النص على أصول الشريعة في الكتاب والسنة

هل يشترط في أصول الشريعة أن تكون جميعها منصوصًا عليها في القرآن والسنة؟

الأصول جمع أصل، وهو في اللغة: ما يبنى عليه غيرُه، وما يستند إليه وجودُ الشيء وتحققه، قال الراغب: أصل كل شيء قاعدتُه التي لو توهمت مرتفعة ارتفع بارتفاعها سائره. انظر: "تاج العروس" للزبيدي (27/ 447، مادة: أ ص ل، ط. دار الهداية).

وفي اصطلاح الأصوليين يطلق لفظ الأصل على أربعة معان: أحدها: الدليل؛ كقولهم: الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة. وثانيها: الرجحان؛ كقولهم: الأصل في الكلام الحقيقة. وثالثها: القاعدة المستمرة؛ كقولهم: إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل. ورابعها: الصورة المقيس عليها؛ كالخمر المقيس عليها في حرمتها كل ما يذهب العقل، على اختلاف مذكور في باب القياس في تفسير الأصل. انظر: "نهاية السول شرح منهاج الوصول" للإسنوي (1/ 8، ط. دار الكتب العلمية).

والشريعة لغةً: كالشِّراعُ والمَشْرَعةُ، وهي المواضعُ الَّتِي يُنْحَدر إِلى الْمَاءِ مِنْهَا، قَالَ اللَّيْثُ: وَبِهَا سُمِّيَ مَا شَرَعَ الله للعبادِ شَريعةً من الصَّوْمِ والصلاةِ وَالْحَجِّ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِ. والشِّرْعةُ والشَّريعةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: مَشْرَعةُ الْمَاءِ، وَهِيَ مَوْرِدُ الشاربةِ الَّتِي يَشْرَعُها النَّاسُ فَيَشْرَبُونَ مِنْهَا ويَسْتَقُونَ، وَرُبَّمَا شَرَّعوها دوابَّهم حَتَّى تَشْرَعها وتشرَب مِنْهَا، وَالْعَرَبُ لَا تُسَمِّيهَا شَريعةً حَتَّى يَكُونَ الْمَاءُ عِدًّا لَا انْقِطَاعَ لَهُ، وَيَكُون ظَاهِرًا مَعِينًا لَا يُسْقى بالرِّشاءِ. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (8/ 175، مادة: ش ر ع، ط. دار صادر).

ويقول العلامة ابن العربي المالكي في "أحكام القرآن" (4/ 102، ط. دار الكتب العلمية): [الشريعة في اللغة عبارة عن الطريق إلى الماء، ضربت مثلًا -أي في القرآن- للطريق إلى الحق؛ لما فيها من عذوبة المورد، وسلامة المصدر، وحسنه] اهـ.

والشريعة اصطلاحًا: ما بيَّنه الله تعالى لعباده من أحكام الدين؛ قال العلامة السعد في حاشية "التلويح على التوضيح" (1/ 7، ط. مكتبة صبيح): [والشرع والشريعة ما شرع الله تعالى لعباده من الدين: أي أظهر وبين، وحاصله الطريقة المعهودة الثابتة من النبي عليه السلام] اهـ.

ويقول العلامة البجيرمي في حاشيته "تحفة الحبيب على شرح الخطيب" (1/ 8، ط. دار الفكر): [الشريعة عند الفقهاء ما شرعه الله تعالى من الأحكام] اهـ.

وقال العلامة العدوي في "حاشيته على شرح كفاية الطالب الرباني" (1/ 28، ط. دار الفكر): [قوله: (جمع شريعة إلخ) هي لغة الطريقة، وشرعًا الحكم الشرعي ... والحكم يطلق ويراد به الأحكام الخمسة: الإيجاب والندب والتحريم والكراهة والإباحة، ويطلق ويراد به النسبة التامة كثبوت الوجوب للنية في قولك: النية واجبة] اهـ.

وعلى هذا يدخل في مسمّى الشريعة جميعُ ما تعلَّقت به الأحكام الشرعية، فيدخل ما أوجب الشرع الإيمان به من المعتقدات -والإيمان عمل قلبي كالنية-، وكذا ما يجب فعله من عبادات ومعاملات وما يندب منها، واجتناب المحرمات والمكروهات، والانتفاع بفعل المباحات أو بتركها من غير إلزام، ومن هنا فالشريعة تشتمل على أصول وفروع وأخلاق وآداب، وقد شاع لدى العلماء تلقيب علم العقائد بـ"أصول الدين"، والدين والملة والشريعة بمعنى واحد، فيصح إطلاق أصول الشريعة على العقائد الإيمانية، وهذا الشمول لمعنى الشريعة وتساويها مع الدين والملة نجده مفهومًا مما قاله كثيرٌ من العلماء؛ كالعلامة الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج" (1/ 32، ط. دار الفكر) قال: [والدين ما شرعه الله من الأحكام، وهو وضعُ سائقٍ إلهيٍّ لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما هو خير بالذات، وقيل: الطريقة المخصوصة المشروعة ببيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشتملة على الأصول والفروع والأخلاق والآداب، سميت من حيث انقياد الخلق لها دينًا، ومن حيث إظهار الشارع إياها شرعًا وشريعة، ومن حيث إملاء الشارع إياها ملة] اهـ.

وهناك عبارات أخرى كثيرة لأهل العلم يُفهم منها قصر مفهوم الشريعة على الأحكام الشرعية العملية المتعلقة بأحكام المكلفين -كأحكام الصلاة والزكاة والبيع والنكاح- والتي يمكن أن تختلف من دين لدين، بينما تتفق أديان الأنبياء في عقائد التوحيد، وهذا الاتجاه في اعتبار أن الشريعة بعض الدين وليست كله، له مستندٌ من النصوص الشرعية؛ كقوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48]، قال الإمام الطبري في تفسيره "جامع البيان" (10/ 385، ط. مؤسسة الرسالة): [جاء عن قتادة في "تفسيره": قوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ يقول: سبيلا وسُنَّة. والسنن مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحلُّ الله فيها ما يشاء، ويحرِّم ما يشاء بلاءً، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره: التوحيدُ والإخلاصُ لله، الذي جاءت به الرسل] اهـ.

وفي الحديث الشريف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ» متفق عليه. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 489، ط. دار المعرفة): [العلات بفتح المهملة: الضرائر، وأصله أن من تزوج امرأة ثم تزوج أخرى كأنه علّ منها، والعلَل الشرب بعد الشرب، وأولاد العلات: الإخوة من الأب وأمهاتهم شتى، وقد بيّنه في رواية عبد الرحمن فقال: وأمهاتهم شتى ودينهم واحد. وهو من باب التفسير؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ۞ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ۞ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج: 19–21]، ومعنى الحديث أن أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع. وقيل: المراد أن أزمنتهم مختلفة] اهـ.

وفي هذا السبيل نجد أبا بكر بن العربي في بيانه للأحكام التي اشتمل عليها قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: 18]؛ يقول في "أحكام القرآن" (4/ 102): [ظن بعض من تكلم في العلم أن هذه الآية دليلٌ على أن شَرْعَ مَنْ قبلنا ليس بشرع لنا؛ لأن الله تعالى أفرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته في هذه الآية بشريعة، ولا ننكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته منفردان بشريعة، وإنما الخلاف فيما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه مِن شرع مَن قبلنا في معرض المدح والثناء والعظة، هل يلزم اتباعه أم لا؟] اهـ.

ويقول العلامة الزركشي في "البحر المحيط في أصول الفقه" (5/ 209، ط. دار الكتبي) في مسألة جواز نسخ الشرائع مناقشًا لليهود في إنكارهم للجواز: [وهنا مباحثة مع اليهود لعنوا بما قالوا، وهي أنهم زعموا أن التعبد في الشرائع بالعبادات لا يجوز أن يتغير قياسًا على التوحيد، فإن التعبد بالتوحيد لا يجوز تغييره إلى الكفر. فيقال لهم: أيجوز أن يتعبد بالصلاة مثلًا في وقت دون وقت مع القدرة على الفعل؟ فإن قالوا: نعم، وهو قولهم؛ لأنهم لا يقولون باستغراق الزمان بالصلاة والصوم، فيقال لهم: أيجوز أن يتعبد بالتوحيد في وقت دون وقت مع كمال العقل والقدرة؟ فإن قالوا: نعم، فقد جوزوا ترك التوحيد. وإن قالوا: لا، وهو قولهم، فقد فرقوا بين التوحيد والشرائع. وحينئذٍ فلا امتناع في اختلاف التعبد بالشرائع في الكيفية، والعدد، والوقت، والزيادة، والنقص] اهـ. وهذا تمييزٌ واضح بين التوحيدِ الذي لا يجوز نسخُه والشرائعِ الجائزِ عند المسلمين نسخُها.

والحاصل أن الشريعة تطلق ويراد بها جميع ما جاء به الدين ونزلت به نصوص الوحي من أحكام العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق، وتطلق ويراد بها بعض ما جاء به الدين، أي: الأحكام المتعلقة بأفعال المكلفين وضعًا وتكليفًا وتخييرًا، والتي يختصُّ بدراستها علمُ الفقه وأصوله، بخلاف مسائل علم التوحيد التي يختص بها الكلام والنظر وفنون المعقول، وبخلاف مسائل الوجدانيات والأخلاق؛ كالتقوى والتوكل والأنس بالله تعالى والتي يختص بها علم التصوف والسلوك، فهذه مسائلُ وأحكامٌ لا يدخلها النسخ بخلاف مسائل الحلال والحرام فهي التي تنسخ، ولذا فهي الأجدر بأن تسمى شرائع؛ لقوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48].

والأقرب أن يقال: إن الشريعة الإسلامية شاملةٌ لكل ما سبق ذكره، فهي تشتمل على ما يجري فيه النسخ وما ليس كذلك؛ لقوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13]. فدل على أن بعض الشرائع لم تنسخ؛ لأن النسخ إزالة، وقد شرع تعالى لأمة الإسلام بعض ما وصى به النبيين من قبل ولم يزله، وفي قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ [آل عمران: 64] دليلٌ على أن هذه الكلمة التي كلّف الله بها أهلَ الكتاب من قبلُ لم تنسخْ، فالمسلمون مكلفون بها أيضًا. ولا يتعارض هذا الاشتراك الحاصل بين الإسلام وغيره مع كون الشريعة الإسلامية ناسخةً لكلِّ مَا سبقها من شرائعَ وأديانٍ، وكذلك لا يتعارض مع قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾؛ لأن الشرائع السماوية المتعددة تتفق في أمور وتمتاز عن بعضها بأمور أخرى، فلا يشترط في الشريعة الناسخة أن تختلف بجميع معالمها عما سبقها من شرائعَ، بل يكفي أن تختلفَ في بعض العناصر وأن تصير المرجعية مقصورةً عليها.

ويؤكد أن مصطلح الشريعة شامل للاعتقاديات والعمليات والوجدانيات ما نقل عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من تعريفه للفقه -أي علم أحكام الشريعة- بأنه: معرفة النفس ما لها وما عليها.

يقول العلامة صدر الشريعة في "التوضيح بشرح متن التنقيح" (1/ 18، ط. مكتبة صبيح): [وأبو حنيفة رحمه الله إنما لم يزد "عملا" -أي في التعريف السابق-؛ لأنه أراد الشمول، أي أطلق الفقه على العلم بما لها وعليها سواء كان من الاعتقاديات أو الوجدانيات أو العمليات، ثم سمى الكلام -أي علم العقائد- فقهًا أكبر] اهـ.

وكذا ما نقله العلامة الزركشي في "البحر المحيط" عن الإمام الرازي (5/ 214) قال: [فصل في بيان الحكمة في نسخ الشرائع ذكره الإمام فخر الدين في "المطالب العالية" وهو أن الشرائع قسمان: منها ما يعرف نفعها بالعقل في المعاش والمعاد، ومنها سمعية لا يعرف الانتفاع بها إلا من السمع.

فالأول: يمتنع طُرُوُّ النسخ عليها؛ كمعرفة الله وطاعته أبدًا، ومجامع هذه الشرائع العقلية أمران: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله؛ قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: 83].

والثاني: ما يمكن طَرَيان النسخ والتبديل عليه أمور تحصل في كيفية إقامة الطاعات العقلية والعبادات الحقيقية، وفائدة نسخها أن الأعمال البدنية إذا واظبوا عليها خلفًا عن سلفٍ صارت كالعادة عند الخلق، وظنوا أن أعيانها مطلوبةٌ لذاتها، ومنعهم ذلك من الوصول إلى المقصود، وهو معرفة الله وتمجيده، فإذا غير ذلك الطريق إلى نوع من الأنواع وتبين أن المقصود من هذه الأعمال رعاية أحوال القلب والأرواح في المعرفة والمحبة انقطعت الأوهام عن الاشتغال عن تلك الصور والظواهر إلى علام السرائر] اهـ.

ويقول العلامة حسن العطار في "حاشيته على شرح جمع الجوامع" (1/ 58، ط. دار الكتب العلمية): [الشرع يعمّ الأحكام الفقهية والاعتقادية، فهو كلٌّ، والأحكام الفقهية بعضٌ] اهـ.

وعلى ما سبق ذكره: فكلمة أصول الشريعة تحتمل التفسير بأحد وجهين:
الوجه الأول: أن يكون المراد بها العقائد الإيمانية؛ إذ هي الأصل الذي لا يُقبل عملُ المكلف إلا به، فهي أصول من حيث أنها يبنى عليها قبول الأعمال الصالحة -الفروع- والإثابة عليها؛ قال تعالى: ﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ۞ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [التوبة: 53-54].

ويشير إلى هذا المعنى كلام الأصوليين في بحث مسألة: "هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ويحاسبون عليها يوم القيامة أم لا؟" وتفسيرهم لفروع الشريعة بالأعمال التكليفية كالصلاة وإطعام المساكين؛ واستدلال بعضهم في ذلك بقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ۞ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ۞ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ۞ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۞ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۞ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ۞ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ۞ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ۞ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾ [المدثر: 39-47]، فهؤلاء المجرمون كفار بأصول الشريعة؛ إذ كذبوا بعقيدة البعث في اليوم الآخر، ومع هذا ذكروا أن من أسباب دخولهم النارَ عدمَ الصلاة وعدمَ إطعام المساكين، وهي أعمالٌ يسميها الأصوليون فروع الشريعة في مقابل أصول الشريعة الإيمانية؛ يقول الإمام الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب" (30/ 716، ط. دار إحياء التراث العربي): [والمعنى: ما حبسكم في هذه الدركة من النار؟ فأجابوا بأن هذا العذاب لأمور أربعة: أولها: قالوا لم نك من المصلين، وثانيها: لم نك نطعم المسكين، وهذان يجب أن يكونا محمولَيْن على الصلاة الواجبة والزكاة الواجبة؛ لأن ما ليس بواجب لا يجوز أن يعذَّبوا على تركه، وثالثها: وكنا نخوض مع الخائضين، والمراد منه الأباطيل، ورابعها: وكنا نكذب بيوم الدين، أي بيوم القيامة، حتى أتانا اليقين، أي الموت؛ قال تعالى: ﴿حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99]. والمعنى أنا بقينا على إنكار القيامة إلى وقت الموت، وظاهر اللفظ يدل على أن كل أحد من أولئك الأقوام كان موصوفًا بهذه الخصال الأربعة، واحتج أصحابُنا بهذه الآية على أن الكفار يعذبون بتَرْكِ فروعِ الشرائع، والاستقصاء فيه قد ذكرناه في "المحصول" من أصول الفقه] اهـ.

فإذا كانت العقائد هي المراد بأصول الشريعة، فشرط كونها منصوصًا عليها في الكتاب والسنة ظاهر؛ إذ إن الله عز وجل يرسل الرسل ويوحي إليهم وينزل الكتب السماوية لهداية الناس وتعليمهم ما يجب عليهم الإيمان به من العقائد الصحيحة، فلم يَكِلِ الأمرَ بالكلية إلى عقولهم، بل ينير لهم الدربَ ويحثهم على إعمال العقول بشكل صحيح على نور مما جاء به المرسلون؛ فعقول البشر قاصرةٌ ومتفاوتةٌ، ولا تسلم من المؤثرات التي تحيد بها عن جادة الطريق، وأكثر الناس ذكاءً قد يقع أسيرًا لمعتقدات خاطئة حين يعتمد على عقله المجرد في تناول المواضيع العلمية الدقيقة لا سيما إذا تعلقت بالغيب، فما أكثر من وُصفوا بالحكماء والأذكياء من فلاسفة اليونان وغيرهم، وما أكثر ما وقعوا فيه من العقائد الزائفة حينما وثقوا في العقل الثقةَ المطلقةَ فكلفوه البحثَ فيما يتجاوز قدره، والله تعالى يقول: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15]، فالتكليف بالبحث عن العقيدة الصحيحة لا يتعلق بالإنسان إلا بعد إرسال الرسل من جهة الخالق عز وجل.

قال القاضي البيضاوي في "تفسيره" (3/ 250، ط. دار إحياء التراث العربي): [﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ يبيِّن الحجج ويمهِّد الشرائع فيلزمهم الحجة، وفيه دليلٌ على أن لا وجوب قبل الشرع] اهـ.

ويوضح حجة الإسلام أبو حامد الغزالي أن الدور المنوط بالعقل في مجال العقيدة هو الاستدلال أولًا على صدق النبيّ، ثم الإيمان والتسليم بما أرسل به النبي من عقائدَ وشرائعَ، ثم يكون للعقل وظيفة أخرى خادمة لما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي الردُّ على شبهات المخالفين ببيان أن ما جاءت به نصوص الوحي لا يتصادم مع أدلة العقل والمنطق المستقيم، وإنما غايته أن يكون من محارات العقول لا من محالاتها؛ يقول الإمام الغزالي في "المستصفى" (ص: 6، ط. دار الكتب العلمية): [العقل يدلّ على صدق النبي، ثم يعزل نفسه ويعترف بأنه يتلقى من النبي بالقبول ما يقوله في الله واليوم الآخر مما لا يستقل العقل بدركه ولا يقضي أيضًا باستحالته، فقد يَرِدُ الشرع بما يقصر العقلُ عن الاستقلال بإدراكه؛ إذ لا يستقل العقل بإدراك كون الطاعة سببًا للسعادة في الآخرة وكون المعاصي للشقاوة، لكنه لا يقضي باستحالته أيضًا، ويقضي بوجوب صدق من دلَّت المعجزة على صدقه، فإذا أخبر عنه صدق العقل به بهذه الطريق، فهذا ما يحويه علم الكلام] اهـ. فالعقل إذن آلة للاستدلال على المصدر الصحيح لتلقي عقائد الإيمان، ثم آلة خادمة لنصرة هذه العقائد وفهمها على الوجه الصحيح وإثباتها بالأدلة العقلية والعلمية والدعوة إليها بما يناسب ثقافة المخاطب، ودفع شبهات الخصوم عنها.

الوجه الثاني: أن يكون المراد بأصول الشريعة أدلتها الكلية ومقاصدها وقواعدها المطردة غالبًا التي تبنى عليها الفروعُ والفتاوى والأحكام الجزئية، وهذه الأصول يختص ببيانها علوم ثلاثة هي: أصول الفقه، وقواعد الفقه، ومقاصد الشريعة.

قال العلامة السعد التفتازاني في حاشيته "التلويح على التوضيح" (1/ 8، ط. مكتبة صبيح): [وأصول الشريعة أدلتها الكلية] اهـ.

وجاء في "التقرير والتحبير" (1/ 17، ط. دار الكتب العلمية): [والمراد بالأدلة الأدلة الكلية السمعية الآتي بيانها، وهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس] اهـ.

فالأدلة الكلية عبارة عن مصادر التشريع، والقواعد المتعلقة بها من حيث شرح حقيقة المصدر وإثبات حجيته، وبيان كيفية استفادة الأحكام الشرعية منه، وحال المستفيد.

ويوضح العلامة شهاب الدين القرافي في مقدمة كتابه "الفروق" أن أصول الشريعة تنقسم إلى قسمين، أولهما: ما ضمه علم "أصول الفقه" من قوانين. وثانيهما: ما ضمه علم "القواعد الفقهية"، ونجد في كلامه أيضًا إشاراتٍ واضحةً إلى قسم ثالث ظهر مستقلًّا بعد عصر الإمام القرافي على يد الإمام الشاطبي، وهو علم "مقاصد الشريعة"، فهذه العلوم الثلاثة تعتبر أصولًا للشريعة؛ لأنها تشتمل على قواعد كلية وأغلبية يستفاد منها المعرفة الصحيحة لأحكام الشريعة بفهم نصوصها واستنباط معانيها في كل مسألة من مسائل الفروع لا سيما المستحدثة، مما يضمن بقاء حاكمية الشريعة ويثبت بصورة عملية شموليتها وصلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان، فمن هنا تعتبر هذه العلوم الثلاثة أصولًا للشريعة؛ إذ لو ارتفعت لتعذَّر فهم الشريعة وتعذَّر اتباعها؛ يقول الإمام القرافي في "الفروق" (1/ 2-3، ط. عالم الكتب): [إن الشريعة المعظمة المحمدية زاد الله تعالى منارها شرفًا وعُلُوًّا اشتملت على أصول وفروع، وأصولها قسمان:

- أحدهما: المسمى بأصول الفقه، وهو في غالب أمره ليس فيه إلا قواعدُ الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة، وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح، ونحو الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، والصيغة الخاصة للعموم، ونحو ذلك، وما خرج عن هذا النمط إلا كون القياس حجة وخبر الواحد وصفات المجتهدين.

- والقسم الثاني: قواعدُ كليةٌ فقهية جليلة كثيرة العدد عظيمة المدد مشتملة على أسرار الشرع وحكمه لكل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يحصى، ولم يذكر منها شيء في أصول الفقه.

وإن اتفقت الإشارة إليه هنالك على سبيل الإجمال فبقي تفصيله لم يتحصل، وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه، ويشرف ويظهر رونق الفقه ويعرف وتتضح مناهج الفتاوى.

ثم يؤكد القرافي أهميةَ الاعتناء بمقاصد الشريعة وكلياتها قائلا: ومن جَعَلَ يُخْرِجُ الفروعَ بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروعُ واختلفت وتزلزلت خواطرُه فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى، وانتهى العمر ولم تَقْضِ نفسُه من طلب مناها، ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات؛ لاندراجها في الكليات، واتَّحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب] اهـ.

فإذا كانت القواعد الأصولية والفقهية والمقاصدية هي المراد في السؤال عن "أصول الشريعة"، فلا يشترط أن تكون كلُّ قاعدة منها منصوصًا عليها نصًّا صريحًا قاطعًا في الكتاب والسنة، وإلا لما وقع خلاف بين فقهاء الأمة ومجتهديها في كثيرٍ من تلك القواعد، فإثبات القواعد وحجيتها يؤول إلى طرق ثلاثة:

الأول: "النص" كتابًا وسنةً، وهو المحور الأساسي المباشر بدلالة ألفاظه العربية مطابقةً وتضمنًا والتزامًا، دلالة قطعية أو ظنية.

والثاني: "الاستقراء" تامًّا أو ناقصًا للنصوص ولأحكام الجزئيات المنصوص عليها.

والثالث: "الاستدلال" بترتيب المقدمات المأخوذة من نصوص الشريعة وقواعد اللغة أو غيرها منطقيًّا.

والثاني والثالث وسيلتان لاستخراج القواعد من النص بصورة غير مباشرة من خلال مضامين النصوص ومفاهيمها ولوازمها وجمعها وترتيبها ومقارنتها وسَبْر معانيها وتقسيمها ثم استنتاج القاعدة الكلية في نهاية الأمر، وهذا عملٌ اجتهادي كبير ذو مراحلَ كثيرةٍ، مما أدى لاختلاف العلماء في تفاصيله، وبالتالي اختلافهم في استخلاص أصول الشريعة، أي القواعد الضابطة لفهمها والاستنباط منها، لكن يمكن تقسيم هذه الأصول إلى أصولٍ كبرى متفقٍ عليها، وأصولٍ صغرى مختلَفٍ فيها.

فالأصول المتفق عليها: نحو اعتبار الكتاب والسنة المصدرَيْن الأساسيين للتشريع، وكالقواعد الخمس التي قيل إن الفقه مبنيٌّ عليها؛ وهي: "الأمور بمقاصدها"، و"اليقين لا يزول بالشك"، و"المشقة تجلب التيسير"، و"الضرر يزال"، و"العادة محكمة"، وتقسيم مقاصد الشريعة إلى الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وتشوف الشرع إلى العتق وتحرير الإنسان.

أما الأصول المختلف فيها فمثل: "الاستحسان"، و"المصالح المرسلة"، و"شرع من قبلنا"؛ مما جرى الخلاف في حجيته، وكقاعدة: "هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها؟"، و"هل يلحق النادر بجنسه أو بنفسه؟"، ومن أمثلة المقاصد الظنية المتفاوتة الدرجة ظهورًا وخفاءً ما ذكره العلامة الطاهر بن عاشور في كتابه "مقاصد الشريعة" (ص: 237-238، ط. دار النفائس، الأردن]؛ فقال: [واعلم أن مراتب الظنون في فهم مقاصد الشريعة متفاوتةٌ بحسب تفاوت الاستقراء المستند إلى مقدار ما بين يدي الناظر من الأدلة، وبحسب خفاء الدلالة وقوتها؛ فإن دلالة تحريم الخمر على كون مقصد الشريعة حفظ العقول عن الفساد العارض دلالةٌ واضحة، ولذلك لم يكد يختلف المجتهدون في تحريم ما يصل بالشارب إلى حدِّ الإسكار، وأما دلالة تحريم الخمر على أن مقصد الشريعة سدّ ذريعة إفساد العقل، حتى نأخذ من ذلك المقصد تحريم القليل من الخمر، وتحريم النبيذ الذي لا يغلب إفضاؤه إلى الإسكار، فتلك دلالة خفية، ولذلك اختلف العلماء في مساواة تحريم الأنبذة لتحريم الخمر، وفي مساواة تحريم شرب قليل الخمر، فمن غلب ظنه بذلك سوَّى بينهما في التحريم وإقامة الحد والتجريح به، ومن جعل بينهما فرقًا لم يُسَوِّ بينهما في تلك الأمور] اهـ.

ويجد الباحث قواعد جاء بها نص شرعي بلفظه؛ مثل قاعدة: "الخراج بالضمان"، فهذا نص حديث شريف أخرجه أصحاب السنن الأربعة.

ويجد قواعد صِيغ لفظُها من ظاهر النص دون حاجة إلى استنباط؛ مثل قاعدة: "الميسور لا يسقط بالمعسور"، فإنها مأخوذةٌ من الحديث الشريف: «فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» متفق عليه.

ويجد قواعد خرجها العلماء من استقراء الأحكام الجزئية: وهو التي تتبعها العلماء في أبوابها المختلفة، وكثير منهم صاغوها في عبارات موجزة سلسة؛ مثل: "الرضا بالشيء رضا بما يتولد منه"، و"المشغول لا يشغل". انظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 141-151، ط. دار الكتب العلمية).

فالقواعد إذن ليست على وتيرة واحدة؛ فبعضها أصله نص شرعي، وبعضها مأخوذ من معنى نص أو أكثر، وبعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه.

وبناءً على ما سبق: فإنه يشترط في أصول الشريعة إذا قُصد بها العقائدُ الإيمانيةُ أن تكون منصوصًا عليها في الكتاب والسنة بنص عام أو خاص، أما إذا قُصد بأصول الشريعة القواعدُ التي تنضبط بها عمليةُ فهمِ أحكام الشريعة واستنباطها، فلا يشترط أن تكون كلُّ قاعدةٍ منها مذكورةً بالنص في الكتاب والسنة؛ لأن هذه القواعد تثبت بطرق عديدة -مباشرة وغير مباشرة-؛ كالنص والاستقراء والاستدلال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

الأصول جمع أصل، وهو في اللغة: ما يبنى عليه غيرُه، وما يستند إليه وجودُ الشيء وتحققه، قال الراغب: أصل كل شيء قاعدتُه التي لو توهمت مرتفعة ارتفع بارتفاعها سائره. انظر: "تاج العروس" للزبيدي (27/ 447، مادة: أ ص ل، ط. دار الهداية).

وفي اصطلاح الأصوليين يطلق لفظ الأصل على أربعة معان: أحدها: الدليل؛ كقولهم: الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة. وثانيها: الرجحان؛ كقولهم: الأصل في الكلام الحقيقة. وثالثها: القاعدة المستمرة؛ كقولهم: إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل. ورابعها: الصورة المقيس عليها؛ كالخمر المقيس عليها في حرمتها كل ما يذهب العقل، على اختلاف مذكور في باب القياس في تفسير الأصل. انظر: "نهاية السول شرح منهاج الوصول" للإسنوي (1/ 8، ط. دار الكتب العلمية).

والشريعة لغةً: كالشِّراعُ والمَشْرَعةُ، وهي المواضعُ الَّتِي يُنْحَدر إِلى الْمَاءِ مِنْهَا، قَالَ اللَّيْثُ: وَبِهَا سُمِّيَ مَا شَرَعَ الله للعبادِ شَريعةً من الصَّوْمِ والصلاةِ وَالْحَجِّ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِ. والشِّرْعةُ والشَّريعةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: مَشْرَعةُ الْمَاءِ، وَهِيَ مَوْرِدُ الشاربةِ الَّتِي يَشْرَعُها النَّاسُ فَيَشْرَبُونَ مِنْهَا ويَسْتَقُونَ، وَرُبَّمَا شَرَّعوها دوابَّهم حَتَّى تَشْرَعها وتشرَب مِنْهَا، وَالْعَرَبُ لَا تُسَمِّيهَا شَريعةً حَتَّى يَكُونَ الْمَاءُ عِدًّا لَا انْقِطَاعَ لَهُ، وَيَكُون ظَاهِرًا مَعِينًا لَا يُسْقى بالرِّشاءِ. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (8/ 175، مادة: ش ر ع، ط. دار صادر).

ويقول العلامة ابن العربي المالكي في "أحكام القرآن" (4/ 102، ط. دار الكتب العلمية): [الشريعة في اللغة عبارة عن الطريق إلى الماء، ضربت مثلًا -أي في القرآن- للطريق إلى الحق؛ لما فيها من عذوبة المورد، وسلامة المصدر، وحسنه] اهـ.

والشريعة اصطلاحًا: ما بيَّنه الله تعالى لعباده من أحكام الدين؛ قال العلامة السعد في حاشية "التلويح على التوضيح" (1/ 7، ط. مكتبة صبيح): [والشرع والشريعة ما شرع الله تعالى لعباده من الدين: أي أظهر وبين، وحاصله الطريقة المعهودة الثابتة من النبي عليه السلام] اهـ.

ويقول العلامة البجيرمي في حاشيته "تحفة الحبيب على شرح الخطيب" (1/ 8، ط. دار الفكر): [الشريعة عند الفقهاء ما شرعه الله تعالى من الأحكام] اهـ.

وقال العلامة العدوي في "حاشيته على شرح كفاية الطالب الرباني" (1/ 28، ط. دار الفكر): [قوله: (جمع شريعة إلخ) هي لغة الطريقة، وشرعًا الحكم الشرعي ... والحكم يطلق ويراد به الأحكام الخمسة: الإيجاب والندب والتحريم والكراهة والإباحة، ويطلق ويراد به النسبة التامة كثبوت الوجوب للنية في قولك: النية واجبة] اهـ.

وعلى هذا يدخل في مسمّى الشريعة جميعُ ما تعلَّقت به الأحكام الشرعية، فيدخل ما أوجب الشرع الإيمان به من المعتقدات -والإيمان عمل قلبي كالنية-، وكذا ما يجب فعله من عبادات ومعاملات وما يندب منها، واجتناب المحرمات والمكروهات، والانتفاع بفعل المباحات أو بتركها من غير إلزام، ومن هنا فالشريعة تشتمل على أصول وفروع وأخلاق وآداب، وقد شاع لدى العلماء تلقيب علم العقائد بـ"أصول الدين"، والدين والملة والشريعة بمعنى واحد، فيصح إطلاق أصول الشريعة على العقائد الإيمانية، وهذا الشمول لمعنى الشريعة وتساويها مع الدين والملة نجده مفهومًا مما قاله كثيرٌ من العلماء؛ كالعلامة الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج" (1/ 32، ط. دار الفكر) قال: [والدين ما شرعه الله من الأحكام، وهو وضعُ سائقٍ إلهيٍّ لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما هو خير بالذات، وقيل: الطريقة المخصوصة المشروعة ببيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشتملة على الأصول والفروع والأخلاق والآداب، سميت من حيث انقياد الخلق لها دينًا، ومن حيث إظهار الشارع إياها شرعًا وشريعة، ومن حيث إملاء الشارع إياها ملة] اهـ.

وهناك عبارات أخرى كثيرة لأهل العلم يُفهم منها قصر مفهوم الشريعة على الأحكام الشرعية العملية المتعلقة بأحكام المكلفين -كأحكام الصلاة والزكاة والبيع والنكاح- والتي يمكن أن تختلف من دين لدين، بينما تتفق أديان الأنبياء في عقائد التوحيد، وهذا الاتجاه في اعتبار أن الشريعة بعض الدين وليست كله، له مستندٌ من النصوص الشرعية؛ كقوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48]، قال الإمام الطبري في تفسيره "جامع البيان" (10/ 385، ط. مؤسسة الرسالة): [جاء عن قتادة في "تفسيره": قوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ يقول: سبيلا وسُنَّة. والسنن مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحلُّ الله فيها ما يشاء، ويحرِّم ما يشاء بلاءً، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره: التوحيدُ والإخلاصُ لله، الذي جاءت به الرسل] اهـ.

وفي الحديث الشريف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ» متفق عليه. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 489، ط. دار المعرفة): [العلات بفتح المهملة: الضرائر، وأصله أن من تزوج امرأة ثم تزوج أخرى كأنه علّ منها، والعلَل الشرب بعد الشرب، وأولاد العلات: الإخوة من الأب وأمهاتهم شتى، وقد بيّنه في رواية عبد الرحمن فقال: وأمهاتهم شتى ودينهم واحد. وهو من باب التفسير؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ۞ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ۞ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج: 19–21]، ومعنى الحديث أن أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع. وقيل: المراد أن أزمنتهم مختلفة] اهـ.

وفي هذا السبيل نجد أبا بكر بن العربي في بيانه للأحكام التي اشتمل عليها قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: 18]؛ يقول في "أحكام القرآن" (4/ 102): [ظن بعض من تكلم في العلم أن هذه الآية دليلٌ على أن شَرْعَ مَنْ قبلنا ليس بشرع لنا؛ لأن الله تعالى أفرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته في هذه الآية بشريعة، ولا ننكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته منفردان بشريعة، وإنما الخلاف فيما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه مِن شرع مَن قبلنا في معرض المدح والثناء والعظة، هل يلزم اتباعه أم لا؟] اهـ.

ويقول العلامة الزركشي في "البحر المحيط في أصول الفقه" (5/ 209، ط. دار الكتبي) في مسألة جواز نسخ الشرائع مناقشًا لليهود في إنكارهم للجواز: [وهنا مباحثة مع اليهود لعنوا بما قالوا، وهي أنهم زعموا أن التعبد في الشرائع بالعبادات لا يجوز أن يتغير قياسًا على التوحيد، فإن التعبد بالتوحيد لا يجوز تغييره إلى الكفر. فيقال لهم: أيجوز أن يتعبد بالصلاة مثلًا في وقت دون وقت مع القدرة على الفعل؟ فإن قالوا: نعم، وهو قولهم؛ لأنهم لا يقولون باستغراق الزمان بالصلاة والصوم، فيقال لهم: أيجوز أن يتعبد بالتوحيد في وقت دون وقت مع كمال العقل والقدرة؟ فإن قالوا: نعم، فقد جوزوا ترك التوحيد. وإن قالوا: لا، وهو قولهم، فقد فرقوا بين التوحيد والشرائع. وحينئذٍ فلا امتناع في اختلاف التعبد بالشرائع في الكيفية، والعدد، والوقت، والزيادة، والنقص] اهـ. وهذا تمييزٌ واضح بين التوحيدِ الذي لا يجوز نسخُه والشرائعِ الجائزِ عند المسلمين نسخُها.

والحاصل أن الشريعة تطلق ويراد بها جميع ما جاء به الدين ونزلت به نصوص الوحي من أحكام العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق، وتطلق ويراد بها بعض ما جاء به الدين، أي: الأحكام المتعلقة بأفعال المكلفين وضعًا وتكليفًا وتخييرًا، والتي يختصُّ بدراستها علمُ الفقه وأصوله، بخلاف مسائل علم التوحيد التي يختص بها الكلام والنظر وفنون المعقول، وبخلاف مسائل الوجدانيات والأخلاق؛ كالتقوى والتوكل والأنس بالله تعالى والتي يختص بها علم التصوف والسلوك، فهذه مسائلُ وأحكامٌ لا يدخلها النسخ بخلاف مسائل الحلال والحرام فهي التي تنسخ، ولذا فهي الأجدر بأن تسمى شرائع؛ لقوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48].

والأقرب أن يقال: إن الشريعة الإسلامية شاملةٌ لكل ما سبق ذكره، فهي تشتمل على ما يجري فيه النسخ وما ليس كذلك؛ لقوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13]. فدل على أن بعض الشرائع لم تنسخ؛ لأن النسخ إزالة، وقد شرع تعالى لأمة الإسلام بعض ما وصى به النبيين من قبل ولم يزله، وفي قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ [آل عمران: 64] دليلٌ على أن هذه الكلمة التي كلّف الله بها أهلَ الكتاب من قبلُ لم تنسخْ، فالمسلمون مكلفون بها أيضًا. ولا يتعارض هذا الاشتراك الحاصل بين الإسلام وغيره مع كون الشريعة الإسلامية ناسخةً لكلِّ مَا سبقها من شرائعَ وأديانٍ، وكذلك لا يتعارض مع قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾؛ لأن الشرائع السماوية المتعددة تتفق في أمور وتمتاز عن بعضها بأمور أخرى، فلا يشترط في الشريعة الناسخة أن تختلف بجميع معالمها عما سبقها من شرائعَ، بل يكفي أن تختلفَ في بعض العناصر وأن تصير المرجعية مقصورةً عليها.

ويؤكد أن مصطلح الشريعة شامل للاعتقاديات والعمليات والوجدانيات ما نقل عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من تعريفه للفقه -أي علم أحكام الشريعة- بأنه: معرفة النفس ما لها وما عليها.

يقول العلامة صدر الشريعة في "التوضيح بشرح متن التنقيح" (1/ 18، ط. مكتبة صبيح): [وأبو حنيفة رحمه الله إنما لم يزد "عملا" -أي في التعريف السابق-؛ لأنه أراد الشمول، أي أطلق الفقه على العلم بما لها وعليها سواء كان من الاعتقاديات أو الوجدانيات أو العمليات، ثم سمى الكلام -أي علم العقائد- فقهًا أكبر] اهـ.

وكذا ما نقله العلامة الزركشي في "البحر المحيط" عن الإمام الرازي (5/ 214) قال: [فصل في بيان الحكمة في نسخ الشرائع ذكره الإمام فخر الدين في "المطالب العالية" وهو أن الشرائع قسمان: منها ما يعرف نفعها بالعقل في المعاش والمعاد، ومنها سمعية لا يعرف الانتفاع بها إلا من السمع.

فالأول: يمتنع طُرُوُّ النسخ عليها؛ كمعرفة الله وطاعته أبدًا، ومجامع هذه الشرائع العقلية أمران: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله؛ قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: 83].

والثاني: ما يمكن طَرَيان النسخ والتبديل عليه أمور تحصل في كيفية إقامة الطاعات العقلية والعبادات الحقيقية، وفائدة نسخها أن الأعمال البدنية إذا واظبوا عليها خلفًا عن سلفٍ صارت كالعادة عند الخلق، وظنوا أن أعيانها مطلوبةٌ لذاتها، ومنعهم ذلك من الوصول إلى المقصود، وهو معرفة الله وتمجيده، فإذا غير ذلك الطريق إلى نوع من الأنواع وتبين أن المقصود من هذه الأعمال رعاية أحوال القلب والأرواح في المعرفة والمحبة انقطعت الأوهام عن الاشتغال عن تلك الصور والظواهر إلى علام السرائر] اهـ.

ويقول العلامة حسن العطار في "حاشيته على شرح جمع الجوامع" (1/ 58، ط. دار الكتب العلمية): [الشرع يعمّ الأحكام الفقهية والاعتقادية، فهو كلٌّ، والأحكام الفقهية بعضٌ] اهـ.

وعلى ما سبق ذكره: فكلمة أصول الشريعة تحتمل التفسير بأحد وجهين:
الوجه الأول: أن يكون المراد بها العقائد الإيمانية؛ إذ هي الأصل الذي لا يُقبل عملُ المكلف إلا به، فهي أصول من حيث أنها يبنى عليها قبول الأعمال الصالحة -الفروع- والإثابة عليها؛ قال تعالى: ﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ۞ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [التوبة: 53-54].

ويشير إلى هذا المعنى كلام الأصوليين في بحث مسألة: "هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ويحاسبون عليها يوم القيامة أم لا؟" وتفسيرهم لفروع الشريعة بالأعمال التكليفية كالصلاة وإطعام المساكين؛ واستدلال بعضهم في ذلك بقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ۞ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ۞ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ۞ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۞ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۞ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ۞ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ۞ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ۞ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾ [المدثر: 39-47]، فهؤلاء المجرمون كفار بأصول الشريعة؛ إذ كذبوا بعقيدة البعث في اليوم الآخر، ومع هذا ذكروا أن من أسباب دخولهم النارَ عدمَ الصلاة وعدمَ إطعام المساكين، وهي أعمالٌ يسميها الأصوليون فروع الشريعة في مقابل أصول الشريعة الإيمانية؛ يقول الإمام الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب" (30/ 716، ط. دار إحياء التراث العربي): [والمعنى: ما حبسكم في هذه الدركة من النار؟ فأجابوا بأن هذا العذاب لأمور أربعة: أولها: قالوا لم نك من المصلين، وثانيها: لم نك نطعم المسكين، وهذان يجب أن يكونا محمولَيْن على الصلاة الواجبة والزكاة الواجبة؛ لأن ما ليس بواجب لا يجوز أن يعذَّبوا على تركه، وثالثها: وكنا نخوض مع الخائضين، والمراد منه الأباطيل، ورابعها: وكنا نكذب بيوم الدين، أي بيوم القيامة، حتى أتانا اليقين، أي الموت؛ قال تعالى: ﴿حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99]. والمعنى أنا بقينا على إنكار القيامة إلى وقت الموت، وظاهر اللفظ يدل على أن كل أحد من أولئك الأقوام كان موصوفًا بهذه الخصال الأربعة، واحتج أصحابُنا بهذه الآية على أن الكفار يعذبون بتَرْكِ فروعِ الشرائع، والاستقصاء فيه قد ذكرناه في "المحصول" من أصول الفقه] اهـ.

فإذا كانت العقائد هي المراد بأصول الشريعة، فشرط كونها منصوصًا عليها في الكتاب والسنة ظاهر؛ إذ إن الله عز وجل يرسل الرسل ويوحي إليهم وينزل الكتب السماوية لهداية الناس وتعليمهم ما يجب عليهم الإيمان به من العقائد الصحيحة، فلم يَكِلِ الأمرَ بالكلية إلى عقولهم، بل ينير لهم الدربَ ويحثهم على إعمال العقول بشكل صحيح على نور مما جاء به المرسلون؛ فعقول البشر قاصرةٌ ومتفاوتةٌ، ولا تسلم من المؤثرات التي تحيد بها عن جادة الطريق، وأكثر الناس ذكاءً قد يقع أسيرًا لمعتقدات خاطئة حين يعتمد على عقله المجرد في تناول المواضيع العلمية الدقيقة لا سيما إذا تعلقت بالغيب، فما أكثر من وُصفوا بالحكماء والأذكياء من فلاسفة اليونان وغيرهم، وما أكثر ما وقعوا فيه من العقائد الزائفة حينما وثقوا في العقل الثقةَ المطلقةَ فكلفوه البحثَ فيما يتجاوز قدره، والله تعالى يقول: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15]، فالتكليف بالبحث عن العقيدة الصحيحة لا يتعلق بالإنسان إلا بعد إرسال الرسل من جهة الخالق عز وجل.

قال القاضي البيضاوي في "تفسيره" (3/ 250، ط. دار إحياء التراث العربي): [﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ يبيِّن الحجج ويمهِّد الشرائع فيلزمهم الحجة، وفيه دليلٌ على أن لا وجوب قبل الشرع] اهـ.

ويوضح حجة الإسلام أبو حامد الغزالي أن الدور المنوط بالعقل في مجال العقيدة هو الاستدلال أولًا على صدق النبيّ، ثم الإيمان والتسليم بما أرسل به النبي من عقائدَ وشرائعَ، ثم يكون للعقل وظيفة أخرى خادمة لما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي الردُّ على شبهات المخالفين ببيان أن ما جاءت به نصوص الوحي لا يتصادم مع أدلة العقل والمنطق المستقيم، وإنما غايته أن يكون من محارات العقول لا من محالاتها؛ يقول الإمام الغزالي في "المستصفى" (ص: 6، ط. دار الكتب العلمية): [العقل يدلّ على صدق النبي، ثم يعزل نفسه ويعترف بأنه يتلقى من النبي بالقبول ما يقوله في الله واليوم الآخر مما لا يستقل العقل بدركه ولا يقضي أيضًا باستحالته، فقد يَرِدُ الشرع بما يقصر العقلُ عن الاستقلال بإدراكه؛ إذ لا يستقل العقل بإدراك كون الطاعة سببًا للسعادة في الآخرة وكون المعاصي للشقاوة، لكنه لا يقضي باستحالته أيضًا، ويقضي بوجوب صدق من دلَّت المعجزة على صدقه، فإذا أخبر عنه صدق العقل به بهذه الطريق، فهذا ما يحويه علم الكلام] اهـ. فالعقل إذن آلة للاستدلال على المصدر الصحيح لتلقي عقائد الإيمان، ثم آلة خادمة لنصرة هذه العقائد وفهمها على الوجه الصحيح وإثباتها بالأدلة العقلية والعلمية والدعوة إليها بما يناسب ثقافة المخاطب، ودفع شبهات الخصوم عنها.

الوجه الثاني: أن يكون المراد بأصول الشريعة أدلتها الكلية ومقاصدها وقواعدها المطردة غالبًا التي تبنى عليها الفروعُ والفتاوى والأحكام الجزئية، وهذه الأصول يختص ببيانها علوم ثلاثة هي: أصول الفقه، وقواعد الفقه، ومقاصد الشريعة.

قال العلامة السعد التفتازاني في حاشيته "التلويح على التوضيح" (1/ 8، ط. مكتبة صبيح): [وأصول الشريعة أدلتها الكلية] اهـ.

وجاء في "التقرير والتحبير" (1/ 17، ط. دار الكتب العلمية): [والمراد بالأدلة الأدلة الكلية السمعية الآتي بيانها، وهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس] اهـ.

فالأدلة الكلية عبارة عن مصادر التشريع، والقواعد المتعلقة بها من حيث شرح حقيقة المصدر وإثبات حجيته، وبيان كيفية استفادة الأحكام الشرعية منه، وحال المستفيد.

ويوضح العلامة شهاب الدين القرافي في مقدمة كتابه "الفروق" أن أصول الشريعة تنقسم إلى قسمين، أولهما: ما ضمه علم "أصول الفقه" من قوانين. وثانيهما: ما ضمه علم "القواعد الفقهية"، ونجد في كلامه أيضًا إشاراتٍ واضحةً إلى قسم ثالث ظهر مستقلًّا بعد عصر الإمام القرافي على يد الإمام الشاطبي، وهو علم "مقاصد الشريعة"، فهذه العلوم الثلاثة تعتبر أصولًا للشريعة؛ لأنها تشتمل على قواعد كلية وأغلبية يستفاد منها المعرفة الصحيحة لأحكام الشريعة بفهم نصوصها واستنباط معانيها في كل مسألة من مسائل الفروع لا سيما المستحدثة، مما يضمن بقاء حاكمية الشريعة ويثبت بصورة عملية شموليتها وصلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان، فمن هنا تعتبر هذه العلوم الثلاثة أصولًا للشريعة؛ إذ لو ارتفعت لتعذَّر فهم الشريعة وتعذَّر اتباعها؛ يقول الإمام القرافي في "الفروق" (1/ 2-3، ط. عالم الكتب): [إن الشريعة المعظمة المحمدية زاد الله تعالى منارها شرفًا وعُلُوًّا اشتملت على أصول وفروع، وأصولها قسمان:

- أحدهما: المسمى بأصول الفقه، وهو في غالب أمره ليس فيه إلا قواعدُ الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة، وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح، ونحو الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، والصيغة الخاصة للعموم، ونحو ذلك، وما خرج عن هذا النمط إلا كون القياس حجة وخبر الواحد وصفات المجتهدين.

- والقسم الثاني: قواعدُ كليةٌ فقهية جليلة كثيرة العدد عظيمة المدد مشتملة على أسرار الشرع وحكمه لكل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يحصى، ولم يذكر منها شيء في أصول الفقه.

وإن اتفقت الإشارة إليه هنالك على سبيل الإجمال فبقي تفصيله لم يتحصل، وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه، ويشرف ويظهر رونق الفقه ويعرف وتتضح مناهج الفتاوى.

ثم يؤكد القرافي أهميةَ الاعتناء بمقاصد الشريعة وكلياتها قائلا: ومن جَعَلَ يُخْرِجُ الفروعَ بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروعُ واختلفت وتزلزلت خواطرُه فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى، وانتهى العمر ولم تَقْضِ نفسُه من طلب مناها، ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات؛ لاندراجها في الكليات، واتَّحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب] اهـ.

فإذا كانت القواعد الأصولية والفقهية والمقاصدية هي المراد في السؤال عن "أصول الشريعة"، فلا يشترط أن تكون كلُّ قاعدة منها منصوصًا عليها نصًّا صريحًا قاطعًا في الكتاب والسنة، وإلا لما وقع خلاف بين فقهاء الأمة ومجتهديها في كثيرٍ من تلك القواعد، فإثبات القواعد وحجيتها يؤول إلى طرق ثلاثة:

الأول: "النص" كتابًا وسنةً، وهو المحور الأساسي المباشر بدلالة ألفاظه العربية مطابقةً وتضمنًا والتزامًا، دلالة قطعية أو ظنية.

والثاني: "الاستقراء" تامًّا أو ناقصًا للنصوص ولأحكام الجزئيات المنصوص عليها.

والثالث: "الاستدلال" بترتيب المقدمات المأخوذة من نصوص الشريعة وقواعد اللغة أو غيرها منطقيًّا.

والثاني والثالث وسيلتان لاستخراج القواعد من النص بصورة غير مباشرة من خلال مضامين النصوص ومفاهيمها ولوازمها وجمعها وترتيبها ومقارنتها وسَبْر معانيها وتقسيمها ثم استنتاج القاعدة الكلية في نهاية الأمر، وهذا عملٌ اجتهادي كبير ذو مراحلَ كثيرةٍ، مما أدى لاختلاف العلماء في تفاصيله، وبالتالي اختلافهم في استخلاص أصول الشريعة، أي القواعد الضابطة لفهمها والاستنباط منها، لكن يمكن تقسيم هذه الأصول إلى أصولٍ كبرى متفقٍ عليها، وأصولٍ صغرى مختلَفٍ فيها.

فالأصول المتفق عليها: نحو اعتبار الكتاب والسنة المصدرَيْن الأساسيين للتشريع، وكالقواعد الخمس التي قيل إن الفقه مبنيٌّ عليها؛ وهي: "الأمور بمقاصدها"، و"اليقين لا يزول بالشك"، و"المشقة تجلب التيسير"، و"الضرر يزال"، و"العادة محكمة"، وتقسيم مقاصد الشريعة إلى الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وتشوف الشرع إلى العتق وتحرير الإنسان.

أما الأصول المختلف فيها فمثل: "الاستحسان"، و"المصالح المرسلة"، و"شرع من قبلنا"؛ مما جرى الخلاف في حجيته، وكقاعدة: "هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها؟"، و"هل يلحق النادر بجنسه أو بنفسه؟"، ومن أمثلة المقاصد الظنية المتفاوتة الدرجة ظهورًا وخفاءً ما ذكره العلامة الطاهر بن عاشور في كتابه "مقاصد الشريعة" (ص: 237-238، ط. دار النفائس، الأردن]؛ فقال: [واعلم أن مراتب الظنون في فهم مقاصد الشريعة متفاوتةٌ بحسب تفاوت الاستقراء المستند إلى مقدار ما بين يدي الناظر من الأدلة، وبحسب خفاء الدلالة وقوتها؛ فإن دلالة تحريم الخمر على كون مقصد الشريعة حفظ العقول عن الفساد العارض دلالةٌ واضحة، ولذلك لم يكد يختلف المجتهدون في تحريم ما يصل بالشارب إلى حدِّ الإسكار، وأما دلالة تحريم الخمر على أن مقصد الشريعة سدّ ذريعة إفساد العقل، حتى نأخذ من ذلك المقصد تحريم القليل من الخمر، وتحريم النبيذ الذي لا يغلب إفضاؤه إلى الإسكار، فتلك دلالة خفية، ولذلك اختلف العلماء في مساواة تحريم الأنبذة لتحريم الخمر، وفي مساواة تحريم شرب قليل الخمر، فمن غلب ظنه بذلك سوَّى بينهما في التحريم وإقامة الحد والتجريح به، ومن جعل بينهما فرقًا لم يُسَوِّ بينهما في تلك الأمور] اهـ.

ويجد الباحث قواعد جاء بها نص شرعي بلفظه؛ مثل قاعدة: "الخراج بالضمان"، فهذا نص حديث شريف أخرجه أصحاب السنن الأربعة.

ويجد قواعد صِيغ لفظُها من ظاهر النص دون حاجة إلى استنباط؛ مثل قاعدة: "الميسور لا يسقط بالمعسور"، فإنها مأخوذةٌ من الحديث الشريف: «فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» متفق عليه.

ويجد قواعد خرجها العلماء من استقراء الأحكام الجزئية: وهو التي تتبعها العلماء في أبوابها المختلفة، وكثير منهم صاغوها في عبارات موجزة سلسة؛ مثل: "الرضا بالشيء رضا بما يتولد منه"، و"المشغول لا يشغل". انظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 141-151، ط. دار الكتب العلمية).

فالقواعد إذن ليست على وتيرة واحدة؛ فبعضها أصله نص شرعي، وبعضها مأخوذ من معنى نص أو أكثر، وبعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه.

وبناءً على ما سبق: فإنه يشترط في أصول الشريعة إذا قُصد بها العقائدُ الإيمانيةُ أن تكون منصوصًا عليها في الكتاب والسنة بنص عام أو خاص، أما إذا قُصد بأصول الشريعة القواعدُ التي تنضبط بها عمليةُ فهمِ أحكام الشريعة واستنباطها، فلا يشترط أن تكون كلُّ قاعدةٍ منها مذكورةً بالنص في الكتاب والسنة؛ لأن هذه القواعد تثبت بطرق عديدة -مباشرة وغير مباشرة-؛ كالنص والاستقراء والاستدلال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

النص على أصول الشريعة في الكتاب والسنة

هل يشترط في أصول الشريعة أن تكون جميعها منصوصًا عليها في القرآن والسنة؟

الأصول جمع أصل، وهو في اللغة: ما يبنى عليه غيرُه، وما يستند إليه وجودُ الشيء وتحققه، قال الراغب: أصل كل شيء قاعدتُه التي لو توهمت مرتفعة ارتفع بارتفاعها سائره. انظر: "تاج العروس" للزبيدي (27/ 447، مادة: أ ص ل، ط. دار الهداية).

وفي اصطلاح الأصوليين يطلق لفظ الأصل على أربعة معان: أحدها: الدليل؛ كقولهم: الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة. وثانيها: الرجحان؛ كقولهم: الأصل في الكلام الحقيقة. وثالثها: القاعدة المستمرة؛ كقولهم: إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل. ورابعها: الصورة المقيس عليها؛ كالخمر المقيس عليها في حرمتها كل ما يذهب العقل، على اختلاف مذكور في باب القياس في تفسير الأصل. انظر: "نهاية السول شرح منهاج الوصول" للإسنوي (1/ 8، ط. دار الكتب العلمية).

والشريعة لغةً: كالشِّراعُ والمَشْرَعةُ، وهي المواضعُ الَّتِي يُنْحَدر إِلى الْمَاءِ مِنْهَا، قَالَ اللَّيْثُ: وَبِهَا سُمِّيَ مَا شَرَعَ الله للعبادِ شَريعةً من الصَّوْمِ والصلاةِ وَالْحَجِّ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِ. والشِّرْعةُ والشَّريعةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: مَشْرَعةُ الْمَاءِ، وَهِيَ مَوْرِدُ الشاربةِ الَّتِي يَشْرَعُها النَّاسُ فَيَشْرَبُونَ مِنْهَا ويَسْتَقُونَ، وَرُبَّمَا شَرَّعوها دوابَّهم حَتَّى تَشْرَعها وتشرَب مِنْهَا، وَالْعَرَبُ لَا تُسَمِّيهَا شَريعةً حَتَّى يَكُونَ الْمَاءُ عِدًّا لَا انْقِطَاعَ لَهُ، وَيَكُون ظَاهِرًا مَعِينًا لَا يُسْقى بالرِّشاءِ. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (8/ 175، مادة: ش ر ع، ط. دار صادر).

ويقول العلامة ابن العربي المالكي في "أحكام القرآن" (4/ 102، ط. دار الكتب العلمية): [الشريعة في اللغة عبارة عن الطريق إلى الماء، ضربت مثلًا -أي في القرآن- للطريق إلى الحق؛ لما فيها من عذوبة المورد، وسلامة المصدر، وحسنه] اهـ.

والشريعة اصطلاحًا: ما بيَّنه الله تعالى لعباده من أحكام الدين؛ قال العلامة السعد في حاشية "التلويح على التوضيح" (1/ 7، ط. مكتبة صبيح): [والشرع والشريعة ما شرع الله تعالى لعباده من الدين: أي أظهر وبين، وحاصله الطريقة المعهودة الثابتة من النبي عليه السلام] اهـ.

ويقول العلامة البجيرمي في حاشيته "تحفة الحبيب على شرح الخطيب" (1/ 8، ط. دار الفكر): [الشريعة عند الفقهاء ما شرعه الله تعالى من الأحكام] اهـ.

وقال العلامة العدوي في "حاشيته على شرح كفاية الطالب الرباني" (1/ 28، ط. دار الفكر): [قوله: (جمع شريعة إلخ) هي لغة الطريقة، وشرعًا الحكم الشرعي ... والحكم يطلق ويراد به الأحكام الخمسة: الإيجاب والندب والتحريم والكراهة والإباحة، ويطلق ويراد به النسبة التامة كثبوت الوجوب للنية في قولك: النية واجبة] اهـ.

وعلى هذا يدخل في مسمّى الشريعة جميعُ ما تعلَّقت به الأحكام الشرعية، فيدخل ما أوجب الشرع الإيمان به من المعتقدات -والإيمان عمل قلبي كالنية-، وكذا ما يجب فعله من عبادات ومعاملات وما يندب منها، واجتناب المحرمات والمكروهات، والانتفاع بفعل المباحات أو بتركها من غير إلزام، ومن هنا فالشريعة تشتمل على أصول وفروع وأخلاق وآداب، وقد شاع لدى العلماء تلقيب علم العقائد بـ"أصول الدين"، والدين والملة والشريعة بمعنى واحد، فيصح إطلاق أصول الشريعة على العقائد الإيمانية، وهذا الشمول لمعنى الشريعة وتساويها مع الدين والملة نجده مفهومًا مما قاله كثيرٌ من العلماء؛ كالعلامة الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج" (1/ 32، ط. دار الفكر) قال: [والدين ما شرعه الله من الأحكام، وهو وضعُ سائقٍ إلهيٍّ لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما هو خير بالذات، وقيل: الطريقة المخصوصة المشروعة ببيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشتملة على الأصول والفروع والأخلاق والآداب، سميت من حيث انقياد الخلق لها دينًا، ومن حيث إظهار الشارع إياها شرعًا وشريعة، ومن حيث إملاء الشارع إياها ملة] اهـ.

وهناك عبارات أخرى كثيرة لأهل العلم يُفهم منها قصر مفهوم الشريعة على الأحكام الشرعية العملية المتعلقة بأحكام المكلفين -كأحكام الصلاة والزكاة والبيع والنكاح- والتي يمكن أن تختلف من دين لدين، بينما تتفق أديان الأنبياء في عقائد التوحيد، وهذا الاتجاه في اعتبار أن الشريعة بعض الدين وليست كله، له مستندٌ من النصوص الشرعية؛ كقوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48]، قال الإمام الطبري في تفسيره "جامع البيان" (10/ 385، ط. مؤسسة الرسالة): [جاء عن قتادة في "تفسيره": قوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ يقول: سبيلا وسُنَّة. والسنن مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحلُّ الله فيها ما يشاء، ويحرِّم ما يشاء بلاءً، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره: التوحيدُ والإخلاصُ لله، الذي جاءت به الرسل] اهـ.

وفي الحديث الشريف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ» متفق عليه. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 489، ط. دار المعرفة): [العلات بفتح المهملة: الضرائر، وأصله أن من تزوج امرأة ثم تزوج أخرى كأنه علّ منها، والعلَل الشرب بعد الشرب، وأولاد العلات: الإخوة من الأب وأمهاتهم شتى، وقد بيّنه في رواية عبد الرحمن فقال: وأمهاتهم شتى ودينهم واحد. وهو من باب التفسير؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ۞ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ۞ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج: 19–21]، ومعنى الحديث أن أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع. وقيل: المراد أن أزمنتهم مختلفة] اهـ.

وفي هذا السبيل نجد أبا بكر بن العربي في بيانه للأحكام التي اشتمل عليها قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: 18]؛ يقول في "أحكام القرآن" (4/ 102): [ظن بعض من تكلم في العلم أن هذه الآية دليلٌ على أن شَرْعَ مَنْ قبلنا ليس بشرع لنا؛ لأن الله تعالى أفرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته في هذه الآية بشريعة، ولا ننكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته منفردان بشريعة، وإنما الخلاف فيما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه مِن شرع مَن قبلنا في معرض المدح والثناء والعظة، هل يلزم اتباعه أم لا؟] اهـ.

ويقول العلامة الزركشي في "البحر المحيط في أصول الفقه" (5/ 209، ط. دار الكتبي) في مسألة جواز نسخ الشرائع مناقشًا لليهود في إنكارهم للجواز: [وهنا مباحثة مع اليهود لعنوا بما قالوا، وهي أنهم زعموا أن التعبد في الشرائع بالعبادات لا يجوز أن يتغير قياسًا على التوحيد، فإن التعبد بالتوحيد لا يجوز تغييره إلى الكفر. فيقال لهم: أيجوز أن يتعبد بالصلاة مثلًا في وقت دون وقت مع القدرة على الفعل؟ فإن قالوا: نعم، وهو قولهم؛ لأنهم لا يقولون باستغراق الزمان بالصلاة والصوم، فيقال لهم: أيجوز أن يتعبد بالتوحيد في وقت دون وقت مع كمال العقل والقدرة؟ فإن قالوا: نعم، فقد جوزوا ترك التوحيد. وإن قالوا: لا، وهو قولهم، فقد فرقوا بين التوحيد والشرائع. وحينئذٍ فلا امتناع في اختلاف التعبد بالشرائع في الكيفية، والعدد، والوقت، والزيادة، والنقص] اهـ. وهذا تمييزٌ واضح بين التوحيدِ الذي لا يجوز نسخُه والشرائعِ الجائزِ عند المسلمين نسخُها.

والحاصل أن الشريعة تطلق ويراد بها جميع ما جاء به الدين ونزلت به نصوص الوحي من أحكام العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق، وتطلق ويراد بها بعض ما جاء به الدين، أي: الأحكام المتعلقة بأفعال المكلفين وضعًا وتكليفًا وتخييرًا، والتي يختصُّ بدراستها علمُ الفقه وأصوله، بخلاف مسائل علم التوحيد التي يختص بها الكلام والنظر وفنون المعقول، وبخلاف مسائل الوجدانيات والأخلاق؛ كالتقوى والتوكل والأنس بالله تعالى والتي يختص بها علم التصوف والسلوك، فهذه مسائلُ وأحكامٌ لا يدخلها النسخ بخلاف مسائل الحلال والحرام فهي التي تنسخ، ولذا فهي الأجدر بأن تسمى شرائع؛ لقوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48].

والأقرب أن يقال: إن الشريعة الإسلامية شاملةٌ لكل ما سبق ذكره، فهي تشتمل على ما يجري فيه النسخ وما ليس كذلك؛ لقوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13]. فدل على أن بعض الشرائع لم تنسخ؛ لأن النسخ إزالة، وقد شرع تعالى لأمة الإسلام بعض ما وصى به النبيين من قبل ولم يزله، وفي قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ [آل عمران: 64] دليلٌ على أن هذه الكلمة التي كلّف الله بها أهلَ الكتاب من قبلُ لم تنسخْ، فالمسلمون مكلفون بها أيضًا. ولا يتعارض هذا الاشتراك الحاصل بين الإسلام وغيره مع كون الشريعة الإسلامية ناسخةً لكلِّ مَا سبقها من شرائعَ وأديانٍ، وكذلك لا يتعارض مع قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾؛ لأن الشرائع السماوية المتعددة تتفق في أمور وتمتاز عن بعضها بأمور أخرى، فلا يشترط في الشريعة الناسخة أن تختلف بجميع معالمها عما سبقها من شرائعَ، بل يكفي أن تختلفَ في بعض العناصر وأن تصير المرجعية مقصورةً عليها.

ويؤكد أن مصطلح الشريعة شامل للاعتقاديات والعمليات والوجدانيات ما نقل عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من تعريفه للفقه -أي علم أحكام الشريعة- بأنه: معرفة النفس ما لها وما عليها.

يقول العلامة صدر الشريعة في "التوضيح بشرح متن التنقيح" (1/ 18، ط. مكتبة صبيح): [وأبو حنيفة رحمه الله إنما لم يزد "عملا" -أي في التعريف السابق-؛ لأنه أراد الشمول، أي أطلق الفقه على العلم بما لها وعليها سواء كان من الاعتقاديات أو الوجدانيات أو العمليات، ثم سمى الكلام -أي علم العقائد- فقهًا أكبر] اهـ.

وكذا ما نقله العلامة الزركشي في "البحر المحيط" عن الإمام الرازي (5/ 214) قال: [فصل في بيان الحكمة في نسخ الشرائع ذكره الإمام فخر الدين في "المطالب العالية" وهو أن الشرائع قسمان: منها ما يعرف نفعها بالعقل في المعاش والمعاد، ومنها سمعية لا يعرف الانتفاع بها إلا من السمع.

فالأول: يمتنع طُرُوُّ النسخ عليها؛ كمعرفة الله وطاعته أبدًا، ومجامع هذه الشرائع العقلية أمران: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله؛ قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: 83].

والثاني: ما يمكن طَرَيان النسخ والتبديل عليه أمور تحصل في كيفية إقامة الطاعات العقلية والعبادات الحقيقية، وفائدة نسخها أن الأعمال البدنية إذا واظبوا عليها خلفًا عن سلفٍ صارت كالعادة عند الخلق، وظنوا أن أعيانها مطلوبةٌ لذاتها، ومنعهم ذلك من الوصول إلى المقصود، وهو معرفة الله وتمجيده، فإذا غير ذلك الطريق إلى نوع من الأنواع وتبين أن المقصود من هذه الأعمال رعاية أحوال القلب والأرواح في المعرفة والمحبة انقطعت الأوهام عن الاشتغال عن تلك الصور والظواهر إلى علام السرائر] اهـ.

ويقول العلامة حسن العطار في "حاشيته على شرح جمع الجوامع" (1/ 58، ط. دار الكتب العلمية): [الشرع يعمّ الأحكام الفقهية والاعتقادية، فهو كلٌّ، والأحكام الفقهية بعضٌ] اهـ.

وعلى ما سبق ذكره: فكلمة أصول الشريعة تحتمل التفسير بأحد وجهين:
الوجه الأول: أن يكون المراد بها العقائد الإيمانية؛ إذ هي الأصل الذي لا يُقبل عملُ المكلف إلا به، فهي أصول من حيث أنها يبنى عليها قبول الأعمال الصالحة -الفروع- والإثابة عليها؛ قال تعالى: ﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ۞ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [التوبة: 53-54].

ويشير إلى هذا المعنى كلام الأصوليين في بحث مسألة: "هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ويحاسبون عليها يوم القيامة أم لا؟" وتفسيرهم لفروع الشريعة بالأعمال التكليفية كالصلاة وإطعام المساكين؛ واستدلال بعضهم في ذلك بقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ۞ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ۞ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ۞ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۞ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۞ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ۞ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ۞ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ۞ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾ [المدثر: 39-47]، فهؤلاء المجرمون كفار بأصول الشريعة؛ إذ كذبوا بعقيدة البعث في اليوم الآخر، ومع هذا ذكروا أن من أسباب دخولهم النارَ عدمَ الصلاة وعدمَ إطعام المساكين، وهي أعمالٌ يسميها الأصوليون فروع الشريعة في مقابل أصول الشريعة الإيمانية؛ يقول الإمام الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب" (30/ 716، ط. دار إحياء التراث العربي): [والمعنى: ما حبسكم في هذه الدركة من النار؟ فأجابوا بأن هذا العذاب لأمور أربعة: أولها: قالوا لم نك من المصلين، وثانيها: لم نك نطعم المسكين، وهذان يجب أن يكونا محمولَيْن على الصلاة الواجبة والزكاة الواجبة؛ لأن ما ليس بواجب لا يجوز أن يعذَّبوا على تركه، وثالثها: وكنا نخوض مع الخائضين، والمراد منه الأباطيل، ورابعها: وكنا نكذب بيوم الدين، أي بيوم القيامة، حتى أتانا اليقين، أي الموت؛ قال تعالى: ﴿حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99]. والمعنى أنا بقينا على إنكار القيامة إلى وقت الموت، وظاهر اللفظ يدل على أن كل أحد من أولئك الأقوام كان موصوفًا بهذه الخصال الأربعة، واحتج أصحابُنا بهذه الآية على أن الكفار يعذبون بتَرْكِ فروعِ الشرائع، والاستقصاء فيه قد ذكرناه في "المحصول" من أصول الفقه] اهـ.

فإذا كانت العقائد هي المراد بأصول الشريعة، فشرط كونها منصوصًا عليها في الكتاب والسنة ظاهر؛ إذ إن الله عز وجل يرسل الرسل ويوحي إليهم وينزل الكتب السماوية لهداية الناس وتعليمهم ما يجب عليهم الإيمان به من العقائد الصحيحة، فلم يَكِلِ الأمرَ بالكلية إلى عقولهم، بل ينير لهم الدربَ ويحثهم على إعمال العقول بشكل صحيح على نور مما جاء به المرسلون؛ فعقول البشر قاصرةٌ ومتفاوتةٌ، ولا تسلم من المؤثرات التي تحيد بها عن جادة الطريق، وأكثر الناس ذكاءً قد يقع أسيرًا لمعتقدات خاطئة حين يعتمد على عقله المجرد في تناول المواضيع العلمية الدقيقة لا سيما إذا تعلقت بالغيب، فما أكثر من وُصفوا بالحكماء والأذكياء من فلاسفة اليونان وغيرهم، وما أكثر ما وقعوا فيه من العقائد الزائفة حينما وثقوا في العقل الثقةَ المطلقةَ فكلفوه البحثَ فيما يتجاوز قدره، والله تعالى يقول: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15]، فالتكليف بالبحث عن العقيدة الصحيحة لا يتعلق بالإنسان إلا بعد إرسال الرسل من جهة الخالق عز وجل.

قال القاضي البيضاوي في "تفسيره" (3/ 250، ط. دار إحياء التراث العربي): [﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ يبيِّن الحجج ويمهِّد الشرائع فيلزمهم الحجة، وفيه دليلٌ على أن لا وجوب قبل الشرع] اهـ.

ويوضح حجة الإسلام أبو حامد الغزالي أن الدور المنوط بالعقل في مجال العقيدة هو الاستدلال أولًا على صدق النبيّ، ثم الإيمان والتسليم بما أرسل به النبي من عقائدَ وشرائعَ، ثم يكون للعقل وظيفة أخرى خادمة لما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي الردُّ على شبهات المخالفين ببيان أن ما جاءت به نصوص الوحي لا يتصادم مع أدلة العقل والمنطق المستقيم، وإنما غايته أن يكون من محارات العقول لا من محالاتها؛ يقول الإمام الغزالي في "المستصفى" (ص: 6، ط. دار الكتب العلمية): [العقل يدلّ على صدق النبي، ثم يعزل نفسه ويعترف بأنه يتلقى من النبي بالقبول ما يقوله في الله واليوم الآخر مما لا يستقل العقل بدركه ولا يقضي أيضًا باستحالته، فقد يَرِدُ الشرع بما يقصر العقلُ عن الاستقلال بإدراكه؛ إذ لا يستقل العقل بإدراك كون الطاعة سببًا للسعادة في الآخرة وكون المعاصي للشقاوة، لكنه لا يقضي باستحالته أيضًا، ويقضي بوجوب صدق من دلَّت المعجزة على صدقه، فإذا أخبر عنه صدق العقل به بهذه الطريق، فهذا ما يحويه علم الكلام] اهـ. فالعقل إذن آلة للاستدلال على المصدر الصحيح لتلقي عقائد الإيمان، ثم آلة خادمة لنصرة هذه العقائد وفهمها على الوجه الصحيح وإثباتها بالأدلة العقلية والعلمية والدعوة إليها بما يناسب ثقافة المخاطب، ودفع شبهات الخصوم عنها.

الوجه الثاني: أن يكون المراد بأصول الشريعة أدلتها الكلية ومقاصدها وقواعدها المطردة غالبًا التي تبنى عليها الفروعُ والفتاوى والأحكام الجزئية، وهذه الأصول يختص ببيانها علوم ثلاثة هي: أصول الفقه، وقواعد الفقه، ومقاصد الشريعة.

قال العلامة السعد التفتازاني في حاشيته "التلويح على التوضيح" (1/ 8، ط. مكتبة صبيح): [وأصول الشريعة أدلتها الكلية] اهـ.

وجاء في "التقرير والتحبير" (1/ 17، ط. دار الكتب العلمية): [والمراد بالأدلة الأدلة الكلية السمعية الآتي بيانها، وهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس] اهـ.

فالأدلة الكلية عبارة عن مصادر التشريع، والقواعد المتعلقة بها من حيث شرح حقيقة المصدر وإثبات حجيته، وبيان كيفية استفادة الأحكام الشرعية منه، وحال المستفيد.

ويوضح العلامة شهاب الدين القرافي في مقدمة كتابه "الفروق" أن أصول الشريعة تنقسم إلى قسمين، أولهما: ما ضمه علم "أصول الفقه" من قوانين. وثانيهما: ما ضمه علم "القواعد الفقهية"، ونجد في كلامه أيضًا إشاراتٍ واضحةً إلى قسم ثالث ظهر مستقلًّا بعد عصر الإمام القرافي على يد الإمام الشاطبي، وهو علم "مقاصد الشريعة"، فهذه العلوم الثلاثة تعتبر أصولًا للشريعة؛ لأنها تشتمل على قواعد كلية وأغلبية يستفاد منها المعرفة الصحيحة لأحكام الشريعة بفهم نصوصها واستنباط معانيها في كل مسألة من مسائل الفروع لا سيما المستحدثة، مما يضمن بقاء حاكمية الشريعة ويثبت بصورة عملية شموليتها وصلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان، فمن هنا تعتبر هذه العلوم الثلاثة أصولًا للشريعة؛ إذ لو ارتفعت لتعذَّر فهم الشريعة وتعذَّر اتباعها؛ يقول الإمام القرافي في "الفروق" (1/ 2-3، ط. عالم الكتب): [إن الشريعة المعظمة المحمدية زاد الله تعالى منارها شرفًا وعُلُوًّا اشتملت على أصول وفروع، وأصولها قسمان:

- أحدهما: المسمى بأصول الفقه، وهو في غالب أمره ليس فيه إلا قواعدُ الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة، وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح، ونحو الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، والصيغة الخاصة للعموم، ونحو ذلك، وما خرج عن هذا النمط إلا كون القياس حجة وخبر الواحد وصفات المجتهدين.

- والقسم الثاني: قواعدُ كليةٌ فقهية جليلة كثيرة العدد عظيمة المدد مشتملة على أسرار الشرع وحكمه لكل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يحصى، ولم يذكر منها شيء في أصول الفقه.

وإن اتفقت الإشارة إليه هنالك على سبيل الإجمال فبقي تفصيله لم يتحصل، وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه، ويشرف ويظهر رونق الفقه ويعرف وتتضح مناهج الفتاوى.

ثم يؤكد القرافي أهميةَ الاعتناء بمقاصد الشريعة وكلياتها قائلا: ومن جَعَلَ يُخْرِجُ الفروعَ بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروعُ واختلفت وتزلزلت خواطرُه فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى، وانتهى العمر ولم تَقْضِ نفسُه من طلب مناها، ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات؛ لاندراجها في الكليات، واتَّحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب] اهـ.

فإذا كانت القواعد الأصولية والفقهية والمقاصدية هي المراد في السؤال عن "أصول الشريعة"، فلا يشترط أن تكون كلُّ قاعدة منها منصوصًا عليها نصًّا صريحًا قاطعًا في الكتاب والسنة، وإلا لما وقع خلاف بين فقهاء الأمة ومجتهديها في كثيرٍ من تلك القواعد، فإثبات القواعد وحجيتها يؤول إلى طرق ثلاثة:

الأول: "النص" كتابًا وسنةً، وهو المحور الأساسي المباشر بدلالة ألفاظه العربية مطابقةً وتضمنًا والتزامًا، دلالة قطعية أو ظنية.

والثاني: "الاستقراء" تامًّا أو ناقصًا للنصوص ولأحكام الجزئيات المنصوص عليها.

والثالث: "الاستدلال" بترتيب المقدمات المأخوذة من نصوص الشريعة وقواعد اللغة أو غيرها منطقيًّا.

والثاني والثالث وسيلتان لاستخراج القواعد من النص بصورة غير مباشرة من خلال مضامين النصوص ومفاهيمها ولوازمها وجمعها وترتيبها ومقارنتها وسَبْر معانيها وتقسيمها ثم استنتاج القاعدة الكلية في نهاية الأمر، وهذا عملٌ اجتهادي كبير ذو مراحلَ كثيرةٍ، مما أدى لاختلاف العلماء في تفاصيله، وبالتالي اختلافهم في استخلاص أصول الشريعة، أي القواعد الضابطة لفهمها والاستنباط منها، لكن يمكن تقسيم هذه الأصول إلى أصولٍ كبرى متفقٍ عليها، وأصولٍ صغرى مختلَفٍ فيها.

فالأصول المتفق عليها: نحو اعتبار الكتاب والسنة المصدرَيْن الأساسيين للتشريع، وكالقواعد الخمس التي قيل إن الفقه مبنيٌّ عليها؛ وهي: "الأمور بمقاصدها"، و"اليقين لا يزول بالشك"، و"المشقة تجلب التيسير"، و"الضرر يزال"، و"العادة محكمة"، وتقسيم مقاصد الشريعة إلى الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وتشوف الشرع إلى العتق وتحرير الإنسان.

أما الأصول المختلف فيها فمثل: "الاستحسان"، و"المصالح المرسلة"، و"شرع من قبلنا"؛ مما جرى الخلاف في حجيته، وكقاعدة: "هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها؟"، و"هل يلحق النادر بجنسه أو بنفسه؟"، ومن أمثلة المقاصد الظنية المتفاوتة الدرجة ظهورًا وخفاءً ما ذكره العلامة الطاهر بن عاشور في كتابه "مقاصد الشريعة" (ص: 237-238، ط. دار النفائس، الأردن]؛ فقال: [واعلم أن مراتب الظنون في فهم مقاصد الشريعة متفاوتةٌ بحسب تفاوت الاستقراء المستند إلى مقدار ما بين يدي الناظر من الأدلة، وبحسب خفاء الدلالة وقوتها؛ فإن دلالة تحريم الخمر على كون مقصد الشريعة حفظ العقول عن الفساد العارض دلالةٌ واضحة، ولذلك لم يكد يختلف المجتهدون في تحريم ما يصل بالشارب إلى حدِّ الإسكار، وأما دلالة تحريم الخمر على أن مقصد الشريعة سدّ ذريعة إفساد العقل، حتى نأخذ من ذلك المقصد تحريم القليل من الخمر، وتحريم النبيذ الذي لا يغلب إفضاؤه إلى الإسكار، فتلك دلالة خفية، ولذلك اختلف العلماء في مساواة تحريم الأنبذة لتحريم الخمر، وفي مساواة تحريم شرب قليل الخمر، فمن غلب ظنه بذلك سوَّى بينهما في التحريم وإقامة الحد والتجريح به، ومن جعل بينهما فرقًا لم يُسَوِّ بينهما في تلك الأمور] اهـ.

ويجد الباحث قواعد جاء بها نص شرعي بلفظه؛ مثل قاعدة: "الخراج بالضمان"، فهذا نص حديث شريف أخرجه أصحاب السنن الأربعة.

ويجد قواعد صِيغ لفظُها من ظاهر النص دون حاجة إلى استنباط؛ مثل قاعدة: "الميسور لا يسقط بالمعسور"، فإنها مأخوذةٌ من الحديث الشريف: «فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» متفق عليه.

ويجد قواعد خرجها العلماء من استقراء الأحكام الجزئية: وهو التي تتبعها العلماء في أبوابها المختلفة، وكثير منهم صاغوها في عبارات موجزة سلسة؛ مثل: "الرضا بالشيء رضا بما يتولد منه"، و"المشغول لا يشغل". انظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 141-151، ط. دار الكتب العلمية).

فالقواعد إذن ليست على وتيرة واحدة؛ فبعضها أصله نص شرعي، وبعضها مأخوذ من معنى نص أو أكثر، وبعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه.

وبناءً على ما سبق: فإنه يشترط في أصول الشريعة إذا قُصد بها العقائدُ الإيمانيةُ أن تكون منصوصًا عليها في الكتاب والسنة بنص عام أو خاص، أما إذا قُصد بأصول الشريعة القواعدُ التي تنضبط بها عمليةُ فهمِ أحكام الشريعة واستنباطها، فلا يشترط أن تكون كلُّ قاعدةٍ منها مذكورةً بالنص في الكتاب والسنة؛ لأن هذه القواعد تثبت بطرق عديدة -مباشرة وغير مباشرة-؛ كالنص والاستقراء والاستدلال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

الأصول جمع أصل، وهو في اللغة: ما يبنى عليه غيرُه، وما يستند إليه وجودُ الشيء وتحققه، قال الراغب: أصل كل شيء قاعدتُه التي لو توهمت مرتفعة ارتفع بارتفاعها سائره. انظر: "تاج العروس" للزبيدي (27/ 447، مادة: أ ص ل، ط. دار الهداية).

وفي اصطلاح الأصوليين يطلق لفظ الأصل على أربعة معان: أحدها: الدليل؛ كقولهم: الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة. وثانيها: الرجحان؛ كقولهم: الأصل في الكلام الحقيقة. وثالثها: القاعدة المستمرة؛ كقولهم: إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل. ورابعها: الصورة المقيس عليها؛ كالخمر المقيس عليها في حرمتها كل ما يذهب العقل، على اختلاف مذكور في باب القياس في تفسير الأصل. انظر: "نهاية السول شرح منهاج الوصول" للإسنوي (1/ 8، ط. دار الكتب العلمية).

والشريعة لغةً: كالشِّراعُ والمَشْرَعةُ، وهي المواضعُ الَّتِي يُنْحَدر إِلى الْمَاءِ مِنْهَا، قَالَ اللَّيْثُ: وَبِهَا سُمِّيَ مَا شَرَعَ الله للعبادِ شَريعةً من الصَّوْمِ والصلاةِ وَالْحَجِّ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِ. والشِّرْعةُ والشَّريعةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: مَشْرَعةُ الْمَاءِ، وَهِيَ مَوْرِدُ الشاربةِ الَّتِي يَشْرَعُها النَّاسُ فَيَشْرَبُونَ مِنْهَا ويَسْتَقُونَ، وَرُبَّمَا شَرَّعوها دوابَّهم حَتَّى تَشْرَعها وتشرَب مِنْهَا، وَالْعَرَبُ لَا تُسَمِّيهَا شَريعةً حَتَّى يَكُونَ الْمَاءُ عِدًّا لَا انْقِطَاعَ لَهُ، وَيَكُون ظَاهِرًا مَعِينًا لَا يُسْقى بالرِّشاءِ. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (8/ 175، مادة: ش ر ع، ط. دار صادر).

ويقول العلامة ابن العربي المالكي في "أحكام القرآن" (4/ 102، ط. دار الكتب العلمية): [الشريعة في اللغة عبارة عن الطريق إلى الماء، ضربت مثلًا -أي في القرآن- للطريق إلى الحق؛ لما فيها من عذوبة المورد، وسلامة المصدر، وحسنه] اهـ.

والشريعة اصطلاحًا: ما بيَّنه الله تعالى لعباده من أحكام الدين؛ قال العلامة السعد في حاشية "التلويح على التوضيح" (1/ 7، ط. مكتبة صبيح): [والشرع والشريعة ما شرع الله تعالى لعباده من الدين: أي أظهر وبين، وحاصله الطريقة المعهودة الثابتة من النبي عليه السلام] اهـ.

ويقول العلامة البجيرمي في حاشيته "تحفة الحبيب على شرح الخطيب" (1/ 8، ط. دار الفكر): [الشريعة عند الفقهاء ما شرعه الله تعالى من الأحكام] اهـ.

وقال العلامة العدوي في "حاشيته على شرح كفاية الطالب الرباني" (1/ 28، ط. دار الفكر): [قوله: (جمع شريعة إلخ) هي لغة الطريقة، وشرعًا الحكم الشرعي ... والحكم يطلق ويراد به الأحكام الخمسة: الإيجاب والندب والتحريم والكراهة والإباحة، ويطلق ويراد به النسبة التامة كثبوت الوجوب للنية في قولك: النية واجبة] اهـ.

وعلى هذا يدخل في مسمّى الشريعة جميعُ ما تعلَّقت به الأحكام الشرعية، فيدخل ما أوجب الشرع الإيمان به من المعتقدات -والإيمان عمل قلبي كالنية-، وكذا ما يجب فعله من عبادات ومعاملات وما يندب منها، واجتناب المحرمات والمكروهات، والانتفاع بفعل المباحات أو بتركها من غير إلزام، ومن هنا فالشريعة تشتمل على أصول وفروع وأخلاق وآداب، وقد شاع لدى العلماء تلقيب علم العقائد بـ"أصول الدين"، والدين والملة والشريعة بمعنى واحد، فيصح إطلاق أصول الشريعة على العقائد الإيمانية، وهذا الشمول لمعنى الشريعة وتساويها مع الدين والملة نجده مفهومًا مما قاله كثيرٌ من العلماء؛ كالعلامة الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج" (1/ 32، ط. دار الفكر) قال: [والدين ما شرعه الله من الأحكام، وهو وضعُ سائقٍ إلهيٍّ لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما هو خير بالذات، وقيل: الطريقة المخصوصة المشروعة ببيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشتملة على الأصول والفروع والأخلاق والآداب، سميت من حيث انقياد الخلق لها دينًا، ومن حيث إظهار الشارع إياها شرعًا وشريعة، ومن حيث إملاء الشارع إياها ملة] اهـ.

وهناك عبارات أخرى كثيرة لأهل العلم يُفهم منها قصر مفهوم الشريعة على الأحكام الشرعية العملية المتعلقة بأحكام المكلفين -كأحكام الصلاة والزكاة والبيع والنكاح- والتي يمكن أن تختلف من دين لدين، بينما تتفق أديان الأنبياء في عقائد التوحيد، وهذا الاتجاه في اعتبار أن الشريعة بعض الدين وليست كله، له مستندٌ من النصوص الشرعية؛ كقوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48]، قال الإمام الطبري في تفسيره "جامع البيان" (10/ 385، ط. مؤسسة الرسالة): [جاء عن قتادة في "تفسيره": قوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ يقول: سبيلا وسُنَّة. والسنن مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحلُّ الله فيها ما يشاء، ويحرِّم ما يشاء بلاءً، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره: التوحيدُ والإخلاصُ لله، الذي جاءت به الرسل] اهـ.

وفي الحديث الشريف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ» متفق عليه. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 489، ط. دار المعرفة): [العلات بفتح المهملة: الضرائر، وأصله أن من تزوج امرأة ثم تزوج أخرى كأنه علّ منها، والعلَل الشرب بعد الشرب، وأولاد العلات: الإخوة من الأب وأمهاتهم شتى، وقد بيّنه في رواية عبد الرحمن فقال: وأمهاتهم شتى ودينهم واحد. وهو من باب التفسير؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ۞ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ۞ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج: 19–21]، ومعنى الحديث أن أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع. وقيل: المراد أن أزمنتهم مختلفة] اهـ.

وفي هذا السبيل نجد أبا بكر بن العربي في بيانه للأحكام التي اشتمل عليها قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: 18]؛ يقول في "أحكام القرآن" (4/ 102): [ظن بعض من تكلم في العلم أن هذه الآية دليلٌ على أن شَرْعَ مَنْ قبلنا ليس بشرع لنا؛ لأن الله تعالى أفرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته في هذه الآية بشريعة، ولا ننكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته منفردان بشريعة، وإنما الخلاف فيما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه مِن شرع مَن قبلنا في معرض المدح والثناء والعظة، هل يلزم اتباعه أم لا؟] اهـ.

ويقول العلامة الزركشي في "البحر المحيط في أصول الفقه" (5/ 209، ط. دار الكتبي) في مسألة جواز نسخ الشرائع مناقشًا لليهود في إنكارهم للجواز: [وهنا مباحثة مع اليهود لعنوا بما قالوا، وهي أنهم زعموا أن التعبد في الشرائع بالعبادات لا يجوز أن يتغير قياسًا على التوحيد، فإن التعبد بالتوحيد لا يجوز تغييره إلى الكفر. فيقال لهم: أيجوز أن يتعبد بالصلاة مثلًا في وقت دون وقت مع القدرة على الفعل؟ فإن قالوا: نعم، وهو قولهم؛ لأنهم لا يقولون باستغراق الزمان بالصلاة والصوم، فيقال لهم: أيجوز أن يتعبد بالتوحيد في وقت دون وقت مع كمال العقل والقدرة؟ فإن قالوا: نعم، فقد جوزوا ترك التوحيد. وإن قالوا: لا، وهو قولهم، فقد فرقوا بين التوحيد والشرائع. وحينئذٍ فلا امتناع في اختلاف التعبد بالشرائع في الكيفية، والعدد، والوقت، والزيادة، والنقص] اهـ. وهذا تمييزٌ واضح بين التوحيدِ الذي لا يجوز نسخُه والشرائعِ الجائزِ عند المسلمين نسخُها.

والحاصل أن الشريعة تطلق ويراد بها جميع ما جاء به الدين ونزلت به نصوص الوحي من أحكام العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق، وتطلق ويراد بها بعض ما جاء به الدين، أي: الأحكام المتعلقة بأفعال المكلفين وضعًا وتكليفًا وتخييرًا، والتي يختصُّ بدراستها علمُ الفقه وأصوله، بخلاف مسائل علم التوحيد التي يختص بها الكلام والنظر وفنون المعقول، وبخلاف مسائل الوجدانيات والأخلاق؛ كالتقوى والتوكل والأنس بالله تعالى والتي يختص بها علم التصوف والسلوك، فهذه مسائلُ وأحكامٌ لا يدخلها النسخ بخلاف مسائل الحلال والحرام فهي التي تنسخ، ولذا فهي الأجدر بأن تسمى شرائع؛ لقوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48].

والأقرب أن يقال: إن الشريعة الإسلامية شاملةٌ لكل ما سبق ذكره، فهي تشتمل على ما يجري فيه النسخ وما ليس كذلك؛ لقوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13]. فدل على أن بعض الشرائع لم تنسخ؛ لأن النسخ إزالة، وقد شرع تعالى لأمة الإسلام بعض ما وصى به النبيين من قبل ولم يزله، وفي قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ [آل عمران: 64] دليلٌ على أن هذه الكلمة التي كلّف الله بها أهلَ الكتاب من قبلُ لم تنسخْ، فالمسلمون مكلفون بها أيضًا. ولا يتعارض هذا الاشتراك الحاصل بين الإسلام وغيره مع كون الشريعة الإسلامية ناسخةً لكلِّ مَا سبقها من شرائعَ وأديانٍ، وكذلك لا يتعارض مع قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾؛ لأن الشرائع السماوية المتعددة تتفق في أمور وتمتاز عن بعضها بأمور أخرى، فلا يشترط في الشريعة الناسخة أن تختلف بجميع معالمها عما سبقها من شرائعَ، بل يكفي أن تختلفَ في بعض العناصر وأن تصير المرجعية مقصورةً عليها.

ويؤكد أن مصطلح الشريعة شامل للاعتقاديات والعمليات والوجدانيات ما نقل عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من تعريفه للفقه -أي علم أحكام الشريعة- بأنه: معرفة النفس ما لها وما عليها.

يقول العلامة صدر الشريعة في "التوضيح بشرح متن التنقيح" (1/ 18، ط. مكتبة صبيح): [وأبو حنيفة رحمه الله إنما لم يزد "عملا" -أي في التعريف السابق-؛ لأنه أراد الشمول، أي أطلق الفقه على العلم بما لها وعليها سواء كان من الاعتقاديات أو الوجدانيات أو العمليات، ثم سمى الكلام -أي علم العقائد- فقهًا أكبر] اهـ.

وكذا ما نقله العلامة الزركشي في "البحر المحيط" عن الإمام الرازي (5/ 214) قال: [فصل في بيان الحكمة في نسخ الشرائع ذكره الإمام فخر الدين في "المطالب العالية" وهو أن الشرائع قسمان: منها ما يعرف نفعها بالعقل في المعاش والمعاد، ومنها سمعية لا يعرف الانتفاع بها إلا من السمع.

فالأول: يمتنع طُرُوُّ النسخ عليها؛ كمعرفة الله وطاعته أبدًا، ومجامع هذه الشرائع العقلية أمران: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله؛ قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: 83].

والثاني: ما يمكن طَرَيان النسخ والتبديل عليه أمور تحصل في كيفية إقامة الطاعات العقلية والعبادات الحقيقية، وفائدة نسخها أن الأعمال البدنية إذا واظبوا عليها خلفًا عن سلفٍ صارت كالعادة عند الخلق، وظنوا أن أعيانها مطلوبةٌ لذاتها، ومنعهم ذلك من الوصول إلى المقصود، وهو معرفة الله وتمجيده، فإذا غير ذلك الطريق إلى نوع من الأنواع وتبين أن المقصود من هذه الأعمال رعاية أحوال القلب والأرواح في المعرفة والمحبة انقطعت الأوهام عن الاشتغال عن تلك الصور والظواهر إلى علام السرائر] اهـ.

ويقول العلامة حسن العطار في "حاشيته على شرح جمع الجوامع" (1/ 58، ط. دار الكتب العلمية): [الشرع يعمّ الأحكام الفقهية والاعتقادية، فهو كلٌّ، والأحكام الفقهية بعضٌ] اهـ.

وعلى ما سبق ذكره: فكلمة أصول الشريعة تحتمل التفسير بأحد وجهين:
الوجه الأول: أن يكون المراد بها العقائد الإيمانية؛ إذ هي الأصل الذي لا يُقبل عملُ المكلف إلا به، فهي أصول من حيث أنها يبنى عليها قبول الأعمال الصالحة -الفروع- والإثابة عليها؛ قال تعالى: ﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ۞ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [التوبة: 53-54].

ويشير إلى هذا المعنى كلام الأصوليين في بحث مسألة: "هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ويحاسبون عليها يوم القيامة أم لا؟" وتفسيرهم لفروع الشريعة بالأعمال التكليفية كالصلاة وإطعام المساكين؛ واستدلال بعضهم في ذلك بقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ۞ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ۞ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ۞ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۞ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۞ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ۞ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ۞ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ۞ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾ [المدثر: 39-47]، فهؤلاء المجرمون كفار بأصول الشريعة؛ إذ كذبوا بعقيدة البعث في اليوم الآخر، ومع هذا ذكروا أن من أسباب دخولهم النارَ عدمَ الصلاة وعدمَ إطعام المساكين، وهي أعمالٌ يسميها الأصوليون فروع الشريعة في مقابل أصول الشريعة الإيمانية؛ يقول الإمام الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب" (30/ 716، ط. دار إحياء التراث العربي): [والمعنى: ما حبسكم في هذه الدركة من النار؟ فأجابوا بأن هذا العذاب لأمور أربعة: أولها: قالوا لم نك من المصلين، وثانيها: لم نك نطعم المسكين، وهذان يجب أن يكونا محمولَيْن على الصلاة الواجبة والزكاة الواجبة؛ لأن ما ليس بواجب لا يجوز أن يعذَّبوا على تركه، وثالثها: وكنا نخوض مع الخائضين، والمراد منه الأباطيل، ورابعها: وكنا نكذب بيوم الدين، أي بيوم القيامة، حتى أتانا اليقين، أي الموت؛ قال تعالى: ﴿حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99]. والمعنى أنا بقينا على إنكار القيامة إلى وقت الموت، وظاهر اللفظ يدل على أن كل أحد من أولئك الأقوام كان موصوفًا بهذه الخصال الأربعة، واحتج أصحابُنا بهذه الآية على أن الكفار يعذبون بتَرْكِ فروعِ الشرائع، والاستقصاء فيه قد ذكرناه في "المحصول" من أصول الفقه] اهـ.

فإذا كانت العقائد هي المراد بأصول الشريعة، فشرط كونها منصوصًا عليها في الكتاب والسنة ظاهر؛ إذ إن الله عز وجل يرسل الرسل ويوحي إليهم وينزل الكتب السماوية لهداية الناس وتعليمهم ما يجب عليهم الإيمان به من العقائد الصحيحة، فلم يَكِلِ الأمرَ بالكلية إلى عقولهم، بل ينير لهم الدربَ ويحثهم على إعمال العقول بشكل صحيح على نور مما جاء به المرسلون؛ فعقول البشر قاصرةٌ ومتفاوتةٌ، ولا تسلم من المؤثرات التي تحيد بها عن جادة الطريق، وأكثر الناس ذكاءً قد يقع أسيرًا لمعتقدات خاطئة حين يعتمد على عقله المجرد في تناول المواضيع العلمية الدقيقة لا سيما إذا تعلقت بالغيب، فما أكثر من وُصفوا بالحكماء والأذكياء من فلاسفة اليونان وغيرهم، وما أكثر ما وقعوا فيه من العقائد الزائفة حينما وثقوا في العقل الثقةَ المطلقةَ فكلفوه البحثَ فيما يتجاوز قدره، والله تعالى يقول: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15]، فالتكليف بالبحث عن العقيدة الصحيحة لا يتعلق بالإنسان إلا بعد إرسال الرسل من جهة الخالق عز وجل.

قال القاضي البيضاوي في "تفسيره" (3/ 250، ط. دار إحياء التراث العربي): [﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ يبيِّن الحجج ويمهِّد الشرائع فيلزمهم الحجة، وفيه دليلٌ على أن لا وجوب قبل الشرع] اهـ.

ويوضح حجة الإسلام أبو حامد الغزالي أن الدور المنوط بالعقل في مجال العقيدة هو الاستدلال أولًا على صدق النبيّ، ثم الإيمان والتسليم بما أرسل به النبي من عقائدَ وشرائعَ، ثم يكون للعقل وظيفة أخرى خادمة لما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي الردُّ على شبهات المخالفين ببيان أن ما جاءت به نصوص الوحي لا يتصادم مع أدلة العقل والمنطق المستقيم، وإنما غايته أن يكون من محارات العقول لا من محالاتها؛ يقول الإمام الغزالي في "المستصفى" (ص: 6، ط. دار الكتب العلمية): [العقل يدلّ على صدق النبي، ثم يعزل نفسه ويعترف بأنه يتلقى من النبي بالقبول ما يقوله في الله واليوم الآخر مما لا يستقل العقل بدركه ولا يقضي أيضًا باستحالته، فقد يَرِدُ الشرع بما يقصر العقلُ عن الاستقلال بإدراكه؛ إذ لا يستقل العقل بإدراك كون الطاعة سببًا للسعادة في الآخرة وكون المعاصي للشقاوة، لكنه لا يقضي باستحالته أيضًا، ويقضي بوجوب صدق من دلَّت المعجزة على صدقه، فإذا أخبر عنه صدق العقل به بهذه الطريق، فهذا ما يحويه علم الكلام] اهـ. فالعقل إذن آلة للاستدلال على المصدر الصحيح لتلقي عقائد الإيمان، ثم آلة خادمة لنصرة هذه العقائد وفهمها على الوجه الصحيح وإثباتها بالأدلة العقلية والعلمية والدعوة إليها بما يناسب ثقافة المخاطب، ودفع شبهات الخصوم عنها.

الوجه الثاني: أن يكون المراد بأصول الشريعة أدلتها الكلية ومقاصدها وقواعدها المطردة غالبًا التي تبنى عليها الفروعُ والفتاوى والأحكام الجزئية، وهذه الأصول يختص ببيانها علوم ثلاثة هي: أصول الفقه، وقواعد الفقه، ومقاصد الشريعة.

قال العلامة السعد التفتازاني في حاشيته "التلويح على التوضيح" (1/ 8، ط. مكتبة صبيح): [وأصول الشريعة أدلتها الكلية] اهـ.

وجاء في "التقرير والتحبير" (1/ 17، ط. دار الكتب العلمية): [والمراد بالأدلة الأدلة الكلية السمعية الآتي بيانها، وهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس] اهـ.

فالأدلة الكلية عبارة عن مصادر التشريع، والقواعد المتعلقة بها من حيث شرح حقيقة المصدر وإثبات حجيته، وبيان كيفية استفادة الأحكام الشرعية منه، وحال المستفيد.

ويوضح العلامة شهاب الدين القرافي في مقدمة كتابه "الفروق" أن أصول الشريعة تنقسم إلى قسمين، أولهما: ما ضمه علم "أصول الفقه" من قوانين. وثانيهما: ما ضمه علم "القواعد الفقهية"، ونجد في كلامه أيضًا إشاراتٍ واضحةً إلى قسم ثالث ظهر مستقلًّا بعد عصر الإمام القرافي على يد الإمام الشاطبي، وهو علم "مقاصد الشريعة"، فهذه العلوم الثلاثة تعتبر أصولًا للشريعة؛ لأنها تشتمل على قواعد كلية وأغلبية يستفاد منها المعرفة الصحيحة لأحكام الشريعة بفهم نصوصها واستنباط معانيها في كل مسألة من مسائل الفروع لا سيما المستحدثة، مما يضمن بقاء حاكمية الشريعة ويثبت بصورة عملية شموليتها وصلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان، فمن هنا تعتبر هذه العلوم الثلاثة أصولًا للشريعة؛ إذ لو ارتفعت لتعذَّر فهم الشريعة وتعذَّر اتباعها؛ يقول الإمام القرافي في "الفروق" (1/ 2-3، ط. عالم الكتب): [إن الشريعة المعظمة المحمدية زاد الله تعالى منارها شرفًا وعُلُوًّا اشتملت على أصول وفروع، وأصولها قسمان:

- أحدهما: المسمى بأصول الفقه، وهو في غالب أمره ليس فيه إلا قواعدُ الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة، وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح، ونحو الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، والصيغة الخاصة للعموم، ونحو ذلك، وما خرج عن هذا النمط إلا كون القياس حجة وخبر الواحد وصفات المجتهدين.

- والقسم الثاني: قواعدُ كليةٌ فقهية جليلة كثيرة العدد عظيمة المدد مشتملة على أسرار الشرع وحكمه لكل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يحصى، ولم يذكر منها شيء في أصول الفقه.

وإن اتفقت الإشارة إليه هنالك على سبيل الإجمال فبقي تفصيله لم يتحصل، وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه، ويشرف ويظهر رونق الفقه ويعرف وتتضح مناهج الفتاوى.

ثم يؤكد القرافي أهميةَ الاعتناء بمقاصد الشريعة وكلياتها قائلا: ومن جَعَلَ يُخْرِجُ الفروعَ بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروعُ واختلفت وتزلزلت خواطرُه فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى، وانتهى العمر ولم تَقْضِ نفسُه من طلب مناها، ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات؛ لاندراجها في الكليات، واتَّحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب] اهـ.

فإذا كانت القواعد الأصولية والفقهية والمقاصدية هي المراد في السؤال عن "أصول الشريعة"، فلا يشترط أن تكون كلُّ قاعدة منها منصوصًا عليها نصًّا صريحًا قاطعًا في الكتاب والسنة، وإلا لما وقع خلاف بين فقهاء الأمة ومجتهديها في كثيرٍ من تلك القواعد، فإثبات القواعد وحجيتها يؤول إلى طرق ثلاثة:

الأول: "النص" كتابًا وسنةً، وهو المحور الأساسي المباشر بدلالة ألفاظه العربية مطابقةً وتضمنًا والتزامًا، دلالة قطعية أو ظنية.

والثاني: "الاستقراء" تامًّا أو ناقصًا للنصوص ولأحكام الجزئيات المنصوص عليها.

والثالث: "الاستدلال" بترتيب المقدمات المأخوذة من نصوص الشريعة وقواعد اللغة أو غيرها منطقيًّا.

والثاني والثالث وسيلتان لاستخراج القواعد من النص بصورة غير مباشرة من خلال مضامين النصوص ومفاهيمها ولوازمها وجمعها وترتيبها ومقارنتها وسَبْر معانيها وتقسيمها ثم استنتاج القاعدة الكلية في نهاية الأمر، وهذا عملٌ اجتهادي كبير ذو مراحلَ كثيرةٍ، مما أدى لاختلاف العلماء في تفاصيله، وبالتالي اختلافهم في استخلاص أصول الشريعة، أي القواعد الضابطة لفهمها والاستنباط منها، لكن يمكن تقسيم هذه الأصول إلى أصولٍ كبرى متفقٍ عليها، وأصولٍ صغرى مختلَفٍ فيها.

فالأصول المتفق عليها: نحو اعتبار الكتاب والسنة المصدرَيْن الأساسيين للتشريع، وكالقواعد الخمس التي قيل إن الفقه مبنيٌّ عليها؛ وهي: "الأمور بمقاصدها"، و"اليقين لا يزول بالشك"، و"المشقة تجلب التيسير"، و"الضرر يزال"، و"العادة محكمة"، وتقسيم مقاصد الشريعة إلى الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وتشوف الشرع إلى العتق وتحرير الإنسان.

أما الأصول المختلف فيها فمثل: "الاستحسان"، و"المصالح المرسلة"، و"شرع من قبلنا"؛ مما جرى الخلاف في حجيته، وكقاعدة: "هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها؟"، و"هل يلحق النادر بجنسه أو بنفسه؟"، ومن أمثلة المقاصد الظنية المتفاوتة الدرجة ظهورًا وخفاءً ما ذكره العلامة الطاهر بن عاشور في كتابه "مقاصد الشريعة" (ص: 237-238، ط. دار النفائس، الأردن]؛ فقال: [واعلم أن مراتب الظنون في فهم مقاصد الشريعة متفاوتةٌ بحسب تفاوت الاستقراء المستند إلى مقدار ما بين يدي الناظر من الأدلة، وبحسب خفاء الدلالة وقوتها؛ فإن دلالة تحريم الخمر على كون مقصد الشريعة حفظ العقول عن الفساد العارض دلالةٌ واضحة، ولذلك لم يكد يختلف المجتهدون في تحريم ما يصل بالشارب إلى حدِّ الإسكار، وأما دلالة تحريم الخمر على أن مقصد الشريعة سدّ ذريعة إفساد العقل، حتى نأخذ من ذلك المقصد تحريم القليل من الخمر، وتحريم النبيذ الذي لا يغلب إفضاؤه إلى الإسكار، فتلك دلالة خفية، ولذلك اختلف العلماء في مساواة تحريم الأنبذة لتحريم الخمر، وفي مساواة تحريم شرب قليل الخمر، فمن غلب ظنه بذلك سوَّى بينهما في التحريم وإقامة الحد والتجريح به، ومن جعل بينهما فرقًا لم يُسَوِّ بينهما في تلك الأمور] اهـ.

ويجد الباحث قواعد جاء بها نص شرعي بلفظه؛ مثل قاعدة: "الخراج بالضمان"، فهذا نص حديث شريف أخرجه أصحاب السنن الأربعة.

ويجد قواعد صِيغ لفظُها من ظاهر النص دون حاجة إلى استنباط؛ مثل قاعدة: "الميسور لا يسقط بالمعسور"، فإنها مأخوذةٌ من الحديث الشريف: «فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» متفق عليه.

ويجد قواعد خرجها العلماء من استقراء الأحكام الجزئية: وهو التي تتبعها العلماء في أبوابها المختلفة، وكثير منهم صاغوها في عبارات موجزة سلسة؛ مثل: "الرضا بالشيء رضا بما يتولد منه"، و"المشغول لا يشغل". انظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 141-151، ط. دار الكتب العلمية).

فالقواعد إذن ليست على وتيرة واحدة؛ فبعضها أصله نص شرعي، وبعضها مأخوذ من معنى نص أو أكثر، وبعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه.

وبناءً على ما سبق: فإنه يشترط في أصول الشريعة إذا قُصد بها العقائدُ الإيمانيةُ أن تكون منصوصًا عليها في الكتاب والسنة بنص عام أو خاص، أما إذا قُصد بأصول الشريعة القواعدُ التي تنضبط بها عمليةُ فهمِ أحكام الشريعة واستنباطها، فلا يشترط أن تكون كلُّ قاعدةٍ منها مذكورةً بالنص في الكتاب والسنة؛ لأن هذه القواعد تثبت بطرق عديدة -مباشرة وغير مباشرة-؛ كالنص والاستقراء والاستدلال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;