من المعروف في الفقه الإسلامي أن الابتلاء من أسباب التيسير، فما حدود هذا الابتلاء الذي يَحصُل به الترخيص؟
الترخص والتيسير عند الابتلاء
قاعدة الابتلاء وعلاقته بالتيسير والترخيص من القواعد المهمة التي ينبغي على الفقيه أن ينتبه إليها؛ إذ إن الابتلاء قد ينقل الحكم التكليفي من دائرة العزيمة إلى دائرة الرخصة، فيصير ما كان محظورًا مسموحًا في فعله، وما كان واجبًا مسموحًا في تركه، وما ذلك إلا لكون الابتلاء يورث حرجًا أو مشقة تستوجب ذلك التيسير والترخيص، بل إن الابتلاء من أكثر أسباب التيسير مساسًا للتفريع الفقهي، فأثره لا يقتصر على باب معيَّن من أبواب الفقه دون غيره، بل هو في الغالب شامل لمجموع أبواب الفقه، وإن كان التصريح بالتعليل به قد كثر فيما يتعلق بأمور العبادات، خاصة فيما يتعلق بالطهارة وإزالة النجاسة، غير أن التأمل في الفروع الفقهية يتضح منه شمول أثره لغير ذلك؛ يقول الإمام السيوطي في "الأشباه" (ص: 80، ط. دار الكتب) بعد أن ذكر الكثير من الفروع الفقهية الداخلة في قضية الابتلاء: [فقد بان بهذا أن هذه القاعدة يرجع إليها غالب أبواب الفقه] اهـ.
والناظر فيما كتبه الفقهاء يمكن أن يقسِّم الابتلاء إلى عام وخاص لكلٍ منهما ضوابطه، وإن كان الأثر الفقهي المترتب على كل منهما واحد.
- فالأول منهما وهو الابتلاء العام معناه: اشتداد حاجة أكثر المكلفين أو فئة معينة منهم للتيسير في أمر شائع متكرر يتعسر عليهم تركه أو الاحتراز عنه، بحيث لو كُلِّفوا اجتنابه لوجدوا في ذلك مشقة غير معتادة؛ يقول الإمام الصنعاني في "إجابة السائل شرح بغية الآمل" (ص: 109، ط. مؤسسة الرسالة): [ومعنى عموم البلوى شمول التكليف لجميع المكلفين أو أكثرهم عملًا] اهـ.
وفسَّر الإمام علاء الدين البخاري في "كشف الأسرار" (3/ 16، ط. دار الكتاب الإسلامي، القاهرة) ما يعم به البلوى بأنه: [ما يمس الحاجة إليه في عموم الأحوال] اهـ.
وفسَّره شمس الدين الأصفهاني في "بيان المختصر" (1/ 746، ط. جامعة أم القرى، مكة المكرمة) بأنه: [ما يحتاج إليه عموم الناس من غير أن يكون مخصوصًا بواحد دون آخر] اهـ.
وقال الكمال بن الهمام في "التحرير مع شرحه" (2/ 295، ط. دار الفكر) مفسِّرًا ما تعم به البلوى أنه: [ما يحتاج إليه الكل حاجة متأكدة مع كثرة تكرره] اهـ.
فمثال ما يشق تركه للحاجة إليه: النوم، فهو حالة متكررة لكل الناس ولا تختص بفرد واحد، ومن الواضح بالمشاهدة أن اجتناب النوم مطلقًا يتعذر على عموم الناس لشدة احتياجهم له، فلو كُلِّفوا اجتنابه مطلقًا لكان في ذلك مشقة خارجة عن المعتاد لا يمكنهم احتمالها، وبهذا يتضح أن النوم من الأمور التي تعم بها البلوى، وذلك مع ملاحظة أن الأصل في الشريعة تحريم كل ما يؤدي لغياب العقل أو فقد الوعي -كالمسكرات والمخدِّرات ونحوها– لكن لما عمت بلوى الناس بالاحتياج إلى النوم رغم أنه وسيلة لتغييب العقل كان مستثنى على خلاف ذلك الأصل؛ لأن التكليف باجتنابه حرج وتكليف بما لا يطاق، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].
وقد جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ،.. وذكر منهم: النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» رواه أبو داود وابن ماجه والنسائي.
ومثال ما يتعذر الاحتراز عنه: الدم اليسير المتبقي في لحم الذبيحة بعد تذكيتها، فإنه يشق على الناس الاحتراز عنه، ولا يجب غسله قبل طهو اللحم ولا بعده، رغم أنه جزء منفصل من الدم المسفوح المتدفق جريانه من الذبيحة، والذي هو نجس بالإجماع، ولكن لما كان هذا الدم المنفصل قليلًا يشق الاحتراز عنه، مع حاجة أكثر المكلفين للتغذي باللحم؛ عمت به البلوى، وكان معفوًّا عنه، بخلاف ما لو قصده إنسان فتعمد تجميع الدماء القليلة المعفو عنها وتناولها مفردة؛ فإنه يحرم عليه إذ لا بلوى فيه.
- والنوع الثاني من أنواع الابتلاء: الابتلاء الخاص، وهو اشتداد حاجة المكلف للتيسير في أمر متكرر يتعسر عليه -بصورة خاصة- تركه أو الاحتراز عنه، بحيث لو كُلِّف اجتنابه لوجد في ذلك مشقة غير معتادة، وذلك نحو أن يبتلى شخص بمرض كسلس البول مثلًا، فإنه يشق عليه تجديد الوضوء لأداء الصلاة كلما نزلت منه قطرة بول، لصعوبة الاحتراز والعجز عن التحكم مع كثرة خروج الحدث، فتشتد حينئذ حاجة المكلف لأداء الصلاة مع التيسير في أحكام الطهارة، فهذه بلوى خاصة لا يجدها الشخص الصحيح، وإنما يبتلى بها بعض المكلفين بصورة خاصة، قد تتفاوت مشقتها من فرد إلى آخر، مما يحتم على المفتي دراسة العناصر المختلفة المحيطة بالحادثة ثم إصدار فتوى خاصة لكل فرد بحسب بلواه، بخلاف ما يصدره المفتي من أحكام عامة في عموم البلوى.
ومن تعريف الابتلاء بنوعيه وأمثلة كل منهما يصح استخلاص ما يضبط بها عموم البلوى وخصوصها، فالشيء الذي تعم به البلوى لا بد أن يتوافر فيه ضابطان:
- أولهما: شمول الأغلبية: فقضية عموم البلوى تتميز بهذا الضابط عن قضية خصوص البلوى؛ وذلك لأن في العموم ينظر إلى الحالة الغالبة لجميع أفراد المكلفين أو أكثرهم أو فئة معينة منهم، ويثبت الترخيص في هذه الحالة دون حاجة إلى استفتاء خاص؛ يقول الإمام ابن قدامة في "المغني" (2/ 59، ط. دار إحياء التراث العربي): [الحاجة العامة إذا وجدت أثبتت الحكم في حق من ليست له حاجة، كالسَّلَم، وإباحة اقتناء الكلب للصيد والماشية في حق مَن لا يحتاج إليهما، ولأنه قد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع في المطر، وليس بين حجرته والمسجد شيء] اهـ.
بينما في خصوص البلوى يُنظَر إلى حالة كل فرد على حدة وإلى ملابسات الواقعة التي يُستفْتى فيها، فتتعدد بذلك الفتاوى وتختلف تبعًا لاختلاف أحوال المكلفين ووقائعهم.
وعموم البلوى قائمة على التفرقة بين فقه الأفراد وبين فقه الأمة أو الجماعة، وقد ورد ما يؤيد هذه التفرقة في نصوص الشريعة وأصولها وأحكامها، ومن صور التفرقة بين أحكام الفرد والجماعة ما بحثه الأصوليون في كتبهم من التفرقة بين الواجب العيني (الفردي) والواجب الكِفائي (الجماعي).
وهذه التفرقة تعتبر واحدة من أهم مسائل أصول الفقه، والواقع أنه كما نظر الشارع الحكيم إلى حالة الجماعة في مسألة الوجوب الكفائي بحيث أوجب إقامة أمر ما على جماعة المكلفين لو أوجبه على كل فرد منهم لشق على أكثرهم، فكذلك نظر إلى حالتهم في قضية عموم البلوى بحيث خفَّف عنهم ما لو أوجبه على كل فرد منهم لشق على أكثرهم وأوقعهم في الحرج، نعم، قد يوجد أشخاص لا يشق عليهم إقامة الواجب الكفائي أو عدم تخفيف ما تعم به البلوى، لكن مثل هؤلاء يمثلون الأقلية، والقاعدة أن العبرة للغالب الشائع لا للقليل النادر، وتغليب حكم الأكثرية أصل أصيل وارد في نصوص الكتاب والسنة في مواضع متعددة ومواضيع متنوعة، فمن ذلك: أن الخمر وإن كانت تشتمل على بعض المنافع، إلا أنها تعد منافع قليلة مستهلكة في جانب الأضرار الكثيرة الغالب وقوعها من جراء تناول الخمر وتداولها، ويستأنس لهذا المعنى بما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قيل له: أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَث» متفق عليه.
وقد ذكر الفقهاء قواعد عديدة تدور حول هذا المعنى، فمما قالوه:
- "أن الأكثر ينزل منزلة الكمال والأقل تبع للأكثر"؛ كما في "المبسوط" للإمام السرخسي (9/ 19، ط. دار المعرفة، بيروت).
- ومن القواعد: "يقام الأكثر مقام الكل". "المبسوط" (25/ 28).
- ومنها: "اليسير يكون تبعًا للكثير، ولا يكون الكثير تبعًا لليسير". "الحاوي الكبير" للإمام الماوردي (7/ 366، دار الفكر).
فتبين مما سبق أن شيوع الأمر وشموله لغالبية المكلفين أو لغالبية فئة معينة منهم من الأمور المؤثِّرة في الأحكام الشرعية، وكذلك من الأمور التي يتوقف عليها صحة وصف النازلة بأنها تعم بها البلوى.
- وثانيهما: التَّكرار وكثرة الوقوع: فقد يُكلَّف الإنسان بشيء لا يشق عليه الإتيان به مرة أو مرات متكررة في فترات متباعدة، لكن إذا كُلِّف الإتيان به مرارًا متكررة في فترات متقاربة يجده شاقًا عليه مهما كانت بساطته، ومن هنا كان التكرار وكثرة الوقوع ضابط من ضوابط عموم البلوى؛ لأن ما قلَّ تكراره ولو شمل جميع المكلفين لا تعم به البلوى لانعدام المشقة في فعله.
والتكرار الذي تتوقف عليه قضية عموم البلوى هو التكرار العام على المستوى الجماعي؛ كتكرار السفر في إباحة الفطر والجمع والقصر، رغم أن الغالب على حال كل مكلف بمفرده هو قلة حاجته لتكرار السفر، لكن لما كان الغالب أيضًا تكرار حصول السفر بصورة عامة يومية، نزلت الحاجة العامة لكل الأمة منزلة الحاجة الخاصة لكل فرد منها، ففقه الأمة أو فقه الجماعة ينظر إلى المكلفين باعتبارهم شخصًا واحدًا، ومن هنا كان تكرار حصول الحادثة لهذا الشخص المعنوي يُعد مما تعم به البلوى.
على أنه ليس كل ما يتكرر يمثل مشقة، بل الضابط في التكرار أن يولد مشقة غير معتادة، فالمشقات إما غير معتبرة لدى الشارع ثبت إلغاؤها دائمًا، وهي المشقة التي يعتادها الناس في حياتهم العامة ويحتملونها في مقابل تحقيق مصلحة راجحة عليها، كمشقة السعي لاكتساب الأرزاق، وتشييد الأبنية والمساكن ونحوها، ونظير ذلك المشقة المصاحبة للعبادات: كالحج والصيام والصلوات، وهناك مشقة معتبرة ثبت اعتبارها دائمًا، كالمشقة الناتجة عن الإخلال بالمقاصد الكلية الخمس أو واحد منها، وتسمى بالضرورات لشدة الاحتياج إليها دائمًا، وهذا النوع من المشقة لا ينظر فيه إلى عموم بلوى أو خصوصها، بل هذا النوع من المشقة معتبر شرعًا في كل حال ولكل شخص، إلا ما استثناه الشرع في الحدود والقصاص ونحو ذلك مما يرجع إلى قاعدة ترجيح الضرورة العامة على الضرورة الخاصة، وهناك مشقة متوسطة بين النوعين السابقين، وهي المشقة التي تتفاوت شدة وضعفًا، فتارة تكون راجحة، وتارة تكون مرجوحة بحسب مقتضيات الأحوال، فما كان منها أقرب إلى المشقة المعتبرة ألحق بها، وما كان أقرب إلى الملغاة ألحق بها، وغالبًا ما يحصل هذا مع النوازل الحاجية، فإنها إذا عمت بها البلوى كانت معتبرة وأنزلت بمنزلة الضرورات في الاستثناء من الأصل المانع، وإذا لم تعم بها البلوى كانت ملغاة عملًا بالأصل، كاعتبار عموم البلوى بطين الشوارع الذي لا يخلو غالبًا من نجاسات، فإنه يشق على العامة الاحتراز عنه، فإذا لم يشق على البعض ذلك، فلا يخفف الحكم الشرعي حينئذ بصورة عامة لانعدام عموم البلوى، لكن ينظر في كل حالة بحسب المشقة الحاصلة لها، فإن المشاق تتفاوت.
فيصح لنا أن نقول إذًا: إن قضية عموم البلوى وخصوصها تندرج تحت قاعدة كبرى هي قاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، وهو ما أردناه من قولنا: إن الأثر الفقهي المترتب على عموم البلوى وخصوصها واحد، فإذا صحت ضوابط الابتلاء جاز الترخيص، والذي قد يكون بإباحة المحرَّم: كما في الضبة الصغيرة من فضةٍ للحاجة، وكلبس الحرير لمن به حِكَّة في جلده. وقد يكون بتقديم ما حقه التأخير، أو تأخير ما حقه التقديم، وكما في الجمع بين الصلاتين في السفر.
وقد يكون بتقليد من أجاز، بأن يُقدمَ المرء على فعل شيء له وجه يجيزه شرعًا، وإن لم يكن راجحًا في نظره، وذلك خير له من أن تُغَلَّق أمامه كل الأبواب فلا يجد أمامه من سبيلٍ إلا اقتحام المحرَّم، وقد كان له سعة بأن يقلَّد من أجاز، يقول الشيخ البيجوري في "حاشيته على شرح ابن القاسم لمتن أبي شجاع في الفقه الشافعي" (1/ 41) -عند قول الشارح: [ولا يجوز في غير ضرورة لرجل أو امرأة استعمال شيء من أواني الذهب والفضة]- قال معلقًا: [عدَّه البلقيني وكذا الدميري من الكبائر، ونقل الأذرعي عن الجمهور أنه من الصغائر وهو المعتمد، وقال داود الظاهري: بكراهة استعمال أواني الذهب والفضة كراهة تنزيهية، وهو قول للشافعي في القديم، وقيل الحرمة مختصة بالأكل والشرب دون غيرهما؛ أخذًا بظاهر الحديث، وهو: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما»، وعند الحنفية قول بجواز ظروف القهوة، وإن كان المعتمد عندهم الحرمة، فينبغي لمن ابتلي بشيء من ذلك كما يقع كثيرًا تقليد ما تقدم؛ ليتخلص من الحرمة] اهـ، ومثله في "حاشية الشرواني على التحفة" (1/ 119، ط. دار إحياء التراث العربي).
والله سبحانه وتعالى أعلم.
قاعدة الابتلاء وعلاقته بالتيسير والترخيص من القواعد المهمة التي ينبغي على الفقيه أن ينتبه إليها؛ إذ إن الابتلاء قد ينقل الحكم التكليفي من دائرة العزيمة إلى دائرة الرخصة، فيصير ما كان محظورًا مسموحًا في فعله، وما كان واجبًا مسموحًا في تركه، وما ذلك إلا لكون الابتلاء يورث حرجًا أو مشقة تستوجب ذلك التيسير والترخيص، بل إن الابتلاء من أكثر أسباب التيسير مساسًا للتفريع الفقهي، فأثره لا يقتصر على باب معيَّن من أبواب الفقه دون غيره، بل هو في الغالب شامل لمجموع أبواب الفقه، وإن كان التصريح بالتعليل به قد كثر فيما يتعلق بأمور العبادات، خاصة فيما يتعلق بالطهارة وإزالة النجاسة، غير أن التأمل في الفروع الفقهية يتضح منه شمول أثره لغير ذلك؛ يقول الإمام السيوطي في "الأشباه" (ص: 80، ط. دار الكتب) بعد أن ذكر الكثير من الفروع الفقهية الداخلة في قضية الابتلاء: [فقد بان بهذا أن هذه القاعدة يرجع إليها غالب أبواب الفقه] اهـ.
والناظر فيما كتبه الفقهاء يمكن أن يقسِّم الابتلاء إلى عام وخاص لكلٍ منهما ضوابطه، وإن كان الأثر الفقهي المترتب على كل منهما واحد.
- فالأول منهما وهو الابتلاء العام معناه: اشتداد حاجة أكثر المكلفين أو فئة معينة منهم للتيسير في أمر شائع متكرر يتعسر عليهم تركه أو الاحتراز عنه، بحيث لو كُلِّفوا اجتنابه لوجدوا في ذلك مشقة غير معتادة؛ يقول الإمام الصنعاني في "إجابة السائل شرح بغية الآمل" (ص: 109، ط. مؤسسة الرسالة): [ومعنى عموم البلوى شمول التكليف لجميع المكلفين أو أكثرهم عملًا] اهـ.
وفسَّر الإمام علاء الدين البخاري في "كشف الأسرار" (3/ 16، ط. دار الكتاب الإسلامي، القاهرة) ما يعم به البلوى بأنه: [ما يمس الحاجة إليه في عموم الأحوال] اهـ.
وفسَّره شمس الدين الأصفهاني في "بيان المختصر" (1/ 746، ط. جامعة أم القرى، مكة المكرمة) بأنه: [ما يحتاج إليه عموم الناس من غير أن يكون مخصوصًا بواحد دون آخر] اهـ.
وقال الكمال بن الهمام في "التحرير مع شرحه" (2/ 295، ط. دار الفكر) مفسِّرًا ما تعم به البلوى أنه: [ما يحتاج إليه الكل حاجة متأكدة مع كثرة تكرره] اهـ.
فمثال ما يشق تركه للحاجة إليه: النوم، فهو حالة متكررة لكل الناس ولا تختص بفرد واحد، ومن الواضح بالمشاهدة أن اجتناب النوم مطلقًا يتعذر على عموم الناس لشدة احتياجهم له، فلو كُلِّفوا اجتنابه مطلقًا لكان في ذلك مشقة خارجة عن المعتاد لا يمكنهم احتمالها، وبهذا يتضح أن النوم من الأمور التي تعم بها البلوى، وذلك مع ملاحظة أن الأصل في الشريعة تحريم كل ما يؤدي لغياب العقل أو فقد الوعي -كالمسكرات والمخدِّرات ونحوها– لكن لما عمت بلوى الناس بالاحتياج إلى النوم رغم أنه وسيلة لتغييب العقل كان مستثنى على خلاف ذلك الأصل؛ لأن التكليف باجتنابه حرج وتكليف بما لا يطاق، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].
وقد جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ،.. وذكر منهم: النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» رواه أبو داود وابن ماجه والنسائي.
ومثال ما يتعذر الاحتراز عنه: الدم اليسير المتبقي في لحم الذبيحة بعد تذكيتها، فإنه يشق على الناس الاحتراز عنه، ولا يجب غسله قبل طهو اللحم ولا بعده، رغم أنه جزء منفصل من الدم المسفوح المتدفق جريانه من الذبيحة، والذي هو نجس بالإجماع، ولكن لما كان هذا الدم المنفصل قليلًا يشق الاحتراز عنه، مع حاجة أكثر المكلفين للتغذي باللحم؛ عمت به البلوى، وكان معفوًّا عنه، بخلاف ما لو قصده إنسان فتعمد تجميع الدماء القليلة المعفو عنها وتناولها مفردة؛ فإنه يحرم عليه إذ لا بلوى فيه.
- والنوع الثاني من أنواع الابتلاء: الابتلاء الخاص، وهو اشتداد حاجة المكلف للتيسير في أمر متكرر يتعسر عليه -بصورة خاصة- تركه أو الاحتراز عنه، بحيث لو كُلِّف اجتنابه لوجد في ذلك مشقة غير معتادة، وذلك نحو أن يبتلى شخص بمرض كسلس البول مثلًا، فإنه يشق عليه تجديد الوضوء لأداء الصلاة كلما نزلت منه قطرة بول، لصعوبة الاحتراز والعجز عن التحكم مع كثرة خروج الحدث، فتشتد حينئذ حاجة المكلف لأداء الصلاة مع التيسير في أحكام الطهارة، فهذه بلوى خاصة لا يجدها الشخص الصحيح، وإنما يبتلى بها بعض المكلفين بصورة خاصة، قد تتفاوت مشقتها من فرد إلى آخر، مما يحتم على المفتي دراسة العناصر المختلفة المحيطة بالحادثة ثم إصدار فتوى خاصة لكل فرد بحسب بلواه، بخلاف ما يصدره المفتي من أحكام عامة في عموم البلوى.
ومن تعريف الابتلاء بنوعيه وأمثلة كل منهما يصح استخلاص ما يضبط بها عموم البلوى وخصوصها، فالشيء الذي تعم به البلوى لا بد أن يتوافر فيه ضابطان:
- أولهما: شمول الأغلبية: فقضية عموم البلوى تتميز بهذا الضابط عن قضية خصوص البلوى؛ وذلك لأن في العموم ينظر إلى الحالة الغالبة لجميع أفراد المكلفين أو أكثرهم أو فئة معينة منهم، ويثبت الترخيص في هذه الحالة دون حاجة إلى استفتاء خاص؛ يقول الإمام ابن قدامة في "المغني" (2/ 59، ط. دار إحياء التراث العربي): [الحاجة العامة إذا وجدت أثبتت الحكم في حق من ليست له حاجة، كالسَّلَم، وإباحة اقتناء الكلب للصيد والماشية في حق مَن لا يحتاج إليهما، ولأنه قد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع في المطر، وليس بين حجرته والمسجد شيء] اهـ.
بينما في خصوص البلوى يُنظَر إلى حالة كل فرد على حدة وإلى ملابسات الواقعة التي يُستفْتى فيها، فتتعدد بذلك الفتاوى وتختلف تبعًا لاختلاف أحوال المكلفين ووقائعهم.
وعموم البلوى قائمة على التفرقة بين فقه الأفراد وبين فقه الأمة أو الجماعة، وقد ورد ما يؤيد هذه التفرقة في نصوص الشريعة وأصولها وأحكامها، ومن صور التفرقة بين أحكام الفرد والجماعة ما بحثه الأصوليون في كتبهم من التفرقة بين الواجب العيني (الفردي) والواجب الكِفائي (الجماعي).
وهذه التفرقة تعتبر واحدة من أهم مسائل أصول الفقه، والواقع أنه كما نظر الشارع الحكيم إلى حالة الجماعة في مسألة الوجوب الكفائي بحيث أوجب إقامة أمر ما على جماعة المكلفين لو أوجبه على كل فرد منهم لشق على أكثرهم، فكذلك نظر إلى حالتهم في قضية عموم البلوى بحيث خفَّف عنهم ما لو أوجبه على كل فرد منهم لشق على أكثرهم وأوقعهم في الحرج، نعم، قد يوجد أشخاص لا يشق عليهم إقامة الواجب الكفائي أو عدم تخفيف ما تعم به البلوى، لكن مثل هؤلاء يمثلون الأقلية، والقاعدة أن العبرة للغالب الشائع لا للقليل النادر، وتغليب حكم الأكثرية أصل أصيل وارد في نصوص الكتاب والسنة في مواضع متعددة ومواضيع متنوعة، فمن ذلك: أن الخمر وإن كانت تشتمل على بعض المنافع، إلا أنها تعد منافع قليلة مستهلكة في جانب الأضرار الكثيرة الغالب وقوعها من جراء تناول الخمر وتداولها، ويستأنس لهذا المعنى بما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قيل له: أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَث» متفق عليه.
وقد ذكر الفقهاء قواعد عديدة تدور حول هذا المعنى، فمما قالوه:
- "أن الأكثر ينزل منزلة الكمال والأقل تبع للأكثر"؛ كما في "المبسوط" للإمام السرخسي (9/ 19، ط. دار المعرفة، بيروت).
- ومن القواعد: "يقام الأكثر مقام الكل". "المبسوط" (25/ 28).
- ومنها: "اليسير يكون تبعًا للكثير، ولا يكون الكثير تبعًا لليسير". "الحاوي الكبير" للإمام الماوردي (7/ 366، دار الفكر).
فتبين مما سبق أن شيوع الأمر وشموله لغالبية المكلفين أو لغالبية فئة معينة منهم من الأمور المؤثِّرة في الأحكام الشرعية، وكذلك من الأمور التي يتوقف عليها صحة وصف النازلة بأنها تعم بها البلوى.
- وثانيهما: التَّكرار وكثرة الوقوع: فقد يُكلَّف الإنسان بشيء لا يشق عليه الإتيان به مرة أو مرات متكررة في فترات متباعدة، لكن إذا كُلِّف الإتيان به مرارًا متكررة في فترات متقاربة يجده شاقًا عليه مهما كانت بساطته، ومن هنا كان التكرار وكثرة الوقوع ضابط من ضوابط عموم البلوى؛ لأن ما قلَّ تكراره ولو شمل جميع المكلفين لا تعم به البلوى لانعدام المشقة في فعله.
والتكرار الذي تتوقف عليه قضية عموم البلوى هو التكرار العام على المستوى الجماعي؛ كتكرار السفر في إباحة الفطر والجمع والقصر، رغم أن الغالب على حال كل مكلف بمفرده هو قلة حاجته لتكرار السفر، لكن لما كان الغالب أيضًا تكرار حصول السفر بصورة عامة يومية، نزلت الحاجة العامة لكل الأمة منزلة الحاجة الخاصة لكل فرد منها، ففقه الأمة أو فقه الجماعة ينظر إلى المكلفين باعتبارهم شخصًا واحدًا، ومن هنا كان تكرار حصول الحادثة لهذا الشخص المعنوي يُعد مما تعم به البلوى.
على أنه ليس كل ما يتكرر يمثل مشقة، بل الضابط في التكرار أن يولد مشقة غير معتادة، فالمشقات إما غير معتبرة لدى الشارع ثبت إلغاؤها دائمًا، وهي المشقة التي يعتادها الناس في حياتهم العامة ويحتملونها في مقابل تحقيق مصلحة راجحة عليها، كمشقة السعي لاكتساب الأرزاق، وتشييد الأبنية والمساكن ونحوها، ونظير ذلك المشقة المصاحبة للعبادات: كالحج والصيام والصلوات، وهناك مشقة معتبرة ثبت اعتبارها دائمًا، كالمشقة الناتجة عن الإخلال بالمقاصد الكلية الخمس أو واحد منها، وتسمى بالضرورات لشدة الاحتياج إليها دائمًا، وهذا النوع من المشقة لا ينظر فيه إلى عموم بلوى أو خصوصها، بل هذا النوع من المشقة معتبر شرعًا في كل حال ولكل شخص، إلا ما استثناه الشرع في الحدود والقصاص ونحو ذلك مما يرجع إلى قاعدة ترجيح الضرورة العامة على الضرورة الخاصة، وهناك مشقة متوسطة بين النوعين السابقين، وهي المشقة التي تتفاوت شدة وضعفًا، فتارة تكون راجحة، وتارة تكون مرجوحة بحسب مقتضيات الأحوال، فما كان منها أقرب إلى المشقة المعتبرة ألحق بها، وما كان أقرب إلى الملغاة ألحق بها، وغالبًا ما يحصل هذا مع النوازل الحاجية، فإنها إذا عمت بها البلوى كانت معتبرة وأنزلت بمنزلة الضرورات في الاستثناء من الأصل المانع، وإذا لم تعم بها البلوى كانت ملغاة عملًا بالأصل، كاعتبار عموم البلوى بطين الشوارع الذي لا يخلو غالبًا من نجاسات، فإنه يشق على العامة الاحتراز عنه، فإذا لم يشق على البعض ذلك، فلا يخفف الحكم الشرعي حينئذ بصورة عامة لانعدام عموم البلوى، لكن ينظر في كل حالة بحسب المشقة الحاصلة لها، فإن المشاق تتفاوت.
فيصح لنا أن نقول إذًا: إن قضية عموم البلوى وخصوصها تندرج تحت قاعدة كبرى هي قاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، وهو ما أردناه من قولنا: إن الأثر الفقهي المترتب على عموم البلوى وخصوصها واحد، فإذا صحت ضوابط الابتلاء جاز الترخيص، والذي قد يكون بإباحة المحرَّم: كما في الضبة الصغيرة من فضةٍ للحاجة، وكلبس الحرير لمن به حِكَّة في جلده. وقد يكون بتقديم ما حقه التأخير، أو تأخير ما حقه التقديم، وكما في الجمع بين الصلاتين في السفر.
وقد يكون بتقليد من أجاز، بأن يُقدمَ المرء على فعل شيء له وجه يجيزه شرعًا، وإن لم يكن راجحًا في نظره، وذلك خير له من أن تُغَلَّق أمامه كل الأبواب فلا يجد أمامه من سبيلٍ إلا اقتحام المحرَّم، وقد كان له سعة بأن يقلَّد من أجاز، يقول الشيخ البيجوري في "حاشيته على شرح ابن القاسم لمتن أبي شجاع في الفقه الشافعي" (1/ 41) -عند قول الشارح: [ولا يجوز في غير ضرورة لرجل أو امرأة استعمال شيء من أواني الذهب والفضة]- قال معلقًا: [عدَّه البلقيني وكذا الدميري من الكبائر، ونقل الأذرعي عن الجمهور أنه من الصغائر وهو المعتمد، وقال داود الظاهري: بكراهة استعمال أواني الذهب والفضة كراهة تنزيهية، وهو قول للشافعي في القديم، وقيل الحرمة مختصة بالأكل والشرب دون غيرهما؛ أخذًا بظاهر الحديث، وهو: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما»، وعند الحنفية قول بجواز ظروف القهوة، وإن كان المعتمد عندهم الحرمة، فينبغي لمن ابتلي بشيء من ذلك كما يقع كثيرًا تقليد ما تقدم؛ ليتخلص من الحرمة] اهـ، ومثله في "حاشية الشرواني على التحفة" (1/ 119، ط. دار إحياء التراث العربي).
والله سبحانه وتعالى أعلم.
الترخص والتيسير عند الابتلاء
من المعروف في الفقه الإسلامي أن الابتلاء من أسباب التيسير، فما حدود هذا الابتلاء الذي يَحصُل به الترخيص؟
قاعدة الابتلاء وعلاقته بالتيسير والترخيص من القواعد المهمة التي ينبغي على الفقيه أن ينتبه إليها؛ إذ إن الابتلاء قد ينقل الحكم التكليفي من دائرة العزيمة إلى دائرة الرخصة، فيصير ما كان محظورًا مسموحًا في فعله، وما كان واجبًا مسموحًا في تركه، وما ذلك إلا لكون الابتلاء يورث حرجًا أو مشقة تستوجب ذلك التيسير والترخيص، بل إن الابتلاء من أكثر أسباب التيسير مساسًا للتفريع الفقهي، فأثره لا يقتصر على باب معيَّن من أبواب الفقه دون غيره، بل هو في الغالب شامل لمجموع أبواب الفقه، وإن كان التصريح بالتعليل به قد كثر فيما يتعلق بأمور العبادات، خاصة فيما يتعلق بالطهارة وإزالة النجاسة، غير أن التأمل في الفروع الفقهية يتضح منه شمول أثره لغير ذلك؛ يقول الإمام السيوطي في "الأشباه" (ص: 80، ط. دار الكتب) بعد أن ذكر الكثير من الفروع الفقهية الداخلة في قضية الابتلاء: [فقد بان بهذا أن هذه القاعدة يرجع إليها غالب أبواب الفقه] اهـ.
والناظر فيما كتبه الفقهاء يمكن أن يقسِّم الابتلاء إلى عام وخاص لكلٍ منهما ضوابطه، وإن كان الأثر الفقهي المترتب على كل منهما واحد.
- فالأول منهما وهو الابتلاء العام معناه: اشتداد حاجة أكثر المكلفين أو فئة معينة منهم للتيسير في أمر شائع متكرر يتعسر عليهم تركه أو الاحتراز عنه، بحيث لو كُلِّفوا اجتنابه لوجدوا في ذلك مشقة غير معتادة؛ يقول الإمام الصنعاني في "إجابة السائل شرح بغية الآمل" (ص: 109، ط. مؤسسة الرسالة): [ومعنى عموم البلوى شمول التكليف لجميع المكلفين أو أكثرهم عملًا] اهـ.
وفسَّر الإمام علاء الدين البخاري في "كشف الأسرار" (3/ 16، ط. دار الكتاب الإسلامي، القاهرة) ما يعم به البلوى بأنه: [ما يمس الحاجة إليه في عموم الأحوال] اهـ.
وفسَّره شمس الدين الأصفهاني في "بيان المختصر" (1/ 746، ط. جامعة أم القرى، مكة المكرمة) بأنه: [ما يحتاج إليه عموم الناس من غير أن يكون مخصوصًا بواحد دون آخر] اهـ.
وقال الكمال بن الهمام في "التحرير مع شرحه" (2/ 295، ط. دار الفكر) مفسِّرًا ما تعم به البلوى أنه: [ما يحتاج إليه الكل حاجة متأكدة مع كثرة تكرره] اهـ.
فمثال ما يشق تركه للحاجة إليه: النوم، فهو حالة متكررة لكل الناس ولا تختص بفرد واحد، ومن الواضح بالمشاهدة أن اجتناب النوم مطلقًا يتعذر على عموم الناس لشدة احتياجهم له، فلو كُلِّفوا اجتنابه مطلقًا لكان في ذلك مشقة خارجة عن المعتاد لا يمكنهم احتمالها، وبهذا يتضح أن النوم من الأمور التي تعم بها البلوى، وذلك مع ملاحظة أن الأصل في الشريعة تحريم كل ما يؤدي لغياب العقل أو فقد الوعي -كالمسكرات والمخدِّرات ونحوها– لكن لما عمت بلوى الناس بالاحتياج إلى النوم رغم أنه وسيلة لتغييب العقل كان مستثنى على خلاف ذلك الأصل؛ لأن التكليف باجتنابه حرج وتكليف بما لا يطاق، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].
وقد جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ،.. وذكر منهم: النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» رواه أبو داود وابن ماجه والنسائي.
ومثال ما يتعذر الاحتراز عنه: الدم اليسير المتبقي في لحم الذبيحة بعد تذكيتها، فإنه يشق على الناس الاحتراز عنه، ولا يجب غسله قبل طهو اللحم ولا بعده، رغم أنه جزء منفصل من الدم المسفوح المتدفق جريانه من الذبيحة، والذي هو نجس بالإجماع، ولكن لما كان هذا الدم المنفصل قليلًا يشق الاحتراز عنه، مع حاجة أكثر المكلفين للتغذي باللحم؛ عمت به البلوى، وكان معفوًّا عنه، بخلاف ما لو قصده إنسان فتعمد تجميع الدماء القليلة المعفو عنها وتناولها مفردة؛ فإنه يحرم عليه إذ لا بلوى فيه.
- والنوع الثاني من أنواع الابتلاء: الابتلاء الخاص، وهو اشتداد حاجة المكلف للتيسير في أمر متكرر يتعسر عليه -بصورة خاصة- تركه أو الاحتراز عنه، بحيث لو كُلِّف اجتنابه لوجد في ذلك مشقة غير معتادة، وذلك نحو أن يبتلى شخص بمرض كسلس البول مثلًا، فإنه يشق عليه تجديد الوضوء لأداء الصلاة كلما نزلت منه قطرة بول، لصعوبة الاحتراز والعجز عن التحكم مع كثرة خروج الحدث، فتشتد حينئذ حاجة المكلف لأداء الصلاة مع التيسير في أحكام الطهارة، فهذه بلوى خاصة لا يجدها الشخص الصحيح، وإنما يبتلى بها بعض المكلفين بصورة خاصة، قد تتفاوت مشقتها من فرد إلى آخر، مما يحتم على المفتي دراسة العناصر المختلفة المحيطة بالحادثة ثم إصدار فتوى خاصة لكل فرد بحسب بلواه، بخلاف ما يصدره المفتي من أحكام عامة في عموم البلوى.
ومن تعريف الابتلاء بنوعيه وأمثلة كل منهما يصح استخلاص ما يضبط بها عموم البلوى وخصوصها، فالشيء الذي تعم به البلوى لا بد أن يتوافر فيه ضابطان:
- أولهما: شمول الأغلبية: فقضية عموم البلوى تتميز بهذا الضابط عن قضية خصوص البلوى؛ وذلك لأن في العموم ينظر إلى الحالة الغالبة لجميع أفراد المكلفين أو أكثرهم أو فئة معينة منهم، ويثبت الترخيص في هذه الحالة دون حاجة إلى استفتاء خاص؛ يقول الإمام ابن قدامة في "المغني" (2/ 59، ط. دار إحياء التراث العربي): [الحاجة العامة إذا وجدت أثبتت الحكم في حق من ليست له حاجة، كالسَّلَم، وإباحة اقتناء الكلب للصيد والماشية في حق مَن لا يحتاج إليهما، ولأنه قد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع في المطر، وليس بين حجرته والمسجد شيء] اهـ.
بينما في خصوص البلوى يُنظَر إلى حالة كل فرد على حدة وإلى ملابسات الواقعة التي يُستفْتى فيها، فتتعدد بذلك الفتاوى وتختلف تبعًا لاختلاف أحوال المكلفين ووقائعهم.
وعموم البلوى قائمة على التفرقة بين فقه الأفراد وبين فقه الأمة أو الجماعة، وقد ورد ما يؤيد هذه التفرقة في نصوص الشريعة وأصولها وأحكامها، ومن صور التفرقة بين أحكام الفرد والجماعة ما بحثه الأصوليون في كتبهم من التفرقة بين الواجب العيني (الفردي) والواجب الكِفائي (الجماعي).
وهذه التفرقة تعتبر واحدة من أهم مسائل أصول الفقه، والواقع أنه كما نظر الشارع الحكيم إلى حالة الجماعة في مسألة الوجوب الكفائي بحيث أوجب إقامة أمر ما على جماعة المكلفين لو أوجبه على كل فرد منهم لشق على أكثرهم، فكذلك نظر إلى حالتهم في قضية عموم البلوى بحيث خفَّف عنهم ما لو أوجبه على كل فرد منهم لشق على أكثرهم وأوقعهم في الحرج، نعم، قد يوجد أشخاص لا يشق عليهم إقامة الواجب الكفائي أو عدم تخفيف ما تعم به البلوى، لكن مثل هؤلاء يمثلون الأقلية، والقاعدة أن العبرة للغالب الشائع لا للقليل النادر، وتغليب حكم الأكثرية أصل أصيل وارد في نصوص الكتاب والسنة في مواضع متعددة ومواضيع متنوعة، فمن ذلك: أن الخمر وإن كانت تشتمل على بعض المنافع، إلا أنها تعد منافع قليلة مستهلكة في جانب الأضرار الكثيرة الغالب وقوعها من جراء تناول الخمر وتداولها، ويستأنس لهذا المعنى بما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قيل له: أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَث» متفق عليه.
وقد ذكر الفقهاء قواعد عديدة تدور حول هذا المعنى، فمما قالوه:
- "أن الأكثر ينزل منزلة الكمال والأقل تبع للأكثر"؛ كما في "المبسوط" للإمام السرخسي (9/ 19، ط. دار المعرفة، بيروت).
- ومن القواعد: "يقام الأكثر مقام الكل". "المبسوط" (25/ 28).
- ومنها: "اليسير يكون تبعًا للكثير، ولا يكون الكثير تبعًا لليسير". "الحاوي الكبير" للإمام الماوردي (7/ 366، دار الفكر).
فتبين مما سبق أن شيوع الأمر وشموله لغالبية المكلفين أو لغالبية فئة معينة منهم من الأمور المؤثِّرة في الأحكام الشرعية، وكذلك من الأمور التي يتوقف عليها صحة وصف النازلة بأنها تعم بها البلوى.
- وثانيهما: التَّكرار وكثرة الوقوع: فقد يُكلَّف الإنسان بشيء لا يشق عليه الإتيان به مرة أو مرات متكررة في فترات متباعدة، لكن إذا كُلِّف الإتيان به مرارًا متكررة في فترات متقاربة يجده شاقًا عليه مهما كانت بساطته، ومن هنا كان التكرار وكثرة الوقوع ضابط من ضوابط عموم البلوى؛ لأن ما قلَّ تكراره ولو شمل جميع المكلفين لا تعم به البلوى لانعدام المشقة في فعله.
والتكرار الذي تتوقف عليه قضية عموم البلوى هو التكرار العام على المستوى الجماعي؛ كتكرار السفر في إباحة الفطر والجمع والقصر، رغم أن الغالب على حال كل مكلف بمفرده هو قلة حاجته لتكرار السفر، لكن لما كان الغالب أيضًا تكرار حصول السفر بصورة عامة يومية، نزلت الحاجة العامة لكل الأمة منزلة الحاجة الخاصة لكل فرد منها، ففقه الأمة أو فقه الجماعة ينظر إلى المكلفين باعتبارهم شخصًا واحدًا، ومن هنا كان تكرار حصول الحادثة لهذا الشخص المعنوي يُعد مما تعم به البلوى.
على أنه ليس كل ما يتكرر يمثل مشقة، بل الضابط في التكرار أن يولد مشقة غير معتادة، فالمشقات إما غير معتبرة لدى الشارع ثبت إلغاؤها دائمًا، وهي المشقة التي يعتادها الناس في حياتهم العامة ويحتملونها في مقابل تحقيق مصلحة راجحة عليها، كمشقة السعي لاكتساب الأرزاق، وتشييد الأبنية والمساكن ونحوها، ونظير ذلك المشقة المصاحبة للعبادات: كالحج والصيام والصلوات، وهناك مشقة معتبرة ثبت اعتبارها دائمًا، كالمشقة الناتجة عن الإخلال بالمقاصد الكلية الخمس أو واحد منها، وتسمى بالضرورات لشدة الاحتياج إليها دائمًا، وهذا النوع من المشقة لا ينظر فيه إلى عموم بلوى أو خصوصها، بل هذا النوع من المشقة معتبر شرعًا في كل حال ولكل شخص، إلا ما استثناه الشرع في الحدود والقصاص ونحو ذلك مما يرجع إلى قاعدة ترجيح الضرورة العامة على الضرورة الخاصة، وهناك مشقة متوسطة بين النوعين السابقين، وهي المشقة التي تتفاوت شدة وضعفًا، فتارة تكون راجحة، وتارة تكون مرجوحة بحسب مقتضيات الأحوال، فما كان منها أقرب إلى المشقة المعتبرة ألحق بها، وما كان أقرب إلى الملغاة ألحق بها، وغالبًا ما يحصل هذا مع النوازل الحاجية، فإنها إذا عمت بها البلوى كانت معتبرة وأنزلت بمنزلة الضرورات في الاستثناء من الأصل المانع، وإذا لم تعم بها البلوى كانت ملغاة عملًا بالأصل، كاعتبار عموم البلوى بطين الشوارع الذي لا يخلو غالبًا من نجاسات، فإنه يشق على العامة الاحتراز عنه، فإذا لم يشق على البعض ذلك، فلا يخفف الحكم الشرعي حينئذ بصورة عامة لانعدام عموم البلوى، لكن ينظر في كل حالة بحسب المشقة الحاصلة لها، فإن المشاق تتفاوت.
فيصح لنا أن نقول إذًا: إن قضية عموم البلوى وخصوصها تندرج تحت قاعدة كبرى هي قاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، وهو ما أردناه من قولنا: إن الأثر الفقهي المترتب على عموم البلوى وخصوصها واحد، فإذا صحت ضوابط الابتلاء جاز الترخيص، والذي قد يكون بإباحة المحرَّم: كما في الضبة الصغيرة من فضةٍ للحاجة، وكلبس الحرير لمن به حِكَّة في جلده. وقد يكون بتقديم ما حقه التأخير، أو تأخير ما حقه التقديم، وكما في الجمع بين الصلاتين في السفر.
وقد يكون بتقليد من أجاز، بأن يُقدمَ المرء على فعل شيء له وجه يجيزه شرعًا، وإن لم يكن راجحًا في نظره، وذلك خير له من أن تُغَلَّق أمامه كل الأبواب فلا يجد أمامه من سبيلٍ إلا اقتحام المحرَّم، وقد كان له سعة بأن يقلَّد من أجاز، يقول الشيخ البيجوري في "حاشيته على شرح ابن القاسم لمتن أبي شجاع في الفقه الشافعي" (1/ 41) -عند قول الشارح: [ولا يجوز في غير ضرورة لرجل أو امرأة استعمال شيء من أواني الذهب والفضة]- قال معلقًا: [عدَّه البلقيني وكذا الدميري من الكبائر، ونقل الأذرعي عن الجمهور أنه من الصغائر وهو المعتمد، وقال داود الظاهري: بكراهة استعمال أواني الذهب والفضة كراهة تنزيهية، وهو قول للشافعي في القديم، وقيل الحرمة مختصة بالأكل والشرب دون غيرهما؛ أخذًا بظاهر الحديث، وهو: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما»، وعند الحنفية قول بجواز ظروف القهوة، وإن كان المعتمد عندهم الحرمة، فينبغي لمن ابتلي بشيء من ذلك كما يقع كثيرًا تقليد ما تقدم؛ ليتخلص من الحرمة] اهـ، ومثله في "حاشية الشرواني على التحفة" (1/ 119، ط. دار إحياء التراث العربي).
والله سبحانه وتعالى أعلم.
قاعدة الابتلاء وعلاقته بالتيسير والترخيص من القواعد المهمة التي ينبغي على الفقيه أن ينتبه إليها؛ إذ إن الابتلاء قد ينقل الحكم التكليفي من دائرة العزيمة إلى دائرة الرخصة، فيصير ما كان محظورًا مسموحًا في فعله، وما كان واجبًا مسموحًا في تركه، وما ذلك إلا لكون الابتلاء يورث حرجًا أو مشقة تستوجب ذلك التيسير والترخيص، بل إن الابتلاء من أكثر أسباب التيسير مساسًا للتفريع الفقهي، فأثره لا يقتصر على باب معيَّن من أبواب الفقه دون غيره، بل هو في الغالب شامل لمجموع أبواب الفقه، وإن كان التصريح بالتعليل به قد كثر فيما يتعلق بأمور العبادات، خاصة فيما يتعلق بالطهارة وإزالة النجاسة، غير أن التأمل في الفروع الفقهية يتضح منه شمول أثره لغير ذلك؛ يقول الإمام السيوطي في "الأشباه" (ص: 80، ط. دار الكتب) بعد أن ذكر الكثير من الفروع الفقهية الداخلة في قضية الابتلاء: [فقد بان بهذا أن هذه القاعدة يرجع إليها غالب أبواب الفقه] اهـ.
والناظر فيما كتبه الفقهاء يمكن أن يقسِّم الابتلاء إلى عام وخاص لكلٍ منهما ضوابطه، وإن كان الأثر الفقهي المترتب على كل منهما واحد.
- فالأول منهما وهو الابتلاء العام معناه: اشتداد حاجة أكثر المكلفين أو فئة معينة منهم للتيسير في أمر شائع متكرر يتعسر عليهم تركه أو الاحتراز عنه، بحيث لو كُلِّفوا اجتنابه لوجدوا في ذلك مشقة غير معتادة؛ يقول الإمام الصنعاني في "إجابة السائل شرح بغية الآمل" (ص: 109، ط. مؤسسة الرسالة): [ومعنى عموم البلوى شمول التكليف لجميع المكلفين أو أكثرهم عملًا] اهـ.
وفسَّر الإمام علاء الدين البخاري في "كشف الأسرار" (3/ 16، ط. دار الكتاب الإسلامي، القاهرة) ما يعم به البلوى بأنه: [ما يمس الحاجة إليه في عموم الأحوال] اهـ.
وفسَّره شمس الدين الأصفهاني في "بيان المختصر" (1/ 746، ط. جامعة أم القرى، مكة المكرمة) بأنه: [ما يحتاج إليه عموم الناس من غير أن يكون مخصوصًا بواحد دون آخر] اهـ.
وقال الكمال بن الهمام في "التحرير مع شرحه" (2/ 295، ط. دار الفكر) مفسِّرًا ما تعم به البلوى أنه: [ما يحتاج إليه الكل حاجة متأكدة مع كثرة تكرره] اهـ.
فمثال ما يشق تركه للحاجة إليه: النوم، فهو حالة متكررة لكل الناس ولا تختص بفرد واحد، ومن الواضح بالمشاهدة أن اجتناب النوم مطلقًا يتعذر على عموم الناس لشدة احتياجهم له، فلو كُلِّفوا اجتنابه مطلقًا لكان في ذلك مشقة خارجة عن المعتاد لا يمكنهم احتمالها، وبهذا يتضح أن النوم من الأمور التي تعم بها البلوى، وذلك مع ملاحظة أن الأصل في الشريعة تحريم كل ما يؤدي لغياب العقل أو فقد الوعي -كالمسكرات والمخدِّرات ونحوها– لكن لما عمت بلوى الناس بالاحتياج إلى النوم رغم أنه وسيلة لتغييب العقل كان مستثنى على خلاف ذلك الأصل؛ لأن التكليف باجتنابه حرج وتكليف بما لا يطاق، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].
وقد جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ،.. وذكر منهم: النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» رواه أبو داود وابن ماجه والنسائي.
ومثال ما يتعذر الاحتراز عنه: الدم اليسير المتبقي في لحم الذبيحة بعد تذكيتها، فإنه يشق على الناس الاحتراز عنه، ولا يجب غسله قبل طهو اللحم ولا بعده، رغم أنه جزء منفصل من الدم المسفوح المتدفق جريانه من الذبيحة، والذي هو نجس بالإجماع، ولكن لما كان هذا الدم المنفصل قليلًا يشق الاحتراز عنه، مع حاجة أكثر المكلفين للتغذي باللحم؛ عمت به البلوى، وكان معفوًّا عنه، بخلاف ما لو قصده إنسان فتعمد تجميع الدماء القليلة المعفو عنها وتناولها مفردة؛ فإنه يحرم عليه إذ لا بلوى فيه.
- والنوع الثاني من أنواع الابتلاء: الابتلاء الخاص، وهو اشتداد حاجة المكلف للتيسير في أمر متكرر يتعسر عليه -بصورة خاصة- تركه أو الاحتراز عنه، بحيث لو كُلِّف اجتنابه لوجد في ذلك مشقة غير معتادة، وذلك نحو أن يبتلى شخص بمرض كسلس البول مثلًا، فإنه يشق عليه تجديد الوضوء لأداء الصلاة كلما نزلت منه قطرة بول، لصعوبة الاحتراز والعجز عن التحكم مع كثرة خروج الحدث، فتشتد حينئذ حاجة المكلف لأداء الصلاة مع التيسير في أحكام الطهارة، فهذه بلوى خاصة لا يجدها الشخص الصحيح، وإنما يبتلى بها بعض المكلفين بصورة خاصة، قد تتفاوت مشقتها من فرد إلى آخر، مما يحتم على المفتي دراسة العناصر المختلفة المحيطة بالحادثة ثم إصدار فتوى خاصة لكل فرد بحسب بلواه، بخلاف ما يصدره المفتي من أحكام عامة في عموم البلوى.
ومن تعريف الابتلاء بنوعيه وأمثلة كل منهما يصح استخلاص ما يضبط بها عموم البلوى وخصوصها، فالشيء الذي تعم به البلوى لا بد أن يتوافر فيه ضابطان:
- أولهما: شمول الأغلبية: فقضية عموم البلوى تتميز بهذا الضابط عن قضية خصوص البلوى؛ وذلك لأن في العموم ينظر إلى الحالة الغالبة لجميع أفراد المكلفين أو أكثرهم أو فئة معينة منهم، ويثبت الترخيص في هذه الحالة دون حاجة إلى استفتاء خاص؛ يقول الإمام ابن قدامة في "المغني" (2/ 59، ط. دار إحياء التراث العربي): [الحاجة العامة إذا وجدت أثبتت الحكم في حق من ليست له حاجة، كالسَّلَم، وإباحة اقتناء الكلب للصيد والماشية في حق مَن لا يحتاج إليهما، ولأنه قد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع في المطر، وليس بين حجرته والمسجد شيء] اهـ.
بينما في خصوص البلوى يُنظَر إلى حالة كل فرد على حدة وإلى ملابسات الواقعة التي يُستفْتى فيها، فتتعدد بذلك الفتاوى وتختلف تبعًا لاختلاف أحوال المكلفين ووقائعهم.
وعموم البلوى قائمة على التفرقة بين فقه الأفراد وبين فقه الأمة أو الجماعة، وقد ورد ما يؤيد هذه التفرقة في نصوص الشريعة وأصولها وأحكامها، ومن صور التفرقة بين أحكام الفرد والجماعة ما بحثه الأصوليون في كتبهم من التفرقة بين الواجب العيني (الفردي) والواجب الكِفائي (الجماعي).
وهذه التفرقة تعتبر واحدة من أهم مسائل أصول الفقه، والواقع أنه كما نظر الشارع الحكيم إلى حالة الجماعة في مسألة الوجوب الكفائي بحيث أوجب إقامة أمر ما على جماعة المكلفين لو أوجبه على كل فرد منهم لشق على أكثرهم، فكذلك نظر إلى حالتهم في قضية عموم البلوى بحيث خفَّف عنهم ما لو أوجبه على كل فرد منهم لشق على أكثرهم وأوقعهم في الحرج، نعم، قد يوجد أشخاص لا يشق عليهم إقامة الواجب الكفائي أو عدم تخفيف ما تعم به البلوى، لكن مثل هؤلاء يمثلون الأقلية، والقاعدة أن العبرة للغالب الشائع لا للقليل النادر، وتغليب حكم الأكثرية أصل أصيل وارد في نصوص الكتاب والسنة في مواضع متعددة ومواضيع متنوعة، فمن ذلك: أن الخمر وإن كانت تشتمل على بعض المنافع، إلا أنها تعد منافع قليلة مستهلكة في جانب الأضرار الكثيرة الغالب وقوعها من جراء تناول الخمر وتداولها، ويستأنس لهذا المعنى بما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قيل له: أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَث» متفق عليه.
وقد ذكر الفقهاء قواعد عديدة تدور حول هذا المعنى، فمما قالوه:
- "أن الأكثر ينزل منزلة الكمال والأقل تبع للأكثر"؛ كما في "المبسوط" للإمام السرخسي (9/ 19، ط. دار المعرفة، بيروت).
- ومن القواعد: "يقام الأكثر مقام الكل". "المبسوط" (25/ 28).
- ومنها: "اليسير يكون تبعًا للكثير، ولا يكون الكثير تبعًا لليسير". "الحاوي الكبير" للإمام الماوردي (7/ 366، دار الفكر).
فتبين مما سبق أن شيوع الأمر وشموله لغالبية المكلفين أو لغالبية فئة معينة منهم من الأمور المؤثِّرة في الأحكام الشرعية، وكذلك من الأمور التي يتوقف عليها صحة وصف النازلة بأنها تعم بها البلوى.
- وثانيهما: التَّكرار وكثرة الوقوع: فقد يُكلَّف الإنسان بشيء لا يشق عليه الإتيان به مرة أو مرات متكررة في فترات متباعدة، لكن إذا كُلِّف الإتيان به مرارًا متكررة في فترات متقاربة يجده شاقًا عليه مهما كانت بساطته، ومن هنا كان التكرار وكثرة الوقوع ضابط من ضوابط عموم البلوى؛ لأن ما قلَّ تكراره ولو شمل جميع المكلفين لا تعم به البلوى لانعدام المشقة في فعله.
والتكرار الذي تتوقف عليه قضية عموم البلوى هو التكرار العام على المستوى الجماعي؛ كتكرار السفر في إباحة الفطر والجمع والقصر، رغم أن الغالب على حال كل مكلف بمفرده هو قلة حاجته لتكرار السفر، لكن لما كان الغالب أيضًا تكرار حصول السفر بصورة عامة يومية، نزلت الحاجة العامة لكل الأمة منزلة الحاجة الخاصة لكل فرد منها، ففقه الأمة أو فقه الجماعة ينظر إلى المكلفين باعتبارهم شخصًا واحدًا، ومن هنا كان تكرار حصول الحادثة لهذا الشخص المعنوي يُعد مما تعم به البلوى.
على أنه ليس كل ما يتكرر يمثل مشقة، بل الضابط في التكرار أن يولد مشقة غير معتادة، فالمشقات إما غير معتبرة لدى الشارع ثبت إلغاؤها دائمًا، وهي المشقة التي يعتادها الناس في حياتهم العامة ويحتملونها في مقابل تحقيق مصلحة راجحة عليها، كمشقة السعي لاكتساب الأرزاق، وتشييد الأبنية والمساكن ونحوها، ونظير ذلك المشقة المصاحبة للعبادات: كالحج والصيام والصلوات، وهناك مشقة معتبرة ثبت اعتبارها دائمًا، كالمشقة الناتجة عن الإخلال بالمقاصد الكلية الخمس أو واحد منها، وتسمى بالضرورات لشدة الاحتياج إليها دائمًا، وهذا النوع من المشقة لا ينظر فيه إلى عموم بلوى أو خصوصها، بل هذا النوع من المشقة معتبر شرعًا في كل حال ولكل شخص، إلا ما استثناه الشرع في الحدود والقصاص ونحو ذلك مما يرجع إلى قاعدة ترجيح الضرورة العامة على الضرورة الخاصة، وهناك مشقة متوسطة بين النوعين السابقين، وهي المشقة التي تتفاوت شدة وضعفًا، فتارة تكون راجحة، وتارة تكون مرجوحة بحسب مقتضيات الأحوال، فما كان منها أقرب إلى المشقة المعتبرة ألحق بها، وما كان أقرب إلى الملغاة ألحق بها، وغالبًا ما يحصل هذا مع النوازل الحاجية، فإنها إذا عمت بها البلوى كانت معتبرة وأنزلت بمنزلة الضرورات في الاستثناء من الأصل المانع، وإذا لم تعم بها البلوى كانت ملغاة عملًا بالأصل، كاعتبار عموم البلوى بطين الشوارع الذي لا يخلو غالبًا من نجاسات، فإنه يشق على العامة الاحتراز عنه، فإذا لم يشق على البعض ذلك، فلا يخفف الحكم الشرعي حينئذ بصورة عامة لانعدام عموم البلوى، لكن ينظر في كل حالة بحسب المشقة الحاصلة لها، فإن المشاق تتفاوت.
فيصح لنا أن نقول إذًا: إن قضية عموم البلوى وخصوصها تندرج تحت قاعدة كبرى هي قاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، وهو ما أردناه من قولنا: إن الأثر الفقهي المترتب على عموم البلوى وخصوصها واحد، فإذا صحت ضوابط الابتلاء جاز الترخيص، والذي قد يكون بإباحة المحرَّم: كما في الضبة الصغيرة من فضةٍ للحاجة، وكلبس الحرير لمن به حِكَّة في جلده. وقد يكون بتقديم ما حقه التأخير، أو تأخير ما حقه التقديم، وكما في الجمع بين الصلاتين في السفر.
وقد يكون بتقليد من أجاز، بأن يُقدمَ المرء على فعل شيء له وجه يجيزه شرعًا، وإن لم يكن راجحًا في نظره، وذلك خير له من أن تُغَلَّق أمامه كل الأبواب فلا يجد أمامه من سبيلٍ إلا اقتحام المحرَّم، وقد كان له سعة بأن يقلَّد من أجاز، يقول الشيخ البيجوري في "حاشيته على شرح ابن القاسم لمتن أبي شجاع في الفقه الشافعي" (1/ 41) -عند قول الشارح: [ولا يجوز في غير ضرورة لرجل أو امرأة استعمال شيء من أواني الذهب والفضة]- قال معلقًا: [عدَّه البلقيني وكذا الدميري من الكبائر، ونقل الأذرعي عن الجمهور أنه من الصغائر وهو المعتمد، وقال داود الظاهري: بكراهة استعمال أواني الذهب والفضة كراهة تنزيهية، وهو قول للشافعي في القديم، وقيل الحرمة مختصة بالأكل والشرب دون غيرهما؛ أخذًا بظاهر الحديث، وهو: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما»، وعند الحنفية قول بجواز ظروف القهوة، وإن كان المعتمد عندهم الحرمة، فينبغي لمن ابتلي بشيء من ذلك كما يقع كثيرًا تقليد ما تقدم؛ ليتخلص من الحرمة] اهـ، ومثله في "حاشية الشرواني على التحفة" (1/ 119، ط. دار إحياء التراث العربي).
والله سبحانه وتعالى أعلم.