قد يفتي الفقيه برأي ويعلِّل ما ذهب إليه بأن ذلك ما تقضي به المصلحة أو أن ذلك يحقق المصلحة، فما هي ضوابط المصلحة التي يصح الترجيح بها بين الأقوال؟
الترجيح بين الأقوال بالمصلحة
المصلحة في اللغة: مفعلة، وهي مفرد: مصالح، من صَلَحَ، والصاد واللام والحاء أصل واحد على خلاف الفساد، يقال: أصلحه ضد أفسده، وقد أصلح الشيء بعد فساده أي: أقامه، والإصلاح: نقيض الإفساد، والمصلحة: الصلاح، والاستصلاح نقيض الاستفساد، ويقال: رأى الإمام المصلحة في كذا، وهُم من أهل المصالح أو المفاسد، والمصلحة: المنفعة.
فالمصلحة في اللغة تستعمل بمعنيين:
- الأول: المنفعة وَزْنًا ومعنى.
- والثاني: الفعل الذي فيه صلاح، بمعنى النفع. انظر: "لسان العرب" (2/ 516، مادة: ص ل ح، ط. دار صادر)، و"مختار الصحاح" (ص: 178، مادة: ص ل ح)، و"المصباح المنير" (1/ 345، مادة: ص ل ح، ط. المكتبة العلمية)، و"المعجم الوسيط" (ص: 520، ط. دار الدعوة).
ولا تخرج المصلحة في اصطلاح الشرع عما هي عليه في اللغة، إلا أنها في الاصطلاح أخص منها في اللغة، فيمكن أن تعرَّف في الاصطلاح بأنها: المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم وفق ترتيب معين فيما بينها، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعه مصلحة. انظر: "المستصفى" لحجة الإسلام الغزالي (1/ 174، ط. دار الكتب العلمية).
وبناء على ذلك فكل ما كان فيه نفع سواء كان بالجلب كما في تحصيل المنافع، أو بالدفع والاتقاء كما في استبعاد المضار فهو جدير بأن يسمى مصلحة. راجع: "رسالة في رعاية المصلحة" للإمام الطوفي (ص: 25، ط. الدار المصرية اللبنانية)، و"ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية" للدكتور البوطي (ص: 23، ط. مؤسسة الرسالة).
وقد قسَّم الأصوليون المصلحة باعتبارات عديدة إلى أنواع مختلفة، ما يهمنا منها هنا اعتباران:
- أولهما: تقسيمها باعتبار قوتها في ذاتها.
- وثانيهما: تقسيمها من حيث اعتبار الشارع لها.
وتنقسم المصلحة بالاعتبار الأول إلى ثلاثة أقسام:
1- مصلحة ضرورية، وهي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم وحصول الخسران.
2- مصلحة حاجية، وهي ما يفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب؛ كرُخَص السفر والمرض، وإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال في المأكل والمشرب والملبس والمسكن.
3- مصلحة تحسينية، وهي الأخذ بما يليق من محاسن العادات والتجنب للأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق كالطهارة وستر العورة وأخذ الزينة والتقرب بنوافل العبادات وكآداب الأكل والشرب واللباس، وعدم الإسراف أو التقتير في المآكل والمشارب والملابس. انظر: "الموافقات" للإمام الشاطبي (ص: 8-12، ط. دار المعرفة).
وتنقسم بالاعتبار الثاني إلى ثلاثة أقسام:
1- المصلحة المعتبرة شرعًا، وهي التي شهد الشرع باعتبارها، وقام الدليل على رعايتها من نصٍ أو إجماع؛ كحفظ العقل المقصود بتحريم شرب الخمر، وكحفظ النفس المقصود من تشريع الردع بالقصاص في القتل العمد، وكذا مشروعية الضمان لحفظ المال الذي هو مقصد شرعي معتبر أيضًا، فإذا نص الشرع على حكم ما، وأرشد بمسلك من المسالك إلى العلة التي ربط بها هذا الحكم؛ لما في هذا الربط من تحقق مصلحة مقصودة للشارع فإن هذه المصلحة معتبرة، وكل واقعة وجدنا فيها هذه العلة متحققة صح تعدية الحكم إليها، ويكون شَرْع الحكم في مثل هذه الواقعة بالعلة لا بالمصلحة.
2- المصلحة الملغاة شرعًا، وهي التي شهد الشرع ببطلانها وعدم اعتبارها بنصٍ أو إجماع، وبعض الأصوليين يسميها المناسب الغريب، ومن أمثلة هذا النوع القول بتساوي الأخ وأخته في الميراث؛ لوجود معنى الأخوة الجامعة بينهما، فهذا المعنى ملغى بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: 176].
ومِن هذا القسم كل ما يظن فيه مصلحة لكن نص الشرع أو وقع الإجماع على عدم اعتبارها.
3- المصلحة المسكوت عنها التي لم يشهد لها الشرع بالاعتبار أو الإلغاء لكنها توافق مقاصد الشرع العامة من جلب نفع أو دفع ضر، وهي ما تسمى بـ"المصلحة المرسلة" أو "المناسب المرسل".
ويعد هذا القسم الثالث من المصالح موضع خلاف الأصوليين: بين قائل بحجيته مطلقًا، وبين مانع من ذلك، ومتوسط بين هذا وذلك، وذكر المتوسطون ضوابط لاعتبار المصلحة المرسلة طريقًا صحيحًا لاعتبار الأحكام المستنبطة من خلالها، بحيث لا تكون معتبرة إلا إذا كانت مقيَّدة بها، ويصح أيضًا جعلها ضوابط للترجيح بها، فإن الترجيح فرع عن الاعتبار.
فمن هذه الضوابط:
- أن تكون المصلحة ملائمة لمقاصد الشارع -راجع: "التقرير والتحبير" (3/ 153، ط. المطبعة الأميرية)، و"الموافقات" (3/ 47)-، ومقاصد الشرع تشمل الضروريات والحاجيات والتحسينات؛ يقول الإمام الزنجاني في "تخريج الفروع على الأصول" (ص: 320، ط. مؤسسة الرسالة): [ذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن التمسك بالمصالح المستندة إلى كلي الشرع وإن لم تكن مستندة إلى الجزئيات الخاصة المعينة جائز] اهـ، وبعض الأصوليين كالإمام بن الحاجب يسمي المصلحة المرسلة الملائمة لتلك المقاصد "مرسلًا ملائمًا"؛ احترازًا عن "المرسل الغريب" فهو مردود اتفاقًا -راجع: "بيان المختصر" للإمام الأصفهاني (3/ 126، ط. كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى)، و"التقرير والتحبير" للإمام ابن أمير الحاج (3/ 153، ط. دار الكتب العلمية)-، والمعنى: أنه يشترط الملائمة بين المصلحة المرسلة ومقاصد الشرع في الجملة بحيث لا تنافي أصلًا من أصوله ولا دليلًا من أدلته، بحيث تكون من جنس المصالح الكلية التي قصد الشارع إلى تحصيلها، أو قريبة منها، وليست غريبة عنها، وإن لم يشهد لها دليل خاص بالاعتبار.
- ومنها: ألَّا تخالف نصًّا من الكتاب أو السنة أو إجماعًا أو قياسًا صحيحًا.
فالنص من حيث وروده ودلالته على معناه نوعان: نص قطعي، ونص ظني.
-فالأول: ما كان مقطوعًا به ثبوتًا ودلالة، والمصلحة التي يعوِّل عليها المجتهد لا يجوز أن تعارض نصًّا قطعيًّا؛ لأن المصلحة بهذا المعنى مظنونة سواء كان لجنسها البعيد دليل أم لا، فإن كانت مظنونة، وكان لها شاهد عام أو دليل على جنسها البعيد فإنها لا تَقْوى على معارضة النص القطعي؛ لاستحالة اجتماع العلم والظن على محل واحد، وإن كانت مظنونة وليست كذلك أي ليس لجنسها البعيد دليل، ويعبر عنها بالمصلحة الموهومة فالنص يقدَّم عليها لا محالة، ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]، فالنص قطعي الثبوت، وقطعي الدلالة على الفرق بين البيع والربا في الحرمة، فلا أثر لأي مصلحة مظنونة تخالف هذا النص القطعي مهما قويت وترجحت.
- وأما الثاني: وهو النص الظني بمراتبه؛ فهو الذي يدل على أكثر من معنى، فوظيفة المجتهد حينئذ حصر تلك المعاني التي يحتملها النص، ومن ثَمَّ العمل على تحديد أقربها وأنسبها للمصلحة المشروعة، ولا مانع هنا من معارضة المصلحة في حالة معينة؛ لغير ذلك المعنى المحدد على وفق المصلحة، إنما الممنوع تعارض المصلحة لجميع مدلولات النص الظني؛ لأن معارضة كل مدلولات النص الظني كمعارضة النص القطعي تمامًا، فإذا عارضت المصلحة كل المدلولات الظنية فحكمها كحكم معارضة الدلالة القطعية، وعليه فلا يجوز مثلًا مخالفة مدلولي الحيض والطُّهْر للقُرْء بإحداث قول ثالث، لجلب مصلحة المرأة أو الرجل، وكذلك يحرم مخالفة معنيي الملامسة الواردين في الآية اللمس أو الوطء، فلا يجوز إحداث رأي ثالث، وغير ذلك من المعاني المحتملة للنص الظني التي لا يجوز العدول عنها إلى غيرها بمجرد توهم المصلحة وتخيلها، أو الظن بها ظنًّا ضعيفًا مرجوحًا.
أما الإجماع فإنه ينقسم باعتبار قوته إلى: قطعي، وظني:
- فالأول: مثل إجماع الصحابة المنقول بالتواتر، والإجماع على ما علم من الدين بالضرورة، فهذا النوع من الإجماع لا يتغير بالمصلحة مهما كانت مشروعيتها ودرجة المعقولية فيها، فالإجماع القطعي كالنص القطعي.
- والثاني: كالإجماع السكوتي الذي غلب على الظن فيه اتفاق الكل، فإذا كان الإجماع قائمًا على أحكام متغيرة بتغير الحيثيات المكوِّنة له أو مبنيًّا على مصلحة ظرفية لم تثبت أبديتها وبقاؤها، فإنه خاضع للتعديل والتغيير بموجب المصلحة الحادثة، ومجرد الاتفاق في عصر على حكم بناء على مصلحة لا يكفي في أبديته، بل لا بد مع هذا الاتفاق من اتفاق آخر على أنه دائم لا يتغير.
أما القياس: فهو مساواة فرع لأصل في علة حكمه، وهذه العلة تتناسب مع ما شرع الحكم لأجله، وهو ما يسميه الأصوليون: "المناسب"، وتختلف درجاته ومراتبه باختلاف اعتباره أو إلغائه شرعًا؛ إذ هناك وصفٌ اعتبره الشارع، ووصفٌ ألغاه، ووصفٌ لم يعتبره ولم يلغه، وفي الحالة التي يكون فيها الوصف معتبرًا عند الشارع، فإن التعبير عنه يكون متعدد الوجوه، فتارةً يكون الوصف المناسب منصوصًا عليه تصريحًا أو إيماءً، أو منصوصًا على جنسه أو نوعه.
والمقصد من بيان هذه التقسيمات للمناسب معرفة المقبول من غيره، وإجراء القياس، والترجيح بين الأقيسة والمصالح عند تعارضها، وإبراز تفاوت المصالح في منظور الشارع بتفاوت الاعتبار الشرعي لها قوة وضعفًا، وبناءً عليه فإذا كانت المصلحة مرسلة معارضة لقياس بني على علة تشتمل على وصف "مصلحة" مؤثر أو ملائم فتكون المصلحة مطروحة لتعارضها مع قياس صحيح، أو لتعارضها مع مصلحة أقوى منها.
- ومنها: أن يكون العمل بها في غير الأمور التعبدية؛ فالتكاليف الشرعية قسمان: عبادات، وعادات، والأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني -أي العلل-، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني. انظر: "الموافقات" (1/ 285).
ومجال العمل بالمصلحة المرسلة إنما هو في العادات وما يتعلق بمعاملة الناس بعضهم بعضًا، لا في العبادات التي لا مجال فيها للرأي، ولا مدخل فيها للاجتهاد، ويلحق بالعبادات كل ما كان في معناها مما ليس للعقل سبيل إلى إدراك المصلحة منه كالمقدرات من الحدود وفروض الإرث وما شابه، لكن ربما يقع الاستصلاح في الوسائل المطلقة لبعض العبادات لا في ذات العبادة وأصلها ولا في وسائلها التوقيفية التي ورد بها الشارع، ومثال ذلك استخدام بعض الأجهزة الحديثة لمعرفة استقبال القبلة ودخول وقت الصلاة.
- ومنها: ألَّا تعارض مصلحة أهم منها في القوة والرجحان، فإذا كان كذلك وكانت ما تحافظ عليه هاتين المصلحتين في تفاوت بالنظر إلى الذات، كما إذا حافظت إحداهما على ضروري والأخرى على حاجي، فتُقدَّم ما تحافظ على الضروري، وكذا تُقدَّم ما تحافظ على الحاجي إذا كانت مقابلتها تحافظ على التحسيني.
فإن كانتا غير متفاوتتين بل كلاهما في درجة واحدة فينظر إلى شيئين:
- مقدار الشمول، فالمصلحة العامة مقدَّمة على الخاصة.
- والتأكد من وقوع نتائجها، فالمصلحة اليقينية تقدم على الظنية.
فمراعاة هذه الضوابط تُجنِّب الفقيهَ الزللَ في حكمه على الأفعال، فلا يزيغ إلى باطل إلا عندما يتهاون في التقيد بهذه الضوابط أو تدقيق النظر في حقيقتها.
ولذا فإن تعيين المصلحة بهذا الوجه ليس من السهل بمكان، ويعد ذلك من مثارات الخلاف في بعض المسائل، فالذي حقَّق وجود المصلحة وحكم برجحانها أفتى بالجواز مثلًا، ومن لم ير ذلك قال بالعكس.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
المصلحة في اللغة: مفعلة، وهي مفرد: مصالح، من صَلَحَ، والصاد واللام والحاء أصل واحد على خلاف الفساد، يقال: أصلحه ضد أفسده، وقد أصلح الشيء بعد فساده أي: أقامه، والإصلاح: نقيض الإفساد، والمصلحة: الصلاح، والاستصلاح نقيض الاستفساد، ويقال: رأى الإمام المصلحة في كذا، وهُم من أهل المصالح أو المفاسد، والمصلحة: المنفعة.
فالمصلحة في اللغة تستعمل بمعنيين:
- الأول: المنفعة وَزْنًا ومعنى.
- والثاني: الفعل الذي فيه صلاح، بمعنى النفع. انظر: "لسان العرب" (2/ 516، مادة: ص ل ح، ط. دار صادر)، و"مختار الصحاح" (ص: 178، مادة: ص ل ح)، و"المصباح المنير" (1/ 345، مادة: ص ل ح، ط. المكتبة العلمية)، و"المعجم الوسيط" (ص: 520، ط. دار الدعوة).
ولا تخرج المصلحة في اصطلاح الشرع عما هي عليه في اللغة، إلا أنها في الاصطلاح أخص منها في اللغة، فيمكن أن تعرَّف في الاصطلاح بأنها: المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم وفق ترتيب معين فيما بينها، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعه مصلحة. انظر: "المستصفى" لحجة الإسلام الغزالي (1/ 174، ط. دار الكتب العلمية).
وبناء على ذلك فكل ما كان فيه نفع سواء كان بالجلب كما في تحصيل المنافع، أو بالدفع والاتقاء كما في استبعاد المضار فهو جدير بأن يسمى مصلحة. راجع: "رسالة في رعاية المصلحة" للإمام الطوفي (ص: 25، ط. الدار المصرية اللبنانية)، و"ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية" للدكتور البوطي (ص: 23، ط. مؤسسة الرسالة).
وقد قسَّم الأصوليون المصلحة باعتبارات عديدة إلى أنواع مختلفة، ما يهمنا منها هنا اعتباران:
- أولهما: تقسيمها باعتبار قوتها في ذاتها.
- وثانيهما: تقسيمها من حيث اعتبار الشارع لها.
وتنقسم المصلحة بالاعتبار الأول إلى ثلاثة أقسام:
1- مصلحة ضرورية، وهي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم وحصول الخسران.
2- مصلحة حاجية، وهي ما يفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب؛ كرُخَص السفر والمرض، وإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال في المأكل والمشرب والملبس والمسكن.
3- مصلحة تحسينية، وهي الأخذ بما يليق من محاسن العادات والتجنب للأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق كالطهارة وستر العورة وأخذ الزينة والتقرب بنوافل العبادات وكآداب الأكل والشرب واللباس، وعدم الإسراف أو التقتير في المآكل والمشارب والملابس. انظر: "الموافقات" للإمام الشاطبي (ص: 8-12، ط. دار المعرفة).
وتنقسم بالاعتبار الثاني إلى ثلاثة أقسام:
1- المصلحة المعتبرة شرعًا، وهي التي شهد الشرع باعتبارها، وقام الدليل على رعايتها من نصٍ أو إجماع؛ كحفظ العقل المقصود بتحريم شرب الخمر، وكحفظ النفس المقصود من تشريع الردع بالقصاص في القتل العمد، وكذا مشروعية الضمان لحفظ المال الذي هو مقصد شرعي معتبر أيضًا، فإذا نص الشرع على حكم ما، وأرشد بمسلك من المسالك إلى العلة التي ربط بها هذا الحكم؛ لما في هذا الربط من تحقق مصلحة مقصودة للشارع فإن هذه المصلحة معتبرة، وكل واقعة وجدنا فيها هذه العلة متحققة صح تعدية الحكم إليها، ويكون شَرْع الحكم في مثل هذه الواقعة بالعلة لا بالمصلحة.
2- المصلحة الملغاة شرعًا، وهي التي شهد الشرع ببطلانها وعدم اعتبارها بنصٍ أو إجماع، وبعض الأصوليين يسميها المناسب الغريب، ومن أمثلة هذا النوع القول بتساوي الأخ وأخته في الميراث؛ لوجود معنى الأخوة الجامعة بينهما، فهذا المعنى ملغى بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: 176].
ومِن هذا القسم كل ما يظن فيه مصلحة لكن نص الشرع أو وقع الإجماع على عدم اعتبارها.
3- المصلحة المسكوت عنها التي لم يشهد لها الشرع بالاعتبار أو الإلغاء لكنها توافق مقاصد الشرع العامة من جلب نفع أو دفع ضر، وهي ما تسمى بـ"المصلحة المرسلة" أو "المناسب المرسل".
ويعد هذا القسم الثالث من المصالح موضع خلاف الأصوليين: بين قائل بحجيته مطلقًا، وبين مانع من ذلك، ومتوسط بين هذا وذلك، وذكر المتوسطون ضوابط لاعتبار المصلحة المرسلة طريقًا صحيحًا لاعتبار الأحكام المستنبطة من خلالها، بحيث لا تكون معتبرة إلا إذا كانت مقيَّدة بها، ويصح أيضًا جعلها ضوابط للترجيح بها، فإن الترجيح فرع عن الاعتبار.
فمن هذه الضوابط:
- أن تكون المصلحة ملائمة لمقاصد الشارع -راجع: "التقرير والتحبير" (3/ 153، ط. المطبعة الأميرية)، و"الموافقات" (3/ 47)-، ومقاصد الشرع تشمل الضروريات والحاجيات والتحسينات؛ يقول الإمام الزنجاني في "تخريج الفروع على الأصول" (ص: 320، ط. مؤسسة الرسالة): [ذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن التمسك بالمصالح المستندة إلى كلي الشرع وإن لم تكن مستندة إلى الجزئيات الخاصة المعينة جائز] اهـ، وبعض الأصوليين كالإمام بن الحاجب يسمي المصلحة المرسلة الملائمة لتلك المقاصد "مرسلًا ملائمًا"؛ احترازًا عن "المرسل الغريب" فهو مردود اتفاقًا -راجع: "بيان المختصر" للإمام الأصفهاني (3/ 126، ط. كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى)، و"التقرير والتحبير" للإمام ابن أمير الحاج (3/ 153، ط. دار الكتب العلمية)-، والمعنى: أنه يشترط الملائمة بين المصلحة المرسلة ومقاصد الشرع في الجملة بحيث لا تنافي أصلًا من أصوله ولا دليلًا من أدلته، بحيث تكون من جنس المصالح الكلية التي قصد الشارع إلى تحصيلها، أو قريبة منها، وليست غريبة عنها، وإن لم يشهد لها دليل خاص بالاعتبار.
- ومنها: ألَّا تخالف نصًّا من الكتاب أو السنة أو إجماعًا أو قياسًا صحيحًا.
فالنص من حيث وروده ودلالته على معناه نوعان: نص قطعي، ونص ظني.
-فالأول: ما كان مقطوعًا به ثبوتًا ودلالة، والمصلحة التي يعوِّل عليها المجتهد لا يجوز أن تعارض نصًّا قطعيًّا؛ لأن المصلحة بهذا المعنى مظنونة سواء كان لجنسها البعيد دليل أم لا، فإن كانت مظنونة، وكان لها شاهد عام أو دليل على جنسها البعيد فإنها لا تَقْوى على معارضة النص القطعي؛ لاستحالة اجتماع العلم والظن على محل واحد، وإن كانت مظنونة وليست كذلك أي ليس لجنسها البعيد دليل، ويعبر عنها بالمصلحة الموهومة فالنص يقدَّم عليها لا محالة، ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]، فالنص قطعي الثبوت، وقطعي الدلالة على الفرق بين البيع والربا في الحرمة، فلا أثر لأي مصلحة مظنونة تخالف هذا النص القطعي مهما قويت وترجحت.
- وأما الثاني: وهو النص الظني بمراتبه؛ فهو الذي يدل على أكثر من معنى، فوظيفة المجتهد حينئذ حصر تلك المعاني التي يحتملها النص، ومن ثَمَّ العمل على تحديد أقربها وأنسبها للمصلحة المشروعة، ولا مانع هنا من معارضة المصلحة في حالة معينة؛ لغير ذلك المعنى المحدد على وفق المصلحة، إنما الممنوع تعارض المصلحة لجميع مدلولات النص الظني؛ لأن معارضة كل مدلولات النص الظني كمعارضة النص القطعي تمامًا، فإذا عارضت المصلحة كل المدلولات الظنية فحكمها كحكم معارضة الدلالة القطعية، وعليه فلا يجوز مثلًا مخالفة مدلولي الحيض والطُّهْر للقُرْء بإحداث قول ثالث، لجلب مصلحة المرأة أو الرجل، وكذلك يحرم مخالفة معنيي الملامسة الواردين في الآية اللمس أو الوطء، فلا يجوز إحداث رأي ثالث، وغير ذلك من المعاني المحتملة للنص الظني التي لا يجوز العدول عنها إلى غيرها بمجرد توهم المصلحة وتخيلها، أو الظن بها ظنًّا ضعيفًا مرجوحًا.
أما الإجماع فإنه ينقسم باعتبار قوته إلى: قطعي، وظني:
- فالأول: مثل إجماع الصحابة المنقول بالتواتر، والإجماع على ما علم من الدين بالضرورة، فهذا النوع من الإجماع لا يتغير بالمصلحة مهما كانت مشروعيتها ودرجة المعقولية فيها، فالإجماع القطعي كالنص القطعي.
- والثاني: كالإجماع السكوتي الذي غلب على الظن فيه اتفاق الكل، فإذا كان الإجماع قائمًا على أحكام متغيرة بتغير الحيثيات المكوِّنة له أو مبنيًّا على مصلحة ظرفية لم تثبت أبديتها وبقاؤها، فإنه خاضع للتعديل والتغيير بموجب المصلحة الحادثة، ومجرد الاتفاق في عصر على حكم بناء على مصلحة لا يكفي في أبديته، بل لا بد مع هذا الاتفاق من اتفاق آخر على أنه دائم لا يتغير.
أما القياس: فهو مساواة فرع لأصل في علة حكمه، وهذه العلة تتناسب مع ما شرع الحكم لأجله، وهو ما يسميه الأصوليون: "المناسب"، وتختلف درجاته ومراتبه باختلاف اعتباره أو إلغائه شرعًا؛ إذ هناك وصفٌ اعتبره الشارع، ووصفٌ ألغاه، ووصفٌ لم يعتبره ولم يلغه، وفي الحالة التي يكون فيها الوصف معتبرًا عند الشارع، فإن التعبير عنه يكون متعدد الوجوه، فتارةً يكون الوصف المناسب منصوصًا عليه تصريحًا أو إيماءً، أو منصوصًا على جنسه أو نوعه.
والمقصد من بيان هذه التقسيمات للمناسب معرفة المقبول من غيره، وإجراء القياس، والترجيح بين الأقيسة والمصالح عند تعارضها، وإبراز تفاوت المصالح في منظور الشارع بتفاوت الاعتبار الشرعي لها قوة وضعفًا، وبناءً عليه فإذا كانت المصلحة مرسلة معارضة لقياس بني على علة تشتمل على وصف "مصلحة" مؤثر أو ملائم فتكون المصلحة مطروحة لتعارضها مع قياس صحيح، أو لتعارضها مع مصلحة أقوى منها.
- ومنها: أن يكون العمل بها في غير الأمور التعبدية؛ فالتكاليف الشرعية قسمان: عبادات، وعادات، والأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني -أي العلل-، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني. انظر: "الموافقات" (1/ 285).
ومجال العمل بالمصلحة المرسلة إنما هو في العادات وما يتعلق بمعاملة الناس بعضهم بعضًا، لا في العبادات التي لا مجال فيها للرأي، ولا مدخل فيها للاجتهاد، ويلحق بالعبادات كل ما كان في معناها مما ليس للعقل سبيل إلى إدراك المصلحة منه كالمقدرات من الحدود وفروض الإرث وما شابه، لكن ربما يقع الاستصلاح في الوسائل المطلقة لبعض العبادات لا في ذات العبادة وأصلها ولا في وسائلها التوقيفية التي ورد بها الشارع، ومثال ذلك استخدام بعض الأجهزة الحديثة لمعرفة استقبال القبلة ودخول وقت الصلاة.
- ومنها: ألَّا تعارض مصلحة أهم منها في القوة والرجحان، فإذا كان كذلك وكانت ما تحافظ عليه هاتين المصلحتين في تفاوت بالنظر إلى الذات، كما إذا حافظت إحداهما على ضروري والأخرى على حاجي، فتُقدَّم ما تحافظ على الضروري، وكذا تُقدَّم ما تحافظ على الحاجي إذا كانت مقابلتها تحافظ على التحسيني.
فإن كانتا غير متفاوتتين بل كلاهما في درجة واحدة فينظر إلى شيئين:
- مقدار الشمول، فالمصلحة العامة مقدَّمة على الخاصة.
- والتأكد من وقوع نتائجها، فالمصلحة اليقينية تقدم على الظنية.
فمراعاة هذه الضوابط تُجنِّب الفقيهَ الزللَ في حكمه على الأفعال، فلا يزيغ إلى باطل إلا عندما يتهاون في التقيد بهذه الضوابط أو تدقيق النظر في حقيقتها.
ولذا فإن تعيين المصلحة بهذا الوجه ليس من السهل بمكان، ويعد ذلك من مثارات الخلاف في بعض المسائل، فالذي حقَّق وجود المصلحة وحكم برجحانها أفتى بالجواز مثلًا، ومن لم ير ذلك قال بالعكس.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
الترجيح بين الأقوال بالمصلحة
قد يفتي الفقيه برأي ويعلِّل ما ذهب إليه بأن ذلك ما تقضي به المصلحة أو أن ذلك يحقق المصلحة، فما هي ضوابط المصلحة التي يصح الترجيح بها بين الأقوال؟
المصلحة في اللغة: مفعلة، وهي مفرد: مصالح، من صَلَحَ، والصاد واللام والحاء أصل واحد على خلاف الفساد، يقال: أصلحه ضد أفسده، وقد أصلح الشيء بعد فساده أي: أقامه، والإصلاح: نقيض الإفساد، والمصلحة: الصلاح، والاستصلاح نقيض الاستفساد، ويقال: رأى الإمام المصلحة في كذا، وهُم من أهل المصالح أو المفاسد، والمصلحة: المنفعة.
فالمصلحة في اللغة تستعمل بمعنيين:
- الأول: المنفعة وَزْنًا ومعنى.
- والثاني: الفعل الذي فيه صلاح، بمعنى النفع. انظر: "لسان العرب" (2/ 516، مادة: ص ل ح، ط. دار صادر)، و"مختار الصحاح" (ص: 178، مادة: ص ل ح)، و"المصباح المنير" (1/ 345، مادة: ص ل ح، ط. المكتبة العلمية)، و"المعجم الوسيط" (ص: 520، ط. دار الدعوة).
ولا تخرج المصلحة في اصطلاح الشرع عما هي عليه في اللغة، إلا أنها في الاصطلاح أخص منها في اللغة، فيمكن أن تعرَّف في الاصطلاح بأنها: المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم وفق ترتيب معين فيما بينها، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعه مصلحة. انظر: "المستصفى" لحجة الإسلام الغزالي (1/ 174، ط. دار الكتب العلمية).
وبناء على ذلك فكل ما كان فيه نفع سواء كان بالجلب كما في تحصيل المنافع، أو بالدفع والاتقاء كما في استبعاد المضار فهو جدير بأن يسمى مصلحة. راجع: "رسالة في رعاية المصلحة" للإمام الطوفي (ص: 25، ط. الدار المصرية اللبنانية)، و"ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية" للدكتور البوطي (ص: 23، ط. مؤسسة الرسالة).
وقد قسَّم الأصوليون المصلحة باعتبارات عديدة إلى أنواع مختلفة، ما يهمنا منها هنا اعتباران:
- أولهما: تقسيمها باعتبار قوتها في ذاتها.
- وثانيهما: تقسيمها من حيث اعتبار الشارع لها.
وتنقسم المصلحة بالاعتبار الأول إلى ثلاثة أقسام:
1- مصلحة ضرورية، وهي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم وحصول الخسران.
2- مصلحة حاجية، وهي ما يفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب؛ كرُخَص السفر والمرض، وإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال في المأكل والمشرب والملبس والمسكن.
3- مصلحة تحسينية، وهي الأخذ بما يليق من محاسن العادات والتجنب للأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق كالطهارة وستر العورة وأخذ الزينة والتقرب بنوافل العبادات وكآداب الأكل والشرب واللباس، وعدم الإسراف أو التقتير في المآكل والمشارب والملابس. انظر: "الموافقات" للإمام الشاطبي (ص: 8-12، ط. دار المعرفة).
وتنقسم بالاعتبار الثاني إلى ثلاثة أقسام:
1- المصلحة المعتبرة شرعًا، وهي التي شهد الشرع باعتبارها، وقام الدليل على رعايتها من نصٍ أو إجماع؛ كحفظ العقل المقصود بتحريم شرب الخمر، وكحفظ النفس المقصود من تشريع الردع بالقصاص في القتل العمد، وكذا مشروعية الضمان لحفظ المال الذي هو مقصد شرعي معتبر أيضًا، فإذا نص الشرع على حكم ما، وأرشد بمسلك من المسالك إلى العلة التي ربط بها هذا الحكم؛ لما في هذا الربط من تحقق مصلحة مقصودة للشارع فإن هذه المصلحة معتبرة، وكل واقعة وجدنا فيها هذه العلة متحققة صح تعدية الحكم إليها، ويكون شَرْع الحكم في مثل هذه الواقعة بالعلة لا بالمصلحة.
2- المصلحة الملغاة شرعًا، وهي التي شهد الشرع ببطلانها وعدم اعتبارها بنصٍ أو إجماع، وبعض الأصوليين يسميها المناسب الغريب، ومن أمثلة هذا النوع القول بتساوي الأخ وأخته في الميراث؛ لوجود معنى الأخوة الجامعة بينهما، فهذا المعنى ملغى بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: 176].
ومِن هذا القسم كل ما يظن فيه مصلحة لكن نص الشرع أو وقع الإجماع على عدم اعتبارها.
3- المصلحة المسكوت عنها التي لم يشهد لها الشرع بالاعتبار أو الإلغاء لكنها توافق مقاصد الشرع العامة من جلب نفع أو دفع ضر، وهي ما تسمى بـ"المصلحة المرسلة" أو "المناسب المرسل".
ويعد هذا القسم الثالث من المصالح موضع خلاف الأصوليين: بين قائل بحجيته مطلقًا، وبين مانع من ذلك، ومتوسط بين هذا وذلك، وذكر المتوسطون ضوابط لاعتبار المصلحة المرسلة طريقًا صحيحًا لاعتبار الأحكام المستنبطة من خلالها، بحيث لا تكون معتبرة إلا إذا كانت مقيَّدة بها، ويصح أيضًا جعلها ضوابط للترجيح بها، فإن الترجيح فرع عن الاعتبار.
فمن هذه الضوابط:
- أن تكون المصلحة ملائمة لمقاصد الشارع -راجع: "التقرير والتحبير" (3/ 153، ط. المطبعة الأميرية)، و"الموافقات" (3/ 47)-، ومقاصد الشرع تشمل الضروريات والحاجيات والتحسينات؛ يقول الإمام الزنجاني في "تخريج الفروع على الأصول" (ص: 320، ط. مؤسسة الرسالة): [ذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن التمسك بالمصالح المستندة إلى كلي الشرع وإن لم تكن مستندة إلى الجزئيات الخاصة المعينة جائز] اهـ، وبعض الأصوليين كالإمام بن الحاجب يسمي المصلحة المرسلة الملائمة لتلك المقاصد "مرسلًا ملائمًا"؛ احترازًا عن "المرسل الغريب" فهو مردود اتفاقًا -راجع: "بيان المختصر" للإمام الأصفهاني (3/ 126، ط. كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى)، و"التقرير والتحبير" للإمام ابن أمير الحاج (3/ 153، ط. دار الكتب العلمية)-، والمعنى: أنه يشترط الملائمة بين المصلحة المرسلة ومقاصد الشرع في الجملة بحيث لا تنافي أصلًا من أصوله ولا دليلًا من أدلته، بحيث تكون من جنس المصالح الكلية التي قصد الشارع إلى تحصيلها، أو قريبة منها، وليست غريبة عنها، وإن لم يشهد لها دليل خاص بالاعتبار.
- ومنها: ألَّا تخالف نصًّا من الكتاب أو السنة أو إجماعًا أو قياسًا صحيحًا.
فالنص من حيث وروده ودلالته على معناه نوعان: نص قطعي، ونص ظني.
-فالأول: ما كان مقطوعًا به ثبوتًا ودلالة، والمصلحة التي يعوِّل عليها المجتهد لا يجوز أن تعارض نصًّا قطعيًّا؛ لأن المصلحة بهذا المعنى مظنونة سواء كان لجنسها البعيد دليل أم لا، فإن كانت مظنونة، وكان لها شاهد عام أو دليل على جنسها البعيد فإنها لا تَقْوى على معارضة النص القطعي؛ لاستحالة اجتماع العلم والظن على محل واحد، وإن كانت مظنونة وليست كذلك أي ليس لجنسها البعيد دليل، ويعبر عنها بالمصلحة الموهومة فالنص يقدَّم عليها لا محالة، ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]، فالنص قطعي الثبوت، وقطعي الدلالة على الفرق بين البيع والربا في الحرمة، فلا أثر لأي مصلحة مظنونة تخالف هذا النص القطعي مهما قويت وترجحت.
- وأما الثاني: وهو النص الظني بمراتبه؛ فهو الذي يدل على أكثر من معنى، فوظيفة المجتهد حينئذ حصر تلك المعاني التي يحتملها النص، ومن ثَمَّ العمل على تحديد أقربها وأنسبها للمصلحة المشروعة، ولا مانع هنا من معارضة المصلحة في حالة معينة؛ لغير ذلك المعنى المحدد على وفق المصلحة، إنما الممنوع تعارض المصلحة لجميع مدلولات النص الظني؛ لأن معارضة كل مدلولات النص الظني كمعارضة النص القطعي تمامًا، فإذا عارضت المصلحة كل المدلولات الظنية فحكمها كحكم معارضة الدلالة القطعية، وعليه فلا يجوز مثلًا مخالفة مدلولي الحيض والطُّهْر للقُرْء بإحداث قول ثالث، لجلب مصلحة المرأة أو الرجل، وكذلك يحرم مخالفة معنيي الملامسة الواردين في الآية اللمس أو الوطء، فلا يجوز إحداث رأي ثالث، وغير ذلك من المعاني المحتملة للنص الظني التي لا يجوز العدول عنها إلى غيرها بمجرد توهم المصلحة وتخيلها، أو الظن بها ظنًّا ضعيفًا مرجوحًا.
أما الإجماع فإنه ينقسم باعتبار قوته إلى: قطعي، وظني:
- فالأول: مثل إجماع الصحابة المنقول بالتواتر، والإجماع على ما علم من الدين بالضرورة، فهذا النوع من الإجماع لا يتغير بالمصلحة مهما كانت مشروعيتها ودرجة المعقولية فيها، فالإجماع القطعي كالنص القطعي.
- والثاني: كالإجماع السكوتي الذي غلب على الظن فيه اتفاق الكل، فإذا كان الإجماع قائمًا على أحكام متغيرة بتغير الحيثيات المكوِّنة له أو مبنيًّا على مصلحة ظرفية لم تثبت أبديتها وبقاؤها، فإنه خاضع للتعديل والتغيير بموجب المصلحة الحادثة، ومجرد الاتفاق في عصر على حكم بناء على مصلحة لا يكفي في أبديته، بل لا بد مع هذا الاتفاق من اتفاق آخر على أنه دائم لا يتغير.
أما القياس: فهو مساواة فرع لأصل في علة حكمه، وهذه العلة تتناسب مع ما شرع الحكم لأجله، وهو ما يسميه الأصوليون: "المناسب"، وتختلف درجاته ومراتبه باختلاف اعتباره أو إلغائه شرعًا؛ إذ هناك وصفٌ اعتبره الشارع، ووصفٌ ألغاه، ووصفٌ لم يعتبره ولم يلغه، وفي الحالة التي يكون فيها الوصف معتبرًا عند الشارع، فإن التعبير عنه يكون متعدد الوجوه، فتارةً يكون الوصف المناسب منصوصًا عليه تصريحًا أو إيماءً، أو منصوصًا على جنسه أو نوعه.
والمقصد من بيان هذه التقسيمات للمناسب معرفة المقبول من غيره، وإجراء القياس، والترجيح بين الأقيسة والمصالح عند تعارضها، وإبراز تفاوت المصالح في منظور الشارع بتفاوت الاعتبار الشرعي لها قوة وضعفًا، وبناءً عليه فإذا كانت المصلحة مرسلة معارضة لقياس بني على علة تشتمل على وصف "مصلحة" مؤثر أو ملائم فتكون المصلحة مطروحة لتعارضها مع قياس صحيح، أو لتعارضها مع مصلحة أقوى منها.
- ومنها: أن يكون العمل بها في غير الأمور التعبدية؛ فالتكاليف الشرعية قسمان: عبادات، وعادات، والأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني -أي العلل-، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني. انظر: "الموافقات" (1/ 285).
ومجال العمل بالمصلحة المرسلة إنما هو في العادات وما يتعلق بمعاملة الناس بعضهم بعضًا، لا في العبادات التي لا مجال فيها للرأي، ولا مدخل فيها للاجتهاد، ويلحق بالعبادات كل ما كان في معناها مما ليس للعقل سبيل إلى إدراك المصلحة منه كالمقدرات من الحدود وفروض الإرث وما شابه، لكن ربما يقع الاستصلاح في الوسائل المطلقة لبعض العبادات لا في ذات العبادة وأصلها ولا في وسائلها التوقيفية التي ورد بها الشارع، ومثال ذلك استخدام بعض الأجهزة الحديثة لمعرفة استقبال القبلة ودخول وقت الصلاة.
- ومنها: ألَّا تعارض مصلحة أهم منها في القوة والرجحان، فإذا كان كذلك وكانت ما تحافظ عليه هاتين المصلحتين في تفاوت بالنظر إلى الذات، كما إذا حافظت إحداهما على ضروري والأخرى على حاجي، فتُقدَّم ما تحافظ على الضروري، وكذا تُقدَّم ما تحافظ على الحاجي إذا كانت مقابلتها تحافظ على التحسيني.
فإن كانتا غير متفاوتتين بل كلاهما في درجة واحدة فينظر إلى شيئين:
- مقدار الشمول، فالمصلحة العامة مقدَّمة على الخاصة.
- والتأكد من وقوع نتائجها، فالمصلحة اليقينية تقدم على الظنية.
فمراعاة هذه الضوابط تُجنِّب الفقيهَ الزللَ في حكمه على الأفعال، فلا يزيغ إلى باطل إلا عندما يتهاون في التقيد بهذه الضوابط أو تدقيق النظر في حقيقتها.
ولذا فإن تعيين المصلحة بهذا الوجه ليس من السهل بمكان، ويعد ذلك من مثارات الخلاف في بعض المسائل، فالذي حقَّق وجود المصلحة وحكم برجحانها أفتى بالجواز مثلًا، ومن لم ير ذلك قال بالعكس.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
المصلحة في اللغة: مفعلة، وهي مفرد: مصالح، من صَلَحَ، والصاد واللام والحاء أصل واحد على خلاف الفساد، يقال: أصلحه ضد أفسده، وقد أصلح الشيء بعد فساده أي: أقامه، والإصلاح: نقيض الإفساد، والمصلحة: الصلاح، والاستصلاح نقيض الاستفساد، ويقال: رأى الإمام المصلحة في كذا، وهُم من أهل المصالح أو المفاسد، والمصلحة: المنفعة.
فالمصلحة في اللغة تستعمل بمعنيين:
- الأول: المنفعة وَزْنًا ومعنى.
- والثاني: الفعل الذي فيه صلاح، بمعنى النفع. انظر: "لسان العرب" (2/ 516، مادة: ص ل ح، ط. دار صادر)، و"مختار الصحاح" (ص: 178، مادة: ص ل ح)، و"المصباح المنير" (1/ 345، مادة: ص ل ح، ط. المكتبة العلمية)، و"المعجم الوسيط" (ص: 520، ط. دار الدعوة).
ولا تخرج المصلحة في اصطلاح الشرع عما هي عليه في اللغة، إلا أنها في الاصطلاح أخص منها في اللغة، فيمكن أن تعرَّف في الاصطلاح بأنها: المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم وفق ترتيب معين فيما بينها، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعه مصلحة. انظر: "المستصفى" لحجة الإسلام الغزالي (1/ 174، ط. دار الكتب العلمية).
وبناء على ذلك فكل ما كان فيه نفع سواء كان بالجلب كما في تحصيل المنافع، أو بالدفع والاتقاء كما في استبعاد المضار فهو جدير بأن يسمى مصلحة. راجع: "رسالة في رعاية المصلحة" للإمام الطوفي (ص: 25، ط. الدار المصرية اللبنانية)، و"ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية" للدكتور البوطي (ص: 23، ط. مؤسسة الرسالة).
وقد قسَّم الأصوليون المصلحة باعتبارات عديدة إلى أنواع مختلفة، ما يهمنا منها هنا اعتباران:
- أولهما: تقسيمها باعتبار قوتها في ذاتها.
- وثانيهما: تقسيمها من حيث اعتبار الشارع لها.
وتنقسم المصلحة بالاعتبار الأول إلى ثلاثة أقسام:
1- مصلحة ضرورية، وهي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم وحصول الخسران.
2- مصلحة حاجية، وهي ما يفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب؛ كرُخَص السفر والمرض، وإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال في المأكل والمشرب والملبس والمسكن.
3- مصلحة تحسينية، وهي الأخذ بما يليق من محاسن العادات والتجنب للأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق كالطهارة وستر العورة وأخذ الزينة والتقرب بنوافل العبادات وكآداب الأكل والشرب واللباس، وعدم الإسراف أو التقتير في المآكل والمشارب والملابس. انظر: "الموافقات" للإمام الشاطبي (ص: 8-12، ط. دار المعرفة).
وتنقسم بالاعتبار الثاني إلى ثلاثة أقسام:
1- المصلحة المعتبرة شرعًا، وهي التي شهد الشرع باعتبارها، وقام الدليل على رعايتها من نصٍ أو إجماع؛ كحفظ العقل المقصود بتحريم شرب الخمر، وكحفظ النفس المقصود من تشريع الردع بالقصاص في القتل العمد، وكذا مشروعية الضمان لحفظ المال الذي هو مقصد شرعي معتبر أيضًا، فإذا نص الشرع على حكم ما، وأرشد بمسلك من المسالك إلى العلة التي ربط بها هذا الحكم؛ لما في هذا الربط من تحقق مصلحة مقصودة للشارع فإن هذه المصلحة معتبرة، وكل واقعة وجدنا فيها هذه العلة متحققة صح تعدية الحكم إليها، ويكون شَرْع الحكم في مثل هذه الواقعة بالعلة لا بالمصلحة.
2- المصلحة الملغاة شرعًا، وهي التي شهد الشرع ببطلانها وعدم اعتبارها بنصٍ أو إجماع، وبعض الأصوليين يسميها المناسب الغريب، ومن أمثلة هذا النوع القول بتساوي الأخ وأخته في الميراث؛ لوجود معنى الأخوة الجامعة بينهما، فهذا المعنى ملغى بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: 176].
ومِن هذا القسم كل ما يظن فيه مصلحة لكن نص الشرع أو وقع الإجماع على عدم اعتبارها.
3- المصلحة المسكوت عنها التي لم يشهد لها الشرع بالاعتبار أو الإلغاء لكنها توافق مقاصد الشرع العامة من جلب نفع أو دفع ضر، وهي ما تسمى بـ"المصلحة المرسلة" أو "المناسب المرسل".
ويعد هذا القسم الثالث من المصالح موضع خلاف الأصوليين: بين قائل بحجيته مطلقًا، وبين مانع من ذلك، ومتوسط بين هذا وذلك، وذكر المتوسطون ضوابط لاعتبار المصلحة المرسلة طريقًا صحيحًا لاعتبار الأحكام المستنبطة من خلالها، بحيث لا تكون معتبرة إلا إذا كانت مقيَّدة بها، ويصح أيضًا جعلها ضوابط للترجيح بها، فإن الترجيح فرع عن الاعتبار.
فمن هذه الضوابط:
- أن تكون المصلحة ملائمة لمقاصد الشارع -راجع: "التقرير والتحبير" (3/ 153، ط. المطبعة الأميرية)، و"الموافقات" (3/ 47)-، ومقاصد الشرع تشمل الضروريات والحاجيات والتحسينات؛ يقول الإمام الزنجاني في "تخريج الفروع على الأصول" (ص: 320، ط. مؤسسة الرسالة): [ذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن التمسك بالمصالح المستندة إلى كلي الشرع وإن لم تكن مستندة إلى الجزئيات الخاصة المعينة جائز] اهـ، وبعض الأصوليين كالإمام بن الحاجب يسمي المصلحة المرسلة الملائمة لتلك المقاصد "مرسلًا ملائمًا"؛ احترازًا عن "المرسل الغريب" فهو مردود اتفاقًا -راجع: "بيان المختصر" للإمام الأصفهاني (3/ 126، ط. كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى)، و"التقرير والتحبير" للإمام ابن أمير الحاج (3/ 153، ط. دار الكتب العلمية)-، والمعنى: أنه يشترط الملائمة بين المصلحة المرسلة ومقاصد الشرع في الجملة بحيث لا تنافي أصلًا من أصوله ولا دليلًا من أدلته، بحيث تكون من جنس المصالح الكلية التي قصد الشارع إلى تحصيلها، أو قريبة منها، وليست غريبة عنها، وإن لم يشهد لها دليل خاص بالاعتبار.
- ومنها: ألَّا تخالف نصًّا من الكتاب أو السنة أو إجماعًا أو قياسًا صحيحًا.
فالنص من حيث وروده ودلالته على معناه نوعان: نص قطعي، ونص ظني.
-فالأول: ما كان مقطوعًا به ثبوتًا ودلالة، والمصلحة التي يعوِّل عليها المجتهد لا يجوز أن تعارض نصًّا قطعيًّا؛ لأن المصلحة بهذا المعنى مظنونة سواء كان لجنسها البعيد دليل أم لا، فإن كانت مظنونة، وكان لها شاهد عام أو دليل على جنسها البعيد فإنها لا تَقْوى على معارضة النص القطعي؛ لاستحالة اجتماع العلم والظن على محل واحد، وإن كانت مظنونة وليست كذلك أي ليس لجنسها البعيد دليل، ويعبر عنها بالمصلحة الموهومة فالنص يقدَّم عليها لا محالة، ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]، فالنص قطعي الثبوت، وقطعي الدلالة على الفرق بين البيع والربا في الحرمة، فلا أثر لأي مصلحة مظنونة تخالف هذا النص القطعي مهما قويت وترجحت.
- وأما الثاني: وهو النص الظني بمراتبه؛ فهو الذي يدل على أكثر من معنى، فوظيفة المجتهد حينئذ حصر تلك المعاني التي يحتملها النص، ومن ثَمَّ العمل على تحديد أقربها وأنسبها للمصلحة المشروعة، ولا مانع هنا من معارضة المصلحة في حالة معينة؛ لغير ذلك المعنى المحدد على وفق المصلحة، إنما الممنوع تعارض المصلحة لجميع مدلولات النص الظني؛ لأن معارضة كل مدلولات النص الظني كمعارضة النص القطعي تمامًا، فإذا عارضت المصلحة كل المدلولات الظنية فحكمها كحكم معارضة الدلالة القطعية، وعليه فلا يجوز مثلًا مخالفة مدلولي الحيض والطُّهْر للقُرْء بإحداث قول ثالث، لجلب مصلحة المرأة أو الرجل، وكذلك يحرم مخالفة معنيي الملامسة الواردين في الآية اللمس أو الوطء، فلا يجوز إحداث رأي ثالث، وغير ذلك من المعاني المحتملة للنص الظني التي لا يجوز العدول عنها إلى غيرها بمجرد توهم المصلحة وتخيلها، أو الظن بها ظنًّا ضعيفًا مرجوحًا.
أما الإجماع فإنه ينقسم باعتبار قوته إلى: قطعي، وظني:
- فالأول: مثل إجماع الصحابة المنقول بالتواتر، والإجماع على ما علم من الدين بالضرورة، فهذا النوع من الإجماع لا يتغير بالمصلحة مهما كانت مشروعيتها ودرجة المعقولية فيها، فالإجماع القطعي كالنص القطعي.
- والثاني: كالإجماع السكوتي الذي غلب على الظن فيه اتفاق الكل، فإذا كان الإجماع قائمًا على أحكام متغيرة بتغير الحيثيات المكوِّنة له أو مبنيًّا على مصلحة ظرفية لم تثبت أبديتها وبقاؤها، فإنه خاضع للتعديل والتغيير بموجب المصلحة الحادثة، ومجرد الاتفاق في عصر على حكم بناء على مصلحة لا يكفي في أبديته، بل لا بد مع هذا الاتفاق من اتفاق آخر على أنه دائم لا يتغير.
أما القياس: فهو مساواة فرع لأصل في علة حكمه، وهذه العلة تتناسب مع ما شرع الحكم لأجله، وهو ما يسميه الأصوليون: "المناسب"، وتختلف درجاته ومراتبه باختلاف اعتباره أو إلغائه شرعًا؛ إذ هناك وصفٌ اعتبره الشارع، ووصفٌ ألغاه، ووصفٌ لم يعتبره ولم يلغه، وفي الحالة التي يكون فيها الوصف معتبرًا عند الشارع، فإن التعبير عنه يكون متعدد الوجوه، فتارةً يكون الوصف المناسب منصوصًا عليه تصريحًا أو إيماءً، أو منصوصًا على جنسه أو نوعه.
والمقصد من بيان هذه التقسيمات للمناسب معرفة المقبول من غيره، وإجراء القياس، والترجيح بين الأقيسة والمصالح عند تعارضها، وإبراز تفاوت المصالح في منظور الشارع بتفاوت الاعتبار الشرعي لها قوة وضعفًا، وبناءً عليه فإذا كانت المصلحة مرسلة معارضة لقياس بني على علة تشتمل على وصف "مصلحة" مؤثر أو ملائم فتكون المصلحة مطروحة لتعارضها مع قياس صحيح، أو لتعارضها مع مصلحة أقوى منها.
- ومنها: أن يكون العمل بها في غير الأمور التعبدية؛ فالتكاليف الشرعية قسمان: عبادات، وعادات، والأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني -أي العلل-، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني. انظر: "الموافقات" (1/ 285).
ومجال العمل بالمصلحة المرسلة إنما هو في العادات وما يتعلق بمعاملة الناس بعضهم بعضًا، لا في العبادات التي لا مجال فيها للرأي، ولا مدخل فيها للاجتهاد، ويلحق بالعبادات كل ما كان في معناها مما ليس للعقل سبيل إلى إدراك المصلحة منه كالمقدرات من الحدود وفروض الإرث وما شابه، لكن ربما يقع الاستصلاح في الوسائل المطلقة لبعض العبادات لا في ذات العبادة وأصلها ولا في وسائلها التوقيفية التي ورد بها الشارع، ومثال ذلك استخدام بعض الأجهزة الحديثة لمعرفة استقبال القبلة ودخول وقت الصلاة.
- ومنها: ألَّا تعارض مصلحة أهم منها في القوة والرجحان، فإذا كان كذلك وكانت ما تحافظ عليه هاتين المصلحتين في تفاوت بالنظر إلى الذات، كما إذا حافظت إحداهما على ضروري والأخرى على حاجي، فتُقدَّم ما تحافظ على الضروري، وكذا تُقدَّم ما تحافظ على الحاجي إذا كانت مقابلتها تحافظ على التحسيني.
فإن كانتا غير متفاوتتين بل كلاهما في درجة واحدة فينظر إلى شيئين:
- مقدار الشمول، فالمصلحة العامة مقدَّمة على الخاصة.
- والتأكد من وقوع نتائجها، فالمصلحة اليقينية تقدم على الظنية.
فمراعاة هذه الضوابط تُجنِّب الفقيهَ الزللَ في حكمه على الأفعال، فلا يزيغ إلى باطل إلا عندما يتهاون في التقيد بهذه الضوابط أو تدقيق النظر في حقيقتها.
ولذا فإن تعيين المصلحة بهذا الوجه ليس من السهل بمكان، ويعد ذلك من مثارات الخلاف في بعض المسائل، فالذي حقَّق وجود المصلحة وحكم برجحانها أفتى بالجواز مثلًا، ومن لم ير ذلك قال بالعكس.
والله سبحانه وتعالى أعلم.