آثار الرحمة والخلاف من آثار البدعة. ولو حكم القاضي بالخلاف ورُفِع لغيره يجوز فسخه بخلاف الاختلاف؛ فإن الخلاف هو ما وقع في محل لا يجوز فيه الاجتهاد، وهو ما كان مخالفًا للكتاب والسنة والإجماع] اهـ.
ويقول الإمام الراغب الأصفهاني في "المفردات في غريب القرآن" (ص: 294، ط. دار القلم): [والاختلاف والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقًا غير طريق الآخر في حاله أو قوله. والخلاف: أعم من الضد؛ لأن كل ضدين مختلفان وليس كل مختلفين ضدين] اهـ.
ومن الذين نقلوا الفرق بينهما في الاصطلاح العلامة التهانوي في "كشاف اصطلاحات الفنون" (1/ 116، ط. مكتبة لبنان) فقال: [قال بعض العلماء: إن الاختلاف يُستعمل في قولٍ بُني على دليل، والخلاف فيما لا دليل عليه... ويؤيده ما في غاية التحقيق منه أن القول المرجوح في مقابلة الراجح يقال له خلاف، لا اختلاف] اهـ.
والخلاف من الأحكام الكونية، فلا يزال الخلاف بين بني آدم من زمن نوح عليه السلام لم تسلم منه أمَّة من الأمم، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۞ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118-119].
يقول الإمام الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير" (12/ 190، ط. الدار التونسية، سنة 1984هـ): [لمَّا خلقهم على جِبِلة قاضية باختلاف الآراء والنزعات، وكان مريدًا لمقتضى تلك الجبلة وعالمًا به كان الاختلاف علة غائية لخلقهم] اهـ.
ومما كتبه الله تعالى على الأمة الإسلامية أنها ستفترق وتختلف كما اختلفت الأمم من قبلها؛ فقد روى أبو داود والترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَالنَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً».
والقضايا الفقهية الأصل في الخلاف فيها أن يكون رغبة في الوصول إلى الحق والالتزام به، فالحق ضالة المؤمن التي يَنْشُدها؛ قال تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ [يونس: 32].
يقول الإمام الحَجْوي في "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" (1/ 525، ط. دار الكتب العلمية) وهو يتكلم عن حالة الفقه الإسلامي في القرن الثاني: [وغاية ما كان ينشأ عن الخلاف أن يعتقد أن خصمه مخطئ في تلك المسألة بعينها لما قام عنده من الدليل على خطئه في ظنه، لا في كل المسائل، ويعتقد أنه معذور لما أدَّاه إليه دليله، لا نقص يلحقه في ذلك، ويعرفون لكل عَالمٍ حقه، ويقرون له بالفضل، ويحترمون فكره، فلم يكن الخلاف ضارًّا لهم ولا شائنًا، بل كان سعيًا وراء إظهار الحقيقة؛ فلذلك عددنا الفقه فيه شابًّا قويًّا] اهـ.
كما أن الحق يُتعرَّف عليه من مجموع الأدلة، ونتيجة لذلك فلم يكن الخلاف غاية في ذاته، بل كل واحد يطلب الحق بطرقه ووسائله، ويقع الخلاف لأي سبب من الأسباب، على أن غالب الأحكام الفقهية ثابتة عن طريق أدلة ظنية، والظنون قابلة للتعارض، ولما كان الواجب على الفقيه اتباع ما انتهى إليه ظنه فكان لا بد من وقوع الخلاف بناءً على إفادة الدليل للظنِّيَّة.
وينبغي أن نقرر أنَّ الاختلاف منحصر في الفروع الفقهية وبعض مسائل أصول الدين، مع الاتفاق الكامل على الأصول الدينية التي تمثل هوية الإسلام، وهو من حفظ الله تعالى وكفالته لهذا الدين إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، ولذا لم يقع اختلاف فيما هو قطعي الثبوت والدلالة؛ إذ إن أمر قبوله ضروري، كما أنَّ الخلاف في الفروع سعة، فلا تضيق الأمة بمذهب، فإن صَعُبَ عليها أحدها أو أوقعها في حرج لجأت إلى غيره، يقول الشيخ محمود شلتوت في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة" (ص: 550، ط. دار الشروق): [لقد كان في تقرير حق الاجتهاد الفردي والجماعي ما فتح لأهل البحث والاستنباط من علماء الشريعة الإسلامية أوسع الأبواب؛ لتخيُّر القانون الذي تنظم به شؤون المجتمعات الإسلامية على اختلاف ظروفها، غير مقيَّدين فيما يختارون إلا بشيء واحد وهو عدم المخالفة لأصل من أصول التشريع القطعية مع تحري وجوه المصلحة وسبيل العدل، وكان ذلك أساسًا لدوام الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل زمان ومكان] اهـ.
أضف إلى هذا حرص الفقهاء أن لا يكون خلافهم مظهرًا من مظاهر الهوى والعناد، كما أن إقرار فكرة التوسعة بتعدد الآراء والاجتهادات من قِبَل الأئمة سلفًا وخلفًا، أمر لا يحتاج إلى دليل ولا برهان، فلسان حالهم أصرح من مقالهم، ومن ذلك ما قام به الإمام عمر بن عبد العزيز إزاء تيار توحيد المذاهب وحمل الناس على اجتهاد واحد؛ فقد روي: "أن حميدًا الطويل قال لعمر بن عبد العزيز: لو جمعت الناس على شيء. فقال: ما يسرني أنهم لم يختلفوا. ثم كتب إلى الأمصار: ليقضِ كل قوم بما اجتمع عليه فقهاؤهم" أخرجه الدارمي في "سننه".
بل قد نقل واشتهر عن العلماء من السلف والخلف من حث المسلم على ترك مذهبه، أو رأيه في مسألة ما، إذا كانت هناك مصلحة هي أرجى وأنفع له ولغيره من المسلمين، ومن ذلك ما جاء في "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (22/ 407، ط. مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف) في أثناء كلامه عن البسملة، هل هي آية أول كل سورة أو لا؟ وهل يجهر بها أو لا؟ فبعد ذكره للأقوال في المسألة قال: [ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات؛ لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا] اهـ.
وقد وضع العلماء ضوابط للخلاف المعتبر، وعنى كثير من العلماء بذكر هذه الضوابط، وعنى غيرهم بالوقوف على أسباب خلافهم، فمنهم من حصرها في ستة؛ كابن رشد المالكي في مقدمته لكتابه "بداية المجتهد"، ومنهم من حصرها في ثمانية؛ كأبي محمد البَطَلْيوسي الأندلسي المالكي في كتابه "التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين"، ومنهم من أوصلها إلى ستة عشر سببًا؛ كابن جزي في كتابه "تقريب الوصول إلى علم الأصول".
وما كان لهذه الأسباب أن تفضي إلى نزاع بين أطرافها، أو تورث تعصبًا مذهبيًّا مفرِّقًا، فإن ذلك مظهر من مظاهر الجهل بالشريعة وقواعدها، وبسيرة الأئمة وأقوالهم، وما كان اختلافهم أيضًا ليخرجهم عن التزام الأدب في تناول تلك المسائل الخلافية، فعلى الجانب العملي نقلت إلينا كثيرٌ من المناظرات المليئة بأدب الخلاف حكتها لنا كتب التاريخ والتراجم، هذا إلى جانب القواعد التي أسَّسها الفقهاء في التعامل مع الخلاف من الأدب مع المخالف، ومراعاة الخلاف، وجواز تقليد المذهب الآخر، والانتقال من مذهب إلى مذهب.
ومن تلك القواعد: "عدم الإنكار في المختلف فيه"، ومعناه أن يعاتب الشخص آخر، أو ينهاه عن العمل برأيه؛ لأنه مخالف لما يراه، أو ينسب قوله إلى المُنْكَر مستخدمًا طرق الإنكار الثلاث المنصوص عليها في الحديث -اليد أو اللسان أو القلب- سبيلًا للتغيير، أو مجرد الاعتراض على عملٍ موافق لرأي مجتهد معتبر في تلك المسائل الخلافية.
والإنكار مصدر "نكر"؛ قال ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" (5/ 476، مادة: ن ك ر، ط. دار الفكر): [النون والكاف والراء: أصل صحيح يدل على خلاف المعرفة التي يسكن إليها القلب. ونكر الشيء وأنكره: لم يقبله قلبه ولم يعترف به لسانه] اهـ.
والمنكر في الأمر خلاف المعروف، وكل ما قبَّحه الشرع وحرَّمه وكرهه فهو منكر.
وفي "لسان العرب" لابن منظور (5/ 233، مادة: نكر، ط. دار صادر): [التنكر: التغير. والنكير اسم الإنكار الذي معناه التغيير] اهـ.
والإنكار ضد الإقرار الذي يراد به مطلق الاعتراف بالشيء وإثباته، ومن معاني الإنكار الجحود، والجهل بالشيء، والنهي. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (10/ 109، مادة: ن ك ر، ط. دار إحياء التراث العربي)، و"تاج العروس" (14/ 287، باب الراء فصل النون، ط. دار الهداية)، و"المصباح المنير" للفيومي (ص: 625، مادة: ن ك ر).
والمتتبع لمعاني الإنكار في استعمالات الفقهاء يجد أنها لا تخرج عن أحد معنيين لغويين، هما: التغيير والنهي، فقد ورد الإنكار في كلام الفقهاء بمعانٍ عدة يمكن ردها إلى ذلك المعنيين، فمن تلك المعاني الاعتراض، والمنع، وبيان ضعف القول، وعدم الإقرار على القول أو الفعل، وعيب المخالف والطعن عليه، واللوم والتعنيف، والوعظ، والأمر والنهي، والعقوبة. ويتفرع عن تلك المعاني معانٍ أخر وصورٌ شتى يجمعها معنى التغيير أو النهي.
وواضح من المعاني التي ذكرناها أننا نعني بعدم الإنكار أي على العمل، لا القول بالحُكْم، فالنزاع إنما هو في العمل خاصة، وبذلك تَخرُج المناظرات العلمية بين العلماء عما نحن فيه، فإنها -أي تلك المناظرات- لا تعدو أن تكون إنكارًا على القول بالحكم، مع علم كلَا المتناظرين أنه لا يُنْكِر كل منهما العمل بما يقول الطرف الآخر.
وما ذكرناه من أنه لا ينكر في مسائل الخلاف هو مذهب جمهور الفقهاء. يراجع في ذلك ما يلي: "عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد" للدهلوي (ص: 26، ط. المطبعة السلفية، القاهرة)، و"الفروق" للقرافي (4/ 257، ط. دار المعرفة، بيروت)، و"المنثور" للزركشي (3/ 364، ط. وزارة الأوقاف الكويتية)، و"الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 137، ط. دار الكتب العلمية)، و"الفوائد الجنية" للفاداني (2/ 333، ط. دار البشائر، بيروت)، و"الفروع" لابن مفلح (2/ 17، ط. عالم الكتب)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 479، ط. عالم الكتب).
وروي عن الإمام أحمد أنه يُنْكَر المختلف فيه. راجع: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/ 166، ط. مؤسسة قرطبة).
وفرَّق ابن تيمية وابن القيم بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد. انظر: "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (6/ 96، ط. دار الكتب العلمية)، و"إعلام الموقعين" لابن القيم (3/ 288، ط. دار الكتب العلمية).
وعند النظر والتحقيق تجاه هذه المسألة نجد أن الخلاف فيها لفظي، وتقرير ذلك أن المراد بمسائل الخلاف عند الجمهور تلك المسائل التي خفيت دلالتها، إما لعدم الإجماع عليها، أو لعدم ورود دليل فيها أصلًا، فكل مسألة لم يرد فيها نص، أو ورد فيها نص قاطع في ثبوته فقط تُعَدُّ خلافية.
وذلك يعني أن كلَّ نص قطعي الثبوت لا يعني رفع الخلاف في جهة دلالته، إلا إذا انعقد الإجماع على تعيين أحد المعاني المحتملة شأنه شأن قول الحاكم في رفع الخلاف.
وهذا الضابط ينطبق على بعض المسائل الكلامية وأكثر المسائل الفقهية؛ وذلك لأن من المعلوم أن أهل الاجتهاد لا يُؤثر عنهم اختلاف معتبر في المسائل المنصوص عليها نصًّا قطعيًّا ثبوتًا ودلالة، وإنما كان اختلافهم ولا يزال حول المسائل غير المنصوص عليها مطلقًا، والمسائل المنصوص عليها نصًّا ظنيًّا ثبوتًا ودلالة، أو نصًّا ظنيًّا ثبوتًا دون الدلالة أو العكس.
وقيَّد الجمهورُ الخلافَ بالمعتبر، وهو الخلاف الذي له حظ من النظر، أي: من الدليل، فلا يلتفت إلى قول في مسألة ليس عليه دليل، أو عليه دليل ليس بقوي؛ ولذلك وضع العلماء شروطًا لجعل الخلاف معتبرًا، وما إن اندرج تحت هذه الشروط اعتُبر وصح القول بمراعاته، و هذه الشروط:
الأول: أن يكون مأخذ الخلاف قويًّا، فإذا كان ضعيفًا فلا يؤبه به.
يقول العلامة الدردير في "الشرح الكبير" (4/ 156، ط. دار إحياء الكتب العربية)، وهو يتحدث عمَّا يُنْقض من الأحكام وما لا يُنْقض: [ولا يجوز لمفتٍ علم بحكمه -أي: بحكم القاضي- أن يفتي بخلافه، وهذا في الخلاف المعتبر بين العلماء، وأما ما ضعف مُدْرَكه بأن خالف نصًّا أو جلي قياس أو إجماعًا فينقض] اهـ.
وقد عبَّر عن الشرط الإمامُ السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 137) -وانظر: "الموافقات" للشاطبي (4/ 172، ط. دار المعرفة، بيروت)- فقال: ["أن يقوى مُدْرَكه بحيث لا يعد هفوة"، ثم مثَّل لخلافٍ ضعف مُدْرَكه قائلًا: "ومن ثَمَّ كان الصوم في السفر أفضل لمن قوي عليه"، ولم يبال بقول داود: إنه لا يصح. وقد قال إمام الحرمين في هذه المسألة: إن المحققين لا يقيمون لخلاف أهل الظاهر وزنًا] اهـ.
الثاني: أن لا تؤدي مراعاة الخلاف إلى ترك سنة ثابتة، أو خرق إجماع، وتوقع في خلاف آخر، فنحتاج إلى الخروج منه فيلزم الدور، ومثاله: فَصْل الوتر أفضل من وصله، ولم يراع خلاف أبي حنيفة؛ لأن من العلماء من لا يجيز الوصل.
الثالث: أن يكون المخالِف من العلماء المعتبرين، وفي ذلك يقول الشيخ محمد حسنين مخلوف في كتابه "بلوغ السول في مدخل علم الأصول" (ص: 15، ط. مصطفى الحلبي): [وقد اعتبر الأصوليون وغيرهم أقوال المجتهدين في حق المقلدين القاصرين كالأدلة الشرعية في حق المجتهدين، لا لأن أقوالهم لذاتها حجة على الناس تثبت بها الأحكام الشرعية كأقوال الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن ذلك لا يقول به أحد؛ بل لأنها مستندة إلى مآخذ شرعية بذلوا جهدهم في استقرائها وتمحيص دلائلها مع عدالتهم وسعة اطلاعهم واستقامة أفهامهم وعنايتهم بضبط الشريعة وحفظ نصوصها، ولذلك شرطوا في المستثمر للأدلة المستنبط للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية -لكونها ظنية لا تنتج إلا ظنًّا- أن يكون ذا تأهل خاص، وقوة خاصة، وملكة قوية يتمكن بها من تمحيص الأدلة على وجه يجعل ظنونه بمثابة العلم القطعي صونًا لأحكام الدين عن الخطأ بقدر المستطاع] اهـ.
وتأسيسًا على ما سبق: فالخلاف على قسمين:
الأول: ظاهر جلي يستند إلى أدلة وقواعد، وينبني على أصول الاجتهاد ومدارك الأحكام، وهو الخلاف المعتد به، وهذا هو المراد من قولهم: "لا إنكار في مسائل الخلاف"، وأفراد هذا القِسْم كثير، وفي ذلك يقول الشاطبي في "الموافقات" (1/ 105): [والخلاف المعتد به موجود في أكثر مسائل الشريعة، والخلاف الذي لا يعتد به قليل] اهـ.
ويتخرج عليه كثير من المسائل المختلف فيها قديمًا وحديثًا؛ منها: التزوج بغير ولي، وأكل متروك التسمية بعد الذبح، وحلق اللحية، وإيداع الأموال في البنوك التقليدية، والتأمين بصوره المعاصرة... إلخ.
الثاني: ما ضعف مُدْرَكه، وحاد عن مسلك الاستدلال قائلُه، فهذا يُرَدُّ على صاحبه ويُنْكَر على قائله، وهذا القِسْم يحمل بين طياته الوقائع التي فيها ردُّ الأئمة بعضهم على بعض، وإنكارهم شاذ الأقوال.
وقد استثنى الجمهور من عدم الإنكار في المسائل الخلافية أمورًا:
منها: ضعف المدرك، وقد مرَّ.
ومنها: حكم الحاكم، فإذا اختُلِف في شيء بين حلِّه وحرمته، ورفع الأمر إلى الحاكم فإن عليه أن يفتي بما يعتقده، وحكمه يرفع الخلاف.
ومنها: أن يكون للمُنْكِر حق في المختلَف فيه، فللزوج أن يمنع زوجته من شرب يسير النبيذ إذا كانت تعتقد إباحته.
ومنها: أن يعتقد الفاعل الحرمة ويقدم على الفعل؛ وذلك لانتهاكه الحرمة من جهة اعتقاده، لا إن كان يعتقد التحليل.
واستدل الجمهور على أنه لا ينكر في المسائل الخلافية بأنه ليس أحد القولين بأولى من الآخر؛ وذلك لأن المسائل الفقهية لا تعدو أن تكون من قبيل الظنيات، والظنون قابلة للتعارض، ولا ترجيح بين ظن وآخر.
وبأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه ولا إثم على المخطئ، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو محبوب.
يقول الإمام الجَرْهَزي في "المواهب السنية" (2/ 333، ط. دار البشائر): [(قالوا وليس ينكر المختلف فيه) هذه قاعدة عظيمة متفرعة على أصل عظيم؛ لأن نسبته إلى المحرِّم ليس بأولى من نسبته إلى المحلِّل] اهـ.
قال الشيخ الفاداني محشيًا: [(لأن نسبته) أي: الشيء المختلَف فيه (إلى المحرِّم) أي: إلى المجتهد الذي قال بحرمته كالشافعي الذي حرَّم النبيذ مثلًا (من نسبته) أي: المختلَف فيه (إلى المحلِّل) أي: المجتهد الذي قال بحلِّه كأبي حنيفة الذي حلَّل النبيذ مثلًا] اهـ.
ويقول الشيخ زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (4/ 180)، بــ"حاشية الرملي الكبير"، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(ولا ينكر) العالِم (إلا مجمعًا عليه) أي: على إنكاره، لا ما اختلف فيه إلا أن يرى الفاعل تحريمه؛ لأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه ولا إثم على المخطئ] اهـ.
هذا وقد روي عن الإمام أحمد أنه يُنْكر المختلَف فيه على المقلِّد ولا يُنْكر على المجتهِد -انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/ 166)-، وقد تكون هذه الرواية مقيِّدة للتي سبقت، على أن الرواية السابقة -والتي فيها جواز الإنكار في المختلَف فيه- حملها ابن مفلح على إنكار القول المخالف للدليل القوي أو خبر الواحد، وحملها ابن رجب على غير ذلك في "جامع العلوم والحكم" (ص: 325، ط. دار الكتاب الإسلامي) فقال: [والمنصوص عن أحمد الإنكار على الملاعب بالشطرنج، وتأوله القاضي على من لعب بها بغير اجتهاد أو تقليد سائغ، وفيه نظر؛ فإن المنصوص عنه أنه يحد شارب النبيذ المختلَف فيه وإقامة الحد أبلغ مراتب الإنكار، مع أنه لا يفسق عنده بذلك، فدل على أنه يُنْكر كل مختلف فيه ضعف الخلاف فيه لدلالة السنة على تحريمه، ولا يخرج فاعله المتأول من العدالة بذلك] اهـ.
أما تفريق ابن تيمية وابن القيم والشوكاني ومن وافقهم بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد؛ فيقول ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (6/ 96): [وقولهم مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل، أما الأول -وهو القول بالحكم-، فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعًا قديمًا وجب إنكاره وفاقًا، وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء، وأما العمل: فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضًا بحسب درجات الإنكار، وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة وإن كان قد اتبع بعض العلماء. وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم ينكر على من عمل بها مجتهدًا أو مقلدًا، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس، والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبًا ظاهرًا؛ مثل حديث صحيح لا معارض من جنسه فيسوغ له إذا عدم ذلك فيها الاجتهادَ لتعارض الأدلة المتقاربة. أو لخفاء الأدلة فيها، وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها] اهـ.
وبنحو ذلك قال ابن القيم، وقال أيضًا في "إعلام الموقعين" (3/ 288) في معرض الاستدلال على ما ذهب إليه: [وكيف يقول فقيه لا إنكار في المسائل المختلف فيها والفقهاء من سائر الطوائف قد صرَّحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتابًا أو سنة] اهـ.
ومكمن التفرقة عند ابن تيمية وابن القيم بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد هو أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها نص من كتاب أو سنة أو إجماع، ومسائل الخلاف بالعكس، وأنه يُنْكَر على المخالف في الثانية دون الأولى، وبمعنى آخر: فالمسائل الاجتهادية تلك التي يكون الخلاف فيها قويًّا معتبرًا له حظٌ من النظر.
فالفريقان متفقان على أن المسائل التي فيها نص أو إجماع -أي ما هو قطعي- فإن ينكر على المخالف فيها وكلاهما يسمياها مسائل خلاف، أما المسائل المختلف فيها وليس فيها دليل قطعي فمتفقان أيضًا على عدم الإنكار على المخالف فيها وإن كان يسميها الجمهور مسائل خلاف كالأولى، ويسميها ابن تيمية وابن القيم مسائل اجتهاد، وكلا الاصطلاحين صحيح، فهي مسائل خلاف لكونها ليس مجمعًا عليها، ومسائل اجتهاد أي يجوز الاجتهاد فيها بكونها محلًا للاجتهاد.
ثم إن كل مسألة من مسائل الخلاف تُعَدُّ في حقيقتها من مسائل الاجتهاد شريطة كون الخلاف معتبرًا -على ما مرَّ تقريره- أما إذا لم يكن الخلاف كذلك فإنها لا تعد من مسائل الاجتهاد، فالعبرة بكون المسألة خلافية كون الخلاف فيها معتبرًا، وإن كان ثمَّ تفرقة فلتكن بين مسائل الاجتهاد ومسائل الخلاف غير المعتبر.
على أن قول ابن تيمية السابق: [وإن لم يكن كذلك فإنه يُنْكَر بمعنى بيان ضعفه -أي من جهة القول بالحكم- عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء] اهـ. خارج محل النزاع، فالنزاع إنما هو في العمل خاصة كما سبق.
وبناء على ما سبق: فإن مسائل الخلاف التي لا ينكر فيها على المخالف لا تشمل كل ما وقع فيه خلافٌ؛ لأن منه ما يكون ضعيف المدرك، أو شاذًّا، أو مما اعتبر من زلَّات العلماء، وما كان كذلك فهو مردودٌ، أما أذا أريد بمسائل الخلاف تلك التي يكون الخلاف فيها معتبرًا بشروطه المذكورة فلا إنكار فيها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

الاختلاف في اللغة: مصدر "اختلف" وهو ضد الاتفاق، والخِلاف: المُضادة، وهو مصدر "خَلَفَ"، وقد خالفهُ مخالفةً وخِلافًا، وتخالف القوم واختلفوا إذا ذَهَبَ كلُّ واحد إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر وهو ضد الاتفاق، وتخالف الأمران واختلفا لم يتفقا، وكل ما لم يتساو فقد تخالف واختلف. انظر: "المحكم" لابن سيده (5/ 200، مادة: خ ل ف، ط. دار الكتب العلمية)، و"المصباح المنير" للفيومي (ص: 179، مادة: خ ل ف، ط. المكتبة العلمية).
والخلاف والاختلاف معناهما واحد، سواء أكان في اللغة أم في الاصطلاح، ويظهر ذلك في كلام بعض العلماء من اللغويين والأصوليين والفقهاء، فهم يستعملون أحيانًا اللفظين بمعنى واحد، فكل أمرين خالف أحدهما الآخر خلافًا، فقد اختلفا اختلافًا، ومن ذلك قول الفقهاء من الحنفية في "الفتاوى الهندية" (3/ 312، ط. دار الفكر): [إن اختلف المتقدِّمون على قولين، ثم أجمع من بعدهم على أحد هذين القولين، فهذا الإجماع هل يرفع الخلاف المتقدم؟] اهـ. فما عبروا عنه أولًا بالاختلاف عبروا عنه ثانيًا بالخلاف فهما شيء واحد.
وفي "الدر المختار" للعلامة الحصكفي بـ"حاشية الإمام ابن عابدين" (5/ 403، ط. دار الفكر): [الأصل أن القضاء يصح في موضع الاختلاف لا الخلاف، والفرق أن للأول دليلًا لا الثاني،.. وعلَّق ابن عابدين عليه بقوله: [(قوله: والفرق... إلخ) هذه تفرقة عرفية، وإلا فقد قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ [البقرة: 213] ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: 4] ولا دليل لهم، والمراد: أنه خلاف لا دليل له بالنظر للمخالف، وإلا فالقائل اعتمد دليلًا] اهـ.
ومن العلماء مَن جعل بينهما فرقًا؛ يقول الإمام أبو البقاء الكفوي في كتابه "الكليات" (ص: 61، ط. مؤسسة الرسالة): [والاختلاف: هو أن يكون الطريق مختلفًا والمقصود واحدًا. والخلاف: هو أن يكون كلاهما مختلفًا. والاختلاف: ما يستند إلى دليل، والخلاف: ما لا يستند إلى دليل... فالاختلاف من آثار الرحمة والخلاف من آثار البدعة. ولو حكم القاضي بالخلاف ورُفِع لغيره يجوز فسخه بخلاف الاختلاف؛ فإن الخلاف هو ما وقع في محل لا يجوز فيه الاجتهاد، وهو ما كان مخالفًا للكتاب والسنة والإجماع] اهـ.
ويقول الإمام الراغب الأصفهاني في "المفردات في غريب القرآن" (ص: 294، ط. دار القلم): [والاختلاف والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقًا غير طريق الآخر في حاله أو قوله. والخلاف: أعم من الضد؛ لأن كل ضدين مختلفان وليس كل مختلفين ضدين] اهـ.
ومن الذين نقلوا الفرق بينهما في الاصطلاح العلامة التهانوي في "كشاف اصطلاحات الفنون" (1/ 116، ط. مكتبة لبنان) فقال: [قال بعض العلماء: إن الاختلاف يُستعمل في قولٍ بُني على دليل، والخلاف فيما لا دليل عليه... ويؤيده ما في غاية التحقيق منه أن القول المرجوح في مقابلة الراجح يقال له خلاف، لا اختلاف] اهـ.
والخلاف من الأحكام الكونية، فلا يزال الخلاف بين بني آدم من زمن نوح عليه السلام لم تسلم منه أمَّة من الأمم، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۞ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118-119].
يقول الإمام الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير" (12/ 190، ط. الدار التونسية، سنة 1984هـ): [لمَّا خلقهم على جِبِلة قاضية باختلاف الآراء والنزعات، وكان مريدًا لمقتضى تلك الجبلة وعالمًا به كان الاختلاف علة غائية لخلقهم] اهـ.
ومما كتبه الله تعالى على الأمة الإسلامية أنها ستفترق وتختلف كما اختلفت الأمم من قبلها؛ فقد روى أبو داود والترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَالنَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً».
والقضايا الفقهية الأصل في الخلاف فيها أن يكون رغبة في الوصول إلى الحق والالتزام به، فالحق ضالة المؤمن التي يَنْشُدها؛ قال تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ [يونس: 32].
يقول الإمام الحَجْوي في "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" (1/ 525، ط. دار الكتب العلمية) وهو يتكلم عن حالة الفقه الإسلامي في القرن الثاني: [وغاية ما كان ينشأ عن الخلاف أن يعتقد أن خصمه مخطئ في تلك المسألة بعينها لما قام عنده من الدليل على خطئه في ظنه، لا في كل المسائل، ويعتقد أنه معذور لما أدَّاه إليه دليله، لا نقص يلحقه في ذلك، ويعرفون لكل عَالمٍ حقه، ويقرون له بالفضل، ويحترمون فكره، فلم يكن الخلاف ضارًّا لهم ولا شائنًا، بل كان سعيًا وراء إظهار الحقيقة؛ فلذلك عددنا الفقه فيه شابًّا قويًّا] اهـ.
كما أن الحق يُتعرَّف عليه من مجموع الأدلة، ونتيجة لذلك فلم يكن الخلاف غاية في ذاته، بل كل واحد يطلب الحق بطرقه ووسائله، ويقع الخلاف لأي سبب من الأسباب، على أن غالب الأحكام الفقهية ثابتة عن طريق أدلة ظنية، والظنون قابلة للتعارض، ولما كان الواجب على الفقيه اتباع ما انتهى إليه ظنه فكان لا بد من وقوع الخلاف بناءً على إفادة الدليل للظنِّيَّة.
وينبغي أن نقرر أنَّ الاختلاف منحصر في الفروع الفقهية وبعض مسائل أصول الدين، مع الاتفاق الكامل على الأصول الدينية التي تمثل هوية الإسلام، وهو من حفظ الله تعالى وكفالته لهذا الدين إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، ولذا لم يقع اختلاف فيما هو قطعي الثبوت والدلالة؛ إذ إن أمر قبوله ضروري، كما أنَّ الخلاف في الفروع سعة، فلا تضيق الأمة بمذهب، فإن صَعُبَ عليها أحدها أو أوقعها في حرج لجأت إلى غيره، يقول الشيخ محمود شلتوت في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة" (ص: 550، ط. دار الشروق): [لقد كان في تقرير حق الاجتهاد الفردي والجماعي ما فتح لأهل البحث والاستنباط من علماء الشريعة الإسلامية أوسع الأبواب؛ لتخيُّر القانون الذي تنظم به شؤون المجتمعات الإسلامية على اختلاف ظروفها، غير مقيَّدين فيما يختارون إلا بشيء واحد وهو عدم المخالفة لأصل من أصول التشريع القطعية مع تحري وجوه المصلحة وسبيل العدل، وكان ذلك أساسًا لدوام الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل زمان ومكان] اهـ.
أضف إلى هذا حرص الفقهاء أن لا يكون خلافهم مظهرًا من مظاهر الهوى والعناد، كما أن إقرار فكرة التوسعة بتعدد الآراء والاجتهادات من قِبَل الأئمة سلفًا وخلفًا، أمر لا يحتاج إلى دليل ولا برهان، فلسان حالهم أصرح من مقالهم، ومن ذلك ما قام به الإمام عمر بن عبد العزيز إزاء تيار توحيد المذاهب وحمل الناس على اجتهاد واحد؛ فقد روي: "أن حميدًا الطويل قال لعمر بن عبد العزيز: لو جمعت الناس على شيء. فقال: ما يسرني أنهم لم يختلفوا. ثم كتب إلى الأمصار: ليقضِ كل قوم بما اجتمع عليه فقهاؤهم" أخرجه الدارمي في "سننه".
بل قد نقل واشتهر عن العلماء من السلف والخلف من حث المسلم على ترك مذهبه، أو رأيه في مسألة ما، إذا كانت هناك مصلحة هي أرجى وأنفع له ولغيره من المسلمين، ومن ذلك ما جاء في "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (22/ 407، ط. مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف) في أثناء كلامه عن البسملة، هل هي آية أول كل سورة أو لا؟ وهل يجهر بها أو لا؟ فبعد ذكره للأقوال في المسألة قال: [ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات؛ لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا] اهـ.
وقد وضع العلماء ضوابط للخلاف المعتبر، وعنى كثير من العلماء بذكر هذه الضوابط، وعنى غيرهم بالوقوف على أسباب خلافهم، فمنهم من حصرها في ستة؛ كابن رشد المالكي في مقدمته لكتابه "بداية المجتهد"، ومنهم من حصرها في ثمانية؛ كأبي محمد البَطَلْيوسي الأندلسي المالكي في كتابه "التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين"، ومنهم من أوصلها إلى ستة عشر سببًا؛ كابن جزي في كتابه "تقريب الوصول إلى علم الأصول".
وما كان لهذه الأسباب أن تفضي إلى نزاع بين أطرافها، أو تورث تعصبًا مذهبيًّا مفرِّقًا، فإن ذلك مظهر من مظاهر الجهل بالشريعة وقواعدها، وبسيرة الأئمة وأقوالهم، وما كان اختلافهم أيضًا ليخرجهم عن التزام الأدب في تناول تلك المسائل الخلافية، فعلى الجانب العملي نقلت إلينا كثيرٌ من المناظرات المليئة بأدب الخلاف حكتها لنا كتب التاريخ والتراجم، هذا إلى جانب القواعد التي أسَّسها الفقهاء في التعامل مع الخلاف من الأدب مع المخالف، ومراعاة الخلاف، وجواز تقليد المذهب الآخر، والانتقال من مذهب إلى مذهب.
ومن تلك القواعد: "عدم الإنكار في المختلف فيه"، ومعناه أن يعاتب الشخص آخر، أو ينهاه عن العمل برأيه؛ لأنه مخالف لما يراه، أو ينسب قوله إلى المُنْكَر مستخدمًا طرق الإنكار الثلاث المنصوص عليها في الحديث -اليد أو اللسان أو القلب- سبيلًا للتغيير، أو مجرد الاعتراض على عملٍ موافق لرأي مجتهد معتبر في تلك المسائل الخلافية.
والإنكار مصدر "نكر"؛ قال ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" (5/ 476، مادة: ن ك ر، ط. دار الفكر): [النون والكاف والراء: أصل صحيح يدل على خلاف المعرفة التي يسكن إليها القلب. ونكر الشيء وأنكره: لم يقبله قلبه ولم يعترف به لسانه] اهـ.
والمنكر في الأمر خلاف المعروف، وكل ما قبَّحه الشرع وحرَّمه وكرهه فهو منكر.
وفي "لسان العرب" لابن منظور (5/ 233، مادة: نكر، ط. دار صادر): [التنكر: التغير. والنكير اسم الإنكار الذي معناه التغيير] اهـ.
والإنكار ضد الإقرار الذي يراد به مطلق الاعتراف بالشيء وإثباته، ومن معاني الإنكار الجحود، والجهل بالشيء، والنهي. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (10/ 109، مادة: ن ك ر، ط. دار إحياء التراث العربي)، و"تاج العروس" (14/ 287، باب الراء فصل النون، ط. دار الهداية)، و"المصباح المنير" للفيومي (ص: 625، مادة: ن ك ر).
والمتتبع لمعاني الإنكار في استعمالات الفقهاء يجد أنها لا تخرج عن أحد معنيين لغويين، هما: التغيير والنهي، فقد ورد الإنكار في كلام الفقهاء بمعانٍ عدة يمكن ردها إلى ذلك المعنيين، فمن تلك المعاني الاعتراض، والمنع، وبيان ضعف القول، وعدم الإقرار على القول أو الفعل، وعيب المخالف والطعن عليه، واللوم والتعنيف، والوعظ، والأمر والنهي، والعقوبة. ويتفرع عن تلك المعاني معانٍ أخر وصورٌ شتى يجمعها معنى التغيير أو النهي.
وواضح من المعاني التي ذكرناها أننا نعني بعدم الإنكار أي على العمل، لا القول بالحُكْم، فالنزاع إنما هو في العمل خاصة، وبذلك تَخرُج المناظرات العلمية بين العلماء عما نحن فيه، فإنها -أي تلك المناظرات- لا تعدو أن تكون إنكارًا على القول بالحكم، مع علم كلَا المتناظرين أنه لا يُنْكِر كل منهما العمل بما يقول الطرف الآخر.
وما ذكرناه من أنه لا ينكر في مسائل الخلاف هو مذهب جمهور الفقهاء. يراجع في ذلك ما يلي: "عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد" للدهلوي (ص: 26، ط. المطبعة السلفية، القاهرة)، و"الفروق" للقرافي (4/ 257، ط. دار المعرفة، بيروت)، و"المنثور" للزركشي (3/ 364، ط. وزارة الأوقاف الكويتية)، و"الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 137، ط. دار الكتب العلمية)، و"الفوائد الجنية" للفاداني (2/ 333، ط. دار البشائر، بيروت)، و"الفروع" لابن مفلح (2/ 17، ط. عالم الكتب)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 479، ط. عالم الكتب).
وروي عن الإمام أحمد أنه يُنْكَر المختلف فيه. راجع: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/ 166، ط. مؤسسة قرطبة).
وفرَّق ابن تيمية وابن القيم بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد. انظر: "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (6/ 96، ط. دار الكتب العلمية)، و"إعلام الموقعين" لابن القيم (3/ 288، ط. دار الكتب العلمية).
وعند النظر والتحقيق تجاه هذه المسألة نجد أن الخلاف فيها لفظي، وتقرير ذلك أن المراد بمسائل الخلاف عند الجمهور تلك المسائل التي خفيت دلالتها، إما لعدم الإجماع عليها، أو لعدم ورود دليل فيها أصلًا، فكل مسألة لم يرد فيها نص، أو ورد فيها نص قاطع في ثبوته فقط تُعَدُّ خلافية.
وذلك يعني أن كلَّ نص قطعي الثبوت لا يعني رفع الخلاف في جهة دلالته، إلا إذا انعقد الإجماع على تعيين أحد المعاني المحتملة شأنه شأن قول الحاكم في رفع الخلاف.
وهذا الضابط ينطبق على بعض المسائل الكلامية وأكثر المسائل الفقهية؛ وذلك لأن من المعلوم أن أهل الاجتهاد لا يُؤثر عنهم اختلاف معتبر في المسائل المنصوص عليها نصًّا قطعيًّا ثبوتًا ودلالة، وإنما كان اختلافهم ولا يزال حول المسائل غير المنصوص عليها مطلقًا، والمسائل المنصوص عليها نصًّا ظنيًّا ثبوتًا ودلالة، أو نصًّا ظنيًّا ثبوتًا دون الدلالة أو العكس.
وقيَّد الجمهورُ الخلافَ بالمعتبر، وهو الخلاف الذي له حظ من النظر، أي: من الدليل، فلا يلتفت إلى قول في مسألة ليس عليه دليل، أو عليه دليل ليس بقوي؛ ولذلك وضع العلماء شروطًا لجعل الخلاف معتبرًا، وما إن اندرج تحت هذه الشروط اعتُبر وصح القول بمراعاته، و هذه الشروط:
الأول: أن يكون مأخذ الخلاف قويًّا، فإذا كان ضعيفًا فلا يؤبه به.
يقول العلامة الدردير في "الشرح الكبير" (4/ 156، ط. دار إحياء الكتب العربية)، وهو يتحدث عمَّا يُنْقض من الأحكام وما لا يُنْقض: [ولا يجوز لمفتٍ علم بحكمه -أي: بحكم القاضي- أن يفتي بخلافه، وهذا في الخلاف المعتبر بين العلماء، وأما ما ضعف مُدْرَكه بأن خالف نصًّا أو جلي قياس أو إجماعًا فينقض] اهـ.
وقد عبَّر عن الشرط الإمامُ السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 137) -وانظر: "الموافقات" للشاطبي (4/ 172، ط. دار المعرفة، بيروت)- فقال: ["أن يقوى مُدْرَكه بحيث لا يعد هفوة"، ثم مثَّل لخلافٍ ضعف مُدْرَكه قائلًا: "ومن ثَمَّ كان الصوم في السفر أفضل لمن قوي عليه"، ولم يبال بقول داود: إنه لا يصح. وقد قال إمام الحرمين في هذه المسألة: إن المحققين لا يقيمون لخلاف أهل الظاهر وزنًا] اهـ.
الثاني: أن لا تؤدي مراعاة الخلاف إلى ترك سنة ثابتة، أو خرق إجماع، وتوقع في خلاف آخر، فنحتاج إلى الخروج منه فيلزم الدور، ومثاله: فَصْل الوتر أفضل من وصله، ولم يراع خلاف أبي حنيفة؛ لأن من العلماء من لا يجيز الوصل.
الثالث: أن يكون المخالِف من العلماء المعتبرين، وفي ذلك يقول الشيخ محمد حسنين مخلوف في كتابه "بلوغ السول في مدخل علم الأصول" (ص: 15، ط. مصطفى الحلبي): [وقد اعتبر الأصوليون وغيرهم أقوال المجتهدين في حق المقلدين القاصرين كالأدلة الشرعية في حق المجتهدين، لا لأن أقوالهم لذاتها حجة على الناس تثبت بها الأحكام الشرعية كأقوال الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن ذلك لا يقول به أحد؛ بل لأنها مستندة إلى مآخذ شرعية بذلوا جهدهم في استقرائها وتمحيص دلائلها مع عدالتهم وسعة اطلاعهم واستقامة أفهامهم وعنايتهم بضبط الشريعة وحفظ نصوصها، ولذلك شرطوا في المستثمر للأدلة المستنبط للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية -لكونها ظنية لا تنتج إلا ظنًّا- أن يكون ذا تأهل خاص، وقوة خاصة، وملكة قوية يتمكن بها من تمحيص الأدلة على وجه يجعل ظنونه بمثابة العلم القطعي صونًا لأحكام الدين عن الخطأ بقدر المستطاع] اهـ.
وتأسيسًا على ما سبق: فالخلاف على قسمين:
الأول: ظاهر جلي يستند إلى أدلة وقواعد، وينبني على أصول الاجتهاد ومدارك الأحكام، وهو الخلاف المعتد به، وهذا هو المراد من قولهم: "لا إنكار في مسائل الخلاف"، وأفراد هذا القِسْم كثير، وفي ذلك يقول الشاطبي في "الموافقات" (1/ 105): [والخلاف المعتد به موجود في أكثر مسائل الشريعة، والخلاف الذي لا يعتد به قليل] اهـ.
ويتخرج عليه كثير من المسائل المختلف فيها قديمًا وحديثًا؛ منها: التزوج بغير ولي، وأكل متروك التسمية بعد الذبح، وحلق اللحية، وإيداع الأموال في البنوك التقليدية، والتأمين بصوره المعاصرة... إلخ.
الثاني: ما ضعف مُدْرَكه، وحاد عن مسلك الاستدلال قائلُه، فهذا يُرَدُّ على صاحبه ويُنْكَر على قائله، وهذا القِسْم يحمل بين طياته الوقائع التي فيها ردُّ الأئمة بعضهم على بعض، وإنكارهم شاذ الأقوال.
وقد استثنى الجمهور من عدم الإنكار في المسائل الخلافية أمورًا:
منها: ضعف المدرك، وقد مرَّ.
ومنها: حكم الحاكم، فإذا اختُلِف في شيء بين حلِّه وحرمته، ورفع الأمر إلى الحاكم فإن عليه أن يفتي بما يعتقده، وحكمه يرفع الخلاف.
ومنها: أن يكون للمُنْكِر حق في المختلَف فيه، فللزوج أن يمنع زوجته من شرب يسير النبيذ إذا كانت تعتقد إباحته.
ومنها: أن يعتقد الفاعل الحرمة ويقدم على الفعل؛ وذلك لانتهاكه الحرمة من جهة اعتقاده، لا إن كان يعتقد التحليل.
واستدل الجمهور على أنه لا ينكر في المسائل الخلافية بأنه ليس أحد القولين بأولى من الآخر؛ وذلك لأن المسائل الفقهية لا تعدو أن تكون من قبيل الظنيات، والظنون قابلة للتعارض، ولا ترجيح بين ظن وآخر.
وبأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه ولا إثم على المخطئ، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو محبوب.
يقول الإمام الجَرْهَزي في "المواهب السنية" (2/ 333، ط. دار البشائر): [(قالوا وليس ينكر المختلف فيه) هذه قاعدة عظيمة متفرعة على أصل عظيم؛ لأن نسبته إلى المحرِّم ليس بأولى من نسبته إلى المحلِّل] اهـ.
قال الشيخ الفاداني محشيًا: [(لأن نسبته) أي: الشيء المختلَف فيه (إلى المحرِّم) أي: إلى المجتهد الذي قال بحرمته كالشافعي الذي حرَّم النبيذ مثلًا (من نسبته) أي: المختلَف فيه (إلى المحلِّل) أي: المجتهد الذي قال بحلِّه كأبي حنيفة الذي حلَّل النبيذ مثلًا] اهـ.
ويقول الشيخ زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (4/ 180)، بــ"حاشية الرملي الكبير"، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(ولا ينكر) العالِم (إلا مجمعًا عليه) أي: على إنكاره، لا ما اختلف فيه إلا أن يرى الفاعل تحريمه؛ لأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه ولا إثم على المخطئ] اهـ.
هذا وقد روي عن الإمام أحمد أنه يُنْكر المختلَف فيه على المقلِّد ولا يُنْكر على المجتهِد -انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/ 166)-، وقد تكون هذه الرواية مقيِّدة للتي سبقت، على أن الرواية السابقة -والتي فيها جواز الإنكار في المختلَف فيه- حملها ابن مفلح على إنكار القول المخالف للدليل القوي أو خبر الواحد، وحملها ابن رجب على غير ذلك في "جامع العلوم والحكم" (ص: 325، ط. دار الكتاب الإسلامي) فقال: [والمنصوص عن أحمد الإنكار على الملاعب بالشطرنج، وتأوله القاضي على من لعب بها بغير اجتهاد أو تقليد سائغ، وفيه نظر؛ فإن المنصوص عنه أنه يحد شارب النبيذ المختلَف فيه وإقامة الحد أبلغ مراتب الإنكار، مع أنه لا يفسق عنده بذلك، فدل على أنه يُنْكر كل مختلف فيه ضعف الخلاف فيه لدلالة السنة على تحريمه، ولا يخرج فاعله المتأول من العدالة بذلك] اهـ.
أما تفريق ابن تيمية وابن القيم والشوكاني ومن وافقهم بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد؛ فيقول ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (6/ 96): [وقولهم مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل، أما الأول -وهو القول بالحكم-، فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعًا قديمًا وجب إنكاره وفاقًا، وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء، وأما العمل: فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضًا بحسب درجات الإنكار، وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة وإن كان قد اتبع بعض العلماء. وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم ينكر على من عمل بها مجتهدًا أو مقلدًا، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس، والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبًا ظاهرًا؛ مثل حديث صحيح لا معارض من جنسه فيسوغ له إذا عدم ذلك فيها الاجتهادَ لتعارض الأدلة المتقاربة. أو لخفاء الأدلة فيها، وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها] اهـ.
وبنحو ذلك قال ابن القيم، وقال أيضًا في "إعلام الموقعين" (3/ 288) في معرض الاستدلال على ما ذهب إليه: [وكيف يقول فقيه لا إنكار في المسائل المختلف فيها والفقهاء من سائر الطوائف قد صرَّحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتابًا أو سنة] اهـ.
ومكمن التفرقة عند ابن تيمية وابن القيم بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد هو أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها نص من كتاب أو سنة أو إجماع، ومسائل الخلاف بالعكس، وأنه يُنْكَر على المخالف في الثانية دون الأولى، وبمعنى آخر: فالمسائل الاجتهادية تلك التي يكون الخلاف فيها قويًّا معتبرًا له حظٌ من النظر.
فالفريقان متفقان على أن المسائل التي فيها نص أو إجماع -أي ما هو قطعي- فإن ينكر على المخالف فيها وكلاهما يسمياها مسائل خلاف، أما المسائل المختلف فيها وليس فيها دليل قطعي فمتفقان أيضًا على عدم الإنكار على المخالف فيها وإن كان يسميها الجمهور مسائل خلاف كالأولى، ويسميها ابن تيمية وابن القيم مسائل اجتهاد، وكلا الاصطلاحين صحيح، فهي مسائل خلاف لكونها ليس مجمعًا عليها، ومسائل اجتهاد أي يجوز الاجتهاد فيها بكونها محلًا للاجتهاد.
ثم إن كل مسألة من مسائل الخلاف تُعَدُّ في حقيقتها من مسائل الاجتهاد شريطة كون الخلاف معتبرًا -على ما مرَّ تقريره- أما إذا لم يكن الخلاف كذلك فإنها لا تعد من مسائل الاجتهاد، فالعبرة بكون المسألة خلافية كون الخلاف فيها معتبرًا، وإن كان ثمَّ تفرقة فلتكن بين مسائل الاجتهاد ومسائل الخلاف غير المعتبر.
على أن قول ابن تيمية السابق: [وإن لم يكن كذلك فإنه يُنْكَر بمعنى بيان ضعفه -أي من جهة القول بالحكم- عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء] اهـ. خارج محل النزاع، فالنزاع إنما هو في العمل خاصة كما سبق.
وبناء على ما سبق: فإن مسائل الخلاف التي لا ينكر فيها على المخالف لا تشمل كل ما وقع فيه خلافٌ؛ لأن منه ما يكون ضعيف المدرك، أو شاذًّا، أو مما اعتبر من زلَّات العلماء، وما كان كذلك فهو مردودٌ، أما أذا أريد بمسائل الخلاف تلك التي يكون الخلاف فيها معتبرًا بشروطه المذكورة فلا إنكار فيها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

الاختلاف الفقهي وضوابط إنكار المختلف فيه

هل كل مسألة اختلف فيها الفقهاء يكون اختلافهم فيها معتبرًا ولا يصح الإنكار على من خالف الرأي الراجح في المسألة؟

الاختلاف في اللغة: مصدر "اختلف" وهو ضد الاتفاق، والخِلاف: المُضادة، وهو مصدر "خَلَفَ"، وقد خالفهُ مخالفةً وخِلافًا، وتخالف القوم واختلفوا إذا ذَهَبَ كلُّ واحد إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر وهو ضد الاتفاق، وتخالف الأمران واختلفا لم يتفقا، وكل ما لم يتساو فقد تخالف واختلف. انظر: "المحكم" لابن سيده (5/ 200، مادة: خ ل ف، ط. دار الكتب العلمية)، و"المصباح المنير" للفيومي (ص: 179، مادة: خ ل ف، ط. المكتبة العلمية).
والخلاف والاختلاف معناهما واحد، سواء أكان في اللغة أم في الاصطلاح، ويظهر ذلك في كلام بعض العلماء من اللغويين والأصوليين والفقهاء، فهم يستعملون أحيانًا اللفظين بمعنى واحد، فكل أمرين خالف أحدهما الآخر خلافًا، فقد اختلفا اختلافًا، ومن ذلك قول الفقهاء من الحنفية في "الفتاوى الهندية" (3/ 312، ط. دار الفكر): [إن اختلف المتقدِّمون على قولين، ثم أجمع من بعدهم على أحد هذين القولين، فهذا الإجماع هل يرفع الخلاف المتقدم؟] اهـ. فما عبروا عنه أولًا بالاختلاف عبروا عنه ثانيًا بالخلاف فهما شيء واحد.
وفي "الدر المختار" للعلامة الحصكفي بـ"حاشية الإمام ابن عابدين" (5/ 403، ط. دار الفكر): [الأصل أن القضاء يصح في موضع الاختلاف لا الخلاف، والفرق أن للأول دليلًا لا الثاني،.. وعلَّق ابن عابدين عليه بقوله: [(قوله: والفرق... إلخ) هذه تفرقة عرفية، وإلا فقد قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ [البقرة: 213] ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: 4] ولا دليل لهم، والمراد: أنه خلاف لا دليل له بالنظر للمخالف، وإلا فالقائل اعتمد دليلًا] اهـ.
ومن العلماء مَن جعل بينهما فرقًا؛ يقول الإمام أبو البقاء الكفوي في كتابه "الكليات" (ص: 61، ط. مؤسسة الرسالة): [والاختلاف: هو أن يكون الطريق مختلفًا والمقصود واحدًا. والخلاف: هو أن يكون كلاهما مختلفًا. والاختلاف: ما يستند إلى دليل، والخلاف: ما لا يستند إلى دليل... فالاختلاف من آثار الرحمة والخلاف من آثار البدعة. ولو حكم القاضي بالخلاف ورُفِع لغيره يجوز فسخه بخلاف الاختلاف؛ فإن الخلاف هو ما وقع في محل لا يجوز فيه الاجتهاد، وهو ما كان مخالفًا للكتاب والسنة والإجماع] اهـ.
ويقول الإمام الراغب الأصفهاني في "المفردات في غريب القرآن" (ص: 294، ط. دار القلم): [والاختلاف والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقًا غير طريق الآخر في حاله أو قوله. والخلاف: أعم من الضد؛ لأن كل ضدين مختلفان وليس كل مختلفين ضدين] اهـ.
ومن الذين نقلوا الفرق بينهما في الاصطلاح العلامة التهانوي في "كشاف اصطلاحات الفنون" (1/ 116، ط. مكتبة لبنان) فقال: [قال بعض العلماء: إن الاختلاف يُستعمل في قولٍ بُني على دليل، والخلاف فيما لا دليل عليه... ويؤيده ما في غاية التحقيق منه أن القول المرجوح في مقابلة الراجح يقال له خلاف، لا اختلاف] اهـ.
والخلاف من الأحكام الكونية، فلا يزال الخلاف بين بني آدم من زمن نوح عليه السلام لم تسلم منه أمَّة من الأمم، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۞ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118-119].
يقول الإمام الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير" (12/ 190، ط. الدار التونسية، سنة 1984هـ): [لمَّا خلقهم على جِبِلة قاضية باختلاف الآراء والنزعات، وكان مريدًا لمقتضى تلك الجبلة وعالمًا به كان الاختلاف علة غائية لخلقهم] اهـ.
ومما كتبه الله تعالى على الأمة الإسلامية أنها ستفترق وتختلف كما اختلفت الأمم من قبلها؛ فقد روى أبو داود والترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَالنَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً».
والقضايا الفقهية الأصل في الخلاف فيها أن يكون رغبة في الوصول إلى الحق والالتزام به، فالحق ضالة المؤمن التي يَنْشُدها؛ قال تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ [يونس: 32].
يقول الإمام الحَجْوي في "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" (1/ 525، ط. دار الكتب العلمية) وهو يتكلم عن حالة الفقه الإسلامي في القرن الثاني: [وغاية ما كان ينشأ عن الخلاف أن يعتقد أن خصمه مخطئ في تلك المسألة بعينها لما قام عنده من الدليل على خطئه في ظنه، لا في كل المسائل، ويعتقد أنه معذور لما أدَّاه إليه دليله، لا نقص يلحقه في ذلك، ويعرفون لكل عَالمٍ حقه، ويقرون له بالفضل، ويحترمون فكره، فلم يكن الخلاف ضارًّا لهم ولا شائنًا، بل كان سعيًا وراء إظهار الحقيقة؛ فلذلك عددنا الفقه فيه شابًّا قويًّا] اهـ.
كما أن الحق يُتعرَّف عليه من مجموع الأدلة، ونتيجة لذلك فلم يكن الخلاف غاية في ذاته، بل كل واحد يطلب الحق بطرقه ووسائله، ويقع الخلاف لأي سبب من الأسباب، على أن غالب الأحكام الفقهية ثابتة عن طريق أدلة ظنية، والظنون قابلة للتعارض، ولما كان الواجب على الفقيه اتباع ما انتهى إليه ظنه فكان لا بد من وقوع الخلاف بناءً على إفادة الدليل للظنِّيَّة.
وينبغي أن نقرر أنَّ الاختلاف منحصر في الفروع الفقهية وبعض مسائل أصول الدين، مع الاتفاق الكامل على الأصول الدينية التي تمثل هوية الإسلام، وهو من حفظ الله تعالى وكفالته لهذا الدين إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، ولذا لم يقع اختلاف فيما هو قطعي الثبوت والدلالة؛ إذ إن أمر قبوله ضروري، كما أنَّ الخلاف في الفروع سعة، فلا تضيق الأمة بمذهب، فإن صَعُبَ عليها أحدها أو أوقعها في حرج لجأت إلى غيره، يقول الشيخ محمود شلتوت في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة" (ص: 550، ط. دار الشروق): [لقد كان في تقرير حق الاجتهاد الفردي والجماعي ما فتح لأهل البحث والاستنباط من علماء الشريعة الإسلامية أوسع الأبواب؛ لتخيُّر القانون الذي تنظم به شؤون المجتمعات الإسلامية على اختلاف ظروفها، غير مقيَّدين فيما يختارون إلا بشيء واحد وهو عدم المخالفة لأصل من أصول التشريع القطعية مع تحري وجوه المصلحة وسبيل العدل، وكان ذلك أساسًا لدوام الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل زمان ومكان] اهـ.
أضف إلى هذا حرص الفقهاء أن لا يكون خلافهم مظهرًا من مظاهر الهوى والعناد، كما أن إقرار فكرة التوسعة بتعدد الآراء والاجتهادات من قِبَل الأئمة سلفًا وخلفًا، أمر لا يحتاج إلى دليل ولا برهان، فلسان حالهم أصرح من مقالهم، ومن ذلك ما قام به الإمام عمر بن عبد العزيز إزاء تيار توحيد المذاهب وحمل الناس على اجتهاد واحد؛ فقد روي: "أن حميدًا الطويل قال لعمر بن عبد العزيز: لو جمعت الناس على شيء. فقال: ما يسرني أنهم لم يختلفوا. ثم كتب إلى الأمصار: ليقضِ كل قوم بما اجتمع عليه فقهاؤهم" أخرجه الدارمي في "سننه".
بل قد نقل واشتهر عن العلماء من السلف والخلف من حث المسلم على ترك مذهبه، أو رأيه في مسألة ما، إذا كانت هناك مصلحة هي أرجى وأنفع له ولغيره من المسلمين، ومن ذلك ما جاء في "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (22/ 407، ط. مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف) في أثناء كلامه عن البسملة، هل هي آية أول كل سورة أو لا؟ وهل يجهر بها أو لا؟ فبعد ذكره للأقوال في المسألة قال: [ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات؛ لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا] اهـ.
وقد وضع العلماء ضوابط للخلاف المعتبر، وعنى كثير من العلماء بذكر هذه الضوابط، وعنى غيرهم بالوقوف على أسباب خلافهم، فمنهم من حصرها في ستة؛ كابن رشد المالكي في مقدمته لكتابه "بداية المجتهد"، ومنهم من حصرها في ثمانية؛ كأبي محمد البَطَلْيوسي الأندلسي المالكي في كتابه "التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين"، ومنهم من أوصلها إلى ستة عشر سببًا؛ كابن جزي في كتابه "تقريب الوصول إلى علم الأصول".
وما كان لهذه الأسباب أن تفضي إلى نزاع بين أطرافها، أو تورث تعصبًا مذهبيًّا مفرِّقًا، فإن ذلك مظهر من مظاهر الجهل بالشريعة وقواعدها، وبسيرة الأئمة وأقوالهم، وما كان اختلافهم أيضًا ليخرجهم عن التزام الأدب في تناول تلك المسائل الخلافية، فعلى الجانب العملي نقلت إلينا كثيرٌ من المناظرات المليئة بأدب الخلاف حكتها لنا كتب التاريخ والتراجم، هذا إلى جانب القواعد التي أسَّسها الفقهاء في التعامل مع الخلاف من الأدب مع المخالف، ومراعاة الخلاف، وجواز تقليد المذهب الآخر، والانتقال من مذهب إلى مذهب.
ومن تلك القواعد: "عدم الإنكار في المختلف فيه"، ومعناه أن يعاتب الشخص آخر، أو ينهاه عن العمل برأيه؛ لأنه مخالف لما يراه، أو ينسب قوله إلى المُنْكَر مستخدمًا طرق الإنكار الثلاث المنصوص عليها في الحديث -اليد أو اللسان أو القلب- سبيلًا للتغيير، أو مجرد الاعتراض على عملٍ موافق لرأي مجتهد معتبر في تلك المسائل الخلافية.
والإنكار مصدر "نكر"؛ قال ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" (5/ 476، مادة: ن ك ر، ط. دار الفكر): [النون والكاف والراء: أصل صحيح يدل على خلاف المعرفة التي يسكن إليها القلب. ونكر الشيء وأنكره: لم يقبله قلبه ولم يعترف به لسانه] اهـ.
والمنكر في الأمر خلاف المعروف، وكل ما قبَّحه الشرع وحرَّمه وكرهه فهو منكر.
وفي "لسان العرب" لابن منظور (5/ 233، مادة: نكر، ط. دار صادر): [التنكر: التغير. والنكير اسم الإنكار الذي معناه التغيير] اهـ.
والإنكار ضد الإقرار الذي يراد به مطلق الاعتراف بالشيء وإثباته، ومن معاني الإنكار الجحود، والجهل بالشيء، والنهي. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (10/ 109، مادة: ن ك ر، ط. دار إحياء التراث العربي)، و"تاج العروس" (14/ 287، باب الراء فصل النون، ط. دار الهداية)، و"المصباح المنير" للفيومي (ص: 625، مادة: ن ك ر).
والمتتبع لمعاني الإنكار في استعمالات الفقهاء يجد أنها لا تخرج عن أحد معنيين لغويين، هما: التغيير والنهي، فقد ورد الإنكار في كلام الفقهاء بمعانٍ عدة يمكن ردها إلى ذلك المعنيين، فمن تلك المعاني الاعتراض، والمنع، وبيان ضعف القول، وعدم الإقرار على القول أو الفعل، وعيب المخالف والطعن عليه، واللوم والتعنيف، والوعظ، والأمر والنهي، والعقوبة. ويتفرع عن تلك المعاني معانٍ أخر وصورٌ شتى يجمعها معنى التغيير أو النهي.
وواضح من المعاني التي ذكرناها أننا نعني بعدم الإنكار أي على العمل، لا القول بالحُكْم، فالنزاع إنما هو في العمل خاصة، وبذلك تَخرُج المناظرات العلمية بين العلماء عما نحن فيه، فإنها -أي تلك المناظرات- لا تعدو أن تكون إنكارًا على القول بالحكم، مع علم كلَا المتناظرين أنه لا يُنْكِر كل منهما العمل بما يقول الطرف الآخر.
وما ذكرناه من أنه لا ينكر في مسائل الخلاف هو مذهب جمهور الفقهاء. يراجع في ذلك ما يلي: "عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد" للدهلوي (ص: 26، ط. المطبعة السلفية، القاهرة)، و"الفروق" للقرافي (4/ 257، ط. دار المعرفة، بيروت)، و"المنثور" للزركشي (3/ 364، ط. وزارة الأوقاف الكويتية)، و"الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 137، ط. دار الكتب العلمية)، و"الفوائد الجنية" للفاداني (2/ 333، ط. دار البشائر، بيروت)، و"الفروع" لابن مفلح (2/ 17، ط. عالم الكتب)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 479، ط. عالم الكتب).
وروي عن الإمام أحمد أنه يُنْكَر المختلف فيه. راجع: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/ 166، ط. مؤسسة قرطبة).
وفرَّق ابن تيمية وابن القيم بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد. انظر: "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (6/ 96، ط. دار الكتب العلمية)، و"إعلام الموقعين" لابن القيم (3/ 288، ط. دار الكتب العلمية).
وعند النظر والتحقيق تجاه هذه المسألة نجد أن الخلاف فيها لفظي، وتقرير ذلك أن المراد بمسائل الخلاف عند الجمهور تلك المسائل التي خفيت دلالتها، إما لعدم الإجماع عليها، أو لعدم ورود دليل فيها أصلًا، فكل مسألة لم يرد فيها نص، أو ورد فيها نص قاطع في ثبوته فقط تُعَدُّ خلافية.
وذلك يعني أن كلَّ نص قطعي الثبوت لا يعني رفع الخلاف في جهة دلالته، إلا إذا انعقد الإجماع على تعيين أحد المعاني المحتملة شأنه شأن قول الحاكم في رفع الخلاف.
وهذا الضابط ينطبق على بعض المسائل الكلامية وأكثر المسائل الفقهية؛ وذلك لأن من المعلوم أن أهل الاجتهاد لا يُؤثر عنهم اختلاف معتبر في المسائل المنصوص عليها نصًّا قطعيًّا ثبوتًا ودلالة، وإنما كان اختلافهم ولا يزال حول المسائل غير المنصوص عليها مطلقًا، والمسائل المنصوص عليها نصًّا ظنيًّا ثبوتًا ودلالة، أو نصًّا ظنيًّا ثبوتًا دون الدلالة أو العكس.
وقيَّد الجمهورُ الخلافَ بالمعتبر، وهو الخلاف الذي له حظ من النظر، أي: من الدليل، فلا يلتفت إلى قول في مسألة ليس عليه دليل، أو عليه دليل ليس بقوي؛ ولذلك وضع العلماء شروطًا لجعل الخلاف معتبرًا، وما إن اندرج تحت هذه الشروط اعتُبر وصح القول بمراعاته، و هذه الشروط:
الأول: أن يكون مأخذ الخلاف قويًّا، فإذا كان ضعيفًا فلا يؤبه به.
يقول العلامة الدردير في "الشرح الكبير" (4/ 156، ط. دار إحياء الكتب العربية)، وهو يتحدث عمَّا يُنْقض من الأحكام وما لا يُنْقض: [ولا يجوز لمفتٍ علم بحكمه -أي: بحكم القاضي- أن يفتي بخلافه، وهذا في الخلاف المعتبر بين العلماء، وأما ما ضعف مُدْرَكه بأن خالف نصًّا أو جلي قياس أو إجماعًا فينقض] اهـ.
وقد عبَّر عن الشرط الإمامُ السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 137) -وانظر: "الموافقات" للشاطبي (4/ 172، ط. دار المعرفة، بيروت)- فقال: ["أن يقوى مُدْرَكه بحيث لا يعد هفوة"، ثم مثَّل لخلافٍ ضعف مُدْرَكه قائلًا: "ومن ثَمَّ كان الصوم في السفر أفضل لمن قوي عليه"، ولم يبال بقول داود: إنه لا يصح. وقد قال إمام الحرمين في هذه المسألة: إن المحققين لا يقيمون لخلاف أهل الظاهر وزنًا] اهـ.
الثاني: أن لا تؤدي مراعاة الخلاف إلى ترك سنة ثابتة، أو خرق إجماع، وتوقع في خلاف آخر، فنحتاج إلى الخروج منه فيلزم الدور، ومثاله: فَصْل الوتر أفضل من وصله، ولم يراع خلاف أبي حنيفة؛ لأن من العلماء من لا يجيز الوصل.
الثالث: أن يكون المخالِف من العلماء المعتبرين، وفي ذلك يقول الشيخ محمد حسنين مخلوف في كتابه "بلوغ السول في مدخل علم الأصول" (ص: 15، ط. مصطفى الحلبي): [وقد اعتبر الأصوليون وغيرهم أقوال المجتهدين في حق المقلدين القاصرين كالأدلة الشرعية في حق المجتهدين، لا لأن أقوالهم لذاتها حجة على الناس تثبت بها الأحكام الشرعية كأقوال الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن ذلك لا يقول به أحد؛ بل لأنها مستندة إلى مآخذ شرعية بذلوا جهدهم في استقرائها وتمحيص دلائلها مع عدالتهم وسعة اطلاعهم واستقامة أفهامهم وعنايتهم بضبط الشريعة وحفظ نصوصها، ولذلك شرطوا في المستثمر للأدلة المستنبط للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية -لكونها ظنية لا تنتج إلا ظنًّا- أن يكون ذا تأهل خاص، وقوة خاصة، وملكة قوية يتمكن بها من تمحيص الأدلة على وجه يجعل ظنونه بمثابة العلم القطعي صونًا لأحكام الدين عن الخطأ بقدر المستطاع] اهـ.
وتأسيسًا على ما سبق: فالخلاف على قسمين:
الأول: ظاهر جلي يستند إلى أدلة وقواعد، وينبني على أصول الاجتهاد ومدارك الأحكام، وهو الخلاف المعتد به، وهذا هو المراد من قولهم: "لا إنكار في مسائل الخلاف"، وأفراد هذا القِسْم كثير، وفي ذلك يقول الشاطبي في "الموافقات" (1/ 105): [والخلاف المعتد به موجود في أكثر مسائل الشريعة، والخلاف الذي لا يعتد به قليل] اهـ.
ويتخرج عليه كثير من المسائل المختلف فيها قديمًا وحديثًا؛ منها: التزوج بغير ولي، وأكل متروك التسمية بعد الذبح، وحلق اللحية، وإيداع الأموال في البنوك التقليدية، والتأمين بصوره المعاصرة... إلخ.
الثاني: ما ضعف مُدْرَكه، وحاد عن مسلك الاستدلال قائلُه، فهذا يُرَدُّ على صاحبه ويُنْكَر على قائله، وهذا القِسْم يحمل بين طياته الوقائع التي فيها ردُّ الأئمة بعضهم على بعض، وإنكارهم شاذ الأقوال.
وقد استثنى الجمهور من عدم الإنكار في المسائل الخلافية أمورًا:
منها: ضعف المدرك، وقد مرَّ.
ومنها: حكم الحاكم، فإذا اختُلِف في شيء بين حلِّه وحرمته، ورفع الأمر إلى الحاكم فإن عليه أن يفتي بما يعتقده، وحكمه يرفع الخلاف.
ومنها: أن يكون للمُنْكِر حق في المختلَف فيه، فللزوج أن يمنع زوجته من شرب يسير النبيذ إذا كانت تعتقد إباحته.
ومنها: أن يعتقد الفاعل الحرمة ويقدم على الفعل؛ وذلك لانتهاكه الحرمة من جهة اعتقاده، لا إن كان يعتقد التحليل.
واستدل الجمهور على أنه لا ينكر في المسائل الخلافية بأنه ليس أحد القولين بأولى من الآخر؛ وذلك لأن المسائل الفقهية لا تعدو أن تكون من قبيل الظنيات، والظنون قابلة للتعارض، ولا ترجيح بين ظن وآخر.
وبأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه ولا إثم على المخطئ، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو محبوب.
يقول الإمام الجَرْهَزي في "المواهب السنية" (2/ 333، ط. دار البشائر): [(قالوا وليس ينكر المختلف فيه) هذه قاعدة عظيمة متفرعة على أصل عظيم؛ لأن نسبته إلى المحرِّم ليس بأولى من نسبته إلى المحلِّل] اهـ.
قال الشيخ الفاداني محشيًا: [(لأن نسبته) أي: الشيء المختلَف فيه (إلى المحرِّم) أي: إلى المجتهد الذي قال بحرمته كالشافعي الذي حرَّم النبيذ مثلًا (من نسبته) أي: المختلَف فيه (إلى المحلِّل) أي: المجتهد الذي قال بحلِّه كأبي حنيفة الذي حلَّل النبيذ مثلًا] اهـ.
ويقول الشيخ زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (4/ 180)، بــ"حاشية الرملي الكبير"، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(ولا ينكر) العالِم (إلا مجمعًا عليه) أي: على إنكاره، لا ما اختلف فيه إلا أن يرى الفاعل تحريمه؛ لأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه ولا إثم على المخطئ] اهـ.
هذا وقد روي عن الإمام أحمد أنه يُنْكر المختلَف فيه على المقلِّد ولا يُنْكر على المجتهِد -انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/ 166)-، وقد تكون هذه الرواية مقيِّدة للتي سبقت، على أن الرواية السابقة -والتي فيها جواز الإنكار في المختلَف فيه- حملها ابن مفلح على إنكار القول المخالف للدليل القوي أو خبر الواحد، وحملها ابن رجب على غير ذلك في "جامع العلوم والحكم" (ص: 325، ط. دار الكتاب الإسلامي) فقال: [والمنصوص عن أحمد الإنكار على الملاعب بالشطرنج، وتأوله القاضي على من لعب بها بغير اجتهاد أو تقليد سائغ، وفيه نظر؛ فإن المنصوص عنه أنه يحد شارب النبيذ المختلَف فيه وإقامة الحد أبلغ مراتب الإنكار، مع أنه لا يفسق عنده بذلك، فدل على أنه يُنْكر كل مختلف فيه ضعف الخلاف فيه لدلالة السنة على تحريمه، ولا يخرج فاعله المتأول من العدالة بذلك] اهـ.
أما تفريق ابن تيمية وابن القيم والشوكاني ومن وافقهم بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد؛ فيقول ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (6/ 96): [وقولهم مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل، أما الأول -وهو القول بالحكم-، فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعًا قديمًا وجب إنكاره وفاقًا، وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء، وأما العمل: فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضًا بحسب درجات الإنكار، وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة وإن كان قد اتبع بعض العلماء. وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم ينكر على من عمل بها مجتهدًا أو مقلدًا، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس، والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبًا ظاهرًا؛ مثل حديث صحيح لا معارض من جنسه فيسوغ له إذا عدم ذلك فيها الاجتهادَ لتعارض الأدلة المتقاربة. أو لخفاء الأدلة فيها، وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها] اهـ.
وبنحو ذلك قال ابن القيم، وقال أيضًا في "إعلام الموقعين" (3/ 288) في معرض الاستدلال على ما ذهب إليه: [وكيف يقول فقيه لا إنكار في المسائل المختلف فيها والفقهاء من سائر الطوائف قد صرَّحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتابًا أو سنة] اهـ.
ومكمن التفرقة عند ابن تيمية وابن القيم بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد هو أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها نص من كتاب أو سنة أو إجماع، ومسائل الخلاف بالعكس، وأنه يُنْكَر على المخالف في الثانية دون الأولى، وبمعنى آخر: فالمسائل الاجتهادية تلك التي يكون الخلاف فيها قويًّا معتبرًا له حظٌ من النظر.
فالفريقان متفقان على أن المسائل التي فيها نص أو إجماع -أي ما هو قطعي- فإن ينكر على المخالف فيها وكلاهما يسمياها مسائل خلاف، أما المسائل المختلف فيها وليس فيها دليل قطعي فمتفقان أيضًا على عدم الإنكار على المخالف فيها وإن كان يسميها الجمهور مسائل خلاف كالأولى، ويسميها ابن تيمية وابن القيم مسائل اجتهاد، وكلا الاصطلاحين صحيح، فهي مسائل خلاف لكونها ليس مجمعًا عليها، ومسائل اجتهاد أي يجوز الاجتهاد فيها بكونها محلًا للاجتهاد.
ثم إن كل مسألة من مسائل الخلاف تُعَدُّ في حقيقتها من مسائل الاجتهاد شريطة كون الخلاف معتبرًا -على ما مرَّ تقريره- أما إذا لم يكن الخلاف كذلك فإنها لا تعد من مسائل الاجتهاد، فالعبرة بكون المسألة خلافية كون الخلاف فيها معتبرًا، وإن كان ثمَّ تفرقة فلتكن بين مسائل الاجتهاد ومسائل الخلاف غير المعتبر.
على أن قول ابن تيمية السابق: [وإن لم يكن كذلك فإنه يُنْكَر بمعنى بيان ضعفه -أي من جهة القول بالحكم- عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء] اهـ. خارج محل النزاع، فالنزاع إنما هو في العمل خاصة كما سبق.
وبناء على ما سبق: فإن مسائل الخلاف التي لا ينكر فيها على المخالف لا تشمل كل ما وقع فيه خلافٌ؛ لأن منه ما يكون ضعيف المدرك، أو شاذًّا، أو مما اعتبر من زلَّات العلماء، وما كان كذلك فهو مردودٌ، أما أذا أريد بمسائل الخلاف تلك التي يكون الخلاف فيها معتبرًا بشروطه المذكورة فلا إنكار فيها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

الاختلاف في اللغة: مصدر "اختلف" وهو ضد الاتفاق، والخِلاف: المُضادة، وهو مصدر "خَلَفَ"، وقد خالفهُ مخالفةً وخِلافًا، وتخالف القوم واختلفوا إذا ذَهَبَ كلُّ واحد إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر وهو ضد الاتفاق، وتخالف الأمران واختلفا لم يتفقا، وكل ما لم يتساو فقد تخالف واختلف. انظر: "المحكم" لابن سيده (5/ 200، مادة: خ ل ف، ط. دار الكتب العلمية)، و"المصباح المنير" للفيومي (ص: 179، مادة: خ ل ف، ط. المكتبة العلمية).
والخلاف والاختلاف معناهما واحد، سواء أكان في اللغة أم في الاصطلاح، ويظهر ذلك في كلام بعض العلماء من اللغويين والأصوليين والفقهاء، فهم يستعملون أحيانًا اللفظين بمعنى واحد، فكل أمرين خالف أحدهما الآخر خلافًا، فقد اختلفا اختلافًا، ومن ذلك قول الفقهاء من الحنفية في "الفتاوى الهندية" (3/ 312، ط. دار الفكر): [إن اختلف المتقدِّمون على قولين، ثم أجمع من بعدهم على أحد هذين القولين، فهذا الإجماع هل يرفع الخلاف المتقدم؟] اهـ. فما عبروا عنه أولًا بالاختلاف عبروا عنه ثانيًا بالخلاف فهما شيء واحد.
وفي "الدر المختار" للعلامة الحصكفي بـ"حاشية الإمام ابن عابدين" (5/ 403، ط. دار الفكر): [الأصل أن القضاء يصح في موضع الاختلاف لا الخلاف، والفرق أن للأول دليلًا لا الثاني،.. وعلَّق ابن عابدين عليه بقوله: [(قوله: والفرق... إلخ) هذه تفرقة عرفية، وإلا فقد قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ [البقرة: 213] ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: 4] ولا دليل لهم، والمراد: أنه خلاف لا دليل له بالنظر للمخالف، وإلا فالقائل اعتمد دليلًا] اهـ.
ومن العلماء مَن جعل بينهما فرقًا؛ يقول الإمام أبو البقاء الكفوي في كتابه "الكليات" (ص: 61، ط. مؤسسة الرسالة): [والاختلاف: هو أن يكون الطريق مختلفًا والمقصود واحدًا. والخلاف: هو أن يكون كلاهما مختلفًا. والاختلاف: ما يستند إلى دليل، والخلاف: ما لا يستند إلى دليل... فالاختلاف من آثار الرحمة والخلاف من آثار البدعة. ولو حكم القاضي بالخلاف ورُفِع لغيره يجوز فسخه بخلاف الاختلاف؛ فإن الخلاف هو ما وقع في محل لا يجوز فيه الاجتهاد، وهو ما كان مخالفًا للكتاب والسنة والإجماع] اهـ.
ويقول الإمام الراغب الأصفهاني في "المفردات في غريب القرآن" (ص: 294، ط. دار القلم): [والاختلاف والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقًا غير طريق الآخر في حاله أو قوله. والخلاف: أعم من الضد؛ لأن كل ضدين مختلفان وليس كل مختلفين ضدين] اهـ.
ومن الذين نقلوا الفرق بينهما في الاصطلاح العلامة التهانوي في "كشاف اصطلاحات الفنون" (1/ 116، ط. مكتبة لبنان) فقال: [قال بعض العلماء: إن الاختلاف يُستعمل في قولٍ بُني على دليل، والخلاف فيما لا دليل عليه... ويؤيده ما في غاية التحقيق منه أن القول المرجوح في مقابلة الراجح يقال له خلاف، لا اختلاف] اهـ.
والخلاف من الأحكام الكونية، فلا يزال الخلاف بين بني آدم من زمن نوح عليه السلام لم تسلم منه أمَّة من الأمم، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۞ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118-119].
يقول الإمام الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير" (12/ 190، ط. الدار التونسية، سنة 1984هـ): [لمَّا خلقهم على جِبِلة قاضية باختلاف الآراء والنزعات، وكان مريدًا لمقتضى تلك الجبلة وعالمًا به كان الاختلاف علة غائية لخلقهم] اهـ.
ومما كتبه الله تعالى على الأمة الإسلامية أنها ستفترق وتختلف كما اختلفت الأمم من قبلها؛ فقد روى أبو داود والترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَالنَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً».
والقضايا الفقهية الأصل في الخلاف فيها أن يكون رغبة في الوصول إلى الحق والالتزام به، فالحق ضالة المؤمن التي يَنْشُدها؛ قال تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ [يونس: 32].
يقول الإمام الحَجْوي في "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" (1/ 525، ط. دار الكتب العلمية) وهو يتكلم عن حالة الفقه الإسلامي في القرن الثاني: [وغاية ما كان ينشأ عن الخلاف أن يعتقد أن خصمه مخطئ في تلك المسألة بعينها لما قام عنده من الدليل على خطئه في ظنه، لا في كل المسائل، ويعتقد أنه معذور لما أدَّاه إليه دليله، لا نقص يلحقه في ذلك، ويعرفون لكل عَالمٍ حقه، ويقرون له بالفضل، ويحترمون فكره، فلم يكن الخلاف ضارًّا لهم ولا شائنًا، بل كان سعيًا وراء إظهار الحقيقة؛ فلذلك عددنا الفقه فيه شابًّا قويًّا] اهـ.
كما أن الحق يُتعرَّف عليه من مجموع الأدلة، ونتيجة لذلك فلم يكن الخلاف غاية في ذاته، بل كل واحد يطلب الحق بطرقه ووسائله، ويقع الخلاف لأي سبب من الأسباب، على أن غالب الأحكام الفقهية ثابتة عن طريق أدلة ظنية، والظنون قابلة للتعارض، ولما كان الواجب على الفقيه اتباع ما انتهى إليه ظنه فكان لا بد من وقوع الخلاف بناءً على إفادة الدليل للظنِّيَّة.
وينبغي أن نقرر أنَّ الاختلاف منحصر في الفروع الفقهية وبعض مسائل أصول الدين، مع الاتفاق الكامل على الأصول الدينية التي تمثل هوية الإسلام، وهو من حفظ الله تعالى وكفالته لهذا الدين إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، ولذا لم يقع اختلاف فيما هو قطعي الثبوت والدلالة؛ إذ إن أمر قبوله ضروري، كما أنَّ الخلاف في الفروع سعة، فلا تضيق الأمة بمذهب، فإن صَعُبَ عليها أحدها أو أوقعها في حرج لجأت إلى غيره، يقول الشيخ محمود شلتوت في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة" (ص: 550، ط. دار الشروق): [لقد كان في تقرير حق الاجتهاد الفردي والجماعي ما فتح لأهل البحث والاستنباط من علماء الشريعة الإسلامية أوسع الأبواب؛ لتخيُّر القانون الذي تنظم به شؤون المجتمعات الإسلامية على اختلاف ظروفها، غير مقيَّدين فيما يختارون إلا بشيء واحد وهو عدم المخالفة لأصل من أصول التشريع القطعية مع تحري وجوه المصلحة وسبيل العدل، وكان ذلك أساسًا لدوام الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل زمان ومكان] اهـ.
أضف إلى هذا حرص الفقهاء أن لا يكون خلافهم مظهرًا من مظاهر الهوى والعناد، كما أن إقرار فكرة التوسعة بتعدد الآراء والاجتهادات من قِبَل الأئمة سلفًا وخلفًا، أمر لا يحتاج إلى دليل ولا برهان، فلسان حالهم أصرح من مقالهم، ومن ذلك ما قام به الإمام عمر بن عبد العزيز إزاء تيار توحيد المذاهب وحمل الناس على اجتهاد واحد؛ فقد روي: "أن حميدًا الطويل قال لعمر بن عبد العزيز: لو جمعت الناس على شيء. فقال: ما يسرني أنهم لم يختلفوا. ثم كتب إلى الأمصار: ليقضِ كل قوم بما اجتمع عليه فقهاؤهم" أخرجه الدارمي في "سننه".
بل قد نقل واشتهر عن العلماء من السلف والخلف من حث المسلم على ترك مذهبه، أو رأيه في مسألة ما، إذا كانت هناك مصلحة هي أرجى وأنفع له ولغيره من المسلمين، ومن ذلك ما جاء في "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (22/ 407، ط. مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف) في أثناء كلامه عن البسملة، هل هي آية أول كل سورة أو لا؟ وهل يجهر بها أو لا؟ فبعد ذكره للأقوال في المسألة قال: [ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات؛ لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا] اهـ.
وقد وضع العلماء ضوابط للخلاف المعتبر، وعنى كثير من العلماء بذكر هذه الضوابط، وعنى غيرهم بالوقوف على أسباب خلافهم، فمنهم من حصرها في ستة؛ كابن رشد المالكي في مقدمته لكتابه "بداية المجتهد"، ومنهم من حصرها في ثمانية؛ كأبي محمد البَطَلْيوسي الأندلسي المالكي في كتابه "التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين"، ومنهم من أوصلها إلى ستة عشر سببًا؛ كابن جزي في كتابه "تقريب الوصول إلى علم الأصول".
وما كان لهذه الأسباب أن تفضي إلى نزاع بين أطرافها، أو تورث تعصبًا مذهبيًّا مفرِّقًا، فإن ذلك مظهر من مظاهر الجهل بالشريعة وقواعدها، وبسيرة الأئمة وأقوالهم، وما كان اختلافهم أيضًا ليخرجهم عن التزام الأدب في تناول تلك المسائل الخلافية، فعلى الجانب العملي نقلت إلينا كثيرٌ من المناظرات المليئة بأدب الخلاف حكتها لنا كتب التاريخ والتراجم، هذا إلى جانب القواعد التي أسَّسها الفقهاء في التعامل مع الخلاف من الأدب مع المخالف، ومراعاة الخلاف، وجواز تقليد المذهب الآخر، والانتقال من مذهب إلى مذهب.
ومن تلك القواعد: "عدم الإنكار في المختلف فيه"، ومعناه أن يعاتب الشخص آخر، أو ينهاه عن العمل برأيه؛ لأنه مخالف لما يراه، أو ينسب قوله إلى المُنْكَر مستخدمًا طرق الإنكار الثلاث المنصوص عليها في الحديث -اليد أو اللسان أو القلب- سبيلًا للتغيير، أو مجرد الاعتراض على عملٍ موافق لرأي مجتهد معتبر في تلك المسائل الخلافية.
والإنكار مصدر "نكر"؛ قال ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" (5/ 476، مادة: ن ك ر، ط. دار الفكر): [النون والكاف والراء: أصل صحيح يدل على خلاف المعرفة التي يسكن إليها القلب. ونكر الشيء وأنكره: لم يقبله قلبه ولم يعترف به لسانه] اهـ.
والمنكر في الأمر خلاف المعروف، وكل ما قبَّحه الشرع وحرَّمه وكرهه فهو منكر.
وفي "لسان العرب" لابن منظور (5/ 233، مادة: نكر، ط. دار صادر): [التنكر: التغير. والنكير اسم الإنكار الذي معناه التغيير] اهـ.
والإنكار ضد الإقرار الذي يراد به مطلق الاعتراف بالشيء وإثباته، ومن معاني الإنكار الجحود، والجهل بالشيء، والنهي. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (10/ 109، مادة: ن ك ر، ط. دار إحياء التراث العربي)، و"تاج العروس" (14/ 287، باب الراء فصل النون، ط. دار الهداية)، و"المصباح المنير" للفيومي (ص: 625، مادة: ن ك ر).
والمتتبع لمعاني الإنكار في استعمالات الفقهاء يجد أنها لا تخرج عن أحد معنيين لغويين، هما: التغيير والنهي، فقد ورد الإنكار في كلام الفقهاء بمعانٍ عدة يمكن ردها إلى ذلك المعنيين، فمن تلك المعاني الاعتراض، والمنع، وبيان ضعف القول، وعدم الإقرار على القول أو الفعل، وعيب المخالف والطعن عليه، واللوم والتعنيف، والوعظ، والأمر والنهي، والعقوبة. ويتفرع عن تلك المعاني معانٍ أخر وصورٌ شتى يجمعها معنى التغيير أو النهي.
وواضح من المعاني التي ذكرناها أننا نعني بعدم الإنكار أي على العمل، لا القول بالحُكْم، فالنزاع إنما هو في العمل خاصة، وبذلك تَخرُج المناظرات العلمية بين العلماء عما نحن فيه، فإنها -أي تلك المناظرات- لا تعدو أن تكون إنكارًا على القول بالحكم، مع علم كلَا المتناظرين أنه لا يُنْكِر كل منهما العمل بما يقول الطرف الآخر.
وما ذكرناه من أنه لا ينكر في مسائل الخلاف هو مذهب جمهور الفقهاء. يراجع في ذلك ما يلي: "عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد" للدهلوي (ص: 26، ط. المطبعة السلفية، القاهرة)، و"الفروق" للقرافي (4/ 257، ط. دار المعرفة، بيروت)، و"المنثور" للزركشي (3/ 364، ط. وزارة الأوقاف الكويتية)، و"الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 137، ط. دار الكتب العلمية)، و"الفوائد الجنية" للفاداني (2/ 333، ط. دار البشائر، بيروت)، و"الفروع" لابن مفلح (2/ 17، ط. عالم الكتب)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 479، ط. عالم الكتب).
وروي عن الإمام أحمد أنه يُنْكَر المختلف فيه. راجع: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/ 166، ط. مؤسسة قرطبة).
وفرَّق ابن تيمية وابن القيم بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد. انظر: "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (6/ 96، ط. دار الكتب العلمية)، و"إعلام الموقعين" لابن القيم (3/ 288، ط. دار الكتب العلمية).
وعند النظر والتحقيق تجاه هذه المسألة نجد أن الخلاف فيها لفظي، وتقرير ذلك أن المراد بمسائل الخلاف عند الجمهور تلك المسائل التي خفيت دلالتها، إما لعدم الإجماع عليها، أو لعدم ورود دليل فيها أصلًا، فكل مسألة لم يرد فيها نص، أو ورد فيها نص قاطع في ثبوته فقط تُعَدُّ خلافية.
وذلك يعني أن كلَّ نص قطعي الثبوت لا يعني رفع الخلاف في جهة دلالته، إلا إذا انعقد الإجماع على تعيين أحد المعاني المحتملة شأنه شأن قول الحاكم في رفع الخلاف.
وهذا الضابط ينطبق على بعض المسائل الكلامية وأكثر المسائل الفقهية؛ وذلك لأن من المعلوم أن أهل الاجتهاد لا يُؤثر عنهم اختلاف معتبر في المسائل المنصوص عليها نصًّا قطعيًّا ثبوتًا ودلالة، وإنما كان اختلافهم ولا يزال حول المسائل غير المنصوص عليها مطلقًا، والمسائل المنصوص عليها نصًّا ظنيًّا ثبوتًا ودلالة، أو نصًّا ظنيًّا ثبوتًا دون الدلالة أو العكس.
وقيَّد الجمهورُ الخلافَ بالمعتبر، وهو الخلاف الذي له حظ من النظر، أي: من الدليل، فلا يلتفت إلى قول في مسألة ليس عليه دليل، أو عليه دليل ليس بقوي؛ ولذلك وضع العلماء شروطًا لجعل الخلاف معتبرًا، وما إن اندرج تحت هذه الشروط اعتُبر وصح القول بمراعاته، و هذه الشروط:
الأول: أن يكون مأخذ الخلاف قويًّا، فإذا كان ضعيفًا فلا يؤبه به.
يقول العلامة الدردير في "الشرح الكبير" (4/ 156، ط. دار إحياء الكتب العربية)، وهو يتحدث عمَّا يُنْقض من الأحكام وما لا يُنْقض: [ولا يجوز لمفتٍ علم بحكمه -أي: بحكم القاضي- أن يفتي بخلافه، وهذا في الخلاف المعتبر بين العلماء، وأما ما ضعف مُدْرَكه بأن خالف نصًّا أو جلي قياس أو إجماعًا فينقض] اهـ.
وقد عبَّر عن الشرط الإمامُ السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 137) -وانظر: "الموافقات" للشاطبي (4/ 172، ط. دار المعرفة، بيروت)- فقال: ["أن يقوى مُدْرَكه بحيث لا يعد هفوة"، ثم مثَّل لخلافٍ ضعف مُدْرَكه قائلًا: "ومن ثَمَّ كان الصوم في السفر أفضل لمن قوي عليه"، ولم يبال بقول داود: إنه لا يصح. وقد قال إمام الحرمين في هذه المسألة: إن المحققين لا يقيمون لخلاف أهل الظاهر وزنًا] اهـ.
الثاني: أن لا تؤدي مراعاة الخلاف إلى ترك سنة ثابتة، أو خرق إجماع، وتوقع في خلاف آخر، فنحتاج إلى الخروج منه فيلزم الدور، ومثاله: فَصْل الوتر أفضل من وصله، ولم يراع خلاف أبي حنيفة؛ لأن من العلماء من لا يجيز الوصل.
الثالث: أن يكون المخالِف من العلماء المعتبرين، وفي ذلك يقول الشيخ محمد حسنين مخلوف في كتابه "بلوغ السول في مدخل علم الأصول" (ص: 15، ط. مصطفى الحلبي): [وقد اعتبر الأصوليون وغيرهم أقوال المجتهدين في حق المقلدين القاصرين كالأدلة الشرعية في حق المجتهدين، لا لأن أقوالهم لذاتها حجة على الناس تثبت بها الأحكام الشرعية كأقوال الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن ذلك لا يقول به أحد؛ بل لأنها مستندة إلى مآخذ شرعية بذلوا جهدهم في استقرائها وتمحيص دلائلها مع عدالتهم وسعة اطلاعهم واستقامة أفهامهم وعنايتهم بضبط الشريعة وحفظ نصوصها، ولذلك شرطوا في المستثمر للأدلة المستنبط للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية -لكونها ظنية لا تنتج إلا ظنًّا- أن يكون ذا تأهل خاص، وقوة خاصة، وملكة قوية يتمكن بها من تمحيص الأدلة على وجه يجعل ظنونه بمثابة العلم القطعي صونًا لأحكام الدين عن الخطأ بقدر المستطاع] اهـ.
وتأسيسًا على ما سبق: فالخلاف على قسمين:
الأول: ظاهر جلي يستند إلى أدلة وقواعد، وينبني على أصول الاجتهاد ومدارك الأحكام، وهو الخلاف المعتد به، وهذا هو المراد من قولهم: "لا إنكار في مسائل الخلاف"، وأفراد هذا القِسْم كثير، وفي ذلك يقول الشاطبي في "الموافقات" (1/ 105): [والخلاف المعتد به موجود في أكثر مسائل الشريعة، والخلاف الذي لا يعتد به قليل] اهـ.
ويتخرج عليه كثير من المسائل المختلف فيها قديمًا وحديثًا؛ منها: التزوج بغير ولي، وأكل متروك التسمية بعد الذبح، وحلق اللحية، وإيداع الأموال في البنوك التقليدية، والتأمين بصوره المعاصرة... إلخ.
الثاني: ما ضعف مُدْرَكه، وحاد عن مسلك الاستدلال قائلُه، فهذا يُرَدُّ على صاحبه ويُنْكَر على قائله، وهذا القِسْم يحمل بين طياته الوقائع التي فيها ردُّ الأئمة بعضهم على بعض، وإنكارهم شاذ الأقوال.
وقد استثنى الجمهور من عدم الإنكار في المسائل الخلافية أمورًا:
منها: ضعف المدرك، وقد مرَّ.
ومنها: حكم الحاكم، فإذا اختُلِف في شيء بين حلِّه وحرمته، ورفع الأمر إلى الحاكم فإن عليه أن يفتي بما يعتقده، وحكمه يرفع الخلاف.
ومنها: أن يكون للمُنْكِر حق في المختلَف فيه، فللزوج أن يمنع زوجته من شرب يسير النبيذ إذا كانت تعتقد إباحته.
ومنها: أن يعتقد الفاعل الحرمة ويقدم على الفعل؛ وذلك لانتهاكه الحرمة من جهة اعتقاده، لا إن كان يعتقد التحليل.
واستدل الجمهور على أنه لا ينكر في المسائل الخلافية بأنه ليس أحد القولين بأولى من الآخر؛ وذلك لأن المسائل الفقهية لا تعدو أن تكون من قبيل الظنيات، والظنون قابلة للتعارض، ولا ترجيح بين ظن وآخر.
وبأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه ولا إثم على المخطئ، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو محبوب.
يقول الإمام الجَرْهَزي في "المواهب السنية" (2/ 333، ط. دار البشائر): [(قالوا وليس ينكر المختلف فيه) هذه قاعدة عظيمة متفرعة على أصل عظيم؛ لأن نسبته إلى المحرِّم ليس بأولى من نسبته إلى المحلِّل] اهـ.
قال الشيخ الفاداني محشيًا: [(لأن نسبته) أي: الشيء المختلَف فيه (إلى المحرِّم) أي: إلى المجتهد الذي قال بحرمته كالشافعي الذي حرَّم النبيذ مثلًا (من نسبته) أي: المختلَف فيه (إلى المحلِّل) أي: المجتهد الذي قال بحلِّه كأبي حنيفة الذي حلَّل النبيذ مثلًا] اهـ.
ويقول الشيخ زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (4/ 180)، بــ"حاشية الرملي الكبير"، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(ولا ينكر) العالِم (إلا مجمعًا عليه) أي: على إنكاره، لا ما اختلف فيه إلا أن يرى الفاعل تحريمه؛ لأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه ولا إثم على المخطئ] اهـ.
هذا وقد روي عن الإمام أحمد أنه يُنْكر المختلَف فيه على المقلِّد ولا يُنْكر على المجتهِد -انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/ 166)-، وقد تكون هذه الرواية مقيِّدة للتي سبقت، على أن الرواية السابقة -والتي فيها جواز الإنكار في المختلَف فيه- حملها ابن مفلح على إنكار القول المخالف للدليل القوي أو خبر الواحد، وحملها ابن رجب على غير ذلك في "جامع العلوم والحكم" (ص: 325، ط. دار الكتاب الإسلامي) فقال: [والمنصوص عن أحمد الإنكار على الملاعب بالشطرنج، وتأوله القاضي على من لعب بها بغير اجتهاد أو تقليد سائغ، وفيه نظر؛ فإن المنصوص عنه أنه يحد شارب النبيذ المختلَف فيه وإقامة الحد أبلغ مراتب الإنكار، مع أنه لا يفسق عنده بذلك، فدل على أنه يُنْكر كل مختلف فيه ضعف الخلاف فيه لدلالة السنة على تحريمه، ولا يخرج فاعله المتأول من العدالة بذلك] اهـ.
أما تفريق ابن تيمية وابن القيم والشوكاني ومن وافقهم بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد؛ فيقول ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (6/ 96): [وقولهم مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل، أما الأول -وهو القول بالحكم-، فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعًا قديمًا وجب إنكاره وفاقًا، وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء، وأما العمل: فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضًا بحسب درجات الإنكار، وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة وإن كان قد اتبع بعض العلماء. وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم ينكر على من عمل بها مجتهدًا أو مقلدًا، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس، والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبًا ظاهرًا؛ مثل حديث صحيح لا معارض من جنسه فيسوغ له إذا عدم ذلك فيها الاجتهادَ لتعارض الأدلة المتقاربة. أو لخفاء الأدلة فيها، وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها] اهـ.
وبنحو ذلك قال ابن القيم، وقال أيضًا في "إعلام الموقعين" (3/ 288) في معرض الاستدلال على ما ذهب إليه: [وكيف يقول فقيه لا إنكار في المسائل المختلف فيها والفقهاء من سائر الطوائف قد صرَّحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتابًا أو سنة] اهـ.
ومكمن التفرقة عند ابن تيمية وابن القيم بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد هو أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها نص من كتاب أو سنة أو إجماع، ومسائل الخلاف بالعكس، وأنه يُنْكَر على المخالف في الثانية دون الأولى، وبمعنى آخر: فالمسائل الاجتهادية تلك التي يكون الخلاف فيها قويًّا معتبرًا له حظٌ من النظر.
فالفريقان متفقان على أن المسائل التي فيها نص أو إجماع -أي ما هو قطعي- فإن ينكر على المخالف فيها وكلاهما يسمياها مسائل خلاف، أما المسائل المختلف فيها وليس فيها دليل قطعي فمتفقان أيضًا على عدم الإنكار على المخالف فيها وإن كان يسميها الجمهور مسائل خلاف كالأولى، ويسميها ابن تيمية وابن القيم مسائل اجتهاد، وكلا الاصطلاحين صحيح، فهي مسائل خلاف لكونها ليس مجمعًا عليها، ومسائل اجتهاد أي يجوز الاجتهاد فيها بكونها محلًا للاجتهاد.
ثم إن كل مسألة من مسائل الخلاف تُعَدُّ في حقيقتها من مسائل الاجتهاد شريطة كون الخلاف معتبرًا -على ما مرَّ تقريره- أما إذا لم يكن الخلاف كذلك فإنها لا تعد من مسائل الاجتهاد، فالعبرة بكون المسألة خلافية كون الخلاف فيها معتبرًا، وإن كان ثمَّ تفرقة فلتكن بين مسائل الاجتهاد ومسائل الخلاف غير المعتبر.
على أن قول ابن تيمية السابق: [وإن لم يكن كذلك فإنه يُنْكَر بمعنى بيان ضعفه -أي من جهة القول بالحكم- عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء] اهـ. خارج محل النزاع، فالنزاع إنما هو في العمل خاصة كما سبق.
وبناء على ما سبق: فإن مسائل الخلاف التي لا ينكر فيها على المخالف لا تشمل كل ما وقع فيه خلافٌ؛ لأن منه ما يكون ضعيف المدرك، أو شاذًّا، أو مما اعتبر من زلَّات العلماء، وما كان كذلك فهو مردودٌ، أما أذا أريد بمسائل الخلاف تلك التي يكون الخلاف فيها معتبرًا بشروطه المذكورة فلا إنكار فيها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;