الإسماعيلية والإباضية

دائمًا ما يقدم المستشرقون في الجامعات الألمانية حلقات دراسية وندوات تعليمية، يتناولون فيها "الجماعات المنشقة" عن الإسلام، وكثيرًا ما يدور الحديث حول "الإسماعيلية" و"الإباضية".
فهل تعتبر هاتان الجماعتان منشقتين بالفعل، أم أنهما تمثلان مذاهب خاصة؟ وهل يعتبرهما أهل السنة مذهبين من المذاهب الإسلامية؟
وهل يجوز لأهل السنة مناكحتهما مثلًا؟ ولقلة المعلومات باللغة الألمانية الكامنة في صفحات الإنترنت عن هذين المذهبين؛ ولأن المرء لا يستطيع أن يصدق بهذه السهولة كل ما يقوله هؤلاء المستشرقون عندما يتناولون الإسلام.
سأكون شاكرًا لكم لو ذكرتم لي بعض عقائد هاتين الجماعتين، والمصادر التي يستشهدون بها في الفقه الإسلامي، فهل يقبلان مثلًا البخاري ومسلمًا وأحاديث أهل السنة أو مذاهب أهل السنة؟

الإسماعيلية: فرقة باطنية، انتسبت إلى الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق، ظاهرها التشيع لآل البيت، وحقيقتها هدم عقائد الإسلام، تشعبت فرقها وامتدت عبر الزمان حتى وقتنا الحاضر، وحقيقتها تخالف العقائد الإسلامية الصحيحة، وقد مالت إلى الغلو الشديد حتى إن الشيعة الاثني عشرية يكفرونها.
يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي -وهو واحد ممن سبروا أغوار هذه الطائفة عن قرب- عن دعوة الإسماعيلية في كتابه "فضائح الباطنية" (ص: 18، ط. مؤسسة دار الكتب الثقافية، الكويت): [مما تطابق عليه نقلة المقالات قاطبة أن هذه الدعوة لم يفتتحها منتسب إلى ملة ولا معتقد لنحلة معتضد بنبوة، فإن مساقها ينقاد إلى الانسلال من الدين كانسلال الشعرة من العجين] اهـ.
ويقول الإمام فخر الدين الرازي في كتابه "اعتقادات فرق المسلمين والمشركين" (ص: 76، ط. دار الكتب العلمية): [الباب التاسع: في الذين يتظاهرون بالإسلام وإن لم يكونوا مسلمين. وفرق هؤلاء كثيرة جدًا، إلا أننا نذكر الأشهر منهم: فالفرقة الأولى: "الباطنية".
اعلم أن الفساد اللازم من هؤلاء على الدين الحنيفي أكثر من الفساد اللازم عليه من جميع الكفار، وهم عدة فرق، ومقصودهم على الإطلاق إبطال الشريعة بأسرها ونفي الصانع، ولا يؤمنون بشيء من الملل ولا يعترفون بالقيمة إلا أنهم لا يتظاهرون بهذه الأشياء إلا بالآخرة] اهـ.
وقد تلونت هذه الطائفة وأحاطت نفسها بالغموض والكتمان وتشعبت واشتهرت بعدة أسماء؛ كالباطنية والخرمية والقرامطة والمحمرة والسبعية والتعليمية والإسماعيلية وغير ذلك، ويشرح حجة الإسلام الغزالي سبب تلقيبهم ببعض هذه الأسماء فيقول في "فضائح الباطنية" (ص: 11-12): [أما الباطنية فإنما لقبوا بها؛ لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشر، وأنها بصورها توهم عند الجهال الأغبياء صورًا جليَّةً وهي عند العقلاء والأذكياء رموز وإشارات إلى حقائق معينة، وأن من تقاعد عقله عن الغوص على الخفايا والأسرار والبواطن والأغوار وقنع بظواهرها مسارعًا إلى الاغترار كان تحت الأواصر والأغلال معني بالأوزار والأثقال، وأرادوا بالأغلال التكليفات الشرعية، فإن من ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكليف، واستراح من أعبائه، وهم المرادون بقوله تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157]، وربما موهوا بالاستشهاد عليه بقولهم: إن الجهال المنكرين للباطن هم الذين أريدوا بقوله تعالى: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ [الحديد: 13].
وغرضهم الأقصى إبطال الشرائع فإنهم إذا انتزعوا عن العقائد موجب الظواهر قدروا على الحكم بدعوى الباطن على حسب ما يوجب الانسلاخ عن قواعد الدين إذا سقطت الثقة بموجب الألفاظ الصريحة فلا يبقى للشرع عصام يرجع إليه ويعول عليه.] اهـ.
ثم يقول حجة الإسلام في (ص: 14- 17): [وأما الخرمية فلقبوا بها نسبة لهم إلى حاصل مذهبهم وزبدته، فإنه راجع إلى طي بساط التكليف، وحطِّ أعباء الشرع عن المتعبدين، وتسليط الناس على اتباع اللذات، وطلب الشهوات، وقضاء الوطر من المباحات والمحرمات.
وخرم: لفظ أعجمي ينبئ عن الشىء المستلذ المستطاب الذي يرتاح الإنسان إليه بمشاهدته ويهتز لرؤيته، وقد كان هذا لقبًا "للمزدكية" وهم: أهل الإباحة من المجوس الذين نبغوا في أيام قباذ، وأباحوا النساء وإن كن من المحارم، وأحلُّوا كل محظور وكانوا يسمون "خرمدينية".
فهؤلاء أيضًا لقبوا بها لمشابهتهم إياهم في آخر المذهب وإن خالفوهم في المقدمات وسوابق الحيل في الاستدراج..
وأما التعليمية فإنهم لقبوا بها؛ لأن مبدأ مذاهبهم إبطال الرأي، وإبطال تصرف العقول، ودعوة الخلق إلى التعليم من الإمام المعصوم، وأنه لا مدرك للعلوم إلا التعليم، ويقولون في مبتدأ مجادلتهم الحق إما أن يعرف بالرأي وإما أن يعرف بالتعلم، وقد بطل التعويل على الرأي؛ لتعارض الآراء وتقابل الأهواء، واختلاف ثمرات نظر العقلاء، فتعين الرجوع إلى التعليم والتعلم، وهذا اللقب هو الأليق بباطنية هذا العصر فإن تعويلهم الأكثر على الدعوة إلى التعليم، وإبطال الرأي، وإيجاب اتباع الإمام المعصوم، وتنزيله في وجوب التصديق، والاقتداء به منزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
ويقول الإمام سيف الدين الآمدي في "أبكار الأفكار" (5/ 63، ط. دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة): [وأصل دعوة هؤلاء مبني على إبطال الشرائع، ودحض النواميس الدينية؛ وذلك لأن ابتداء دعوتهم أن نفرًا من المجوس يقال لهم غيارية اجتمعوا فتذاكروا ما كان أسلافهم عليه من الملك الذي غلب عليه المسلمون، فقالوا: لا سبيل لنا إلى دفعهم بالسيف؛ لكثرتهم وقوة شوكتهم، لكنَّا نحتال بتأويل شرائعهم، على وجوه تعود إلى قواعد الأسلاف من المجوس، ونستدرج به الضعفاء منهم، فإن ذلك مما يوجب الاختلاف بينهم، واضطراب كلمتهم] اهـ.
فهذه الطائفة خارجة بالفعل عن دائرة الإسلام الرحبة، وعن دائرة المذاهب الإسلامية المعتبرة، وقد تحقق لدى علماء الأمة الإسلامية بطلان ما تدعو إليه هذه الطائفة، وأنها تستدرج أتباعها إلى الإباحية، والانسلاخ من الدين بالكلية في نهاية الأمر، وإلى جحد الألوهية والنبوة والشرائع السماوية، ويمهدون لذلك بادعاء أن للنصوص الشرعية ظاهرًا وباطنًا، وأن الباطن هو المقصود دون الظاهر، وأن علم باطنها مقصور على إمام معصوم يحتكر التفسير الحقيقي لنصوص الشريعة، ويتواصل مع أتباعه من خلال نوابه وهم رؤساء هذه الطائفة المنحرفة والداعين إليها.
ومن صور تأويلاتهم الباطنية الشاذة قولهم:
- إن الوضوء: عبارة عن موالاة إمامهم، وأن التيمم هو الأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الذي هو الحجة، وأن الصلاة عبارة عن الناطق الذي هو الرسول بدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45].
- وأن الاحتلام: عبارة عن إفشاء سر من أسرارهم إلى من ليس من أهله بغير قصد منه، وأن الغسل تجديد العهد.
- وأن الزكاة: تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين. انظر: "المواقف وشرحه" للشريف الجرجاني (3/ 687، ط. دار الجيل).
أما الإباضية: فهي طائفة من المسلمين، لها مسائل عقدية خاصة تقربها من مذهب المعتزلة، ولها مذهب فقهي معتبر معدود في ضمن المذاهب الإسلامية الثمانية المعتمدة؛ كمذهب الظاهرية، وهذه الطائفة تنتسب إلى التابعي جابر بن زيد الأزدي رضي الله عنه، وهو محدث وفقيه، وإمام في التفسير والحديث، وهو من أخص تلاميذ ابن عباس رضي الله عنه، وممن روى الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وعدد كبير من الصحابة ممن شهد بدرًا.
وأما ما اشتهر عند المؤرخين من نسبة الإباضية إلى عبد الله بن إباض الذي عاش في زمن عبد الملك بن مروان، فهي نسبة عرضية سبَبُها بعض المواقف الكلامية والسياسية التي اشتهر بها ابن إباض وتميز بها، فنسبت الإباضية إليه من قبل الأمويين.
والإباضية في تاريخهم المبكر لم يستعملوا هذه التسمية، وإنما كانوا يستعملون عبارة "جماعة المسلمين" أو "أهل الدعوة"، وأول ما ظهر استعمالهم لكلمة "الإباضية" كان في أواخر القرن الثالث الهجري ثم تقبلوها تسليمًا بالأمر الواقع.
ومما يخالفون به مذهب أهل السنة في مسائل العقيدة: مسألة رؤية الله تعالى في الآخرة، فهم ينفونها كالشيعة والمعتزلة.
وكذلك اعتقادهم أن أهل الكبائر من المسلمين إذا ماتوا بدون توبة -عصاة كانوا أو فاسقين- هم مخلدون في النار أبدًا، وأما المؤمنون -عقيدةً وقولًا وعملًا- فهم المخلدون في الجنة دون غيرهم.
وبناءً على هذا: قالوا بأن شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لن تكون لمن مات وهو مصر على الكبائر، وإنما تكون للمؤمنين كافة للتخفيف عليهم يوم الحشر، والتعجيل بهم للدخول في الجنة أو لزيادة درجة، ومثوبة لبعض المؤمنين الذين ماتوا على الوفاء والتوبة النصوح.
وأصل هذه القضايا هو أن الإباضية يرون: أن من أقر بوحدانية الله ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكنه ضيع الفرائض الدينية أو ارتكب الكبائر يسمى عندهم موحدًا، لكنه ليس بمؤمن ولا بمشرك، فمرتكب الكبيرة يُعَدُّ كافرًا كُفْرَ نعمة وليس كافرًا كفر شرك، فهو معدودٌ عندهم موحدًا عاصيًا لا يخرجونه عن ملة الإسلام، فتجري عليه أحكام الإسلام والمسلمين في الدنيا، لكنه إذا مات على ذلك كان مخلدًا في النار، ولهذا فإنهم يؤكدون أن الإيمان بدون تطبيق فرائض الإسلام لا معنى له.
وقولهم هذا أيضًا مبني على أن وعيد الله تعالى لا يمكن أن يتخلف، فما دام قد توعد العاصي بالخلود في النار فكل من مات على معصية دون توبة كان مخلدًا في النار وإن جرت عليه أحكام المسلمين في الدنيا بأن كان موحدًا؛ ويتمسكون في ذلك بعموم قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [النساء: 14].
قال الشيخ ضياء الدين الثميني في كتاب "النيل": [هلك راج لعاص على عصيانه ثوابًا أو نجاةً أو انقلاعًا من كفر لمنصوص على كفره وموته عليه، ولا يرجى خير لهالك على عصيان شهر به أو يتمنى له وإن لم ينص عليه، وجاز فيه الشك أنه عند الله على خلاف ما عندنا لا الظن] اهـ.
ويقول الشيخ أطفيش في "شرح النيل وشفاء العليل" (16/ 576، ط. مكتبة الإرشاد): [(هلك راج لعاص) عصيانًا كبيرًا (على عصيانه ثوابًا) أخرويًّا (أو نجاة) من نار الآخرة هلاك نفاق، وعلى بمعنى مع، أو على أصلها، والمعنى لعاص مُصِرٌّ على عصيانه أو ثابت عليه، وذلك أن يعلم منه كبيرة ويرجو له مع ذلك خير الآخرة على عمل من الخير يعمله أو لا على عمل، أو يرجو له النجاة من عذاب الآخرة، فالمراد بالثواب ما من شأنه أن يكون ثوابًا للمطيع فرجاه للعاصي هكذا، أو رجاه له على عمل يعمله] اهـ.
لكن أهل السنة يرون أن ما ذهب إليه الإباضية والمعتزلة فيه تضييق لرحمة الله وعفوه ومغفرته الواسعة؛ كما يرون أن عموم الآية التي تمسكوا بها دخله التخصيص، فالخلود في النار خاص بمن عصى بالكفر دون غيره، واستند أهل السنة في قولهم بالتخصيص إلى الكثير من نصوص القرآن والسنة والأدلة الراجحة؛ يقول الإمام الرازي في معرض رده على المعتزلة في مسألة أن كل معصية توجب العقاب إن لم يتب منها الإنسان "تفسير الرازي مفاتيح الغيب" (10/ 61، ط. دار إحياء التراث العربي): [إلا أنا نعلم ببديهة العقل أن من اشتغل بتوحيد الله وتقديسه وخدمته وطاعته سبعين سنة، فإن ثواب مجموع هذه الطاعات الكثيرة في هذه المدة الطويلة أكثر بكثير من عقاب شرب قطرة واحدة من الخمر، مع أن الأمة مجمعة على أن شرب هذه القطرة من الكبائر، فإن أَصَرُّوا -أي المعتزلة- وقالوا: بل عقاب شرب هذه القطرة أزيد من ثواب التوحيد وجميع الطاعات سبعين سنة فقد أبطلوا على أنفسهم أصلهم، فإنهم يبنون هذه المسائل على قاعدة الحسن والقبح العقليين.
ومن الأمور المتقررة في العقول أن من جعل عقاب هذا القدر من الجناية أزيد من ثواب تلك الطاعات العظيمة فهو ظالم، فإن دفعوا حكم العقل في هذا الموضع فقد أبطلوا على أنفسهم القول بتحسين العقل وتقبيحه، وحينئذ يبطل عليهم كل هذه القواعد] اهـ.
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، يقول الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (10/ 98): [هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على العفو عن أصحاب الكبائر. واعلم أن الاستدلال بها من وجوه:
- (الوجه الأول): أن قوله: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ معناه لا يغفر الشرك على سبيل التفضل؛ لأنه بالإجماع لا يغفر على سبيل الوجوب، وذلك عندما يتوب المشرك عن شركه، فإذا كان قوله: إن الله لا يغفر الشرك هو أنه لا يغفره على سبيل التفضل، وجب أن يكون قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ هو أن يغفره على سبيل التفضل، حتى يكون النفي والإثبات متواردين على معنى واحد. ألا ترى أنه لو قال: فلان لا يعطي أحدا تفضلًا، ويعطي زائدًا فإنه يفهم منه أنه يعطيه تفضلًا، حتى لو صرح وقال: لا يعطي أحدًا شيئا على سبيل التفضل ويعطي أزيد على سبيل الوجوب، فكل عاقل يحكم بركاكة هذا الكلام، فثبت أن قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ على سبيل التفضل.
إذا ثبت هذا فنقول: وجب أن يكون المراد منه أصحاب الكبائر قبل التوبة؛ لأن عند المعتزلة غفران الصغيرة وغفران الكبيرة بعد التوبة واجب عقلًا، فلا يمكن حمل الآية عليه، فإذا تقرر ذلك لم يبق إلا حمل الآية على غفران الكبيرة قبل التوبة وهو المطلوب.
- (الثاني): أنه تعالى قسم المنهيات على قسمين: الشرك، وما سوى الشرك.
ثم إن ما سوى الشرك يدخل فيه الكبيرة قبل التوبة، والكبيرة بعد التوبة والصغيرة، ثم حكم على الشرك بأنه غير مغفور قطعًا، وعلى ما سواه بأنه مغفور قطعًا، لكن في حق من يشاء، فصار تقدير الآية أنه تعالى يغفر كل ما سوى الشرك، لكن في حق من شاء.
ولما دلت الآية على أن كل ما سوى الشرك مغفور، وجب أن تكون الكبيرة قبل التوبة أيضًا مغفورة] اهـ.
ويعتمد الإباضية في فقههم على القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، والإجماع، والرأي، لكنهم يقدمون في السنة "صحيح" أحد علمائهم وهو: الربيع بن حبيب، الذي تم تأليفه في القرن الثاني الهجري، ويعدونه أعلى درجة من صحيحي البخاري ومسلم مخالفين بذلك المذاهب السنية الأربعة.
وتنكر الإباضية تمامًا أنها فرقة من الخوارج، وتتمركز الآن في عمان، وتنتشر في بلاد أخرى كالجزائر، وقد اعتمد مذهبهم فقهيًّا لدى جهات علمية كثيرة؛ كمجمع البحوث الإسلامية، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية؛ كما يتضح في الموسوعة التي أصدرها، ومجمع الفقه التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وقد لاقى كثيرًا من الدراسات الأزهرية في جامعة الأزهر الشريف، فتناولت الكثيرُ من رسائل الماجستير والدكتوراه المذهبَ الإباضي، وأسسه وأصوله.
ومن أهم كتب الإباضية الفقهية: كتاب "المدونة" لأبي غانم الخرساني، ينقل فيه عن أئمة الإباضية المسائل العملية بطريقة فقهية دون نقل الإسناد غالبًا، ولذلك فهناك خلافات فقهية بين الإباضية وبين أهل السنة بسبب الاختلاف المنهجي، وليس بسبب التضاد أو الصراع أو التعصب.
الإباضية رفضوا رفضًا تامًّا الأحاديث والآثار التي تدل على وجوب اشتراط القرشية في الإمامة الكبرى خلافًا لأهل السنة، فلم يشترطوا سوى الإسلام والتقوى والحرية والكفاءة، ومما تميزوا به وتفردوا به في مذهبهم أن العبد إذا كاتب يصير حرًّا من أول المكاتبة؛ تقديرًا وتشوفًا لحرية الإنسان. انظر: "شرح النيل وشفاء العليل" (12/ 560).
ومما لوحظ في كتب المذهب الإباضي: أنه يأتي فيها ذكر الأدلة وبيان التعليلات الفقهية لمسائل مذكورة في كتب غيرهم دون دليل أو بيان واضح.
ومن كتبهم: كتاب "قاموس الشريعة الحاوي طرقها الوسيعة" لجميل بن خميس السعدي، يقع في 92 جزءًا، ألفه في القرن الحادي عشر، وطبع منه أجزاء كثيرة، ولكن لم يطبع كاملًا حتى الآن.
ومن علماء المذهب: الشيخ محمد بن يوسف بن أطفيش الجزائري صاحب كتاب "شرح النيل وشفاء العليل" لضياء الدين الثميني، وهو يقع في عشرة مجلدات كبيرة.
فالحاصل أن المذهب الإباضي مذهب معتمد، له علماؤه وكتبه ومصطلحاته، وطريقة استدلاله لا تخرج في الجملة عن المذاهب الفقهية المعتمدة، ويمكن أن يستفاد منه في عصرنا الحاضر أيّما استفادة، فهذا المذهب وإن قَلَّ أتباعُه إلا أنه من المذاهب الثمانية المعتمدة المعمول بها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

الإسماعيلية: فرقة باطنية، انتسبت إلى الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق، ظاهرها التشيع لآل البيت، وحقيقتها هدم عقائد الإسلام، تشعبت فرقها وامتدت عبر الزمان حتى وقتنا الحاضر، وحقيقتها تخالف العقائد الإسلامية الصحيحة، وقد مالت إلى الغلو الشديد حتى إن الشيعة الاثني عشرية يكفرونها.
يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي -وهو واحد ممن سبروا أغوار هذه الطائفة عن قرب- عن دعوة الإسماعيلية في كتابه "فضائح الباطنية" (ص: 18، ط. مؤسسة دار الكتب الثقافية، الكويت): [مما تطابق عليه نقلة المقالات قاطبة أن هذه الدعوة لم يفتتحها منتسب إلى ملة ولا معتقد لنحلة معتضد بنبوة، فإن مساقها ينقاد إلى الانسلال من الدين كانسلال الشعرة من العجين] اهـ.
ويقول الإمام فخر الدين الرازي في كتابه "اعتقادات فرق المسلمين والمشركين" (ص: 76، ط. دار الكتب العلمية): [الباب التاسع: في الذين يتظاهرون بالإسلام وإن لم يكونوا مسلمين. وفرق هؤلاء كثيرة جدًا، إلا أننا نذكر الأشهر منهم: فالفرقة الأولى: "الباطنية".
اعلم أن الفساد اللازم من هؤلاء على الدين الحنيفي أكثر من الفساد اللازم عليه من جميع الكفار، وهم عدة فرق، ومقصودهم على الإطلاق إبطال الشريعة بأسرها ونفي الصانع، ولا يؤمنون بشيء من الملل ولا يعترفون بالقيمة إلا أنهم لا يتظاهرون بهذه الأشياء إلا بالآخرة] اهـ.
وقد تلونت هذه الطائفة وأحاطت نفسها بالغموض والكتمان وتشعبت واشتهرت بعدة أسماء؛ كالباطنية والخرمية والقرامطة والمحمرة والسبعية والتعليمية والإسماعيلية وغير ذلك، ويشرح حجة الإسلام الغزالي سبب تلقيبهم ببعض هذه الأسماء فيقول في "فضائح الباطنية" (ص: 11-12): [أما الباطنية فإنما لقبوا بها؛ لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشر، وأنها بصورها توهم عند الجهال الأغبياء صورًا جليَّةً وهي عند العقلاء والأذكياء رموز وإشارات إلى حقائق معينة، وأن من تقاعد عقله عن الغوص على الخفايا والأسرار والبواطن والأغوار وقنع بظواهرها مسارعًا إلى الاغترار كان تحت الأواصر والأغلال معني بالأوزار والأثقال، وأرادوا بالأغلال التكليفات الشرعية، فإن من ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكليف، واستراح من أعبائه، وهم المرادون بقوله تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157]، وربما موهوا بالاستشهاد عليه بقولهم: إن الجهال المنكرين للباطن هم الذين أريدوا بقوله تعالى: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ [الحديد: 13].
وغرضهم الأقصى إبطال الشرائع فإنهم إذا انتزعوا عن العقائد موجب الظواهر قدروا على الحكم بدعوى الباطن على حسب ما يوجب الانسلاخ عن قواعد الدين إذا سقطت الثقة بموجب الألفاظ الصريحة فلا يبقى للشرع عصام يرجع إليه ويعول عليه.] اهـ.
ثم يقول حجة الإسلام في (ص: 14- 17): [وأما الخرمية فلقبوا بها نسبة لهم إلى حاصل مذهبهم وزبدته، فإنه راجع إلى طي بساط التكليف، وحطِّ أعباء الشرع عن المتعبدين، وتسليط الناس على اتباع اللذات، وطلب الشهوات، وقضاء الوطر من المباحات والمحرمات.
وخرم: لفظ أعجمي ينبئ عن الشىء المستلذ المستطاب الذي يرتاح الإنسان إليه بمشاهدته ويهتز لرؤيته، وقد كان هذا لقبًا "للمزدكية" وهم: أهل الإباحة من المجوس الذين نبغوا في أيام قباذ، وأباحوا النساء وإن كن من المحارم، وأحلُّوا كل محظور وكانوا يسمون "خرمدينية".
فهؤلاء أيضًا لقبوا بها لمشابهتهم إياهم في آخر المذهب وإن خالفوهم في المقدمات وسوابق الحيل في الاستدراج..
وأما التعليمية فإنهم لقبوا بها؛ لأن مبدأ مذاهبهم إبطال الرأي، وإبطال تصرف العقول، ودعوة الخلق إلى التعليم من الإمام المعصوم، وأنه لا مدرك للعلوم إلا التعليم، ويقولون في مبتدأ مجادلتهم الحق إما أن يعرف بالرأي وإما أن يعرف بالتعلم، وقد بطل التعويل على الرأي؛ لتعارض الآراء وتقابل الأهواء، واختلاف ثمرات نظر العقلاء، فتعين الرجوع إلى التعليم والتعلم، وهذا اللقب هو الأليق بباطنية هذا العصر فإن تعويلهم الأكثر على الدعوة إلى التعليم، وإبطال الرأي، وإيجاب اتباع الإمام المعصوم، وتنزيله في وجوب التصديق، والاقتداء به منزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
ويقول الإمام سيف الدين الآمدي في "أبكار الأفكار" (5/ 63، ط. دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة): [وأصل دعوة هؤلاء مبني على إبطال الشرائع، ودحض النواميس الدينية؛ وذلك لأن ابتداء دعوتهم أن نفرًا من المجوس يقال لهم غيارية اجتمعوا فتذاكروا ما كان أسلافهم عليه من الملك الذي غلب عليه المسلمون، فقالوا: لا سبيل لنا إلى دفعهم بالسيف؛ لكثرتهم وقوة شوكتهم، لكنَّا نحتال بتأويل شرائعهم، على وجوه تعود إلى قواعد الأسلاف من المجوس، ونستدرج به الضعفاء منهم، فإن ذلك مما يوجب الاختلاف بينهم، واضطراب كلمتهم] اهـ.
فهذه الطائفة خارجة بالفعل عن دائرة الإسلام الرحبة، وعن دائرة المذاهب الإسلامية المعتبرة، وقد تحقق لدى علماء الأمة الإسلامية بطلان ما تدعو إليه هذه الطائفة، وأنها تستدرج أتباعها إلى الإباحية، والانسلاخ من الدين بالكلية في نهاية الأمر، وإلى جحد الألوهية والنبوة والشرائع السماوية، ويمهدون لذلك بادعاء أن للنصوص الشرعية ظاهرًا وباطنًا، وأن الباطن هو المقصود دون الظاهر، وأن علم باطنها مقصور على إمام معصوم يحتكر التفسير الحقيقي لنصوص الشريعة، ويتواصل مع أتباعه من خلال نوابه وهم رؤساء هذه الطائفة المنحرفة والداعين إليها.
ومن صور تأويلاتهم الباطنية الشاذة قولهم:
- إن الوضوء: عبارة عن موالاة إمامهم، وأن التيمم هو الأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الذي هو الحجة، وأن الصلاة عبارة عن الناطق الذي هو الرسول بدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45].
- وأن الاحتلام: عبارة عن إفشاء سر من أسرارهم إلى من ليس من أهله بغير قصد منه، وأن الغسل تجديد العهد.
- وأن الزكاة: تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين. انظر: "المواقف وشرحه" للشريف الجرجاني (3/ 687، ط. دار الجيل).
أما الإباضية: فهي طائفة من المسلمين، لها مسائل عقدية خاصة تقربها من مذهب المعتزلة، ولها مذهب فقهي معتبر معدود في ضمن المذاهب الإسلامية الثمانية المعتمدة؛ كمذهب الظاهرية، وهذه الطائفة تنتسب إلى التابعي جابر بن زيد الأزدي رضي الله عنه، وهو محدث وفقيه، وإمام في التفسير والحديث، وهو من أخص تلاميذ ابن عباس رضي الله عنه، وممن روى الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وعدد كبير من الصحابة ممن شهد بدرًا.
وأما ما اشتهر عند المؤرخين من نسبة الإباضية إلى عبد الله بن إباض الذي عاش في زمن عبد الملك بن مروان، فهي نسبة عرضية سبَبُها بعض المواقف الكلامية والسياسية التي اشتهر بها ابن إباض وتميز بها، فنسبت الإباضية إليه من قبل الأمويين.
والإباضية في تاريخهم المبكر لم يستعملوا هذه التسمية، وإنما كانوا يستعملون عبارة "جماعة المسلمين" أو "أهل الدعوة"، وأول ما ظهر استعمالهم لكلمة "الإباضية" كان في أواخر القرن الثالث الهجري ثم تقبلوها تسليمًا بالأمر الواقع.
ومما يخالفون به مذهب أهل السنة في مسائل العقيدة: مسألة رؤية الله تعالى في الآخرة، فهم ينفونها كالشيعة والمعتزلة.
وكذلك اعتقادهم أن أهل الكبائر من المسلمين إذا ماتوا بدون توبة -عصاة كانوا أو فاسقين- هم مخلدون في النار أبدًا، وأما المؤمنون -عقيدةً وقولًا وعملًا- فهم المخلدون في الجنة دون غيرهم.
وبناءً على هذا: قالوا بأن شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لن تكون لمن مات وهو مصر على الكبائر، وإنما تكون للمؤمنين كافة للتخفيف عليهم يوم الحشر، والتعجيل بهم للدخول في الجنة أو لزيادة درجة، ومثوبة لبعض المؤمنين الذين ماتوا على الوفاء والتوبة النصوح.
وأصل هذه القضايا هو أن الإباضية يرون: أن من أقر بوحدانية الله ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكنه ضيع الفرائض الدينية أو ارتكب الكبائر يسمى عندهم موحدًا، لكنه ليس بمؤمن ولا بمشرك، فمرتكب الكبيرة يُعَدُّ كافرًا كُفْرَ نعمة وليس كافرًا كفر شرك، فهو معدودٌ عندهم موحدًا عاصيًا لا يخرجونه عن ملة الإسلام، فتجري عليه أحكام الإسلام والمسلمين في الدنيا، لكنه إذا مات على ذلك كان مخلدًا في النار، ولهذا فإنهم يؤكدون أن الإيمان بدون تطبيق فرائض الإسلام لا معنى له.
وقولهم هذا أيضًا مبني على أن وعيد الله تعالى لا يمكن أن يتخلف، فما دام قد توعد العاصي بالخلود في النار فكل من مات على معصية دون توبة كان مخلدًا في النار وإن جرت عليه أحكام المسلمين في الدنيا بأن كان موحدًا؛ ويتمسكون في ذلك بعموم قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [النساء: 14].
قال الشيخ ضياء الدين الثميني في كتاب "النيل": [هلك راج لعاص على عصيانه ثوابًا أو نجاةً أو انقلاعًا من كفر لمنصوص على كفره وموته عليه، ولا يرجى خير لهالك على عصيان شهر به أو يتمنى له وإن لم ينص عليه، وجاز فيه الشك أنه عند الله على خلاف ما عندنا لا الظن] اهـ.
ويقول الشيخ أطفيش في "شرح النيل وشفاء العليل" (16/ 576، ط. مكتبة الإرشاد): [(هلك راج لعاص) عصيانًا كبيرًا (على عصيانه ثوابًا) أخرويًّا (أو نجاة) من نار الآخرة هلاك نفاق، وعلى بمعنى مع، أو على أصلها، والمعنى لعاص مُصِرٌّ على عصيانه أو ثابت عليه، وذلك أن يعلم منه كبيرة ويرجو له مع ذلك خير الآخرة على عمل من الخير يعمله أو لا على عمل، أو يرجو له النجاة من عذاب الآخرة، فالمراد بالثواب ما من شأنه أن يكون ثوابًا للمطيع فرجاه للعاصي هكذا، أو رجاه له على عمل يعمله] اهـ.
لكن أهل السنة يرون أن ما ذهب إليه الإباضية والمعتزلة فيه تضييق لرحمة الله وعفوه ومغفرته الواسعة؛ كما يرون أن عموم الآية التي تمسكوا بها دخله التخصيص، فالخلود في النار خاص بمن عصى بالكفر دون غيره، واستند أهل السنة في قولهم بالتخصيص إلى الكثير من نصوص القرآن والسنة والأدلة الراجحة؛ يقول الإمام الرازي في معرض رده على المعتزلة في مسألة أن كل معصية توجب العقاب إن لم يتب منها الإنسان "تفسير الرازي مفاتيح الغيب" (10/ 61، ط. دار إحياء التراث العربي): [إلا أنا نعلم ببديهة العقل أن من اشتغل بتوحيد الله وتقديسه وخدمته وطاعته سبعين سنة، فإن ثواب مجموع هذه الطاعات الكثيرة في هذه المدة الطويلة أكثر بكثير من عقاب شرب قطرة واحدة من الخمر، مع أن الأمة مجمعة على أن شرب هذه القطرة من الكبائر، فإن أَصَرُّوا -أي المعتزلة- وقالوا: بل عقاب شرب هذه القطرة أزيد من ثواب التوحيد وجميع الطاعات سبعين سنة فقد أبطلوا على أنفسهم أصلهم، فإنهم يبنون هذه المسائل على قاعدة الحسن والقبح العقليين.
ومن الأمور المتقررة في العقول أن من جعل عقاب هذا القدر من الجناية أزيد من ثواب تلك الطاعات العظيمة فهو ظالم، فإن دفعوا حكم العقل في هذا الموضع فقد أبطلوا على أنفسهم القول بتحسين العقل وتقبيحه، وحينئذ يبطل عليهم كل هذه القواعد] اهـ.
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، يقول الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (10/ 98): [هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على العفو عن أصحاب الكبائر. واعلم أن الاستدلال بها من وجوه:
- (الوجه الأول): أن قوله: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ معناه لا يغفر الشرك على سبيل التفضل؛ لأنه بالإجماع لا يغفر على سبيل الوجوب، وذلك عندما يتوب المشرك عن شركه، فإذا كان قوله: إن الله لا يغفر الشرك هو أنه لا يغفره على سبيل التفضل، وجب أن يكون قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ هو أن يغفره على سبيل التفضل، حتى يكون النفي والإثبات متواردين على معنى واحد. ألا ترى أنه لو قال: فلان لا يعطي أحدا تفضلًا، ويعطي زائدًا فإنه يفهم منه أنه يعطيه تفضلًا، حتى لو صرح وقال: لا يعطي أحدًا شيئا على سبيل التفضل ويعطي أزيد على سبيل الوجوب، فكل عاقل يحكم بركاكة هذا الكلام، فثبت أن قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ على سبيل التفضل.
إذا ثبت هذا فنقول: وجب أن يكون المراد منه أصحاب الكبائر قبل التوبة؛ لأن عند المعتزلة غفران الصغيرة وغفران الكبيرة بعد التوبة واجب عقلًا، فلا يمكن حمل الآية عليه، فإذا تقرر ذلك لم يبق إلا حمل الآية على غفران الكبيرة قبل التوبة وهو المطلوب.
- (الثاني): أنه تعالى قسم المنهيات على قسمين: الشرك، وما سوى الشرك.
ثم إن ما سوى الشرك يدخل فيه الكبيرة قبل التوبة، والكبيرة بعد التوبة والصغيرة، ثم حكم على الشرك بأنه غير مغفور قطعًا، وعلى ما سواه بأنه مغفور قطعًا، لكن في حق من يشاء، فصار تقدير الآية أنه تعالى يغفر كل ما سوى الشرك، لكن في حق من شاء.
ولما دلت الآية على أن كل ما سوى الشرك مغفور، وجب أن تكون الكبيرة قبل التوبة أيضًا مغفورة] اهـ.
ويعتمد الإباضية في فقههم على القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، والإجماع، والرأي، لكنهم يقدمون في السنة "صحيح" أحد علمائهم وهو: الربيع بن حبيب، الذي تم تأليفه في القرن الثاني الهجري، ويعدونه أعلى درجة من صحيحي البخاري ومسلم مخالفين بذلك المذاهب السنية الأربعة.
وتنكر الإباضية تمامًا أنها فرقة من الخوارج، وتتمركز الآن في عمان، وتنتشر في بلاد أخرى كالجزائر، وقد اعتمد مذهبهم فقهيًّا لدى جهات علمية كثيرة؛ كمجمع البحوث الإسلامية، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية؛ كما يتضح في الموسوعة التي أصدرها، ومجمع الفقه التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وقد لاقى كثيرًا من الدراسات الأزهرية في جامعة الأزهر الشريف، فتناولت الكثيرُ من رسائل الماجستير والدكتوراه المذهبَ الإباضي، وأسسه وأصوله.
ومن أهم كتب الإباضية الفقهية: كتاب "المدونة" لأبي غانم الخرساني، ينقل فيه عن أئمة الإباضية المسائل العملية بطريقة فقهية دون نقل الإسناد غالبًا، ولذلك فهناك خلافات فقهية بين الإباضية وبين أهل السنة بسبب الاختلاف المنهجي، وليس بسبب التضاد أو الصراع أو التعصب.
الإباضية رفضوا رفضًا تامًّا الأحاديث والآثار التي تدل على وجوب اشتراط القرشية في الإمامة الكبرى خلافًا لأهل السنة، فلم يشترطوا سوى الإسلام والتقوى والحرية والكفاءة، ومما تميزوا به وتفردوا به في مذهبهم أن العبد إذا كاتب يصير حرًّا من أول المكاتبة؛ تقديرًا وتشوفًا لحرية الإنسان. انظر: "شرح النيل وشفاء العليل" (12/ 560).
ومما لوحظ في كتب المذهب الإباضي: أنه يأتي فيها ذكر الأدلة وبيان التعليلات الفقهية لمسائل مذكورة في كتب غيرهم دون دليل أو بيان واضح.
ومن كتبهم: كتاب "قاموس الشريعة الحاوي طرقها الوسيعة" لجميل بن خميس السعدي، يقع في 92 جزءًا، ألفه في القرن الحادي عشر، وطبع منه أجزاء كثيرة، ولكن لم يطبع كاملًا حتى الآن.
ومن علماء المذهب: الشيخ محمد بن يوسف بن أطفيش الجزائري صاحب كتاب "شرح النيل وشفاء العليل" لضياء الدين الثميني، وهو يقع في عشرة مجلدات كبيرة.
فالحاصل أن المذهب الإباضي مذهب معتمد، له علماؤه وكتبه ومصطلحاته، وطريقة استدلاله لا تخرج في الجملة عن المذاهب الفقهية المعتمدة، ويمكن أن يستفاد منه في عصرنا الحاضر أيّما استفادة، فهذا المذهب وإن قَلَّ أتباعُه إلا أنه من المذاهب الثمانية المعتمدة المعمول بها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

الإسماعيلية والإباضية

دائمًا ما يقدم المستشرقون في الجامعات الألمانية حلقات دراسية وندوات تعليمية، يتناولون فيها "الجماعات المنشقة" عن الإسلام، وكثيرًا ما يدور الحديث حول "الإسماعيلية" و"الإباضية".
فهل تعتبر هاتان الجماعتان منشقتين بالفعل، أم أنهما تمثلان مذاهب خاصة؟ وهل يعتبرهما أهل السنة مذهبين من المذاهب الإسلامية؟
وهل يجوز لأهل السنة مناكحتهما مثلًا؟ ولقلة المعلومات باللغة الألمانية الكامنة في صفحات الإنترنت عن هذين المذهبين؛ ولأن المرء لا يستطيع أن يصدق بهذه السهولة كل ما يقوله هؤلاء المستشرقون عندما يتناولون الإسلام.
سأكون شاكرًا لكم لو ذكرتم لي بعض عقائد هاتين الجماعتين، والمصادر التي يستشهدون بها في الفقه الإسلامي، فهل يقبلان مثلًا البخاري ومسلمًا وأحاديث أهل السنة أو مذاهب أهل السنة؟

الإسماعيلية: فرقة باطنية، انتسبت إلى الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق، ظاهرها التشيع لآل البيت، وحقيقتها هدم عقائد الإسلام، تشعبت فرقها وامتدت عبر الزمان حتى وقتنا الحاضر، وحقيقتها تخالف العقائد الإسلامية الصحيحة، وقد مالت إلى الغلو الشديد حتى إن الشيعة الاثني عشرية يكفرونها.
يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي -وهو واحد ممن سبروا أغوار هذه الطائفة عن قرب- عن دعوة الإسماعيلية في كتابه "فضائح الباطنية" (ص: 18، ط. مؤسسة دار الكتب الثقافية، الكويت): [مما تطابق عليه نقلة المقالات قاطبة أن هذه الدعوة لم يفتتحها منتسب إلى ملة ولا معتقد لنحلة معتضد بنبوة، فإن مساقها ينقاد إلى الانسلال من الدين كانسلال الشعرة من العجين] اهـ.
ويقول الإمام فخر الدين الرازي في كتابه "اعتقادات فرق المسلمين والمشركين" (ص: 76، ط. دار الكتب العلمية): [الباب التاسع: في الذين يتظاهرون بالإسلام وإن لم يكونوا مسلمين. وفرق هؤلاء كثيرة جدًا، إلا أننا نذكر الأشهر منهم: فالفرقة الأولى: "الباطنية".
اعلم أن الفساد اللازم من هؤلاء على الدين الحنيفي أكثر من الفساد اللازم عليه من جميع الكفار، وهم عدة فرق، ومقصودهم على الإطلاق إبطال الشريعة بأسرها ونفي الصانع، ولا يؤمنون بشيء من الملل ولا يعترفون بالقيمة إلا أنهم لا يتظاهرون بهذه الأشياء إلا بالآخرة] اهـ.
وقد تلونت هذه الطائفة وأحاطت نفسها بالغموض والكتمان وتشعبت واشتهرت بعدة أسماء؛ كالباطنية والخرمية والقرامطة والمحمرة والسبعية والتعليمية والإسماعيلية وغير ذلك، ويشرح حجة الإسلام الغزالي سبب تلقيبهم ببعض هذه الأسماء فيقول في "فضائح الباطنية" (ص: 11-12): [أما الباطنية فإنما لقبوا بها؛ لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشر، وأنها بصورها توهم عند الجهال الأغبياء صورًا جليَّةً وهي عند العقلاء والأذكياء رموز وإشارات إلى حقائق معينة، وأن من تقاعد عقله عن الغوص على الخفايا والأسرار والبواطن والأغوار وقنع بظواهرها مسارعًا إلى الاغترار كان تحت الأواصر والأغلال معني بالأوزار والأثقال، وأرادوا بالأغلال التكليفات الشرعية، فإن من ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكليف، واستراح من أعبائه، وهم المرادون بقوله تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157]، وربما موهوا بالاستشهاد عليه بقولهم: إن الجهال المنكرين للباطن هم الذين أريدوا بقوله تعالى: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ [الحديد: 13].
وغرضهم الأقصى إبطال الشرائع فإنهم إذا انتزعوا عن العقائد موجب الظواهر قدروا على الحكم بدعوى الباطن على حسب ما يوجب الانسلاخ عن قواعد الدين إذا سقطت الثقة بموجب الألفاظ الصريحة فلا يبقى للشرع عصام يرجع إليه ويعول عليه.] اهـ.
ثم يقول حجة الإسلام في (ص: 14- 17): [وأما الخرمية فلقبوا بها نسبة لهم إلى حاصل مذهبهم وزبدته، فإنه راجع إلى طي بساط التكليف، وحطِّ أعباء الشرع عن المتعبدين، وتسليط الناس على اتباع اللذات، وطلب الشهوات، وقضاء الوطر من المباحات والمحرمات.
وخرم: لفظ أعجمي ينبئ عن الشىء المستلذ المستطاب الذي يرتاح الإنسان إليه بمشاهدته ويهتز لرؤيته، وقد كان هذا لقبًا "للمزدكية" وهم: أهل الإباحة من المجوس الذين نبغوا في أيام قباذ، وأباحوا النساء وإن كن من المحارم، وأحلُّوا كل محظور وكانوا يسمون "خرمدينية".
فهؤلاء أيضًا لقبوا بها لمشابهتهم إياهم في آخر المذهب وإن خالفوهم في المقدمات وسوابق الحيل في الاستدراج..
وأما التعليمية فإنهم لقبوا بها؛ لأن مبدأ مذاهبهم إبطال الرأي، وإبطال تصرف العقول، ودعوة الخلق إلى التعليم من الإمام المعصوم، وأنه لا مدرك للعلوم إلا التعليم، ويقولون في مبتدأ مجادلتهم الحق إما أن يعرف بالرأي وإما أن يعرف بالتعلم، وقد بطل التعويل على الرأي؛ لتعارض الآراء وتقابل الأهواء، واختلاف ثمرات نظر العقلاء، فتعين الرجوع إلى التعليم والتعلم، وهذا اللقب هو الأليق بباطنية هذا العصر فإن تعويلهم الأكثر على الدعوة إلى التعليم، وإبطال الرأي، وإيجاب اتباع الإمام المعصوم، وتنزيله في وجوب التصديق، والاقتداء به منزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
ويقول الإمام سيف الدين الآمدي في "أبكار الأفكار" (5/ 63، ط. دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة): [وأصل دعوة هؤلاء مبني على إبطال الشرائع، ودحض النواميس الدينية؛ وذلك لأن ابتداء دعوتهم أن نفرًا من المجوس يقال لهم غيارية اجتمعوا فتذاكروا ما كان أسلافهم عليه من الملك الذي غلب عليه المسلمون، فقالوا: لا سبيل لنا إلى دفعهم بالسيف؛ لكثرتهم وقوة شوكتهم، لكنَّا نحتال بتأويل شرائعهم، على وجوه تعود إلى قواعد الأسلاف من المجوس، ونستدرج به الضعفاء منهم، فإن ذلك مما يوجب الاختلاف بينهم، واضطراب كلمتهم] اهـ.
فهذه الطائفة خارجة بالفعل عن دائرة الإسلام الرحبة، وعن دائرة المذاهب الإسلامية المعتبرة، وقد تحقق لدى علماء الأمة الإسلامية بطلان ما تدعو إليه هذه الطائفة، وأنها تستدرج أتباعها إلى الإباحية، والانسلاخ من الدين بالكلية في نهاية الأمر، وإلى جحد الألوهية والنبوة والشرائع السماوية، ويمهدون لذلك بادعاء أن للنصوص الشرعية ظاهرًا وباطنًا، وأن الباطن هو المقصود دون الظاهر، وأن علم باطنها مقصور على إمام معصوم يحتكر التفسير الحقيقي لنصوص الشريعة، ويتواصل مع أتباعه من خلال نوابه وهم رؤساء هذه الطائفة المنحرفة والداعين إليها.
ومن صور تأويلاتهم الباطنية الشاذة قولهم:
- إن الوضوء: عبارة عن موالاة إمامهم، وأن التيمم هو الأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الذي هو الحجة، وأن الصلاة عبارة عن الناطق الذي هو الرسول بدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45].
- وأن الاحتلام: عبارة عن إفشاء سر من أسرارهم إلى من ليس من أهله بغير قصد منه، وأن الغسل تجديد العهد.
- وأن الزكاة: تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين. انظر: "المواقف وشرحه" للشريف الجرجاني (3/ 687، ط. دار الجيل).
أما الإباضية: فهي طائفة من المسلمين، لها مسائل عقدية خاصة تقربها من مذهب المعتزلة، ولها مذهب فقهي معتبر معدود في ضمن المذاهب الإسلامية الثمانية المعتمدة؛ كمذهب الظاهرية، وهذه الطائفة تنتسب إلى التابعي جابر بن زيد الأزدي رضي الله عنه، وهو محدث وفقيه، وإمام في التفسير والحديث، وهو من أخص تلاميذ ابن عباس رضي الله عنه، وممن روى الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وعدد كبير من الصحابة ممن شهد بدرًا.
وأما ما اشتهر عند المؤرخين من نسبة الإباضية إلى عبد الله بن إباض الذي عاش في زمن عبد الملك بن مروان، فهي نسبة عرضية سبَبُها بعض المواقف الكلامية والسياسية التي اشتهر بها ابن إباض وتميز بها، فنسبت الإباضية إليه من قبل الأمويين.
والإباضية في تاريخهم المبكر لم يستعملوا هذه التسمية، وإنما كانوا يستعملون عبارة "جماعة المسلمين" أو "أهل الدعوة"، وأول ما ظهر استعمالهم لكلمة "الإباضية" كان في أواخر القرن الثالث الهجري ثم تقبلوها تسليمًا بالأمر الواقع.
ومما يخالفون به مذهب أهل السنة في مسائل العقيدة: مسألة رؤية الله تعالى في الآخرة، فهم ينفونها كالشيعة والمعتزلة.
وكذلك اعتقادهم أن أهل الكبائر من المسلمين إذا ماتوا بدون توبة -عصاة كانوا أو فاسقين- هم مخلدون في النار أبدًا، وأما المؤمنون -عقيدةً وقولًا وعملًا- فهم المخلدون في الجنة دون غيرهم.
وبناءً على هذا: قالوا بأن شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لن تكون لمن مات وهو مصر على الكبائر، وإنما تكون للمؤمنين كافة للتخفيف عليهم يوم الحشر، والتعجيل بهم للدخول في الجنة أو لزيادة درجة، ومثوبة لبعض المؤمنين الذين ماتوا على الوفاء والتوبة النصوح.
وأصل هذه القضايا هو أن الإباضية يرون: أن من أقر بوحدانية الله ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكنه ضيع الفرائض الدينية أو ارتكب الكبائر يسمى عندهم موحدًا، لكنه ليس بمؤمن ولا بمشرك، فمرتكب الكبيرة يُعَدُّ كافرًا كُفْرَ نعمة وليس كافرًا كفر شرك، فهو معدودٌ عندهم موحدًا عاصيًا لا يخرجونه عن ملة الإسلام، فتجري عليه أحكام الإسلام والمسلمين في الدنيا، لكنه إذا مات على ذلك كان مخلدًا في النار، ولهذا فإنهم يؤكدون أن الإيمان بدون تطبيق فرائض الإسلام لا معنى له.
وقولهم هذا أيضًا مبني على أن وعيد الله تعالى لا يمكن أن يتخلف، فما دام قد توعد العاصي بالخلود في النار فكل من مات على معصية دون توبة كان مخلدًا في النار وإن جرت عليه أحكام المسلمين في الدنيا بأن كان موحدًا؛ ويتمسكون في ذلك بعموم قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [النساء: 14].
قال الشيخ ضياء الدين الثميني في كتاب "النيل": [هلك راج لعاص على عصيانه ثوابًا أو نجاةً أو انقلاعًا من كفر لمنصوص على كفره وموته عليه، ولا يرجى خير لهالك على عصيان شهر به أو يتمنى له وإن لم ينص عليه، وجاز فيه الشك أنه عند الله على خلاف ما عندنا لا الظن] اهـ.
ويقول الشيخ أطفيش في "شرح النيل وشفاء العليل" (16/ 576، ط. مكتبة الإرشاد): [(هلك راج لعاص) عصيانًا كبيرًا (على عصيانه ثوابًا) أخرويًّا (أو نجاة) من نار الآخرة هلاك نفاق، وعلى بمعنى مع، أو على أصلها، والمعنى لعاص مُصِرٌّ على عصيانه أو ثابت عليه، وذلك أن يعلم منه كبيرة ويرجو له مع ذلك خير الآخرة على عمل من الخير يعمله أو لا على عمل، أو يرجو له النجاة من عذاب الآخرة، فالمراد بالثواب ما من شأنه أن يكون ثوابًا للمطيع فرجاه للعاصي هكذا، أو رجاه له على عمل يعمله] اهـ.
لكن أهل السنة يرون أن ما ذهب إليه الإباضية والمعتزلة فيه تضييق لرحمة الله وعفوه ومغفرته الواسعة؛ كما يرون أن عموم الآية التي تمسكوا بها دخله التخصيص، فالخلود في النار خاص بمن عصى بالكفر دون غيره، واستند أهل السنة في قولهم بالتخصيص إلى الكثير من نصوص القرآن والسنة والأدلة الراجحة؛ يقول الإمام الرازي في معرض رده على المعتزلة في مسألة أن كل معصية توجب العقاب إن لم يتب منها الإنسان "تفسير الرازي مفاتيح الغيب" (10/ 61، ط. دار إحياء التراث العربي): [إلا أنا نعلم ببديهة العقل أن من اشتغل بتوحيد الله وتقديسه وخدمته وطاعته سبعين سنة، فإن ثواب مجموع هذه الطاعات الكثيرة في هذه المدة الطويلة أكثر بكثير من عقاب شرب قطرة واحدة من الخمر، مع أن الأمة مجمعة على أن شرب هذه القطرة من الكبائر، فإن أَصَرُّوا -أي المعتزلة- وقالوا: بل عقاب شرب هذه القطرة أزيد من ثواب التوحيد وجميع الطاعات سبعين سنة فقد أبطلوا على أنفسهم أصلهم، فإنهم يبنون هذه المسائل على قاعدة الحسن والقبح العقليين.
ومن الأمور المتقررة في العقول أن من جعل عقاب هذا القدر من الجناية أزيد من ثواب تلك الطاعات العظيمة فهو ظالم، فإن دفعوا حكم العقل في هذا الموضع فقد أبطلوا على أنفسهم القول بتحسين العقل وتقبيحه، وحينئذ يبطل عليهم كل هذه القواعد] اهـ.
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، يقول الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (10/ 98): [هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على العفو عن أصحاب الكبائر. واعلم أن الاستدلال بها من وجوه:
- (الوجه الأول): أن قوله: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ معناه لا يغفر الشرك على سبيل التفضل؛ لأنه بالإجماع لا يغفر على سبيل الوجوب، وذلك عندما يتوب المشرك عن شركه، فإذا كان قوله: إن الله لا يغفر الشرك هو أنه لا يغفره على سبيل التفضل، وجب أن يكون قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ هو أن يغفره على سبيل التفضل، حتى يكون النفي والإثبات متواردين على معنى واحد. ألا ترى أنه لو قال: فلان لا يعطي أحدا تفضلًا، ويعطي زائدًا فإنه يفهم منه أنه يعطيه تفضلًا، حتى لو صرح وقال: لا يعطي أحدًا شيئا على سبيل التفضل ويعطي أزيد على سبيل الوجوب، فكل عاقل يحكم بركاكة هذا الكلام، فثبت أن قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ على سبيل التفضل.
إذا ثبت هذا فنقول: وجب أن يكون المراد منه أصحاب الكبائر قبل التوبة؛ لأن عند المعتزلة غفران الصغيرة وغفران الكبيرة بعد التوبة واجب عقلًا، فلا يمكن حمل الآية عليه، فإذا تقرر ذلك لم يبق إلا حمل الآية على غفران الكبيرة قبل التوبة وهو المطلوب.
- (الثاني): أنه تعالى قسم المنهيات على قسمين: الشرك، وما سوى الشرك.
ثم إن ما سوى الشرك يدخل فيه الكبيرة قبل التوبة، والكبيرة بعد التوبة والصغيرة، ثم حكم على الشرك بأنه غير مغفور قطعًا، وعلى ما سواه بأنه مغفور قطعًا، لكن في حق من يشاء، فصار تقدير الآية أنه تعالى يغفر كل ما سوى الشرك، لكن في حق من شاء.
ولما دلت الآية على أن كل ما سوى الشرك مغفور، وجب أن تكون الكبيرة قبل التوبة أيضًا مغفورة] اهـ.
ويعتمد الإباضية في فقههم على القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، والإجماع، والرأي، لكنهم يقدمون في السنة "صحيح" أحد علمائهم وهو: الربيع بن حبيب، الذي تم تأليفه في القرن الثاني الهجري، ويعدونه أعلى درجة من صحيحي البخاري ومسلم مخالفين بذلك المذاهب السنية الأربعة.
وتنكر الإباضية تمامًا أنها فرقة من الخوارج، وتتمركز الآن في عمان، وتنتشر في بلاد أخرى كالجزائر، وقد اعتمد مذهبهم فقهيًّا لدى جهات علمية كثيرة؛ كمجمع البحوث الإسلامية، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية؛ كما يتضح في الموسوعة التي أصدرها، ومجمع الفقه التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وقد لاقى كثيرًا من الدراسات الأزهرية في جامعة الأزهر الشريف، فتناولت الكثيرُ من رسائل الماجستير والدكتوراه المذهبَ الإباضي، وأسسه وأصوله.
ومن أهم كتب الإباضية الفقهية: كتاب "المدونة" لأبي غانم الخرساني، ينقل فيه عن أئمة الإباضية المسائل العملية بطريقة فقهية دون نقل الإسناد غالبًا، ولذلك فهناك خلافات فقهية بين الإباضية وبين أهل السنة بسبب الاختلاف المنهجي، وليس بسبب التضاد أو الصراع أو التعصب.
الإباضية رفضوا رفضًا تامًّا الأحاديث والآثار التي تدل على وجوب اشتراط القرشية في الإمامة الكبرى خلافًا لأهل السنة، فلم يشترطوا سوى الإسلام والتقوى والحرية والكفاءة، ومما تميزوا به وتفردوا به في مذهبهم أن العبد إذا كاتب يصير حرًّا من أول المكاتبة؛ تقديرًا وتشوفًا لحرية الإنسان. انظر: "شرح النيل وشفاء العليل" (12/ 560).
ومما لوحظ في كتب المذهب الإباضي: أنه يأتي فيها ذكر الأدلة وبيان التعليلات الفقهية لمسائل مذكورة في كتب غيرهم دون دليل أو بيان واضح.
ومن كتبهم: كتاب "قاموس الشريعة الحاوي طرقها الوسيعة" لجميل بن خميس السعدي، يقع في 92 جزءًا، ألفه في القرن الحادي عشر، وطبع منه أجزاء كثيرة، ولكن لم يطبع كاملًا حتى الآن.
ومن علماء المذهب: الشيخ محمد بن يوسف بن أطفيش الجزائري صاحب كتاب "شرح النيل وشفاء العليل" لضياء الدين الثميني، وهو يقع في عشرة مجلدات كبيرة.
فالحاصل أن المذهب الإباضي مذهب معتمد، له علماؤه وكتبه ومصطلحاته، وطريقة استدلاله لا تخرج في الجملة عن المذاهب الفقهية المعتمدة، ويمكن أن يستفاد منه في عصرنا الحاضر أيّما استفادة، فهذا المذهب وإن قَلَّ أتباعُه إلا أنه من المذاهب الثمانية المعتمدة المعمول بها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

الإسماعيلية: فرقة باطنية، انتسبت إلى الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق، ظاهرها التشيع لآل البيت، وحقيقتها هدم عقائد الإسلام، تشعبت فرقها وامتدت عبر الزمان حتى وقتنا الحاضر، وحقيقتها تخالف العقائد الإسلامية الصحيحة، وقد مالت إلى الغلو الشديد حتى إن الشيعة الاثني عشرية يكفرونها.
يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي -وهو واحد ممن سبروا أغوار هذه الطائفة عن قرب- عن دعوة الإسماعيلية في كتابه "فضائح الباطنية" (ص: 18، ط. مؤسسة دار الكتب الثقافية، الكويت): [مما تطابق عليه نقلة المقالات قاطبة أن هذه الدعوة لم يفتتحها منتسب إلى ملة ولا معتقد لنحلة معتضد بنبوة، فإن مساقها ينقاد إلى الانسلال من الدين كانسلال الشعرة من العجين] اهـ.
ويقول الإمام فخر الدين الرازي في كتابه "اعتقادات فرق المسلمين والمشركين" (ص: 76، ط. دار الكتب العلمية): [الباب التاسع: في الذين يتظاهرون بالإسلام وإن لم يكونوا مسلمين. وفرق هؤلاء كثيرة جدًا، إلا أننا نذكر الأشهر منهم: فالفرقة الأولى: "الباطنية".
اعلم أن الفساد اللازم من هؤلاء على الدين الحنيفي أكثر من الفساد اللازم عليه من جميع الكفار، وهم عدة فرق، ومقصودهم على الإطلاق إبطال الشريعة بأسرها ونفي الصانع، ولا يؤمنون بشيء من الملل ولا يعترفون بالقيمة إلا أنهم لا يتظاهرون بهذه الأشياء إلا بالآخرة] اهـ.
وقد تلونت هذه الطائفة وأحاطت نفسها بالغموض والكتمان وتشعبت واشتهرت بعدة أسماء؛ كالباطنية والخرمية والقرامطة والمحمرة والسبعية والتعليمية والإسماعيلية وغير ذلك، ويشرح حجة الإسلام الغزالي سبب تلقيبهم ببعض هذه الأسماء فيقول في "فضائح الباطنية" (ص: 11-12): [أما الباطنية فإنما لقبوا بها؛ لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشر، وأنها بصورها توهم عند الجهال الأغبياء صورًا جليَّةً وهي عند العقلاء والأذكياء رموز وإشارات إلى حقائق معينة، وأن من تقاعد عقله عن الغوص على الخفايا والأسرار والبواطن والأغوار وقنع بظواهرها مسارعًا إلى الاغترار كان تحت الأواصر والأغلال معني بالأوزار والأثقال، وأرادوا بالأغلال التكليفات الشرعية، فإن من ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكليف، واستراح من أعبائه، وهم المرادون بقوله تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157]، وربما موهوا بالاستشهاد عليه بقولهم: إن الجهال المنكرين للباطن هم الذين أريدوا بقوله تعالى: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ [الحديد: 13].
وغرضهم الأقصى إبطال الشرائع فإنهم إذا انتزعوا عن العقائد موجب الظواهر قدروا على الحكم بدعوى الباطن على حسب ما يوجب الانسلاخ عن قواعد الدين إذا سقطت الثقة بموجب الألفاظ الصريحة فلا يبقى للشرع عصام يرجع إليه ويعول عليه.] اهـ.
ثم يقول حجة الإسلام في (ص: 14- 17): [وأما الخرمية فلقبوا بها نسبة لهم إلى حاصل مذهبهم وزبدته، فإنه راجع إلى طي بساط التكليف، وحطِّ أعباء الشرع عن المتعبدين، وتسليط الناس على اتباع اللذات، وطلب الشهوات، وقضاء الوطر من المباحات والمحرمات.
وخرم: لفظ أعجمي ينبئ عن الشىء المستلذ المستطاب الذي يرتاح الإنسان إليه بمشاهدته ويهتز لرؤيته، وقد كان هذا لقبًا "للمزدكية" وهم: أهل الإباحة من المجوس الذين نبغوا في أيام قباذ، وأباحوا النساء وإن كن من المحارم، وأحلُّوا كل محظور وكانوا يسمون "خرمدينية".
فهؤلاء أيضًا لقبوا بها لمشابهتهم إياهم في آخر المذهب وإن خالفوهم في المقدمات وسوابق الحيل في الاستدراج..
وأما التعليمية فإنهم لقبوا بها؛ لأن مبدأ مذاهبهم إبطال الرأي، وإبطال تصرف العقول، ودعوة الخلق إلى التعليم من الإمام المعصوم، وأنه لا مدرك للعلوم إلا التعليم، ويقولون في مبتدأ مجادلتهم الحق إما أن يعرف بالرأي وإما أن يعرف بالتعلم، وقد بطل التعويل على الرأي؛ لتعارض الآراء وتقابل الأهواء، واختلاف ثمرات نظر العقلاء، فتعين الرجوع إلى التعليم والتعلم، وهذا اللقب هو الأليق بباطنية هذا العصر فإن تعويلهم الأكثر على الدعوة إلى التعليم، وإبطال الرأي، وإيجاب اتباع الإمام المعصوم، وتنزيله في وجوب التصديق، والاقتداء به منزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
ويقول الإمام سيف الدين الآمدي في "أبكار الأفكار" (5/ 63، ط. دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة): [وأصل دعوة هؤلاء مبني على إبطال الشرائع، ودحض النواميس الدينية؛ وذلك لأن ابتداء دعوتهم أن نفرًا من المجوس يقال لهم غيارية اجتمعوا فتذاكروا ما كان أسلافهم عليه من الملك الذي غلب عليه المسلمون، فقالوا: لا سبيل لنا إلى دفعهم بالسيف؛ لكثرتهم وقوة شوكتهم، لكنَّا نحتال بتأويل شرائعهم، على وجوه تعود إلى قواعد الأسلاف من المجوس، ونستدرج به الضعفاء منهم، فإن ذلك مما يوجب الاختلاف بينهم، واضطراب كلمتهم] اهـ.
فهذه الطائفة خارجة بالفعل عن دائرة الإسلام الرحبة، وعن دائرة المذاهب الإسلامية المعتبرة، وقد تحقق لدى علماء الأمة الإسلامية بطلان ما تدعو إليه هذه الطائفة، وأنها تستدرج أتباعها إلى الإباحية، والانسلاخ من الدين بالكلية في نهاية الأمر، وإلى جحد الألوهية والنبوة والشرائع السماوية، ويمهدون لذلك بادعاء أن للنصوص الشرعية ظاهرًا وباطنًا، وأن الباطن هو المقصود دون الظاهر، وأن علم باطنها مقصور على إمام معصوم يحتكر التفسير الحقيقي لنصوص الشريعة، ويتواصل مع أتباعه من خلال نوابه وهم رؤساء هذه الطائفة المنحرفة والداعين إليها.
ومن صور تأويلاتهم الباطنية الشاذة قولهم:
- إن الوضوء: عبارة عن موالاة إمامهم، وأن التيمم هو الأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الذي هو الحجة، وأن الصلاة عبارة عن الناطق الذي هو الرسول بدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45].
- وأن الاحتلام: عبارة عن إفشاء سر من أسرارهم إلى من ليس من أهله بغير قصد منه، وأن الغسل تجديد العهد.
- وأن الزكاة: تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين. انظر: "المواقف وشرحه" للشريف الجرجاني (3/ 687، ط. دار الجيل).
أما الإباضية: فهي طائفة من المسلمين، لها مسائل عقدية خاصة تقربها من مذهب المعتزلة، ولها مذهب فقهي معتبر معدود في ضمن المذاهب الإسلامية الثمانية المعتمدة؛ كمذهب الظاهرية، وهذه الطائفة تنتسب إلى التابعي جابر بن زيد الأزدي رضي الله عنه، وهو محدث وفقيه، وإمام في التفسير والحديث، وهو من أخص تلاميذ ابن عباس رضي الله عنه، وممن روى الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وعدد كبير من الصحابة ممن شهد بدرًا.
وأما ما اشتهر عند المؤرخين من نسبة الإباضية إلى عبد الله بن إباض الذي عاش في زمن عبد الملك بن مروان، فهي نسبة عرضية سبَبُها بعض المواقف الكلامية والسياسية التي اشتهر بها ابن إباض وتميز بها، فنسبت الإباضية إليه من قبل الأمويين.
والإباضية في تاريخهم المبكر لم يستعملوا هذه التسمية، وإنما كانوا يستعملون عبارة "جماعة المسلمين" أو "أهل الدعوة"، وأول ما ظهر استعمالهم لكلمة "الإباضية" كان في أواخر القرن الثالث الهجري ثم تقبلوها تسليمًا بالأمر الواقع.
ومما يخالفون به مذهب أهل السنة في مسائل العقيدة: مسألة رؤية الله تعالى في الآخرة، فهم ينفونها كالشيعة والمعتزلة.
وكذلك اعتقادهم أن أهل الكبائر من المسلمين إذا ماتوا بدون توبة -عصاة كانوا أو فاسقين- هم مخلدون في النار أبدًا، وأما المؤمنون -عقيدةً وقولًا وعملًا- فهم المخلدون في الجنة دون غيرهم.
وبناءً على هذا: قالوا بأن شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لن تكون لمن مات وهو مصر على الكبائر، وإنما تكون للمؤمنين كافة للتخفيف عليهم يوم الحشر، والتعجيل بهم للدخول في الجنة أو لزيادة درجة، ومثوبة لبعض المؤمنين الذين ماتوا على الوفاء والتوبة النصوح.
وأصل هذه القضايا هو أن الإباضية يرون: أن من أقر بوحدانية الله ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكنه ضيع الفرائض الدينية أو ارتكب الكبائر يسمى عندهم موحدًا، لكنه ليس بمؤمن ولا بمشرك، فمرتكب الكبيرة يُعَدُّ كافرًا كُفْرَ نعمة وليس كافرًا كفر شرك، فهو معدودٌ عندهم موحدًا عاصيًا لا يخرجونه عن ملة الإسلام، فتجري عليه أحكام الإسلام والمسلمين في الدنيا، لكنه إذا مات على ذلك كان مخلدًا في النار، ولهذا فإنهم يؤكدون أن الإيمان بدون تطبيق فرائض الإسلام لا معنى له.
وقولهم هذا أيضًا مبني على أن وعيد الله تعالى لا يمكن أن يتخلف، فما دام قد توعد العاصي بالخلود في النار فكل من مات على معصية دون توبة كان مخلدًا في النار وإن جرت عليه أحكام المسلمين في الدنيا بأن كان موحدًا؛ ويتمسكون في ذلك بعموم قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [النساء: 14].
قال الشيخ ضياء الدين الثميني في كتاب "النيل": [هلك راج لعاص على عصيانه ثوابًا أو نجاةً أو انقلاعًا من كفر لمنصوص على كفره وموته عليه، ولا يرجى خير لهالك على عصيان شهر به أو يتمنى له وإن لم ينص عليه، وجاز فيه الشك أنه عند الله على خلاف ما عندنا لا الظن] اهـ.
ويقول الشيخ أطفيش في "شرح النيل وشفاء العليل" (16/ 576، ط. مكتبة الإرشاد): [(هلك راج لعاص) عصيانًا كبيرًا (على عصيانه ثوابًا) أخرويًّا (أو نجاة) من نار الآخرة هلاك نفاق، وعلى بمعنى مع، أو على أصلها، والمعنى لعاص مُصِرٌّ على عصيانه أو ثابت عليه، وذلك أن يعلم منه كبيرة ويرجو له مع ذلك خير الآخرة على عمل من الخير يعمله أو لا على عمل، أو يرجو له النجاة من عذاب الآخرة، فالمراد بالثواب ما من شأنه أن يكون ثوابًا للمطيع فرجاه للعاصي هكذا، أو رجاه له على عمل يعمله] اهـ.
لكن أهل السنة يرون أن ما ذهب إليه الإباضية والمعتزلة فيه تضييق لرحمة الله وعفوه ومغفرته الواسعة؛ كما يرون أن عموم الآية التي تمسكوا بها دخله التخصيص، فالخلود في النار خاص بمن عصى بالكفر دون غيره، واستند أهل السنة في قولهم بالتخصيص إلى الكثير من نصوص القرآن والسنة والأدلة الراجحة؛ يقول الإمام الرازي في معرض رده على المعتزلة في مسألة أن كل معصية توجب العقاب إن لم يتب منها الإنسان "تفسير الرازي مفاتيح الغيب" (10/ 61، ط. دار إحياء التراث العربي): [إلا أنا نعلم ببديهة العقل أن من اشتغل بتوحيد الله وتقديسه وخدمته وطاعته سبعين سنة، فإن ثواب مجموع هذه الطاعات الكثيرة في هذه المدة الطويلة أكثر بكثير من عقاب شرب قطرة واحدة من الخمر، مع أن الأمة مجمعة على أن شرب هذه القطرة من الكبائر، فإن أَصَرُّوا -أي المعتزلة- وقالوا: بل عقاب شرب هذه القطرة أزيد من ثواب التوحيد وجميع الطاعات سبعين سنة فقد أبطلوا على أنفسهم أصلهم، فإنهم يبنون هذه المسائل على قاعدة الحسن والقبح العقليين.
ومن الأمور المتقررة في العقول أن من جعل عقاب هذا القدر من الجناية أزيد من ثواب تلك الطاعات العظيمة فهو ظالم، فإن دفعوا حكم العقل في هذا الموضع فقد أبطلوا على أنفسهم القول بتحسين العقل وتقبيحه، وحينئذ يبطل عليهم كل هذه القواعد] اهـ.
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، يقول الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (10/ 98): [هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على العفو عن أصحاب الكبائر. واعلم أن الاستدلال بها من وجوه:
- (الوجه الأول): أن قوله: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ معناه لا يغفر الشرك على سبيل التفضل؛ لأنه بالإجماع لا يغفر على سبيل الوجوب، وذلك عندما يتوب المشرك عن شركه، فإذا كان قوله: إن الله لا يغفر الشرك هو أنه لا يغفره على سبيل التفضل، وجب أن يكون قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ هو أن يغفره على سبيل التفضل، حتى يكون النفي والإثبات متواردين على معنى واحد. ألا ترى أنه لو قال: فلان لا يعطي أحدا تفضلًا، ويعطي زائدًا فإنه يفهم منه أنه يعطيه تفضلًا، حتى لو صرح وقال: لا يعطي أحدًا شيئا على سبيل التفضل ويعطي أزيد على سبيل الوجوب، فكل عاقل يحكم بركاكة هذا الكلام، فثبت أن قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ على سبيل التفضل.
إذا ثبت هذا فنقول: وجب أن يكون المراد منه أصحاب الكبائر قبل التوبة؛ لأن عند المعتزلة غفران الصغيرة وغفران الكبيرة بعد التوبة واجب عقلًا، فلا يمكن حمل الآية عليه، فإذا تقرر ذلك لم يبق إلا حمل الآية على غفران الكبيرة قبل التوبة وهو المطلوب.
- (الثاني): أنه تعالى قسم المنهيات على قسمين: الشرك، وما سوى الشرك.
ثم إن ما سوى الشرك يدخل فيه الكبيرة قبل التوبة، والكبيرة بعد التوبة والصغيرة، ثم حكم على الشرك بأنه غير مغفور قطعًا، وعلى ما سواه بأنه مغفور قطعًا، لكن في حق من يشاء، فصار تقدير الآية أنه تعالى يغفر كل ما سوى الشرك، لكن في حق من شاء.
ولما دلت الآية على أن كل ما سوى الشرك مغفور، وجب أن تكون الكبيرة قبل التوبة أيضًا مغفورة] اهـ.
ويعتمد الإباضية في فقههم على القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، والإجماع، والرأي، لكنهم يقدمون في السنة "صحيح" أحد علمائهم وهو: الربيع بن حبيب، الذي تم تأليفه في القرن الثاني الهجري، ويعدونه أعلى درجة من صحيحي البخاري ومسلم مخالفين بذلك المذاهب السنية الأربعة.
وتنكر الإباضية تمامًا أنها فرقة من الخوارج، وتتمركز الآن في عمان، وتنتشر في بلاد أخرى كالجزائر، وقد اعتمد مذهبهم فقهيًّا لدى جهات علمية كثيرة؛ كمجمع البحوث الإسلامية، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية؛ كما يتضح في الموسوعة التي أصدرها، ومجمع الفقه التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وقد لاقى كثيرًا من الدراسات الأزهرية في جامعة الأزهر الشريف، فتناولت الكثيرُ من رسائل الماجستير والدكتوراه المذهبَ الإباضي، وأسسه وأصوله.
ومن أهم كتب الإباضية الفقهية: كتاب "المدونة" لأبي غانم الخرساني، ينقل فيه عن أئمة الإباضية المسائل العملية بطريقة فقهية دون نقل الإسناد غالبًا، ولذلك فهناك خلافات فقهية بين الإباضية وبين أهل السنة بسبب الاختلاف المنهجي، وليس بسبب التضاد أو الصراع أو التعصب.
الإباضية رفضوا رفضًا تامًّا الأحاديث والآثار التي تدل على وجوب اشتراط القرشية في الإمامة الكبرى خلافًا لأهل السنة، فلم يشترطوا سوى الإسلام والتقوى والحرية والكفاءة، ومما تميزوا به وتفردوا به في مذهبهم أن العبد إذا كاتب يصير حرًّا من أول المكاتبة؛ تقديرًا وتشوفًا لحرية الإنسان. انظر: "شرح النيل وشفاء العليل" (12/ 560).
ومما لوحظ في كتب المذهب الإباضي: أنه يأتي فيها ذكر الأدلة وبيان التعليلات الفقهية لمسائل مذكورة في كتب غيرهم دون دليل أو بيان واضح.
ومن كتبهم: كتاب "قاموس الشريعة الحاوي طرقها الوسيعة" لجميل بن خميس السعدي، يقع في 92 جزءًا، ألفه في القرن الحادي عشر، وطبع منه أجزاء كثيرة، ولكن لم يطبع كاملًا حتى الآن.
ومن علماء المذهب: الشيخ محمد بن يوسف بن أطفيش الجزائري صاحب كتاب "شرح النيل وشفاء العليل" لضياء الدين الثميني، وهو يقع في عشرة مجلدات كبيرة.
فالحاصل أن المذهب الإباضي مذهب معتمد، له علماؤه وكتبه ومصطلحاته، وطريقة استدلاله لا تخرج في الجملة عن المذاهب الفقهية المعتمدة، ويمكن أن يستفاد منه في عصرنا الحاضر أيّما استفادة، فهذا المذهب وإن قَلَّ أتباعُه إلا أنه من المذاهب الثمانية المعتمدة المعمول بها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;