حقيقة الذبح لله والتفريق بين إهداء الثواب والشرك

من الشائع قديمًا وحديثًا في الريف والصعيد المصري النذر بذبح شيء لأحد الأولياء إذا تحقق مطلب ما دعا به الناذر عند ضريح هذا الولي مستشفعًا ببركته في قبول الله للدعاء، فهل يُعدّ هذا الفعل من الشرك أم لا؟

الذَّبْح بالفتح: قَطْع الحُلْقومِ من باطنٍ عند النَّصيل، وهو موضع الذَّبح من الحَلْق. والذِّبْح بالكسر: اسم ما يُذْبَح من الأَضاحِي وغيرِهَا مِن الحَيوان؛ قال تعالى: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: 107]. راجع: "لسان العرب" (2/ 436، مادة: ذ ب ح، ط. دار صادر).

والحيوان إن كان مقدورًا عليه فذكاته تكون بذبحه في حلقه، أو في لَبَّته -وهي الثُّغرة بين التُّرقُوَتَين أسفلَ العنق-، والأفضل أن يختص النحر بالإبل وكل ما طال عنقه من الحيوانات مأكولة اللحم، بينما يختص الذبح بما قصر عنقه منها، وإن لم يكن مقدورًا عليه كالصيد فذكاته تحصل بالعَقْر -وهو ما يسمى بذكاة الضرورة-، أي: جرح الحيوان جرحًا مُزهِقًا للروح في أيِّ جهة من جسمه. وإذا أزهقت روح الحيوان بغير ما ذُكِرَ كان مَيْتَة لا يجوز أكل لحمه.

والذبح قد يكون عبادة إذا أراد المسلم به التقرُّب إلى الله عز وجل كما في الأضحية، والعقيقة، والنذر، لذلك اعتنى الإسلام بجانب الإخلاص فيها، وأولاه أهمية كبيرة؛ قال تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: 2].

قال الطاهر ابن عاشور في "التحرير والتنوير" (30/ 574، ط. الدار التونسية): [أفادت اللام من قوله: ﴿لِرَبِّكَ﴾ أنه يخُص الله بصلاته فلا يصلي لغيره. ففيه تعريض بالمشركين بأنهم يصلون للأصنام بالسجود لها والطواف حولها. وعطف ﴿وَانْحَرْ﴾ على ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾ يقتضي تقدير متعلِّقه مماثلًا لمتعلِّق ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾؛ لدلالة ما قبله عليه...، فالتقدير: وانحر له. وهو إيماء إلى إبطال نحر المشركين قربانًا للأصنام] اهـ.

وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162]، قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (12/ 284، ط. مؤسسة الرسالة) في تفسير هذه الآية: [حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: ﴿إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي﴾، قال: النسك، الذبائح في الحج والعمرة] اهـ.

قال الإمام الزَّبيدي في "تاج العروس" (27/ 372، مادة: ن س ك): [وأصل النسك بالضم وبضمتين وكسفينة: الذبيحة، أو النسك بالفتح: الدم هكذا يقتضي إطلاقه، والصواب، أو النسك بضمتين: الدم، ومنه قولهم: من فعل كذا وكذا فعليه نسك، أي: دم يهريقه بمكة] اهـ.

فقد وقف الإسلام موقفًا حاسمًا في هذه القضية، فأعلن النكير على ممارسات الجاهليين الذين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها من دون الله، لذلك حرَّم الله عز وجل ما ذبح لغير الله؛ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 173].

قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (3/ 319) في تفسير الآية: [وأما قوله: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ﴾، فإنه يعني به: وما ذُبح للآلهة والأوثان يُسمى عليه بغير اسمه، أو قُصد به غيرُه من الأصنام. وإنما قيل: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ﴾؛ لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرَّبوه لآلهتهم، سموا اسم آلهتهم التي قربوا ذلك لها، وجَهروا بذلك أصْواتَهم، فجرى ذلك من أمرهم على ذلك، حتى قيل لكل ذابح، سمَّى أو لم يُسمِّ، جهر بالتسمية أو لم يجهر... حدَّثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: وسألته عن قول الله: ﴿وَمَا أهِلَّ به لغير الله﴾، قال: ما يذبح لآلهتهم، الأنصابُ التي يعبدونها أو يسمُّون أسماءَها عليها. قال: يقولون: (باسم فلان)، كما تقول أنت: (باسم الله) قال: فذلك قوله: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ﴾] اهـ.

يقول الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (13/ 441، ط. دار إحياء التراث العربي) في شرح حديث: «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ» الذي أخرجه مسلم في "صحيحه" عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [أما الذبح لغير الله؛ فالمراد به أن يذبح باسم غير الله تعالى، كمن ذبح للصنم أو الصليب أو لموسى أو لعيسى صلى الله عليهما أو للكعبة ونحو ذلك، فكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلمًا أو نصرانيًّا أو يهوديًّا... فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله تعالى والعبادة له كان ذلك كفرًا] اهـ.

وقد يخلط البعض بين صورة الذبح لغير الله عبادة له وتعظيمًا وتقربًا منه، وبين اصطحاب بعض المسلمين عند زيارة قبور الأولياء والصالحين الذبائح المنذورة، وذبحها وتفريقها عند قبور الأولياء والصالحين، ولا يتقربون بهذه الذبائح إلى الولي الصالح، وإنما يريدون به أن يصل ثواب الذبيحة للميت، أي: يذبح عنه ليصل ثوابها له، ولا يذبح له ويتقرب إليه؛ لأن هذه نيته ومقصده، وقد يعبر برغبته في هبة ثواب الذبيحة أو الصدقة لهذا الصالح بتعبير لا يدرك خطأ من تلفظ به، فلا يجوز التسرع بمجرد سماع هذا التعبير باتهام المسلمين بالكفر وأنهم يعبدون هؤلاء الأولياء، خاصة وقد ورد مثل هذا التعبير الموهم عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم؛ فقد روى أبو داود عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَـالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الْمَاءُ»، فَحَفَرَ بِئْرًا، وَقَالَ: هَذِهِ لأُمِّ سَعْدٍ. أي: هذه البئر صدقة لها.

وعلى ذلك: فالنذر والذبح للأولياء والصالحين بهذا المعنى الذي يقصده الناس صحيحٌ وليس شركًا كما يُرَوِّجُ البعض، ولا ينافي التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى.

يقول الإمام النووي في "المجموع" (8/ 385، ط. دار الفكر) مبينًا هذه الصورة على الخصوص: [قال الرافعي: واعلم أن الذبح للمعبود وباسمه نازل منزلة السجود، وكل واحد منهما من أنواع التعظيم والعبادة المخصوصة بالله تعالى الذي هو المستحق للعبادة، فمن ذبح لغيره من حيوان أو جماد كالصنم على وجه التعظيم والعبادة لم تحلّ ذبيحته وكان فعله كفرًا كمن يسجد لغير الله تعالى سجدة عبادة، فكذا لو ذبح له أو لغيره على هذا الوجه. فأما إذا ذبح لغيره لا على هذا الوجه بأن ضحَّى أو ذبح للكعبة تعظيمًا لها؛ لكونها بيت الله تعالى أو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكونه رسول الله فهو لا يجوز أن يمنع حلّ الذبيحة، وإلى هذا المعنى يرجع قول القائل: أهديت للحرم أو الكعبة، ومن هذا القبيل الذبح عند استقبال السلطان؛ لأنه استبشار بقدومه نازل منزلة ذبح العقيقة لولادة المولود، ومثل هذا لا يوجب الكفر، وكذا السجود للغير تذللًا وخضوعًا لا يوجب الكفر وإن كان ممنوعًا، وعلى هذا: فإذا قال الذابح: باسم الله واسم محمد وأراد أذبح باسم الله وأتبرك باسم محمد فينبغي ألا يحرَّم، وقول من قال: لا يجوز ذلك يمكن حمله على أن اللفظة مكروهة؛ لأن المكروه يصحّ نفي الجواز والإباحة المطلقة عنه] اهـ.

فلا ينبغي لنا التسرع بالحكم بالشرك على من يذبح عند أولياء الله قاصدًا بذلك إيصال الثواب لهم؛ لأن الشرك يحصل إذا اعتقد الشخص النفع الذاتي في غير الله أو القدرة الذاتية على الضرر، وكذا إذا صرف عبادة لغيره سبحانه، فينبغي أن نحسن الظن بهؤلاء؛ لأنه قد وقع اتفاق الأمة على أن المسلم إذا عمل عملًا يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهًا، ثم هو يحتمل الإيمان من وجه واحد، وجب الأخذ بهذا الوجه الإيماني وحده، وإسقاط اعتبار بقية الوجوه.

قال العلامة ابن عابدين في "الدر المختار" (4/ 229، ط. دار الكتب العلمية): [لا يفتى بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان في كفره اختلاف، ولو رواية ضعيفة] اهـ.

فالكفر من المسائل التي ينبغي التدقيق في الكلام عليها، لما يترتب عليها مِن أحكام دنيوية وأخروية، فمعنى ثبوت الردة هَدْر الدم والمال وحرمة قربانه زوجته المسلمة، والشهادة عليه بالخلود في النار إن مات على حاله. ولأجل عظم هذا الأمر وخطره وجب التبيين والتحري الشديد قبل إصدار الحكم بالكفر وخصوصًا عن أناس ثبت إسلامهم، فمتى أمكن حمل فعل المسلم أو قوله على محمل حسن تعيَّن ذلك، لا سيّما وأن إسلامه قرينة قوية تدفع عنه حكم الكفر.

وبناء على ما سبق وفي واقعة السؤال: فإن ما يفعله بعض المسلمين عند قبور أولياء الله الصالحين من توزيع الذبائح عند قبورهم لإطعام أحباب هذا الولي أو غيره، وأن قول أحدهم هذا لسيدنا الحسين رضي الله عنه -مثلًا- ينبغي أن يفسَّر ويحمل على محمل سائغ شرعًا كالذي يحمل عليه قول سيدنا سعد: "هذه لأم سعد"، ولا تُعَدُّ هذه الأمور كلها من الذبح تعبدًا لغير الله الذي يكفر فاعله، فلا يكفر المسلم بفعل ذلك إلا إذا كان يقصد العبادة والتقرب من غير الله بهذا الذبح معتقدًا مشاركته لله تعالى في التأثير وتصريف الأمور.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

الذَّبْح بالفتح: قَطْع الحُلْقومِ من باطنٍ عند النَّصيل، وهو موضع الذَّبح من الحَلْق. والذِّبْح بالكسر: اسم ما يُذْبَح من الأَضاحِي وغيرِهَا مِن الحَيوان؛ قال تعالى: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: 107]. راجع: "لسان العرب" (2/ 436، مادة: ذ ب ح، ط. دار صادر).

والحيوان إن كان مقدورًا عليه فذكاته تكون بذبحه في حلقه، أو في لَبَّته -وهي الثُّغرة بين التُّرقُوَتَين أسفلَ العنق-، والأفضل أن يختص النحر بالإبل وكل ما طال عنقه من الحيوانات مأكولة اللحم، بينما يختص الذبح بما قصر عنقه منها، وإن لم يكن مقدورًا عليه كالصيد فذكاته تحصل بالعَقْر -وهو ما يسمى بذكاة الضرورة-، أي: جرح الحيوان جرحًا مُزهِقًا للروح في أيِّ جهة من جسمه. وإذا أزهقت روح الحيوان بغير ما ذُكِرَ كان مَيْتَة لا يجوز أكل لحمه.

والذبح قد يكون عبادة إذا أراد المسلم به التقرُّب إلى الله عز وجل كما في الأضحية، والعقيقة، والنذر، لذلك اعتنى الإسلام بجانب الإخلاص فيها، وأولاه أهمية كبيرة؛ قال تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: 2].

قال الطاهر ابن عاشور في "التحرير والتنوير" (30/ 574، ط. الدار التونسية): [أفادت اللام من قوله: ﴿لِرَبِّكَ﴾ أنه يخُص الله بصلاته فلا يصلي لغيره. ففيه تعريض بالمشركين بأنهم يصلون للأصنام بالسجود لها والطواف حولها. وعطف ﴿وَانْحَرْ﴾ على ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾ يقتضي تقدير متعلِّقه مماثلًا لمتعلِّق ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾؛ لدلالة ما قبله عليه...، فالتقدير: وانحر له. وهو إيماء إلى إبطال نحر المشركين قربانًا للأصنام] اهـ.

وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162]، قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (12/ 284، ط. مؤسسة الرسالة) في تفسير هذه الآية: [حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: ﴿إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي﴾، قال: النسك، الذبائح في الحج والعمرة] اهـ.

قال الإمام الزَّبيدي في "تاج العروس" (27/ 372، مادة: ن س ك): [وأصل النسك بالضم وبضمتين وكسفينة: الذبيحة، أو النسك بالفتح: الدم هكذا يقتضي إطلاقه، والصواب، أو النسك بضمتين: الدم، ومنه قولهم: من فعل كذا وكذا فعليه نسك، أي: دم يهريقه بمكة] اهـ.

فقد وقف الإسلام موقفًا حاسمًا في هذه القضية، فأعلن النكير على ممارسات الجاهليين الذين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها من دون الله، لذلك حرَّم الله عز وجل ما ذبح لغير الله؛ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 173].

قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (3/ 319) في تفسير الآية: [وأما قوله: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ﴾، فإنه يعني به: وما ذُبح للآلهة والأوثان يُسمى عليه بغير اسمه، أو قُصد به غيرُه من الأصنام. وإنما قيل: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ﴾؛ لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرَّبوه لآلهتهم، سموا اسم آلهتهم التي قربوا ذلك لها، وجَهروا بذلك أصْواتَهم، فجرى ذلك من أمرهم على ذلك، حتى قيل لكل ذابح، سمَّى أو لم يُسمِّ، جهر بالتسمية أو لم يجهر... حدَّثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: وسألته عن قول الله: ﴿وَمَا أهِلَّ به لغير الله﴾، قال: ما يذبح لآلهتهم، الأنصابُ التي يعبدونها أو يسمُّون أسماءَها عليها. قال: يقولون: (باسم فلان)، كما تقول أنت: (باسم الله) قال: فذلك قوله: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ﴾] اهـ.

يقول الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (13/ 441، ط. دار إحياء التراث العربي) في شرح حديث: «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ» الذي أخرجه مسلم في "صحيحه" عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [أما الذبح لغير الله؛ فالمراد به أن يذبح باسم غير الله تعالى، كمن ذبح للصنم أو الصليب أو لموسى أو لعيسى صلى الله عليهما أو للكعبة ونحو ذلك، فكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلمًا أو نصرانيًّا أو يهوديًّا... فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله تعالى والعبادة له كان ذلك كفرًا] اهـ.

وقد يخلط البعض بين صورة الذبح لغير الله عبادة له وتعظيمًا وتقربًا منه، وبين اصطحاب بعض المسلمين عند زيارة قبور الأولياء والصالحين الذبائح المنذورة، وذبحها وتفريقها عند قبور الأولياء والصالحين، ولا يتقربون بهذه الذبائح إلى الولي الصالح، وإنما يريدون به أن يصل ثواب الذبيحة للميت، أي: يذبح عنه ليصل ثوابها له، ولا يذبح له ويتقرب إليه؛ لأن هذه نيته ومقصده، وقد يعبر برغبته في هبة ثواب الذبيحة أو الصدقة لهذا الصالح بتعبير لا يدرك خطأ من تلفظ به، فلا يجوز التسرع بمجرد سماع هذا التعبير باتهام المسلمين بالكفر وأنهم يعبدون هؤلاء الأولياء، خاصة وقد ورد مثل هذا التعبير الموهم عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم؛ فقد روى أبو داود عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَـالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الْمَاءُ»، فَحَفَرَ بِئْرًا، وَقَالَ: هَذِهِ لأُمِّ سَعْدٍ. أي: هذه البئر صدقة لها.

وعلى ذلك: فالنذر والذبح للأولياء والصالحين بهذا المعنى الذي يقصده الناس صحيحٌ وليس شركًا كما يُرَوِّجُ البعض، ولا ينافي التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى.

يقول الإمام النووي في "المجموع" (8/ 385، ط. دار الفكر) مبينًا هذه الصورة على الخصوص: [قال الرافعي: واعلم أن الذبح للمعبود وباسمه نازل منزلة السجود، وكل واحد منهما من أنواع التعظيم والعبادة المخصوصة بالله تعالى الذي هو المستحق للعبادة، فمن ذبح لغيره من حيوان أو جماد كالصنم على وجه التعظيم والعبادة لم تحلّ ذبيحته وكان فعله كفرًا كمن يسجد لغير الله تعالى سجدة عبادة، فكذا لو ذبح له أو لغيره على هذا الوجه. فأما إذا ذبح لغيره لا على هذا الوجه بأن ضحَّى أو ذبح للكعبة تعظيمًا لها؛ لكونها بيت الله تعالى أو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكونه رسول الله فهو لا يجوز أن يمنع حلّ الذبيحة، وإلى هذا المعنى يرجع قول القائل: أهديت للحرم أو الكعبة، ومن هذا القبيل الذبح عند استقبال السلطان؛ لأنه استبشار بقدومه نازل منزلة ذبح العقيقة لولادة المولود، ومثل هذا لا يوجب الكفر، وكذا السجود للغير تذللًا وخضوعًا لا يوجب الكفر وإن كان ممنوعًا، وعلى هذا: فإذا قال الذابح: باسم الله واسم محمد وأراد أذبح باسم الله وأتبرك باسم محمد فينبغي ألا يحرَّم، وقول من قال: لا يجوز ذلك يمكن حمله على أن اللفظة مكروهة؛ لأن المكروه يصحّ نفي الجواز والإباحة المطلقة عنه] اهـ.

فلا ينبغي لنا التسرع بالحكم بالشرك على من يذبح عند أولياء الله قاصدًا بذلك إيصال الثواب لهم؛ لأن الشرك يحصل إذا اعتقد الشخص النفع الذاتي في غير الله أو القدرة الذاتية على الضرر، وكذا إذا صرف عبادة لغيره سبحانه، فينبغي أن نحسن الظن بهؤلاء؛ لأنه قد وقع اتفاق الأمة على أن المسلم إذا عمل عملًا يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهًا، ثم هو يحتمل الإيمان من وجه واحد، وجب الأخذ بهذا الوجه الإيماني وحده، وإسقاط اعتبار بقية الوجوه.

قال العلامة ابن عابدين في "الدر المختار" (4/ 229، ط. دار الكتب العلمية): [لا يفتى بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان في كفره اختلاف، ولو رواية ضعيفة] اهـ.

فالكفر من المسائل التي ينبغي التدقيق في الكلام عليها، لما يترتب عليها مِن أحكام دنيوية وأخروية، فمعنى ثبوت الردة هَدْر الدم والمال وحرمة قربانه زوجته المسلمة، والشهادة عليه بالخلود في النار إن مات على حاله. ولأجل عظم هذا الأمر وخطره وجب التبيين والتحري الشديد قبل إصدار الحكم بالكفر وخصوصًا عن أناس ثبت إسلامهم، فمتى أمكن حمل فعل المسلم أو قوله على محمل حسن تعيَّن ذلك، لا سيّما وأن إسلامه قرينة قوية تدفع عنه حكم الكفر.

وبناء على ما سبق وفي واقعة السؤال: فإن ما يفعله بعض المسلمين عند قبور أولياء الله الصالحين من توزيع الذبائح عند قبورهم لإطعام أحباب هذا الولي أو غيره، وأن قول أحدهم هذا لسيدنا الحسين رضي الله عنه -مثلًا- ينبغي أن يفسَّر ويحمل على محمل سائغ شرعًا كالذي يحمل عليه قول سيدنا سعد: "هذه لأم سعد"، ولا تُعَدُّ هذه الأمور كلها من الذبح تعبدًا لغير الله الذي يكفر فاعله، فلا يكفر المسلم بفعل ذلك إلا إذا كان يقصد العبادة والتقرب من غير الله بهذا الذبح معتقدًا مشاركته لله تعالى في التأثير وتصريف الأمور.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

حقيقة الذبح لله والتفريق بين إهداء الثواب والشرك

من الشائع قديمًا وحديثًا في الريف والصعيد المصري النذر بذبح شيء لأحد الأولياء إذا تحقق مطلب ما دعا به الناذر عند ضريح هذا الولي مستشفعًا ببركته في قبول الله للدعاء، فهل يُعدّ هذا الفعل من الشرك أم لا؟

الذَّبْح بالفتح: قَطْع الحُلْقومِ من باطنٍ عند النَّصيل، وهو موضع الذَّبح من الحَلْق. والذِّبْح بالكسر: اسم ما يُذْبَح من الأَضاحِي وغيرِهَا مِن الحَيوان؛ قال تعالى: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: 107]. راجع: "لسان العرب" (2/ 436، مادة: ذ ب ح، ط. دار صادر).

والحيوان إن كان مقدورًا عليه فذكاته تكون بذبحه في حلقه، أو في لَبَّته -وهي الثُّغرة بين التُّرقُوَتَين أسفلَ العنق-، والأفضل أن يختص النحر بالإبل وكل ما طال عنقه من الحيوانات مأكولة اللحم، بينما يختص الذبح بما قصر عنقه منها، وإن لم يكن مقدورًا عليه كالصيد فذكاته تحصل بالعَقْر -وهو ما يسمى بذكاة الضرورة-، أي: جرح الحيوان جرحًا مُزهِقًا للروح في أيِّ جهة من جسمه. وإذا أزهقت روح الحيوان بغير ما ذُكِرَ كان مَيْتَة لا يجوز أكل لحمه.

والذبح قد يكون عبادة إذا أراد المسلم به التقرُّب إلى الله عز وجل كما في الأضحية، والعقيقة، والنذر، لذلك اعتنى الإسلام بجانب الإخلاص فيها، وأولاه أهمية كبيرة؛ قال تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: 2].

قال الطاهر ابن عاشور في "التحرير والتنوير" (30/ 574، ط. الدار التونسية): [أفادت اللام من قوله: ﴿لِرَبِّكَ﴾ أنه يخُص الله بصلاته فلا يصلي لغيره. ففيه تعريض بالمشركين بأنهم يصلون للأصنام بالسجود لها والطواف حولها. وعطف ﴿وَانْحَرْ﴾ على ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾ يقتضي تقدير متعلِّقه مماثلًا لمتعلِّق ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾؛ لدلالة ما قبله عليه...، فالتقدير: وانحر له. وهو إيماء إلى إبطال نحر المشركين قربانًا للأصنام] اهـ.

وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162]، قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (12/ 284، ط. مؤسسة الرسالة) في تفسير هذه الآية: [حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: ﴿إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي﴾، قال: النسك، الذبائح في الحج والعمرة] اهـ.

قال الإمام الزَّبيدي في "تاج العروس" (27/ 372، مادة: ن س ك): [وأصل النسك بالضم وبضمتين وكسفينة: الذبيحة، أو النسك بالفتح: الدم هكذا يقتضي إطلاقه، والصواب، أو النسك بضمتين: الدم، ومنه قولهم: من فعل كذا وكذا فعليه نسك، أي: دم يهريقه بمكة] اهـ.

فقد وقف الإسلام موقفًا حاسمًا في هذه القضية، فأعلن النكير على ممارسات الجاهليين الذين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها من دون الله، لذلك حرَّم الله عز وجل ما ذبح لغير الله؛ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 173].

قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (3/ 319) في تفسير الآية: [وأما قوله: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ﴾، فإنه يعني به: وما ذُبح للآلهة والأوثان يُسمى عليه بغير اسمه، أو قُصد به غيرُه من الأصنام. وإنما قيل: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ﴾؛ لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرَّبوه لآلهتهم، سموا اسم آلهتهم التي قربوا ذلك لها، وجَهروا بذلك أصْواتَهم، فجرى ذلك من أمرهم على ذلك، حتى قيل لكل ذابح، سمَّى أو لم يُسمِّ، جهر بالتسمية أو لم يجهر... حدَّثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: وسألته عن قول الله: ﴿وَمَا أهِلَّ به لغير الله﴾، قال: ما يذبح لآلهتهم، الأنصابُ التي يعبدونها أو يسمُّون أسماءَها عليها. قال: يقولون: (باسم فلان)، كما تقول أنت: (باسم الله) قال: فذلك قوله: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ﴾] اهـ.

يقول الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (13/ 441، ط. دار إحياء التراث العربي) في شرح حديث: «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ» الذي أخرجه مسلم في "صحيحه" عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [أما الذبح لغير الله؛ فالمراد به أن يذبح باسم غير الله تعالى، كمن ذبح للصنم أو الصليب أو لموسى أو لعيسى صلى الله عليهما أو للكعبة ونحو ذلك، فكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلمًا أو نصرانيًّا أو يهوديًّا... فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله تعالى والعبادة له كان ذلك كفرًا] اهـ.

وقد يخلط البعض بين صورة الذبح لغير الله عبادة له وتعظيمًا وتقربًا منه، وبين اصطحاب بعض المسلمين عند زيارة قبور الأولياء والصالحين الذبائح المنذورة، وذبحها وتفريقها عند قبور الأولياء والصالحين، ولا يتقربون بهذه الذبائح إلى الولي الصالح، وإنما يريدون به أن يصل ثواب الذبيحة للميت، أي: يذبح عنه ليصل ثوابها له، ولا يذبح له ويتقرب إليه؛ لأن هذه نيته ومقصده، وقد يعبر برغبته في هبة ثواب الذبيحة أو الصدقة لهذا الصالح بتعبير لا يدرك خطأ من تلفظ به، فلا يجوز التسرع بمجرد سماع هذا التعبير باتهام المسلمين بالكفر وأنهم يعبدون هؤلاء الأولياء، خاصة وقد ورد مثل هذا التعبير الموهم عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم؛ فقد روى أبو داود عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَـالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الْمَاءُ»، فَحَفَرَ بِئْرًا، وَقَالَ: هَذِهِ لأُمِّ سَعْدٍ. أي: هذه البئر صدقة لها.

وعلى ذلك: فالنذر والذبح للأولياء والصالحين بهذا المعنى الذي يقصده الناس صحيحٌ وليس شركًا كما يُرَوِّجُ البعض، ولا ينافي التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى.

يقول الإمام النووي في "المجموع" (8/ 385، ط. دار الفكر) مبينًا هذه الصورة على الخصوص: [قال الرافعي: واعلم أن الذبح للمعبود وباسمه نازل منزلة السجود، وكل واحد منهما من أنواع التعظيم والعبادة المخصوصة بالله تعالى الذي هو المستحق للعبادة، فمن ذبح لغيره من حيوان أو جماد كالصنم على وجه التعظيم والعبادة لم تحلّ ذبيحته وكان فعله كفرًا كمن يسجد لغير الله تعالى سجدة عبادة، فكذا لو ذبح له أو لغيره على هذا الوجه. فأما إذا ذبح لغيره لا على هذا الوجه بأن ضحَّى أو ذبح للكعبة تعظيمًا لها؛ لكونها بيت الله تعالى أو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكونه رسول الله فهو لا يجوز أن يمنع حلّ الذبيحة، وإلى هذا المعنى يرجع قول القائل: أهديت للحرم أو الكعبة، ومن هذا القبيل الذبح عند استقبال السلطان؛ لأنه استبشار بقدومه نازل منزلة ذبح العقيقة لولادة المولود، ومثل هذا لا يوجب الكفر، وكذا السجود للغير تذللًا وخضوعًا لا يوجب الكفر وإن كان ممنوعًا، وعلى هذا: فإذا قال الذابح: باسم الله واسم محمد وأراد أذبح باسم الله وأتبرك باسم محمد فينبغي ألا يحرَّم، وقول من قال: لا يجوز ذلك يمكن حمله على أن اللفظة مكروهة؛ لأن المكروه يصحّ نفي الجواز والإباحة المطلقة عنه] اهـ.

فلا ينبغي لنا التسرع بالحكم بالشرك على من يذبح عند أولياء الله قاصدًا بذلك إيصال الثواب لهم؛ لأن الشرك يحصل إذا اعتقد الشخص النفع الذاتي في غير الله أو القدرة الذاتية على الضرر، وكذا إذا صرف عبادة لغيره سبحانه، فينبغي أن نحسن الظن بهؤلاء؛ لأنه قد وقع اتفاق الأمة على أن المسلم إذا عمل عملًا يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهًا، ثم هو يحتمل الإيمان من وجه واحد، وجب الأخذ بهذا الوجه الإيماني وحده، وإسقاط اعتبار بقية الوجوه.

قال العلامة ابن عابدين في "الدر المختار" (4/ 229، ط. دار الكتب العلمية): [لا يفتى بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان في كفره اختلاف، ولو رواية ضعيفة] اهـ.

فالكفر من المسائل التي ينبغي التدقيق في الكلام عليها، لما يترتب عليها مِن أحكام دنيوية وأخروية، فمعنى ثبوت الردة هَدْر الدم والمال وحرمة قربانه زوجته المسلمة، والشهادة عليه بالخلود في النار إن مات على حاله. ولأجل عظم هذا الأمر وخطره وجب التبيين والتحري الشديد قبل إصدار الحكم بالكفر وخصوصًا عن أناس ثبت إسلامهم، فمتى أمكن حمل فعل المسلم أو قوله على محمل حسن تعيَّن ذلك، لا سيّما وأن إسلامه قرينة قوية تدفع عنه حكم الكفر.

وبناء على ما سبق وفي واقعة السؤال: فإن ما يفعله بعض المسلمين عند قبور أولياء الله الصالحين من توزيع الذبائح عند قبورهم لإطعام أحباب هذا الولي أو غيره، وأن قول أحدهم هذا لسيدنا الحسين رضي الله عنه -مثلًا- ينبغي أن يفسَّر ويحمل على محمل سائغ شرعًا كالذي يحمل عليه قول سيدنا سعد: "هذه لأم سعد"، ولا تُعَدُّ هذه الأمور كلها من الذبح تعبدًا لغير الله الذي يكفر فاعله، فلا يكفر المسلم بفعل ذلك إلا إذا كان يقصد العبادة والتقرب من غير الله بهذا الذبح معتقدًا مشاركته لله تعالى في التأثير وتصريف الأمور.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

الذَّبْح بالفتح: قَطْع الحُلْقومِ من باطنٍ عند النَّصيل، وهو موضع الذَّبح من الحَلْق. والذِّبْح بالكسر: اسم ما يُذْبَح من الأَضاحِي وغيرِهَا مِن الحَيوان؛ قال تعالى: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: 107]. راجع: "لسان العرب" (2/ 436، مادة: ذ ب ح، ط. دار صادر).

والحيوان إن كان مقدورًا عليه فذكاته تكون بذبحه في حلقه، أو في لَبَّته -وهي الثُّغرة بين التُّرقُوَتَين أسفلَ العنق-، والأفضل أن يختص النحر بالإبل وكل ما طال عنقه من الحيوانات مأكولة اللحم، بينما يختص الذبح بما قصر عنقه منها، وإن لم يكن مقدورًا عليه كالصيد فذكاته تحصل بالعَقْر -وهو ما يسمى بذكاة الضرورة-، أي: جرح الحيوان جرحًا مُزهِقًا للروح في أيِّ جهة من جسمه. وإذا أزهقت روح الحيوان بغير ما ذُكِرَ كان مَيْتَة لا يجوز أكل لحمه.

والذبح قد يكون عبادة إذا أراد المسلم به التقرُّب إلى الله عز وجل كما في الأضحية، والعقيقة، والنذر، لذلك اعتنى الإسلام بجانب الإخلاص فيها، وأولاه أهمية كبيرة؛ قال تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: 2].

قال الطاهر ابن عاشور في "التحرير والتنوير" (30/ 574، ط. الدار التونسية): [أفادت اللام من قوله: ﴿لِرَبِّكَ﴾ أنه يخُص الله بصلاته فلا يصلي لغيره. ففيه تعريض بالمشركين بأنهم يصلون للأصنام بالسجود لها والطواف حولها. وعطف ﴿وَانْحَرْ﴾ على ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾ يقتضي تقدير متعلِّقه مماثلًا لمتعلِّق ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾؛ لدلالة ما قبله عليه...، فالتقدير: وانحر له. وهو إيماء إلى إبطال نحر المشركين قربانًا للأصنام] اهـ.

وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162]، قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (12/ 284، ط. مؤسسة الرسالة) في تفسير هذه الآية: [حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: ﴿إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي﴾، قال: النسك، الذبائح في الحج والعمرة] اهـ.

قال الإمام الزَّبيدي في "تاج العروس" (27/ 372، مادة: ن س ك): [وأصل النسك بالضم وبضمتين وكسفينة: الذبيحة، أو النسك بالفتح: الدم هكذا يقتضي إطلاقه، والصواب، أو النسك بضمتين: الدم، ومنه قولهم: من فعل كذا وكذا فعليه نسك، أي: دم يهريقه بمكة] اهـ.

فقد وقف الإسلام موقفًا حاسمًا في هذه القضية، فأعلن النكير على ممارسات الجاهليين الذين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها من دون الله، لذلك حرَّم الله عز وجل ما ذبح لغير الله؛ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 173].

قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (3/ 319) في تفسير الآية: [وأما قوله: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ﴾، فإنه يعني به: وما ذُبح للآلهة والأوثان يُسمى عليه بغير اسمه، أو قُصد به غيرُه من الأصنام. وإنما قيل: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ﴾؛ لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرَّبوه لآلهتهم، سموا اسم آلهتهم التي قربوا ذلك لها، وجَهروا بذلك أصْواتَهم، فجرى ذلك من أمرهم على ذلك، حتى قيل لكل ذابح، سمَّى أو لم يُسمِّ، جهر بالتسمية أو لم يجهر... حدَّثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: وسألته عن قول الله: ﴿وَمَا أهِلَّ به لغير الله﴾، قال: ما يذبح لآلهتهم، الأنصابُ التي يعبدونها أو يسمُّون أسماءَها عليها. قال: يقولون: (باسم فلان)، كما تقول أنت: (باسم الله) قال: فذلك قوله: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ﴾] اهـ.

يقول الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (13/ 441، ط. دار إحياء التراث العربي) في شرح حديث: «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ» الذي أخرجه مسلم في "صحيحه" عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [أما الذبح لغير الله؛ فالمراد به أن يذبح باسم غير الله تعالى، كمن ذبح للصنم أو الصليب أو لموسى أو لعيسى صلى الله عليهما أو للكعبة ونحو ذلك، فكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلمًا أو نصرانيًّا أو يهوديًّا... فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله تعالى والعبادة له كان ذلك كفرًا] اهـ.

وقد يخلط البعض بين صورة الذبح لغير الله عبادة له وتعظيمًا وتقربًا منه، وبين اصطحاب بعض المسلمين عند زيارة قبور الأولياء والصالحين الذبائح المنذورة، وذبحها وتفريقها عند قبور الأولياء والصالحين، ولا يتقربون بهذه الذبائح إلى الولي الصالح، وإنما يريدون به أن يصل ثواب الذبيحة للميت، أي: يذبح عنه ليصل ثوابها له، ولا يذبح له ويتقرب إليه؛ لأن هذه نيته ومقصده، وقد يعبر برغبته في هبة ثواب الذبيحة أو الصدقة لهذا الصالح بتعبير لا يدرك خطأ من تلفظ به، فلا يجوز التسرع بمجرد سماع هذا التعبير باتهام المسلمين بالكفر وأنهم يعبدون هؤلاء الأولياء، خاصة وقد ورد مثل هذا التعبير الموهم عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم؛ فقد روى أبو داود عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَـالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الْمَاءُ»، فَحَفَرَ بِئْرًا، وَقَالَ: هَذِهِ لأُمِّ سَعْدٍ. أي: هذه البئر صدقة لها.

وعلى ذلك: فالنذر والذبح للأولياء والصالحين بهذا المعنى الذي يقصده الناس صحيحٌ وليس شركًا كما يُرَوِّجُ البعض، ولا ينافي التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى.

يقول الإمام النووي في "المجموع" (8/ 385، ط. دار الفكر) مبينًا هذه الصورة على الخصوص: [قال الرافعي: واعلم أن الذبح للمعبود وباسمه نازل منزلة السجود، وكل واحد منهما من أنواع التعظيم والعبادة المخصوصة بالله تعالى الذي هو المستحق للعبادة، فمن ذبح لغيره من حيوان أو جماد كالصنم على وجه التعظيم والعبادة لم تحلّ ذبيحته وكان فعله كفرًا كمن يسجد لغير الله تعالى سجدة عبادة، فكذا لو ذبح له أو لغيره على هذا الوجه. فأما إذا ذبح لغيره لا على هذا الوجه بأن ضحَّى أو ذبح للكعبة تعظيمًا لها؛ لكونها بيت الله تعالى أو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكونه رسول الله فهو لا يجوز أن يمنع حلّ الذبيحة، وإلى هذا المعنى يرجع قول القائل: أهديت للحرم أو الكعبة، ومن هذا القبيل الذبح عند استقبال السلطان؛ لأنه استبشار بقدومه نازل منزلة ذبح العقيقة لولادة المولود، ومثل هذا لا يوجب الكفر، وكذا السجود للغير تذللًا وخضوعًا لا يوجب الكفر وإن كان ممنوعًا، وعلى هذا: فإذا قال الذابح: باسم الله واسم محمد وأراد أذبح باسم الله وأتبرك باسم محمد فينبغي ألا يحرَّم، وقول من قال: لا يجوز ذلك يمكن حمله على أن اللفظة مكروهة؛ لأن المكروه يصحّ نفي الجواز والإباحة المطلقة عنه] اهـ.

فلا ينبغي لنا التسرع بالحكم بالشرك على من يذبح عند أولياء الله قاصدًا بذلك إيصال الثواب لهم؛ لأن الشرك يحصل إذا اعتقد الشخص النفع الذاتي في غير الله أو القدرة الذاتية على الضرر، وكذا إذا صرف عبادة لغيره سبحانه، فينبغي أن نحسن الظن بهؤلاء؛ لأنه قد وقع اتفاق الأمة على أن المسلم إذا عمل عملًا يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهًا، ثم هو يحتمل الإيمان من وجه واحد، وجب الأخذ بهذا الوجه الإيماني وحده، وإسقاط اعتبار بقية الوجوه.

قال العلامة ابن عابدين في "الدر المختار" (4/ 229، ط. دار الكتب العلمية): [لا يفتى بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان في كفره اختلاف، ولو رواية ضعيفة] اهـ.

فالكفر من المسائل التي ينبغي التدقيق في الكلام عليها، لما يترتب عليها مِن أحكام دنيوية وأخروية، فمعنى ثبوت الردة هَدْر الدم والمال وحرمة قربانه زوجته المسلمة، والشهادة عليه بالخلود في النار إن مات على حاله. ولأجل عظم هذا الأمر وخطره وجب التبيين والتحري الشديد قبل إصدار الحكم بالكفر وخصوصًا عن أناس ثبت إسلامهم، فمتى أمكن حمل فعل المسلم أو قوله على محمل حسن تعيَّن ذلك، لا سيّما وأن إسلامه قرينة قوية تدفع عنه حكم الكفر.

وبناء على ما سبق وفي واقعة السؤال: فإن ما يفعله بعض المسلمين عند قبور أولياء الله الصالحين من توزيع الذبائح عند قبورهم لإطعام أحباب هذا الولي أو غيره، وأن قول أحدهم هذا لسيدنا الحسين رضي الله عنه -مثلًا- ينبغي أن يفسَّر ويحمل على محمل سائغ شرعًا كالذي يحمل عليه قول سيدنا سعد: "هذه لأم سعد"، ولا تُعَدُّ هذه الأمور كلها من الذبح تعبدًا لغير الله الذي يكفر فاعله، فلا يكفر المسلم بفعل ذلك إلا إذا كان يقصد العبادة والتقرب من غير الله بهذا الذبح معتقدًا مشاركته لله تعالى في التأثير وتصريف الأمور.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;