التلفيق بين المذاهب الفقهية

سمعنا أنه لا يجوز التلفيق بين المذاهب الفقهية، فما المقصود بالتلفيق؟ وما حكم العمل به؟

كلمة "التلفيق" تأتي في اللغة لعدة معان؛ منها:
- الضم بين الأشياء والملائمة بينها لتكون شيئًا واحدًا، يقال: لفق الثوب يلفقه لفقًا -من باب ضرب- وذلك بأن يضم شقة إلى أخرى فيخيطها.
- ويقال: تلافق القوم، أي تلاءمت أمورهم. راجع: "المصباح المنير" للإمام الفيومي مادة: (ل ف ق)، و"تاج العروس" للإمام الزبيدي مادة: (ل ف ق).

أما "التلفيق" عند علماء أصول الفقه، فهو من المصطلحات التي ظهرت لدى المتأخرين بعد أن استقرت المذاهب الفقهية وانتشرت وشاع تقليدها في الأقطار والأمصار، لكن الذي ظهر عند المتقدمين ويشبه التلفيق هو مصطلح "تتبع الرخص" أي البحث عن أيسر الآراء الفقهية في كل مذهب والأخذ بها لمجرد التشهي والتخفف من تحمل التكاليف الشرعية، وذلك مع تغافل المتتبع للرخص عن مآل الأمر ومدى موافقته لمقاصد التشريع وتحقيقه لها من عدمه.

ووجه التشابه بين "تتبع الرخص" وبين "التلفيق" هو أن كليهما فيه تقليد وانتقاء لبعض الأمور الفقهية من عدة مذاهب مختلفة، أما وجه المفارقة بين الأمرين فهو أن تتبع الرخص يكون في مسائل متفرقة لا تتركب منها هيئة واحدة أو عبادة واحدة؛ كمن أخذ برخصة للحنفية في الوضوء ورخصة للشافعية في الطلاق ورخصة للمالكية في البيوع؛ لما في هذه الرخص من تيسير؛ أما التلفيق فيكون في الأجزاء التي تتركب منها مسألة واحدة مما ينتج عنه حكم واحد لم يقل به مجتهد، وذلك كمن قلد الحنفية في جواز ترك الترتيب بين أفعال الوضوء، وقلد الشافعية في جواز الاقتصار على مسح أقل من ربع الرأس، فرغم أن الترتيب مسألة ومسح الرأس مسألة لكن كلاهما تعتبر جزءًا يتركب منه مسألة كبيرة أو قضية مستقلة وهي: هل الوضوء بهذه الكيفية الملفقة صحيح يعتد به في رفع الحدث أم لا؟

والتعريف الاصطلاحي المختار هو: أن التلفيق عبارة عن: الجمع بين المذاهب الفقهية المختلفة في أجزاء الحكم الواحد بكيفية لم يقل بها أيٌّ من تلك المذاهب. راجع: "التلفيق وحكمه في الفقه الإسلامي" للدكتور عبد الله بن محمد بن حسن السعيدي (ص: 12، بدون طبعة)، و"عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق" لمحمد سعيد الباني (ص: 91، ط. المكتب الإسلامي، دمشق).

وجاء في "الموسوعة الفقهية" (13/ 293، مصطلح: تلفيق): [المراد بالتلفيق بين المذاهب أخذ صحة الفعل من مذهبين معًا بعد الحكم ببطلانه على كل واحد منهما] اهـ.

ومن هنا يتبين أن حقيقة التلفيق تؤول إلى أخذ المقلد بأكثر من مذهب فقهي في نفس الوقت وفي نفس القضية بحيث يحصل من هذا المزج هيئة مركبة لم يقل بمجموعها أحد ممن قلَّدهم، وإنما قال بعضهم ببعض أجزائها وقال غيرهم ببعض آخر.

وقد ذهب بعض من كتب في مسألة التلفيق إلى أن التلفيق يصدق على تقليد عدة مذاهب في مسائل مستقلة لا تجتمع منها هيئة واحدة، كالأخذ بمذهب المالكية في أحكام العبادات مثلًا والأخذ بمذهب الحنابلة في المعاملات، لكن الصواب أن تقليد أكثر من مذهب في مسائل مستقلة لا يسمى تلفيقًا؛ لأن الراجح أن العوام لا يجب عليهم الالتزام بمذهب معين في جميع المسائل، بل مذهب العامي هو مذهب مفتيه، ولا يلزمه الاقتصار على مفت واحد بل يجوز له استفتاء أكثر من مفت سواء كان المفتي مالكيًا أو شافعيًا أو غير ذلك، ثم للمستفتي حينئذ الأخذ بما يطمئن إليه قلبه عند اختلاف المفتين، كما جرى عليه العمل في عصر الصحابة الكرام دون نكير، ولو ألزم العامي نفسه بمذهب أحد المجتهدين ثم قلد غيره في مسألة أو باب معين دون أن ينتج عن ذلك حصول صورة مركبة لم يقل بها أحد، لا يسمى هذا تلفيقًا بل يقال انتقل من مذهبه إلى مذهب آخر في بعض المسائل، أما لو حصلت صورة مركبة لم يقل بصحتها أحد ممن قلدهم، فهذا هو التلفيق، وذلك كما لو جمع بين تقليد الشافعية في باب الوضوء واقتصر على مسح بعض شعرات من الرأس، وبين تقليد الحنفية في صحة الصلاة بهذا الوضوء بدون الاطمئنان أو الخشوع في أفعالها، فقد جمع بين تقليد الشافعية في باب الوضوء وبين تقليد الحنفية في باب الصلاة، لكن نتج عن ذلك صورة مركبة لم يقل بصحتها أحد من هذين المذهبين، فالشافعية يقولون ببطلان هذه الصلاة؛ لعدم الطمأنينة، والحنفية يقولون ببطلانها؛ لعدم حصول الطهارة بمسح شعراتٍ أقل من ربع الرأس.

وينقسم التلفيق من حيث القصد وعدمه إلى:
- تلفيق حاصل بالقصد، كالواقع ممن تتبع المذاهب واستقراء الآراء ثم تعمد الجمع بينها والعمل بما تركب من مجموعها.
- وتلفيق حاصل دون قصد، كما يقع من العوام عند استفتائهم عدة مفتين من مذاهب مختلفة، ثم دمج كل ذلك في عمل واحد.

وينقسم من حيث الصورة التركيبية إلى:
- تلفيق بين حكمين في قضية واحدة، كمن جمع في صحة وضوئه بين تقليد الشافعية في عدم النقض بالخارج النجس من غير السبيلين، وتقليد الحنفية في عدم النقض بلمس المرأة، فهذا تركيب بين حكمين وردا في قضية واحدة وهي صحة الوضوء.
- وتلفيق بين أكثر من حكم في أكثر من قضية، كمن جمع في صحة صلاته بين تقليد الشافعية في مسح بعض شعرات من الرأس، وبين تقليد الحنفية في صحة الصلاة دون الطمأنينة، فهذا تركيب بين حكمين وردا في قضيتين هما الوضوء والصلاة.

وينقسم من حيث الوقت إلى:
- تلفيق قبل وقوع الفعل، وذلك بغرض الإقدام على الفعل.
- وتلفيق بعد وقوع الفعل، وذلك بغرض إيجاد المخرج لاستدراك خلل غير مقصود وتصحيح الفعل بعد وقوعه اجتنابًا للحرج والمشقة.
ولم يرد في حكم التلفيق نص صريح عن الفقهاء المتقدمين والأئمة المجتهدين أصحاب المذاهب الفقهية المتبوعة، وإنما ظهر الكلام حول هذا المصطلح لدى المتأخرين.

وقد اختلف المتأخرون في حكم التلفيق:
- فذهب أكثر الفقهاء المتأخرين إلى عدم جوازه مطلقًا.
- وذهب بعضهم إلى الجواز بشروط، وهو المختار، وسيأتي بيان الشروط.

دليل الرأي المختار:
أولًا: شُرع التقليد تخفيفًا على المكلفين، وفي اختلاف أئمة الاجتهاد رحمة للناس؛ قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، ولذلك لم يجب على المقلد التزام مذهب معين في جميع المسائل كما قال جمهور أهل العلم، بل يجوز له الأخذ في كل مسألة بأي مذهب شاء من مذاهب الأئمة المتبوعين إذا أفتاه به أحد المفتين، فهذا سعة ورخصة لمن لم يصل إلى درجة الاجتهاد، ولا فارق في ذلك بين الأخذ بأكثر من مذهب في مسائل متعددة –سواء كانت مرتبطة ببعضها أم لا- وبين الأخذ بأكثر من مذهب في أجزاء المسألة الواحدة وشروطها وضوابطها؛ فإن غالب الفقه مبني على الظن، وليس من المقطوع به أن رأي أحد المجتهدين هو الصواب الذي لا يحتمل الخطأ في جملته أو في تفصيله، بل يجوز في حق كل مجتهد أن يصيب في بعض أجزاء المسألة، ويجوز أن يخطئ في بعضها الآخر، ولا فارق في تلك الاحتمالية بين المسألة الواحدة والمسائل المتعددة، فالأخذ ببعض قول المجتهد في مسألة ما وببعض قول مجتهد آخر في نفس المسألة ليس خروجًا عن كلا المذهبين، وإنما هو كالجمع بين تقليدهما في أكثر من مسألة.

وبناء على هذا: فيجوز للمقلد التلفيق في المسألة الواحدة؛ سواء كانت في العبادات أم في المعاملات.

ثانيًا: يجوز للمفتي المقلد أن يخرج عن مذهب إمامه ويفتي بمذهب إمام آخر؛ وذلك نظرًا لتطورات العصور والمجتمعات واختلاف موازين المصالح والمفاسد باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال، فالجمود على رأي واحد حتى ولو صار غيره هو الملائم للواقع ليس من الفقه في شيء، ولذا فغالب الفقه -كما سبق- مبناه الظن كي تتعدد الآراء والاجتهادات ويكون في الأمر سعة ومرونة ورحمة بالناس؛ وإذ يجوز للمفتي المقلد الإفتاء بمذهب آخر غير مذهب إمامه تبعًا لمقاصد التشريع وتغير الأحوال، فإنه لا فارق بين أن يترك قول إمامه في كل المسألة ويفتي فيها بقول إمام آخر، وبين أن يترك قول إمامه في بعض شروط المسألة وضوابطها ويتبع في هذا إمامًا آخر.

ثالثًا: لم ينقل عن الصحابة الكرام أو التابعين -على كثرة مذاهبهم وتباينهم- أن أحدًا منهم قال لمن استفتاه: الواجب عليك أن تراعي أحكام مذهب من قلدته لئلا تلفق في عبادتك بين مذهبين أو أكثر، ولو كان التلفيق ممنوعًا لما أهملوا التحذير منه.

رابعًا: القول بعدم مشروعية التلفيق يؤدي للحكم بفساد عبادات العوام، فإنه من النادر أن تجد عاميًّا يلتزم بموافقة مذهب معين في جميع عباداته ومعاملاته، وإلزام العوام بذلك فيه من الحرج والمشقة ما لا يخفى، فقد عمت بلوى العوام بالحاجة للقول بصحة عباداتهم الملفقة التي لا تصح إذا قيست بمعيار وشروط مذهب واحد فقط.

خامسًا: القول بعدم مشروعية التلفيق يتنافى مع يسر الشريعة وشمولها، فقد يتجدد في المسألة أمر ما أو يترتب عليها أثر جديد، لذا فإن اجتهادات الفقهاء الأقدمين وانحصارها في عدد معين من الآراء لا تستلزم الجمود على أحد هذه الآراء بعينه، بل قد يكون الحل الأمثل أمام المفتي المقلد ليواجه مستجدات المسألة هو أن يأخذ بأكثر من مذهب ويضم من شروطهم وضوابطهم ما يجعل فتواه متوافقة مع مقاصد الشريعة وطبيعتها، وليس في هذا التلفيق إتيان بقول باطل عند كل مذهب نظرا لنقص بعض الشروط الخاصة بكل مذهب، فغاية ما هناك هو أن كل مجتهد من السابقين سيجد في المسألة الملفقة بعض شروطه ولا يجد بعضا آخر، لكن هذا لا يستلزم حكمه بالبطلان مطلقا، وإنما يستلزم البطلان في حق من قلده وحده ولم يجمع مع تقليده تقليد مجتهد آخر، ولذلك فالإمام الشافعي –مثلًا- يشترط وجود الشهود ليصح عقد النكاح خلافًا للإمام مالك، وفي الوقت ذاته لم يقل الشافعي بأن من قلد مالكًا في النكاح بلا شهود فنكاحه باطل، وكذلك لم يقل الإمام مالك ببطلان نكاح من قلد الإمام الشافعي في عدم اشتراط الصداق.

سادسًا: أن أقوال المجتهدين بالنسبة للمقلد تكون بمنزلة نصوص الشريعة وأدلتها بالنسبة للمجتهد، ومن هنا يتشابه التلفيق بين آراء المجتهدين مع التوفيق بين أدلة الأحكام المتعارضة، وإذا كان رأي المجتهد يحتمل الخطأ والصواب فلعل الجمع بين أكثر من رأي يكون أقرب إلى الصواب.

وهناك عدة شروط إذا فقدت امتنع العمل بالتلفيق وهي كالآتي:
الشرط الأول: أن تكون هناك حاجة داعية إلى العمل بالتلفيق، فلا يجوز لمجرد العبث أو الهوى أو التهرب من التكليفات الشرعية أو محبة الظهور وادعاء التجديد الفقهي؛ لما في ذلك من الاستخفاف بما قدمه فقهاؤنا العظام من آراء واجتهادات مثلت على مر القرون ثروة علمية وحرية فكرية بناءة تعد مفخرة للأمة الإسلامية.

الشرط الثاني: ألَّا يترتب على التلفيق تركيب حكم يخالف الإجماع أو يخالف نصًّا قاطعًا في دلالته.
الشرط الثالث: ألَّا يترتب على التلفيق ما يتعارض مع مقاصد الشريعة وطبيعتها، وذلك كمن لفق في عقد النكاح وتزوج بلا شهود مقلدًا لمالكٍ في عدم اشتراطهم، وبلا ولي للمرأة مقلدًا لأبي حنيفة، وبلا صداق مقلدا للشافعي، فهذا التلفيق يتعارض مع مقاصد الشريعة؛ لما يترتب عليه من مفاسد؛ كتعريض الزوج والزوجة للتهمة، وضياع حق المرأة، وتسهيل الزنا والتحايل بهذا التلفيق لدرء التهمة عن الزانيين.

الشرط الرابع: ألَّا يتخذ من التلفيق ذريعة لنقض حكم مستقر عمل فيه بمذهب أحد المجتهدين، وهذا قياسًا على قولهم "الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد" فمن باب أولى ألَّا ينقض بالتلفيق؛ لأنه تقليد، وذلك كمن قلَّد مذهب الحنفية في النكاح بلا وليٍّ ثم أوقع الطلقات الثلاث فبانت زوجته وحرم عليه نكاحها حتى تنكح زوجا غيره، لكنه أراد نكاحها مرة أخرى فقلَّد الشافعي في أن النكاح بلا ولي باطل، وبالتالي فلا يقع الطلاق في نكاح باطل فيحل له نكاحها، فهذا التلفيق بين المذهبين باطل متناقض، فكأن هذا الملفق يريد أن يقول: حينما تزوجتها بلا ولي لم يكن ذلك زنا تقليدا للإمام أبي حنيفة، ولم يكن نكاحًا صحيحًا تقليدًا للإمام الشافعي، فما وقع من طلقات لا اعتبار بها؛ لأنها لم ترد على نكاح صحيح عند الشافعي، لكن هذا التلفيق باطل لأن الشافعي وإن اشترط الولي إلا أنه لا يقول ببطلان نكاح من قلد أبا حنيفة ولا يقول بعدم وقوع طلاقه؛ لأن "الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد".

الشرط الخامس:
ألَّا يؤدي العمل بالتلفيق إلى نقض أحكام القضاء؛ لأن حكم القاضي يرفع الخلاف درءًا للفوضى، ولو عمل بالتلفيق على خلافه لأدى ذلك إلى اضطراب القضاء وعدم استقرار الأحكام القضائية.

الشرط السادس: أن يعتقد رجحان ذلك القول الملفق، فيقدِّر أنه لو وجد أحد الأئمة المجتهدين واطلع على المسألة بمتغيراتها الجديدة أو الخاصة بهذا الشخص المقلد لم يكن من البعيد أن يوافق مذهبه ما توصل إليه بالتلفيق، بل لا بد أن يكون هذا هو غالب ظن المقلد؛ لأن أقوال المجتهد بالنسبة له كنصوص الشارع بالنسبة للمجتهد، فيكون عمله بالتلفيق حينئذ لوجود دليل راجح بغالب الظن.

وقد صرح كثير من أهل العلم بجواز التلفيق:
- فمن الحنفية: العلامة الأمير بادشاه وقد ناقش في "شرحه على التحرير" ما قاله الإمام القرافي لجواز تقليد العامي لمجتهد آخر غير إمامه بألَّا يترتب عليه ما يمنعانه، كمن قلَّد الإمام الشافعي في عدم فرضية الدلك وقلَّد الإمام مالكًا في عدم نقض اللمس بلا شهوة ثم صلى بهذا الوضوء، فصلاته باطلة بحسب ما اشترطه الإمام القرافي، لكن قال العلامة أمير بادشاه في تعليقه على ذلك: [واعترض عليه بأن بطلان الصورة المذكورة عندهما غير مسلم فإن مالكا مثلا لم يقل أن من قلد الشافعي في عدم الصداق أن نكاحه باطل، ولم يقل الشافعي أن من قلد مالكًا في عدم الشهود أن نكاحه باطل انتهى. وأورد عليه أن عدم قولهما بالبطلان في حق من قلد أحدهما وراعى مذهبه في جميع ما يتوقف عليه صحة العمل وما نحن فيه من قلدهما وخالف كلا منهما في شيء، وعدم القول بالبطلان في ذلك لا يستلزم عدم القول به في هذا، وقد يجاب عنه: بأن الفارق بينهما ليس إلا أن كل واحد من المجتهدين لا يجد في صورة التلفيق جميع ما شرط في صحتها بل يجد في بعضها دون بعض، وهذا الفارق لا نسلم أن يكون موجبًا للحكم بالبطلان وكيف نسلم والمخالفة في بعض الشروط أهون من المخالفة في الجميع فيلزم الحكم بالصحة في الأهون بالطريق الأولى ومن يدعي وجود فارق أو وجود دليل آخر على بطلان صورة التلفيق على خلاف الصورة الأولى فعليه بالبرهان، فإن قلت لا نسلم كون المخالفة في البعض أهون من المخالفة في الكل؛ لأن المخالفة في الكل تتبع مجتهدًا واحدًا في جميع ما يتوقف عليه صحة العمل وها هنا لم يتبع واحدًا، قلت: هذا إنما يتم لك إذا كان معك دليل من نص أو إجماع أو قياس قوي يدل على أن العمل إذا كان له شروط يجب على المقلد اتباع مجتهد واحد في جميع ما يتوقف عليه ذلك فأتِ به إن كنت من الصادقين. والله تعالى أعلم] اهـ. "تيسير التحرير" (4/ 371، ط. دار الفكر).

- ومن الحنفية أيضًا: الإمام الطرسوسي، وشيخ الإسلام أبو السعود؛ قال العلامة ابن عابدين في "العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية" (1/ 109، ط. دار المعرفة): [وفي فتاوى الشلبي وقف البناء بدون الأرض صحيح والحكم به صحيح لكن في وقفه على نفسه إشكال من جهة أن الوقف على النفس أجازه أبو يوسف ومنعه محمد، ووقف البناء بدون الأرض من قبيل وقف المنقول ولا يقول به أبو يوسف بل محمد فيكون الحكم به مركبا من مذهبين، وهو لا يجوز، لكن الطرسوسي ذكر أن في منية المفتي ما يفيد جواز الحكم المركب من مذهبين، وعلى هذا يتخرج الحكم بوقف البناء على نفسه في مصر في أوقات كثيرة، على هذا النمط حكم بها القضاة السابقون ولعلهم بنوه على ما ذكرنا من جواز الحكم المركب من مذهبين أو على أن الأرض لما كانت متقررة للاحتكار نزلت منزلة ما لو وقف البناء مع الأرض من جهة أن الأرض بيد أرباب البناء يتصرفون فيها بما شاءوا من هدم وبناء وتغيير لا يتعرض أحد لهم فيها ولا يزعجهم عنها وإنما عليهم غلة تؤخذ منهم كما أفاده الخصاف هذا ما تحرر لي من الجواب. والله تعالى أعلم بالصواب] اهـ.

وفي موضع آخر من الوقف من فتاوى العلامة الشلبي المذكور ما نصه: [فإذا كان وقف الدراهم لم يرو إلا عن زفر ولم يرو عنه في وقف النفس شيء فلا يتأتى وقفها على النفس حينئذ على قوله، لكن لو فرضنا أن حاكمًا حنفيًا حكم بصحة وقف الدراهم على النفس، هل ينفذ حكمه؟ فنقول النفاذ مبني على القول بصحة الحكم الملفق، وبيان التلفيق أن الوقف على النفس لا يقول به إلا أبو يوسف وهو لا يرى وقف الدراهم، ووقف الدراهم لا يقول به إلا زفر وهو لا يرى الوقف على النفس، فكان الحكم بجواز وقف الدراهم على النفس حكما ملفقا من قولين كما ترى وقد مشى شيخ مشايخنا العلامة زين الدين قاسم في ديباجة تصحيح القدوري على عدم نفاذه ونقل فيها عن كتاب توفيق الحكام في غوامض الأحكام: أن الحكم الملفق باطل بإجماع المسلمين، ومشى الطرسوسي في كتابه أنفع الوسائل على النفاذ مستندا في ذلك لما رآه في منية المفتي، فلينظره من أراده. اهـ. أقول: ورأيت بخط شيخ مشايخنا منلا علي التركماني في مجموعته الكبيرة ناقلا عن خط الشيخ إبراهيم السؤالاتي بعد هذه المسألة المنقولة عن فتاوى الشلبي ما نصه: أقول وبالجواز أفتى شيخ الإسلام أبو السعود في فتاواه وأن الحكم ينفذ وعليه العمل. والله تعالى الموفق. اهـ ما رأيته بخطه عن الشيخ إبراهيم المذكور. وأقول أيضًا: قد يوجه ذلك بأنه ليس من الحكم الملفق الذي نقل العلامة قاسم أنه باطل بالإجماع؛ لأن المراد بما جزم ببطلانه ما إذا كان من مذاهب متباينة كما إذا حكم بصحة نكاح بلا ولي بناء على مذهب أبي حنيفة وبلا شهود بناء على مذهب مالك، بخلاف ما إذا كان ملفقا من أقوال أصحاب المذهب الواحد فإنها لا تخرج عن المذهب فإن أقوال أبي يوسف ومحمد وغيرهما مبنية على قواعد أبي حنيفة أو هي أقوال مروية عنه وإنما نسبت إليهم لا إليه لاستنباطهم لها من قواعده أو لاختيارهم إياها كما أوضحت ذلك في صدر حاشيتي على الدر المختار بما لا مزيد عليه فارجع إليه ويؤيد ما مر عن الشلبي من حكم القضاة الماضين بذلك وكذا ما في الدرر من كتاب القضاء عند قوله: القضاء في مجتهد فيه بخلاف رأيه ناسيا مذهبه نافذ عند أبي حنيفة ولو عامدا، ففيه روايتان حيث قال ما نصه: والمراد بخلاف الرأي خلاف أصل المذهب كالحنفي إذا حكم على مذهب الشافعي أو نحوه أو بالعكس. وأما إذا حكم الحنفي بما ذهب إليه أبو يوسف أو محمد أو نحوهما من أصحاب الإمام فليس حكما بخلاف رأيه. اهـ. فتأمل] اهـ.

وقال علي حيدر في "درر الحكام شرح مجلة الأحكام" (4/ 674، ط. دار الجيل، الطبعة الأولى): [وفي هذه الحالة قد أصبح تلفيق في هذه الأحكام الغيابية يعني أن إصدار الحكم الغيابي على الخصم غير المتواري هو على مذهب الإمام الشافعي، وإصدار الحكم بلا يمين هو على مذهب الإمام الحنفي، وبذلك يرد سؤال على هذه الأحكام بعدم جواز التلفيق، إن الأصل والقاعدة هو عدم جواز الحكم على الغائب فإذا لم يكن ممكنا إحضار الخصم أي إجباره على الحضور إلى المحاكمة فإن ذلك يستوجب ضياع حق المدعي فلزمت المحاكمة والحكم غيابيا دفعا للحرج والضرورات وصيانة للحقوق عن الضياع وقد أفتى خواهر زاده بجواز الحكم الغيابي على الخصم المتواري فقط] اهـ.

ويقول الشيخ محمد عبد العظيم المكي في "رسالة القول السديد" (ص: 113، ط. دار الدعوة، الكويت): [بعد مدة من استنباطي جواز التلفيق من مسألتي أبي يوسف وبعض علماء خوارزم ومسألة صحة الحكم على الغائب بصحة النكاح بعد وقوعه كما سبق في المسألة التي ذكروها واستئناسي بمقالة المحقق في التحرير وما على الإنسان أن يختار الأسهل في العمل، ثم وجدت شيخ الإسلام خاتمة الأئمة المتأخرين مولانا العلامة زين الدين ابن نجيم صرح في رسالة ألفها في بيع الوقف على وجه الاستبدال بأن: ما وقع في آخر التحرير من منع التلفيق فإنما عزاه إلى بعض المتأخرين وليس هذا المذهب. انتهى، فحمدت الله تبارك وتعالى على موافقة ما ادعيته لما نص عليه مولانا العلامة ابن نجيم] اهـ.

ويقول الشيخ محمد بخيت المطيعي في "حاشيته على شرح الإسنوي على منهاج البيضاوي" (4/ 630، ط. عالم الكتب): [مسألة التلفيق مبنية على مسألة إحداث قول ثالث، فهو إنما يمتنع إذا تحقق أن المجموع الذي عمل به مخالف لإجماع جميع المجتهدين بحيث لو وجد مجتهد لم يجز له أن يقول بهذا المجموع] اهـ.

- ومن المالكية: العلامة الدسوقي، قال في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/ 20، ط. دار إحياء الكتب العربية): [والذي سمعناه من شيخنا نقلًا عن شيخه الصغير وغيره أن الصحيح جوازه وهو فسحة. اهـ، وبالجملة ففي التلفيق في العبادة الواحدة من مذهبين طريقتان: المنع وهو طريقة المصاروة والجواز وهو طريقة المغاربة ورجحت] اهـ.

وفي "بلغة السالك" (1/ 19، ط. دار المعارف): [والذي قاله شيخنا الأمير عن شيخه العدوي عن شيخه الصغير وغيره: أن الصحيح جوازه، وهو فسحة، لكن لا ينبغي فعلها في النكاح؛ لأنه يحتاط في الفروج ما لا يحتاط في غيرها] اهـ.

وفي "الفواكه الدواني" (2/ 357، ط. دار الفكر): [قال القرافي نقلًا عن غير الزناتي: يجوز تقليد المذاهب والانتقال إليها في كل ما لا ينقض فيه قضاء القاضي لا ما ينقض فيه وهو أربعة مواضع: ما خالف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي، فلذا يجوز تقليد مالك في مثل أرواث الدواب، وترك الألفاظ في العقود] اهـ.

وفي "تهذيب الفروق والقواعد السنية" (2/ 34، ط. عالم الكتب): [وإذا قلد جاز له الأكل من الهدي بناء على جواز التلفيق في العبادة الواحدة من مذهبين؛ لأنه فسحة في الدين ودين الله يسر كما قال الشيخ علي العدوي في حاشية الخرشي] اهـ.

- ومن الشافعية: ما جاء في "فتح المعين" عن المحقق ابن زياد والبلقيني (4/ 359، ط. دار الكتب العلمية): [قال شيخنا المحقق ابن زياد رحمه الله تعالى في "فتاويه": إن الذي فهمناه من أمثلتهم أن التركيب القادح إنما يمتنع إذا كان في قضية واحدة، فمن أمثلتهم إذا توضأ ولمس تقليدا لأبي حنيفة وافتصد تقليدا للشافعي ثم صلى فصلاته باطلة لاتفاق الإمامين على بطلان ذلك، وكذلك إذا توضأ ومس بلا شهوة تقليدا للإمام مالك ولم يدلك تقليدا للشافعي ثم صلى فصلاته باطلة لاتفاق الإمامين على بطلان طهارته، بخلاف ما إذا كان التركيب من قضيتين، فالذي يظهر أن ذلك غير قادح في التقليد، كما إذا توضأ ومسح بعض رأسه ثم صلى إلى الجهة تقليدا لأبي حنيفة فالذي يظهر صحة صلاته؛ لأن الإمامين لم يتفقا على بطلان طهارته، فإن الخلاف فيها بحاله، لا يقال اتفقا على بطلان صلاته؛ لأنا نقول هذا الاتفاق ينشأ من التركيب في قضيتين. والذي فهمناه أنه غير قادح في التقليد ومثله ما إذا قلد الإمام أحمد في أن العورة السوءتان وكان ترك المضمضة والاستنشاق أو التسمية الذي يقول الإمام أحمد بوجوب ذلك، فالذي يظهر صحة صلاته إذا قلده في قدر العورة؛ لأنهما لم يتفقا على بطلان طهارته التي هي قضية واحدة، ولا يقدح في ذلك اتفاقهما على بطلان صلاته فإنه تركيب من قضيتين وهو غير قادح في التقليد كما يفهمه تمثيلهم. وقد رأيت في فتاوى البلقيني ما يقتضي أن التركيب بين القضيتين غير قادح. انتهى ملخصًا] اهـ.

- ومن الحنابلة: الشيخ مرعي الكرمي؛ فقد جاء في "مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى" (1/ 390، ط. المكتب الإسلامي) قال: [تتمة: قال المصنف –وهو الشيخ مرعي الكرمي- في تعليقة له: اعلم أنه قد ذهب كثير من العلماء إلى منع جواز التقليد، حيث أدى إلى التلفيق من كل مذهب؛ لأنه حينئذ كل من المذهبين أو المذاهب يرى البطلان، كمن توضأ مثلا ومسح شعرة من رأسه مقلدا للشافعي، ثم لمس ذكره بيده مقلدا لأبي حنيفة، فلا يصح التقليد حينئذ. وكذا لو مسح شعرة، وترك القراءة خلف الإمام مقلدا للأئمة الثلاثة، أو افتصد مخالفا للأئمة الثلاثة، ولم يقرأ مقلدا لهم، وهذا وإن كان ظاهرا من حيث العقل، والتعليل فيه واضح، لكنه فيه حرج ومشقة خصوصا على العوام، الذي نص العلماء على أنه ليس لهم مذهب معين. وقد قال غير واحد: لا يلزم العامي أن يتمذهب بمذهب معين، كما لم يلزم في عصر أوائل الأمة. والذي أذهب إليه وأختاره: القول بجواز التقليد في التلفيق، لا بقصد تتبع ذلك ؛ لأن من تتبع الرخص فسق، بل حيث وقع ذلك اتفاقا، خصوصا من العوام الذين لا يسعهم غير ذلك. فلو توضأ شخص، ومسح جزءا من رأسه مقلدا للشافعي، فوضوءه صحيح بلا ريب. فلو لمس ذكره بعد ذلك مقلدًا لأبي حنيفة، جاز ذلك ؛ لأن وضوء هذا المقلد صحيح، ولمس الفرج غير ناقض عند أبي حنيفة، فإذا قلده في عدم نقض ما هو صحيح عند الشافعي، استمر الوضوء على حاله بتقليده لأبي حنيفة، وهذا هو فائدة التقليد. وحينئذ فلا يقال: الشافعي يرى بطلان هذا الوضوء بسبب مس الفرج، والحنفي يرى البطلان لعدم مسح ربع الرأس فأكثر؛ لأنهما قضيتان منفصلتان؛ لأن الوضوء قد تم صحيحا بتقليد الشافعي، ويستمر صحيحا بعد اللمس بتقليد الحنفي، فالتقليد لأبي حنيفة إنما هو في استمرار الصحة لا في ابتدائها، وأبو حنيفة ممن يقول بصحة وضوء هذا المقلد قطعا، فقد قلد أبا حنيفة فيما هو حاكم بصحته] اهـ.

وبناءً على ما سبق: فإن التلفيق بين مذاهب الفقهاء وآراء المجتهدين يكون جائزًا إذا توفرت فيه الشروط التي سبق ذكرها، فيجوز للمفتي التلفيق في الفتوى بحسب ما يراه محقِّقًا لمقاصد التشريع وملبِّيًا لحاجات المكلفين، ويجوز حينئذ للمستفتي العمل بالحكم الملفق إذا اطمأن إليه قلبه وغلب على ظنه رجحانه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

كلمة "التلفيق" تأتي في اللغة لعدة معان؛ منها:
- الضم بين الأشياء والملائمة بينها لتكون شيئًا واحدًا، يقال: لفق الثوب يلفقه لفقًا -من باب ضرب- وذلك بأن يضم شقة إلى أخرى فيخيطها.
- ويقال: تلافق القوم، أي تلاءمت أمورهم. راجع: "المصباح المنير" للإمام الفيومي مادة: (ل ف ق)، و"تاج العروس" للإمام الزبيدي مادة: (ل ف ق).

أما "التلفيق" عند علماء أصول الفقه، فهو من المصطلحات التي ظهرت لدى المتأخرين بعد أن استقرت المذاهب الفقهية وانتشرت وشاع تقليدها في الأقطار والأمصار، لكن الذي ظهر عند المتقدمين ويشبه التلفيق هو مصطلح "تتبع الرخص" أي البحث عن أيسر الآراء الفقهية في كل مذهب والأخذ بها لمجرد التشهي والتخفف من تحمل التكاليف الشرعية، وذلك مع تغافل المتتبع للرخص عن مآل الأمر ومدى موافقته لمقاصد التشريع وتحقيقه لها من عدمه.

ووجه التشابه بين "تتبع الرخص" وبين "التلفيق" هو أن كليهما فيه تقليد وانتقاء لبعض الأمور الفقهية من عدة مذاهب مختلفة، أما وجه المفارقة بين الأمرين فهو أن تتبع الرخص يكون في مسائل متفرقة لا تتركب منها هيئة واحدة أو عبادة واحدة؛ كمن أخذ برخصة للحنفية في الوضوء ورخصة للشافعية في الطلاق ورخصة للمالكية في البيوع؛ لما في هذه الرخص من تيسير؛ أما التلفيق فيكون في الأجزاء التي تتركب منها مسألة واحدة مما ينتج عنه حكم واحد لم يقل به مجتهد، وذلك كمن قلد الحنفية في جواز ترك الترتيب بين أفعال الوضوء، وقلد الشافعية في جواز الاقتصار على مسح أقل من ربع الرأس، فرغم أن الترتيب مسألة ومسح الرأس مسألة لكن كلاهما تعتبر جزءًا يتركب منه مسألة كبيرة أو قضية مستقلة وهي: هل الوضوء بهذه الكيفية الملفقة صحيح يعتد به في رفع الحدث أم لا؟

والتعريف الاصطلاحي المختار هو: أن التلفيق عبارة عن: الجمع بين المذاهب الفقهية المختلفة في أجزاء الحكم الواحد بكيفية لم يقل بها أيٌّ من تلك المذاهب. راجع: "التلفيق وحكمه في الفقه الإسلامي" للدكتور عبد الله بن محمد بن حسن السعيدي (ص: 12، بدون طبعة)، و"عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق" لمحمد سعيد الباني (ص: 91، ط. المكتب الإسلامي، دمشق).

وجاء في "الموسوعة الفقهية" (13/ 293، مصطلح: تلفيق): [المراد بالتلفيق بين المذاهب أخذ صحة الفعل من مذهبين معًا بعد الحكم ببطلانه على كل واحد منهما] اهـ.

ومن هنا يتبين أن حقيقة التلفيق تؤول إلى أخذ المقلد بأكثر من مذهب فقهي في نفس الوقت وفي نفس القضية بحيث يحصل من هذا المزج هيئة مركبة لم يقل بمجموعها أحد ممن قلَّدهم، وإنما قال بعضهم ببعض أجزائها وقال غيرهم ببعض آخر.

وقد ذهب بعض من كتب في مسألة التلفيق إلى أن التلفيق يصدق على تقليد عدة مذاهب في مسائل مستقلة لا تجتمع منها هيئة واحدة، كالأخذ بمذهب المالكية في أحكام العبادات مثلًا والأخذ بمذهب الحنابلة في المعاملات، لكن الصواب أن تقليد أكثر من مذهب في مسائل مستقلة لا يسمى تلفيقًا؛ لأن الراجح أن العوام لا يجب عليهم الالتزام بمذهب معين في جميع المسائل، بل مذهب العامي هو مذهب مفتيه، ولا يلزمه الاقتصار على مفت واحد بل يجوز له استفتاء أكثر من مفت سواء كان المفتي مالكيًا أو شافعيًا أو غير ذلك، ثم للمستفتي حينئذ الأخذ بما يطمئن إليه قلبه عند اختلاف المفتين، كما جرى عليه العمل في عصر الصحابة الكرام دون نكير، ولو ألزم العامي نفسه بمذهب أحد المجتهدين ثم قلد غيره في مسألة أو باب معين دون أن ينتج عن ذلك حصول صورة مركبة لم يقل بها أحد، لا يسمى هذا تلفيقًا بل يقال انتقل من مذهبه إلى مذهب آخر في بعض المسائل، أما لو حصلت صورة مركبة لم يقل بصحتها أحد ممن قلدهم، فهذا هو التلفيق، وذلك كما لو جمع بين تقليد الشافعية في باب الوضوء واقتصر على مسح بعض شعرات من الرأس، وبين تقليد الحنفية في صحة الصلاة بهذا الوضوء بدون الاطمئنان أو الخشوع في أفعالها، فقد جمع بين تقليد الشافعية في باب الوضوء وبين تقليد الحنفية في باب الصلاة، لكن نتج عن ذلك صورة مركبة لم يقل بصحتها أحد من هذين المذهبين، فالشافعية يقولون ببطلان هذه الصلاة؛ لعدم الطمأنينة، والحنفية يقولون ببطلانها؛ لعدم حصول الطهارة بمسح شعراتٍ أقل من ربع الرأس.

وينقسم التلفيق من حيث القصد وعدمه إلى:
- تلفيق حاصل بالقصد، كالواقع ممن تتبع المذاهب واستقراء الآراء ثم تعمد الجمع بينها والعمل بما تركب من مجموعها.
- وتلفيق حاصل دون قصد، كما يقع من العوام عند استفتائهم عدة مفتين من مذاهب مختلفة، ثم دمج كل ذلك في عمل واحد.

وينقسم من حيث الصورة التركيبية إلى:
- تلفيق بين حكمين في قضية واحدة، كمن جمع في صحة وضوئه بين تقليد الشافعية في عدم النقض بالخارج النجس من غير السبيلين، وتقليد الحنفية في عدم النقض بلمس المرأة، فهذا تركيب بين حكمين وردا في قضية واحدة وهي صحة الوضوء.
- وتلفيق بين أكثر من حكم في أكثر من قضية، كمن جمع في صحة صلاته بين تقليد الشافعية في مسح بعض شعرات من الرأس، وبين تقليد الحنفية في صحة الصلاة دون الطمأنينة، فهذا تركيب بين حكمين وردا في قضيتين هما الوضوء والصلاة.

وينقسم من حيث الوقت إلى:
- تلفيق قبل وقوع الفعل، وذلك بغرض الإقدام على الفعل.
- وتلفيق بعد وقوع الفعل، وذلك بغرض إيجاد المخرج لاستدراك خلل غير مقصود وتصحيح الفعل بعد وقوعه اجتنابًا للحرج والمشقة.
ولم يرد في حكم التلفيق نص صريح عن الفقهاء المتقدمين والأئمة المجتهدين أصحاب المذاهب الفقهية المتبوعة، وإنما ظهر الكلام حول هذا المصطلح لدى المتأخرين.

وقد اختلف المتأخرون في حكم التلفيق:
- فذهب أكثر الفقهاء المتأخرين إلى عدم جوازه مطلقًا.
- وذهب بعضهم إلى الجواز بشروط، وهو المختار، وسيأتي بيان الشروط.

دليل الرأي المختار:
أولًا: شُرع التقليد تخفيفًا على المكلفين، وفي اختلاف أئمة الاجتهاد رحمة للناس؛ قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، ولذلك لم يجب على المقلد التزام مذهب معين في جميع المسائل كما قال جمهور أهل العلم، بل يجوز له الأخذ في كل مسألة بأي مذهب شاء من مذاهب الأئمة المتبوعين إذا أفتاه به أحد المفتين، فهذا سعة ورخصة لمن لم يصل إلى درجة الاجتهاد، ولا فارق في ذلك بين الأخذ بأكثر من مذهب في مسائل متعددة –سواء كانت مرتبطة ببعضها أم لا- وبين الأخذ بأكثر من مذهب في أجزاء المسألة الواحدة وشروطها وضوابطها؛ فإن غالب الفقه مبني على الظن، وليس من المقطوع به أن رأي أحد المجتهدين هو الصواب الذي لا يحتمل الخطأ في جملته أو في تفصيله، بل يجوز في حق كل مجتهد أن يصيب في بعض أجزاء المسألة، ويجوز أن يخطئ في بعضها الآخر، ولا فارق في تلك الاحتمالية بين المسألة الواحدة والمسائل المتعددة، فالأخذ ببعض قول المجتهد في مسألة ما وببعض قول مجتهد آخر في نفس المسألة ليس خروجًا عن كلا المذهبين، وإنما هو كالجمع بين تقليدهما في أكثر من مسألة.

وبناء على هذا: فيجوز للمقلد التلفيق في المسألة الواحدة؛ سواء كانت في العبادات أم في المعاملات.

ثانيًا: يجوز للمفتي المقلد أن يخرج عن مذهب إمامه ويفتي بمذهب إمام آخر؛ وذلك نظرًا لتطورات العصور والمجتمعات واختلاف موازين المصالح والمفاسد باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال، فالجمود على رأي واحد حتى ولو صار غيره هو الملائم للواقع ليس من الفقه في شيء، ولذا فغالب الفقه -كما سبق- مبناه الظن كي تتعدد الآراء والاجتهادات ويكون في الأمر سعة ومرونة ورحمة بالناس؛ وإذ يجوز للمفتي المقلد الإفتاء بمذهب آخر غير مذهب إمامه تبعًا لمقاصد التشريع وتغير الأحوال، فإنه لا فارق بين أن يترك قول إمامه في كل المسألة ويفتي فيها بقول إمام آخر، وبين أن يترك قول إمامه في بعض شروط المسألة وضوابطها ويتبع في هذا إمامًا آخر.

ثالثًا: لم ينقل عن الصحابة الكرام أو التابعين -على كثرة مذاهبهم وتباينهم- أن أحدًا منهم قال لمن استفتاه: الواجب عليك أن تراعي أحكام مذهب من قلدته لئلا تلفق في عبادتك بين مذهبين أو أكثر، ولو كان التلفيق ممنوعًا لما أهملوا التحذير منه.

رابعًا: القول بعدم مشروعية التلفيق يؤدي للحكم بفساد عبادات العوام، فإنه من النادر أن تجد عاميًّا يلتزم بموافقة مذهب معين في جميع عباداته ومعاملاته، وإلزام العوام بذلك فيه من الحرج والمشقة ما لا يخفى، فقد عمت بلوى العوام بالحاجة للقول بصحة عباداتهم الملفقة التي لا تصح إذا قيست بمعيار وشروط مذهب واحد فقط.

خامسًا: القول بعدم مشروعية التلفيق يتنافى مع يسر الشريعة وشمولها، فقد يتجدد في المسألة أمر ما أو يترتب عليها أثر جديد، لذا فإن اجتهادات الفقهاء الأقدمين وانحصارها في عدد معين من الآراء لا تستلزم الجمود على أحد هذه الآراء بعينه، بل قد يكون الحل الأمثل أمام المفتي المقلد ليواجه مستجدات المسألة هو أن يأخذ بأكثر من مذهب ويضم من شروطهم وضوابطهم ما يجعل فتواه متوافقة مع مقاصد الشريعة وطبيعتها، وليس في هذا التلفيق إتيان بقول باطل عند كل مذهب نظرا لنقص بعض الشروط الخاصة بكل مذهب، فغاية ما هناك هو أن كل مجتهد من السابقين سيجد في المسألة الملفقة بعض شروطه ولا يجد بعضا آخر، لكن هذا لا يستلزم حكمه بالبطلان مطلقا، وإنما يستلزم البطلان في حق من قلده وحده ولم يجمع مع تقليده تقليد مجتهد آخر، ولذلك فالإمام الشافعي –مثلًا- يشترط وجود الشهود ليصح عقد النكاح خلافًا للإمام مالك، وفي الوقت ذاته لم يقل الشافعي بأن من قلد مالكًا في النكاح بلا شهود فنكاحه باطل، وكذلك لم يقل الإمام مالك ببطلان نكاح من قلد الإمام الشافعي في عدم اشتراط الصداق.

سادسًا: أن أقوال المجتهدين بالنسبة للمقلد تكون بمنزلة نصوص الشريعة وأدلتها بالنسبة للمجتهد، ومن هنا يتشابه التلفيق بين آراء المجتهدين مع التوفيق بين أدلة الأحكام المتعارضة، وإذا كان رأي المجتهد يحتمل الخطأ والصواب فلعل الجمع بين أكثر من رأي يكون أقرب إلى الصواب.

وهناك عدة شروط إذا فقدت امتنع العمل بالتلفيق وهي كالآتي:
الشرط الأول: أن تكون هناك حاجة داعية إلى العمل بالتلفيق، فلا يجوز لمجرد العبث أو الهوى أو التهرب من التكليفات الشرعية أو محبة الظهور وادعاء التجديد الفقهي؛ لما في ذلك من الاستخفاف بما قدمه فقهاؤنا العظام من آراء واجتهادات مثلت على مر القرون ثروة علمية وحرية فكرية بناءة تعد مفخرة للأمة الإسلامية.

الشرط الثاني: ألَّا يترتب على التلفيق تركيب حكم يخالف الإجماع أو يخالف نصًّا قاطعًا في دلالته.
الشرط الثالث: ألَّا يترتب على التلفيق ما يتعارض مع مقاصد الشريعة وطبيعتها، وذلك كمن لفق في عقد النكاح وتزوج بلا شهود مقلدًا لمالكٍ في عدم اشتراطهم، وبلا ولي للمرأة مقلدًا لأبي حنيفة، وبلا صداق مقلدا للشافعي، فهذا التلفيق يتعارض مع مقاصد الشريعة؛ لما يترتب عليه من مفاسد؛ كتعريض الزوج والزوجة للتهمة، وضياع حق المرأة، وتسهيل الزنا والتحايل بهذا التلفيق لدرء التهمة عن الزانيين.

الشرط الرابع: ألَّا يتخذ من التلفيق ذريعة لنقض حكم مستقر عمل فيه بمذهب أحد المجتهدين، وهذا قياسًا على قولهم "الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد" فمن باب أولى ألَّا ينقض بالتلفيق؛ لأنه تقليد، وذلك كمن قلَّد مذهب الحنفية في النكاح بلا وليٍّ ثم أوقع الطلقات الثلاث فبانت زوجته وحرم عليه نكاحها حتى تنكح زوجا غيره، لكنه أراد نكاحها مرة أخرى فقلَّد الشافعي في أن النكاح بلا ولي باطل، وبالتالي فلا يقع الطلاق في نكاح باطل فيحل له نكاحها، فهذا التلفيق بين المذهبين باطل متناقض، فكأن هذا الملفق يريد أن يقول: حينما تزوجتها بلا ولي لم يكن ذلك زنا تقليدا للإمام أبي حنيفة، ولم يكن نكاحًا صحيحًا تقليدًا للإمام الشافعي، فما وقع من طلقات لا اعتبار بها؛ لأنها لم ترد على نكاح صحيح عند الشافعي، لكن هذا التلفيق باطل لأن الشافعي وإن اشترط الولي إلا أنه لا يقول ببطلان نكاح من قلد أبا حنيفة ولا يقول بعدم وقوع طلاقه؛ لأن "الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد".

الشرط الخامس:
ألَّا يؤدي العمل بالتلفيق إلى نقض أحكام القضاء؛ لأن حكم القاضي يرفع الخلاف درءًا للفوضى، ولو عمل بالتلفيق على خلافه لأدى ذلك إلى اضطراب القضاء وعدم استقرار الأحكام القضائية.

الشرط السادس: أن يعتقد رجحان ذلك القول الملفق، فيقدِّر أنه لو وجد أحد الأئمة المجتهدين واطلع على المسألة بمتغيراتها الجديدة أو الخاصة بهذا الشخص المقلد لم يكن من البعيد أن يوافق مذهبه ما توصل إليه بالتلفيق، بل لا بد أن يكون هذا هو غالب ظن المقلد؛ لأن أقوال المجتهد بالنسبة له كنصوص الشارع بالنسبة للمجتهد، فيكون عمله بالتلفيق حينئذ لوجود دليل راجح بغالب الظن.

وقد صرح كثير من أهل العلم بجواز التلفيق:
- فمن الحنفية: العلامة الأمير بادشاه وقد ناقش في "شرحه على التحرير" ما قاله الإمام القرافي لجواز تقليد العامي لمجتهد آخر غير إمامه بألَّا يترتب عليه ما يمنعانه، كمن قلَّد الإمام الشافعي في عدم فرضية الدلك وقلَّد الإمام مالكًا في عدم نقض اللمس بلا شهوة ثم صلى بهذا الوضوء، فصلاته باطلة بحسب ما اشترطه الإمام القرافي، لكن قال العلامة أمير بادشاه في تعليقه على ذلك: [واعترض عليه بأن بطلان الصورة المذكورة عندهما غير مسلم فإن مالكا مثلا لم يقل أن من قلد الشافعي في عدم الصداق أن نكاحه باطل، ولم يقل الشافعي أن من قلد مالكًا في عدم الشهود أن نكاحه باطل انتهى. وأورد عليه أن عدم قولهما بالبطلان في حق من قلد أحدهما وراعى مذهبه في جميع ما يتوقف عليه صحة العمل وما نحن فيه من قلدهما وخالف كلا منهما في شيء، وعدم القول بالبطلان في ذلك لا يستلزم عدم القول به في هذا، وقد يجاب عنه: بأن الفارق بينهما ليس إلا أن كل واحد من المجتهدين لا يجد في صورة التلفيق جميع ما شرط في صحتها بل يجد في بعضها دون بعض، وهذا الفارق لا نسلم أن يكون موجبًا للحكم بالبطلان وكيف نسلم والمخالفة في بعض الشروط أهون من المخالفة في الجميع فيلزم الحكم بالصحة في الأهون بالطريق الأولى ومن يدعي وجود فارق أو وجود دليل آخر على بطلان صورة التلفيق على خلاف الصورة الأولى فعليه بالبرهان، فإن قلت لا نسلم كون المخالفة في البعض أهون من المخالفة في الكل؛ لأن المخالفة في الكل تتبع مجتهدًا واحدًا في جميع ما يتوقف عليه صحة العمل وها هنا لم يتبع واحدًا، قلت: هذا إنما يتم لك إذا كان معك دليل من نص أو إجماع أو قياس قوي يدل على أن العمل إذا كان له شروط يجب على المقلد اتباع مجتهد واحد في جميع ما يتوقف عليه ذلك فأتِ به إن كنت من الصادقين. والله تعالى أعلم] اهـ. "تيسير التحرير" (4/ 371، ط. دار الفكر).

- ومن الحنفية أيضًا: الإمام الطرسوسي، وشيخ الإسلام أبو السعود؛ قال العلامة ابن عابدين في "العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية" (1/ 109، ط. دار المعرفة): [وفي فتاوى الشلبي وقف البناء بدون الأرض صحيح والحكم به صحيح لكن في وقفه على نفسه إشكال من جهة أن الوقف على النفس أجازه أبو يوسف ومنعه محمد، ووقف البناء بدون الأرض من قبيل وقف المنقول ولا يقول به أبو يوسف بل محمد فيكون الحكم به مركبا من مذهبين، وهو لا يجوز، لكن الطرسوسي ذكر أن في منية المفتي ما يفيد جواز الحكم المركب من مذهبين، وعلى هذا يتخرج الحكم بوقف البناء على نفسه في مصر في أوقات كثيرة، على هذا النمط حكم بها القضاة السابقون ولعلهم بنوه على ما ذكرنا من جواز الحكم المركب من مذهبين أو على أن الأرض لما كانت متقررة للاحتكار نزلت منزلة ما لو وقف البناء مع الأرض من جهة أن الأرض بيد أرباب البناء يتصرفون فيها بما شاءوا من هدم وبناء وتغيير لا يتعرض أحد لهم فيها ولا يزعجهم عنها وإنما عليهم غلة تؤخذ منهم كما أفاده الخصاف هذا ما تحرر لي من الجواب. والله تعالى أعلم بالصواب] اهـ.

وفي موضع آخر من الوقف من فتاوى العلامة الشلبي المذكور ما نصه: [فإذا كان وقف الدراهم لم يرو إلا عن زفر ولم يرو عنه في وقف النفس شيء فلا يتأتى وقفها على النفس حينئذ على قوله، لكن لو فرضنا أن حاكمًا حنفيًا حكم بصحة وقف الدراهم على النفس، هل ينفذ حكمه؟ فنقول النفاذ مبني على القول بصحة الحكم الملفق، وبيان التلفيق أن الوقف على النفس لا يقول به إلا أبو يوسف وهو لا يرى وقف الدراهم، ووقف الدراهم لا يقول به إلا زفر وهو لا يرى الوقف على النفس، فكان الحكم بجواز وقف الدراهم على النفس حكما ملفقا من قولين كما ترى وقد مشى شيخ مشايخنا العلامة زين الدين قاسم في ديباجة تصحيح القدوري على عدم نفاذه ونقل فيها عن كتاب توفيق الحكام في غوامض الأحكام: أن الحكم الملفق باطل بإجماع المسلمين، ومشى الطرسوسي في كتابه أنفع الوسائل على النفاذ مستندا في ذلك لما رآه في منية المفتي، فلينظره من أراده. اهـ. أقول: ورأيت بخط شيخ مشايخنا منلا علي التركماني في مجموعته الكبيرة ناقلا عن خط الشيخ إبراهيم السؤالاتي بعد هذه المسألة المنقولة عن فتاوى الشلبي ما نصه: أقول وبالجواز أفتى شيخ الإسلام أبو السعود في فتاواه وأن الحكم ينفذ وعليه العمل. والله تعالى الموفق. اهـ ما رأيته بخطه عن الشيخ إبراهيم المذكور. وأقول أيضًا: قد يوجه ذلك بأنه ليس من الحكم الملفق الذي نقل العلامة قاسم أنه باطل بالإجماع؛ لأن المراد بما جزم ببطلانه ما إذا كان من مذاهب متباينة كما إذا حكم بصحة نكاح بلا ولي بناء على مذهب أبي حنيفة وبلا شهود بناء على مذهب مالك، بخلاف ما إذا كان ملفقا من أقوال أصحاب المذهب الواحد فإنها لا تخرج عن المذهب فإن أقوال أبي يوسف ومحمد وغيرهما مبنية على قواعد أبي حنيفة أو هي أقوال مروية عنه وإنما نسبت إليهم لا إليه لاستنباطهم لها من قواعده أو لاختيارهم إياها كما أوضحت ذلك في صدر حاشيتي على الدر المختار بما لا مزيد عليه فارجع إليه ويؤيد ما مر عن الشلبي من حكم القضاة الماضين بذلك وكذا ما في الدرر من كتاب القضاء عند قوله: القضاء في مجتهد فيه بخلاف رأيه ناسيا مذهبه نافذ عند أبي حنيفة ولو عامدا، ففيه روايتان حيث قال ما نصه: والمراد بخلاف الرأي خلاف أصل المذهب كالحنفي إذا حكم على مذهب الشافعي أو نحوه أو بالعكس. وأما إذا حكم الحنفي بما ذهب إليه أبو يوسف أو محمد أو نحوهما من أصحاب الإمام فليس حكما بخلاف رأيه. اهـ. فتأمل] اهـ.

وقال علي حيدر في "درر الحكام شرح مجلة الأحكام" (4/ 674، ط. دار الجيل، الطبعة الأولى): [وفي هذه الحالة قد أصبح تلفيق في هذه الأحكام الغيابية يعني أن إصدار الحكم الغيابي على الخصم غير المتواري هو على مذهب الإمام الشافعي، وإصدار الحكم بلا يمين هو على مذهب الإمام الحنفي، وبذلك يرد سؤال على هذه الأحكام بعدم جواز التلفيق، إن الأصل والقاعدة هو عدم جواز الحكم على الغائب فإذا لم يكن ممكنا إحضار الخصم أي إجباره على الحضور إلى المحاكمة فإن ذلك يستوجب ضياع حق المدعي فلزمت المحاكمة والحكم غيابيا دفعا للحرج والضرورات وصيانة للحقوق عن الضياع وقد أفتى خواهر زاده بجواز الحكم الغيابي على الخصم المتواري فقط] اهـ.

ويقول الشيخ محمد عبد العظيم المكي في "رسالة القول السديد" (ص: 113، ط. دار الدعوة، الكويت): [بعد مدة من استنباطي جواز التلفيق من مسألتي أبي يوسف وبعض علماء خوارزم ومسألة صحة الحكم على الغائب بصحة النكاح بعد وقوعه كما سبق في المسألة التي ذكروها واستئناسي بمقالة المحقق في التحرير وما على الإنسان أن يختار الأسهل في العمل، ثم وجدت شيخ الإسلام خاتمة الأئمة المتأخرين مولانا العلامة زين الدين ابن نجيم صرح في رسالة ألفها في بيع الوقف على وجه الاستبدال بأن: ما وقع في آخر التحرير من منع التلفيق فإنما عزاه إلى بعض المتأخرين وليس هذا المذهب. انتهى، فحمدت الله تبارك وتعالى على موافقة ما ادعيته لما نص عليه مولانا العلامة ابن نجيم] اهـ.

ويقول الشيخ محمد بخيت المطيعي في "حاشيته على شرح الإسنوي على منهاج البيضاوي" (4/ 630، ط. عالم الكتب): [مسألة التلفيق مبنية على مسألة إحداث قول ثالث، فهو إنما يمتنع إذا تحقق أن المجموع الذي عمل به مخالف لإجماع جميع المجتهدين بحيث لو وجد مجتهد لم يجز له أن يقول بهذا المجموع] اهـ.

- ومن المالكية: العلامة الدسوقي، قال في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/ 20، ط. دار إحياء الكتب العربية): [والذي سمعناه من شيخنا نقلًا عن شيخه الصغير وغيره أن الصحيح جوازه وهو فسحة. اهـ، وبالجملة ففي التلفيق في العبادة الواحدة من مذهبين طريقتان: المنع وهو طريقة المصاروة والجواز وهو طريقة المغاربة ورجحت] اهـ.

وفي "بلغة السالك" (1/ 19، ط. دار المعارف): [والذي قاله شيخنا الأمير عن شيخه العدوي عن شيخه الصغير وغيره: أن الصحيح جوازه، وهو فسحة، لكن لا ينبغي فعلها في النكاح؛ لأنه يحتاط في الفروج ما لا يحتاط في غيرها] اهـ.

وفي "الفواكه الدواني" (2/ 357، ط. دار الفكر): [قال القرافي نقلًا عن غير الزناتي: يجوز تقليد المذاهب والانتقال إليها في كل ما لا ينقض فيه قضاء القاضي لا ما ينقض فيه وهو أربعة مواضع: ما خالف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي، فلذا يجوز تقليد مالك في مثل أرواث الدواب، وترك الألفاظ في العقود] اهـ.

وفي "تهذيب الفروق والقواعد السنية" (2/ 34، ط. عالم الكتب): [وإذا قلد جاز له الأكل من الهدي بناء على جواز التلفيق في العبادة الواحدة من مذهبين؛ لأنه فسحة في الدين ودين الله يسر كما قال الشيخ علي العدوي في حاشية الخرشي] اهـ.

- ومن الشافعية: ما جاء في "فتح المعين" عن المحقق ابن زياد والبلقيني (4/ 359، ط. دار الكتب العلمية): [قال شيخنا المحقق ابن زياد رحمه الله تعالى في "فتاويه": إن الذي فهمناه من أمثلتهم أن التركيب القادح إنما يمتنع إذا كان في قضية واحدة، فمن أمثلتهم إذا توضأ ولمس تقليدا لأبي حنيفة وافتصد تقليدا للشافعي ثم صلى فصلاته باطلة لاتفاق الإمامين على بطلان ذلك، وكذلك إذا توضأ ومس بلا شهوة تقليدا للإمام مالك ولم يدلك تقليدا للشافعي ثم صلى فصلاته باطلة لاتفاق الإمامين على بطلان طهارته، بخلاف ما إذا كان التركيب من قضيتين، فالذي يظهر أن ذلك غير قادح في التقليد، كما إذا توضأ ومسح بعض رأسه ثم صلى إلى الجهة تقليدا لأبي حنيفة فالذي يظهر صحة صلاته؛ لأن الإمامين لم يتفقا على بطلان طهارته، فإن الخلاف فيها بحاله، لا يقال اتفقا على بطلان صلاته؛ لأنا نقول هذا الاتفاق ينشأ من التركيب في قضيتين. والذي فهمناه أنه غير قادح في التقليد ومثله ما إذا قلد الإمام أحمد في أن العورة السوءتان وكان ترك المضمضة والاستنشاق أو التسمية الذي يقول الإمام أحمد بوجوب ذلك، فالذي يظهر صحة صلاته إذا قلده في قدر العورة؛ لأنهما لم يتفقا على بطلان طهارته التي هي قضية واحدة، ولا يقدح في ذلك اتفاقهما على بطلان صلاته فإنه تركيب من قضيتين وهو غير قادح في التقليد كما يفهمه تمثيلهم. وقد رأيت في فتاوى البلقيني ما يقتضي أن التركيب بين القضيتين غير قادح. انتهى ملخصًا] اهـ.

- ومن الحنابلة: الشيخ مرعي الكرمي؛ فقد جاء في "مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى" (1/ 390، ط. المكتب الإسلامي) قال: [تتمة: قال المصنف –وهو الشيخ مرعي الكرمي- في تعليقة له: اعلم أنه قد ذهب كثير من العلماء إلى منع جواز التقليد، حيث أدى إلى التلفيق من كل مذهب؛ لأنه حينئذ كل من المذهبين أو المذاهب يرى البطلان، كمن توضأ مثلا ومسح شعرة من رأسه مقلدا للشافعي، ثم لمس ذكره بيده مقلدا لأبي حنيفة، فلا يصح التقليد حينئذ. وكذا لو مسح شعرة، وترك القراءة خلف الإمام مقلدا للأئمة الثلاثة، أو افتصد مخالفا للأئمة الثلاثة، ولم يقرأ مقلدا لهم، وهذا وإن كان ظاهرا من حيث العقل، والتعليل فيه واضح، لكنه فيه حرج ومشقة خصوصا على العوام، الذي نص العلماء على أنه ليس لهم مذهب معين. وقد قال غير واحد: لا يلزم العامي أن يتمذهب بمذهب معين، كما لم يلزم في عصر أوائل الأمة. والذي أذهب إليه وأختاره: القول بجواز التقليد في التلفيق، لا بقصد تتبع ذلك ؛ لأن من تتبع الرخص فسق، بل حيث وقع ذلك اتفاقا، خصوصا من العوام الذين لا يسعهم غير ذلك. فلو توضأ شخص، ومسح جزءا من رأسه مقلدا للشافعي، فوضوءه صحيح بلا ريب. فلو لمس ذكره بعد ذلك مقلدًا لأبي حنيفة، جاز ذلك ؛ لأن وضوء هذا المقلد صحيح، ولمس الفرج غير ناقض عند أبي حنيفة، فإذا قلده في عدم نقض ما هو صحيح عند الشافعي، استمر الوضوء على حاله بتقليده لأبي حنيفة، وهذا هو فائدة التقليد. وحينئذ فلا يقال: الشافعي يرى بطلان هذا الوضوء بسبب مس الفرج، والحنفي يرى البطلان لعدم مسح ربع الرأس فأكثر؛ لأنهما قضيتان منفصلتان؛ لأن الوضوء قد تم صحيحا بتقليد الشافعي، ويستمر صحيحا بعد اللمس بتقليد الحنفي، فالتقليد لأبي حنيفة إنما هو في استمرار الصحة لا في ابتدائها، وأبو حنيفة ممن يقول بصحة وضوء هذا المقلد قطعا، فقد قلد أبا حنيفة فيما هو حاكم بصحته] اهـ.

وبناءً على ما سبق: فإن التلفيق بين مذاهب الفقهاء وآراء المجتهدين يكون جائزًا إذا توفرت فيه الشروط التي سبق ذكرها، فيجوز للمفتي التلفيق في الفتوى بحسب ما يراه محقِّقًا لمقاصد التشريع وملبِّيًا لحاجات المكلفين، ويجوز حينئذ للمستفتي العمل بالحكم الملفق إذا اطمأن إليه قلبه وغلب على ظنه رجحانه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

التلفيق بين المذاهب الفقهية

سمعنا أنه لا يجوز التلفيق بين المذاهب الفقهية، فما المقصود بالتلفيق؟ وما حكم العمل به؟

كلمة "التلفيق" تأتي في اللغة لعدة معان؛ منها:
- الضم بين الأشياء والملائمة بينها لتكون شيئًا واحدًا، يقال: لفق الثوب يلفقه لفقًا -من باب ضرب- وذلك بأن يضم شقة إلى أخرى فيخيطها.
- ويقال: تلافق القوم، أي تلاءمت أمورهم. راجع: "المصباح المنير" للإمام الفيومي مادة: (ل ف ق)، و"تاج العروس" للإمام الزبيدي مادة: (ل ف ق).

أما "التلفيق" عند علماء أصول الفقه، فهو من المصطلحات التي ظهرت لدى المتأخرين بعد أن استقرت المذاهب الفقهية وانتشرت وشاع تقليدها في الأقطار والأمصار، لكن الذي ظهر عند المتقدمين ويشبه التلفيق هو مصطلح "تتبع الرخص" أي البحث عن أيسر الآراء الفقهية في كل مذهب والأخذ بها لمجرد التشهي والتخفف من تحمل التكاليف الشرعية، وذلك مع تغافل المتتبع للرخص عن مآل الأمر ومدى موافقته لمقاصد التشريع وتحقيقه لها من عدمه.

ووجه التشابه بين "تتبع الرخص" وبين "التلفيق" هو أن كليهما فيه تقليد وانتقاء لبعض الأمور الفقهية من عدة مذاهب مختلفة، أما وجه المفارقة بين الأمرين فهو أن تتبع الرخص يكون في مسائل متفرقة لا تتركب منها هيئة واحدة أو عبادة واحدة؛ كمن أخذ برخصة للحنفية في الوضوء ورخصة للشافعية في الطلاق ورخصة للمالكية في البيوع؛ لما في هذه الرخص من تيسير؛ أما التلفيق فيكون في الأجزاء التي تتركب منها مسألة واحدة مما ينتج عنه حكم واحد لم يقل به مجتهد، وذلك كمن قلد الحنفية في جواز ترك الترتيب بين أفعال الوضوء، وقلد الشافعية في جواز الاقتصار على مسح أقل من ربع الرأس، فرغم أن الترتيب مسألة ومسح الرأس مسألة لكن كلاهما تعتبر جزءًا يتركب منه مسألة كبيرة أو قضية مستقلة وهي: هل الوضوء بهذه الكيفية الملفقة صحيح يعتد به في رفع الحدث أم لا؟

والتعريف الاصطلاحي المختار هو: أن التلفيق عبارة عن: الجمع بين المذاهب الفقهية المختلفة في أجزاء الحكم الواحد بكيفية لم يقل بها أيٌّ من تلك المذاهب. راجع: "التلفيق وحكمه في الفقه الإسلامي" للدكتور عبد الله بن محمد بن حسن السعيدي (ص: 12، بدون طبعة)، و"عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق" لمحمد سعيد الباني (ص: 91، ط. المكتب الإسلامي، دمشق).

وجاء في "الموسوعة الفقهية" (13/ 293، مصطلح: تلفيق): [المراد بالتلفيق بين المذاهب أخذ صحة الفعل من مذهبين معًا بعد الحكم ببطلانه على كل واحد منهما] اهـ.

ومن هنا يتبين أن حقيقة التلفيق تؤول إلى أخذ المقلد بأكثر من مذهب فقهي في نفس الوقت وفي نفس القضية بحيث يحصل من هذا المزج هيئة مركبة لم يقل بمجموعها أحد ممن قلَّدهم، وإنما قال بعضهم ببعض أجزائها وقال غيرهم ببعض آخر.

وقد ذهب بعض من كتب في مسألة التلفيق إلى أن التلفيق يصدق على تقليد عدة مذاهب في مسائل مستقلة لا تجتمع منها هيئة واحدة، كالأخذ بمذهب المالكية في أحكام العبادات مثلًا والأخذ بمذهب الحنابلة في المعاملات، لكن الصواب أن تقليد أكثر من مذهب في مسائل مستقلة لا يسمى تلفيقًا؛ لأن الراجح أن العوام لا يجب عليهم الالتزام بمذهب معين في جميع المسائل، بل مذهب العامي هو مذهب مفتيه، ولا يلزمه الاقتصار على مفت واحد بل يجوز له استفتاء أكثر من مفت سواء كان المفتي مالكيًا أو شافعيًا أو غير ذلك، ثم للمستفتي حينئذ الأخذ بما يطمئن إليه قلبه عند اختلاف المفتين، كما جرى عليه العمل في عصر الصحابة الكرام دون نكير، ولو ألزم العامي نفسه بمذهب أحد المجتهدين ثم قلد غيره في مسألة أو باب معين دون أن ينتج عن ذلك حصول صورة مركبة لم يقل بها أحد، لا يسمى هذا تلفيقًا بل يقال انتقل من مذهبه إلى مذهب آخر في بعض المسائل، أما لو حصلت صورة مركبة لم يقل بصحتها أحد ممن قلدهم، فهذا هو التلفيق، وذلك كما لو جمع بين تقليد الشافعية في باب الوضوء واقتصر على مسح بعض شعرات من الرأس، وبين تقليد الحنفية في صحة الصلاة بهذا الوضوء بدون الاطمئنان أو الخشوع في أفعالها، فقد جمع بين تقليد الشافعية في باب الوضوء وبين تقليد الحنفية في باب الصلاة، لكن نتج عن ذلك صورة مركبة لم يقل بصحتها أحد من هذين المذهبين، فالشافعية يقولون ببطلان هذه الصلاة؛ لعدم الطمأنينة، والحنفية يقولون ببطلانها؛ لعدم حصول الطهارة بمسح شعراتٍ أقل من ربع الرأس.

وينقسم التلفيق من حيث القصد وعدمه إلى:
- تلفيق حاصل بالقصد، كالواقع ممن تتبع المذاهب واستقراء الآراء ثم تعمد الجمع بينها والعمل بما تركب من مجموعها.
- وتلفيق حاصل دون قصد، كما يقع من العوام عند استفتائهم عدة مفتين من مذاهب مختلفة، ثم دمج كل ذلك في عمل واحد.

وينقسم من حيث الصورة التركيبية إلى:
- تلفيق بين حكمين في قضية واحدة، كمن جمع في صحة وضوئه بين تقليد الشافعية في عدم النقض بالخارج النجس من غير السبيلين، وتقليد الحنفية في عدم النقض بلمس المرأة، فهذا تركيب بين حكمين وردا في قضية واحدة وهي صحة الوضوء.
- وتلفيق بين أكثر من حكم في أكثر من قضية، كمن جمع في صحة صلاته بين تقليد الشافعية في مسح بعض شعرات من الرأس، وبين تقليد الحنفية في صحة الصلاة دون الطمأنينة، فهذا تركيب بين حكمين وردا في قضيتين هما الوضوء والصلاة.

وينقسم من حيث الوقت إلى:
- تلفيق قبل وقوع الفعل، وذلك بغرض الإقدام على الفعل.
- وتلفيق بعد وقوع الفعل، وذلك بغرض إيجاد المخرج لاستدراك خلل غير مقصود وتصحيح الفعل بعد وقوعه اجتنابًا للحرج والمشقة.
ولم يرد في حكم التلفيق نص صريح عن الفقهاء المتقدمين والأئمة المجتهدين أصحاب المذاهب الفقهية المتبوعة، وإنما ظهر الكلام حول هذا المصطلح لدى المتأخرين.

وقد اختلف المتأخرون في حكم التلفيق:
- فذهب أكثر الفقهاء المتأخرين إلى عدم جوازه مطلقًا.
- وذهب بعضهم إلى الجواز بشروط، وهو المختار، وسيأتي بيان الشروط.

دليل الرأي المختار:
أولًا: شُرع التقليد تخفيفًا على المكلفين، وفي اختلاف أئمة الاجتهاد رحمة للناس؛ قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، ولذلك لم يجب على المقلد التزام مذهب معين في جميع المسائل كما قال جمهور أهل العلم، بل يجوز له الأخذ في كل مسألة بأي مذهب شاء من مذاهب الأئمة المتبوعين إذا أفتاه به أحد المفتين، فهذا سعة ورخصة لمن لم يصل إلى درجة الاجتهاد، ولا فارق في ذلك بين الأخذ بأكثر من مذهب في مسائل متعددة –سواء كانت مرتبطة ببعضها أم لا- وبين الأخذ بأكثر من مذهب في أجزاء المسألة الواحدة وشروطها وضوابطها؛ فإن غالب الفقه مبني على الظن، وليس من المقطوع به أن رأي أحد المجتهدين هو الصواب الذي لا يحتمل الخطأ في جملته أو في تفصيله، بل يجوز في حق كل مجتهد أن يصيب في بعض أجزاء المسألة، ويجوز أن يخطئ في بعضها الآخر، ولا فارق في تلك الاحتمالية بين المسألة الواحدة والمسائل المتعددة، فالأخذ ببعض قول المجتهد في مسألة ما وببعض قول مجتهد آخر في نفس المسألة ليس خروجًا عن كلا المذهبين، وإنما هو كالجمع بين تقليدهما في أكثر من مسألة.

وبناء على هذا: فيجوز للمقلد التلفيق في المسألة الواحدة؛ سواء كانت في العبادات أم في المعاملات.

ثانيًا: يجوز للمفتي المقلد أن يخرج عن مذهب إمامه ويفتي بمذهب إمام آخر؛ وذلك نظرًا لتطورات العصور والمجتمعات واختلاف موازين المصالح والمفاسد باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال، فالجمود على رأي واحد حتى ولو صار غيره هو الملائم للواقع ليس من الفقه في شيء، ولذا فغالب الفقه -كما سبق- مبناه الظن كي تتعدد الآراء والاجتهادات ويكون في الأمر سعة ومرونة ورحمة بالناس؛ وإذ يجوز للمفتي المقلد الإفتاء بمذهب آخر غير مذهب إمامه تبعًا لمقاصد التشريع وتغير الأحوال، فإنه لا فارق بين أن يترك قول إمامه في كل المسألة ويفتي فيها بقول إمام آخر، وبين أن يترك قول إمامه في بعض شروط المسألة وضوابطها ويتبع في هذا إمامًا آخر.

ثالثًا: لم ينقل عن الصحابة الكرام أو التابعين -على كثرة مذاهبهم وتباينهم- أن أحدًا منهم قال لمن استفتاه: الواجب عليك أن تراعي أحكام مذهب من قلدته لئلا تلفق في عبادتك بين مذهبين أو أكثر، ولو كان التلفيق ممنوعًا لما أهملوا التحذير منه.

رابعًا: القول بعدم مشروعية التلفيق يؤدي للحكم بفساد عبادات العوام، فإنه من النادر أن تجد عاميًّا يلتزم بموافقة مذهب معين في جميع عباداته ومعاملاته، وإلزام العوام بذلك فيه من الحرج والمشقة ما لا يخفى، فقد عمت بلوى العوام بالحاجة للقول بصحة عباداتهم الملفقة التي لا تصح إذا قيست بمعيار وشروط مذهب واحد فقط.

خامسًا: القول بعدم مشروعية التلفيق يتنافى مع يسر الشريعة وشمولها، فقد يتجدد في المسألة أمر ما أو يترتب عليها أثر جديد، لذا فإن اجتهادات الفقهاء الأقدمين وانحصارها في عدد معين من الآراء لا تستلزم الجمود على أحد هذه الآراء بعينه، بل قد يكون الحل الأمثل أمام المفتي المقلد ليواجه مستجدات المسألة هو أن يأخذ بأكثر من مذهب ويضم من شروطهم وضوابطهم ما يجعل فتواه متوافقة مع مقاصد الشريعة وطبيعتها، وليس في هذا التلفيق إتيان بقول باطل عند كل مذهب نظرا لنقص بعض الشروط الخاصة بكل مذهب، فغاية ما هناك هو أن كل مجتهد من السابقين سيجد في المسألة الملفقة بعض شروطه ولا يجد بعضا آخر، لكن هذا لا يستلزم حكمه بالبطلان مطلقا، وإنما يستلزم البطلان في حق من قلده وحده ولم يجمع مع تقليده تقليد مجتهد آخر، ولذلك فالإمام الشافعي –مثلًا- يشترط وجود الشهود ليصح عقد النكاح خلافًا للإمام مالك، وفي الوقت ذاته لم يقل الشافعي بأن من قلد مالكًا في النكاح بلا شهود فنكاحه باطل، وكذلك لم يقل الإمام مالك ببطلان نكاح من قلد الإمام الشافعي في عدم اشتراط الصداق.

سادسًا: أن أقوال المجتهدين بالنسبة للمقلد تكون بمنزلة نصوص الشريعة وأدلتها بالنسبة للمجتهد، ومن هنا يتشابه التلفيق بين آراء المجتهدين مع التوفيق بين أدلة الأحكام المتعارضة، وإذا كان رأي المجتهد يحتمل الخطأ والصواب فلعل الجمع بين أكثر من رأي يكون أقرب إلى الصواب.

وهناك عدة شروط إذا فقدت امتنع العمل بالتلفيق وهي كالآتي:
الشرط الأول: أن تكون هناك حاجة داعية إلى العمل بالتلفيق، فلا يجوز لمجرد العبث أو الهوى أو التهرب من التكليفات الشرعية أو محبة الظهور وادعاء التجديد الفقهي؛ لما في ذلك من الاستخفاف بما قدمه فقهاؤنا العظام من آراء واجتهادات مثلت على مر القرون ثروة علمية وحرية فكرية بناءة تعد مفخرة للأمة الإسلامية.

الشرط الثاني: ألَّا يترتب على التلفيق تركيب حكم يخالف الإجماع أو يخالف نصًّا قاطعًا في دلالته.
الشرط الثالث: ألَّا يترتب على التلفيق ما يتعارض مع مقاصد الشريعة وطبيعتها، وذلك كمن لفق في عقد النكاح وتزوج بلا شهود مقلدًا لمالكٍ في عدم اشتراطهم، وبلا ولي للمرأة مقلدًا لأبي حنيفة، وبلا صداق مقلدا للشافعي، فهذا التلفيق يتعارض مع مقاصد الشريعة؛ لما يترتب عليه من مفاسد؛ كتعريض الزوج والزوجة للتهمة، وضياع حق المرأة، وتسهيل الزنا والتحايل بهذا التلفيق لدرء التهمة عن الزانيين.

الشرط الرابع: ألَّا يتخذ من التلفيق ذريعة لنقض حكم مستقر عمل فيه بمذهب أحد المجتهدين، وهذا قياسًا على قولهم "الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد" فمن باب أولى ألَّا ينقض بالتلفيق؛ لأنه تقليد، وذلك كمن قلَّد مذهب الحنفية في النكاح بلا وليٍّ ثم أوقع الطلقات الثلاث فبانت زوجته وحرم عليه نكاحها حتى تنكح زوجا غيره، لكنه أراد نكاحها مرة أخرى فقلَّد الشافعي في أن النكاح بلا ولي باطل، وبالتالي فلا يقع الطلاق في نكاح باطل فيحل له نكاحها، فهذا التلفيق بين المذهبين باطل متناقض، فكأن هذا الملفق يريد أن يقول: حينما تزوجتها بلا ولي لم يكن ذلك زنا تقليدا للإمام أبي حنيفة، ولم يكن نكاحًا صحيحًا تقليدًا للإمام الشافعي، فما وقع من طلقات لا اعتبار بها؛ لأنها لم ترد على نكاح صحيح عند الشافعي، لكن هذا التلفيق باطل لأن الشافعي وإن اشترط الولي إلا أنه لا يقول ببطلان نكاح من قلد أبا حنيفة ولا يقول بعدم وقوع طلاقه؛ لأن "الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد".

الشرط الخامس:
ألَّا يؤدي العمل بالتلفيق إلى نقض أحكام القضاء؛ لأن حكم القاضي يرفع الخلاف درءًا للفوضى، ولو عمل بالتلفيق على خلافه لأدى ذلك إلى اضطراب القضاء وعدم استقرار الأحكام القضائية.

الشرط السادس: أن يعتقد رجحان ذلك القول الملفق، فيقدِّر أنه لو وجد أحد الأئمة المجتهدين واطلع على المسألة بمتغيراتها الجديدة أو الخاصة بهذا الشخص المقلد لم يكن من البعيد أن يوافق مذهبه ما توصل إليه بالتلفيق، بل لا بد أن يكون هذا هو غالب ظن المقلد؛ لأن أقوال المجتهد بالنسبة له كنصوص الشارع بالنسبة للمجتهد، فيكون عمله بالتلفيق حينئذ لوجود دليل راجح بغالب الظن.

وقد صرح كثير من أهل العلم بجواز التلفيق:
- فمن الحنفية: العلامة الأمير بادشاه وقد ناقش في "شرحه على التحرير" ما قاله الإمام القرافي لجواز تقليد العامي لمجتهد آخر غير إمامه بألَّا يترتب عليه ما يمنعانه، كمن قلَّد الإمام الشافعي في عدم فرضية الدلك وقلَّد الإمام مالكًا في عدم نقض اللمس بلا شهوة ثم صلى بهذا الوضوء، فصلاته باطلة بحسب ما اشترطه الإمام القرافي، لكن قال العلامة أمير بادشاه في تعليقه على ذلك: [واعترض عليه بأن بطلان الصورة المذكورة عندهما غير مسلم فإن مالكا مثلا لم يقل أن من قلد الشافعي في عدم الصداق أن نكاحه باطل، ولم يقل الشافعي أن من قلد مالكًا في عدم الشهود أن نكاحه باطل انتهى. وأورد عليه أن عدم قولهما بالبطلان في حق من قلد أحدهما وراعى مذهبه في جميع ما يتوقف عليه صحة العمل وما نحن فيه من قلدهما وخالف كلا منهما في شيء، وعدم القول بالبطلان في ذلك لا يستلزم عدم القول به في هذا، وقد يجاب عنه: بأن الفارق بينهما ليس إلا أن كل واحد من المجتهدين لا يجد في صورة التلفيق جميع ما شرط في صحتها بل يجد في بعضها دون بعض، وهذا الفارق لا نسلم أن يكون موجبًا للحكم بالبطلان وكيف نسلم والمخالفة في بعض الشروط أهون من المخالفة في الجميع فيلزم الحكم بالصحة في الأهون بالطريق الأولى ومن يدعي وجود فارق أو وجود دليل آخر على بطلان صورة التلفيق على خلاف الصورة الأولى فعليه بالبرهان، فإن قلت لا نسلم كون المخالفة في البعض أهون من المخالفة في الكل؛ لأن المخالفة في الكل تتبع مجتهدًا واحدًا في جميع ما يتوقف عليه صحة العمل وها هنا لم يتبع واحدًا، قلت: هذا إنما يتم لك إذا كان معك دليل من نص أو إجماع أو قياس قوي يدل على أن العمل إذا كان له شروط يجب على المقلد اتباع مجتهد واحد في جميع ما يتوقف عليه ذلك فأتِ به إن كنت من الصادقين. والله تعالى أعلم] اهـ. "تيسير التحرير" (4/ 371، ط. دار الفكر).

- ومن الحنفية أيضًا: الإمام الطرسوسي، وشيخ الإسلام أبو السعود؛ قال العلامة ابن عابدين في "العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية" (1/ 109، ط. دار المعرفة): [وفي فتاوى الشلبي وقف البناء بدون الأرض صحيح والحكم به صحيح لكن في وقفه على نفسه إشكال من جهة أن الوقف على النفس أجازه أبو يوسف ومنعه محمد، ووقف البناء بدون الأرض من قبيل وقف المنقول ولا يقول به أبو يوسف بل محمد فيكون الحكم به مركبا من مذهبين، وهو لا يجوز، لكن الطرسوسي ذكر أن في منية المفتي ما يفيد جواز الحكم المركب من مذهبين، وعلى هذا يتخرج الحكم بوقف البناء على نفسه في مصر في أوقات كثيرة، على هذا النمط حكم بها القضاة السابقون ولعلهم بنوه على ما ذكرنا من جواز الحكم المركب من مذهبين أو على أن الأرض لما كانت متقررة للاحتكار نزلت منزلة ما لو وقف البناء مع الأرض من جهة أن الأرض بيد أرباب البناء يتصرفون فيها بما شاءوا من هدم وبناء وتغيير لا يتعرض أحد لهم فيها ولا يزعجهم عنها وإنما عليهم غلة تؤخذ منهم كما أفاده الخصاف هذا ما تحرر لي من الجواب. والله تعالى أعلم بالصواب] اهـ.

وفي موضع آخر من الوقف من فتاوى العلامة الشلبي المذكور ما نصه: [فإذا كان وقف الدراهم لم يرو إلا عن زفر ولم يرو عنه في وقف النفس شيء فلا يتأتى وقفها على النفس حينئذ على قوله، لكن لو فرضنا أن حاكمًا حنفيًا حكم بصحة وقف الدراهم على النفس، هل ينفذ حكمه؟ فنقول النفاذ مبني على القول بصحة الحكم الملفق، وبيان التلفيق أن الوقف على النفس لا يقول به إلا أبو يوسف وهو لا يرى وقف الدراهم، ووقف الدراهم لا يقول به إلا زفر وهو لا يرى الوقف على النفس، فكان الحكم بجواز وقف الدراهم على النفس حكما ملفقا من قولين كما ترى وقد مشى شيخ مشايخنا العلامة زين الدين قاسم في ديباجة تصحيح القدوري على عدم نفاذه ونقل فيها عن كتاب توفيق الحكام في غوامض الأحكام: أن الحكم الملفق باطل بإجماع المسلمين، ومشى الطرسوسي في كتابه أنفع الوسائل على النفاذ مستندا في ذلك لما رآه في منية المفتي، فلينظره من أراده. اهـ. أقول: ورأيت بخط شيخ مشايخنا منلا علي التركماني في مجموعته الكبيرة ناقلا عن خط الشيخ إبراهيم السؤالاتي بعد هذه المسألة المنقولة عن فتاوى الشلبي ما نصه: أقول وبالجواز أفتى شيخ الإسلام أبو السعود في فتاواه وأن الحكم ينفذ وعليه العمل. والله تعالى الموفق. اهـ ما رأيته بخطه عن الشيخ إبراهيم المذكور. وأقول أيضًا: قد يوجه ذلك بأنه ليس من الحكم الملفق الذي نقل العلامة قاسم أنه باطل بالإجماع؛ لأن المراد بما جزم ببطلانه ما إذا كان من مذاهب متباينة كما إذا حكم بصحة نكاح بلا ولي بناء على مذهب أبي حنيفة وبلا شهود بناء على مذهب مالك، بخلاف ما إذا كان ملفقا من أقوال أصحاب المذهب الواحد فإنها لا تخرج عن المذهب فإن أقوال أبي يوسف ومحمد وغيرهما مبنية على قواعد أبي حنيفة أو هي أقوال مروية عنه وإنما نسبت إليهم لا إليه لاستنباطهم لها من قواعده أو لاختيارهم إياها كما أوضحت ذلك في صدر حاشيتي على الدر المختار بما لا مزيد عليه فارجع إليه ويؤيد ما مر عن الشلبي من حكم القضاة الماضين بذلك وكذا ما في الدرر من كتاب القضاء عند قوله: القضاء في مجتهد فيه بخلاف رأيه ناسيا مذهبه نافذ عند أبي حنيفة ولو عامدا، ففيه روايتان حيث قال ما نصه: والمراد بخلاف الرأي خلاف أصل المذهب كالحنفي إذا حكم على مذهب الشافعي أو نحوه أو بالعكس. وأما إذا حكم الحنفي بما ذهب إليه أبو يوسف أو محمد أو نحوهما من أصحاب الإمام فليس حكما بخلاف رأيه. اهـ. فتأمل] اهـ.

وقال علي حيدر في "درر الحكام شرح مجلة الأحكام" (4/ 674، ط. دار الجيل، الطبعة الأولى): [وفي هذه الحالة قد أصبح تلفيق في هذه الأحكام الغيابية يعني أن إصدار الحكم الغيابي على الخصم غير المتواري هو على مذهب الإمام الشافعي، وإصدار الحكم بلا يمين هو على مذهب الإمام الحنفي، وبذلك يرد سؤال على هذه الأحكام بعدم جواز التلفيق، إن الأصل والقاعدة هو عدم جواز الحكم على الغائب فإذا لم يكن ممكنا إحضار الخصم أي إجباره على الحضور إلى المحاكمة فإن ذلك يستوجب ضياع حق المدعي فلزمت المحاكمة والحكم غيابيا دفعا للحرج والضرورات وصيانة للحقوق عن الضياع وقد أفتى خواهر زاده بجواز الحكم الغيابي على الخصم المتواري فقط] اهـ.

ويقول الشيخ محمد عبد العظيم المكي في "رسالة القول السديد" (ص: 113، ط. دار الدعوة، الكويت): [بعد مدة من استنباطي جواز التلفيق من مسألتي أبي يوسف وبعض علماء خوارزم ومسألة صحة الحكم على الغائب بصحة النكاح بعد وقوعه كما سبق في المسألة التي ذكروها واستئناسي بمقالة المحقق في التحرير وما على الإنسان أن يختار الأسهل في العمل، ثم وجدت شيخ الإسلام خاتمة الأئمة المتأخرين مولانا العلامة زين الدين ابن نجيم صرح في رسالة ألفها في بيع الوقف على وجه الاستبدال بأن: ما وقع في آخر التحرير من منع التلفيق فإنما عزاه إلى بعض المتأخرين وليس هذا المذهب. انتهى، فحمدت الله تبارك وتعالى على موافقة ما ادعيته لما نص عليه مولانا العلامة ابن نجيم] اهـ.

ويقول الشيخ محمد بخيت المطيعي في "حاشيته على شرح الإسنوي على منهاج البيضاوي" (4/ 630، ط. عالم الكتب): [مسألة التلفيق مبنية على مسألة إحداث قول ثالث، فهو إنما يمتنع إذا تحقق أن المجموع الذي عمل به مخالف لإجماع جميع المجتهدين بحيث لو وجد مجتهد لم يجز له أن يقول بهذا المجموع] اهـ.

- ومن المالكية: العلامة الدسوقي، قال في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/ 20، ط. دار إحياء الكتب العربية): [والذي سمعناه من شيخنا نقلًا عن شيخه الصغير وغيره أن الصحيح جوازه وهو فسحة. اهـ، وبالجملة ففي التلفيق في العبادة الواحدة من مذهبين طريقتان: المنع وهو طريقة المصاروة والجواز وهو طريقة المغاربة ورجحت] اهـ.

وفي "بلغة السالك" (1/ 19، ط. دار المعارف): [والذي قاله شيخنا الأمير عن شيخه العدوي عن شيخه الصغير وغيره: أن الصحيح جوازه، وهو فسحة، لكن لا ينبغي فعلها في النكاح؛ لأنه يحتاط في الفروج ما لا يحتاط في غيرها] اهـ.

وفي "الفواكه الدواني" (2/ 357، ط. دار الفكر): [قال القرافي نقلًا عن غير الزناتي: يجوز تقليد المذاهب والانتقال إليها في كل ما لا ينقض فيه قضاء القاضي لا ما ينقض فيه وهو أربعة مواضع: ما خالف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي، فلذا يجوز تقليد مالك في مثل أرواث الدواب، وترك الألفاظ في العقود] اهـ.

وفي "تهذيب الفروق والقواعد السنية" (2/ 34، ط. عالم الكتب): [وإذا قلد جاز له الأكل من الهدي بناء على جواز التلفيق في العبادة الواحدة من مذهبين؛ لأنه فسحة في الدين ودين الله يسر كما قال الشيخ علي العدوي في حاشية الخرشي] اهـ.

- ومن الشافعية: ما جاء في "فتح المعين" عن المحقق ابن زياد والبلقيني (4/ 359، ط. دار الكتب العلمية): [قال شيخنا المحقق ابن زياد رحمه الله تعالى في "فتاويه": إن الذي فهمناه من أمثلتهم أن التركيب القادح إنما يمتنع إذا كان في قضية واحدة، فمن أمثلتهم إذا توضأ ولمس تقليدا لأبي حنيفة وافتصد تقليدا للشافعي ثم صلى فصلاته باطلة لاتفاق الإمامين على بطلان ذلك، وكذلك إذا توضأ ومس بلا شهوة تقليدا للإمام مالك ولم يدلك تقليدا للشافعي ثم صلى فصلاته باطلة لاتفاق الإمامين على بطلان طهارته، بخلاف ما إذا كان التركيب من قضيتين، فالذي يظهر أن ذلك غير قادح في التقليد، كما إذا توضأ ومسح بعض رأسه ثم صلى إلى الجهة تقليدا لأبي حنيفة فالذي يظهر صحة صلاته؛ لأن الإمامين لم يتفقا على بطلان طهارته، فإن الخلاف فيها بحاله، لا يقال اتفقا على بطلان صلاته؛ لأنا نقول هذا الاتفاق ينشأ من التركيب في قضيتين. والذي فهمناه أنه غير قادح في التقليد ومثله ما إذا قلد الإمام أحمد في أن العورة السوءتان وكان ترك المضمضة والاستنشاق أو التسمية الذي يقول الإمام أحمد بوجوب ذلك، فالذي يظهر صحة صلاته إذا قلده في قدر العورة؛ لأنهما لم يتفقا على بطلان طهارته التي هي قضية واحدة، ولا يقدح في ذلك اتفاقهما على بطلان صلاته فإنه تركيب من قضيتين وهو غير قادح في التقليد كما يفهمه تمثيلهم. وقد رأيت في فتاوى البلقيني ما يقتضي أن التركيب بين القضيتين غير قادح. انتهى ملخصًا] اهـ.

- ومن الحنابلة: الشيخ مرعي الكرمي؛ فقد جاء في "مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى" (1/ 390، ط. المكتب الإسلامي) قال: [تتمة: قال المصنف –وهو الشيخ مرعي الكرمي- في تعليقة له: اعلم أنه قد ذهب كثير من العلماء إلى منع جواز التقليد، حيث أدى إلى التلفيق من كل مذهب؛ لأنه حينئذ كل من المذهبين أو المذاهب يرى البطلان، كمن توضأ مثلا ومسح شعرة من رأسه مقلدا للشافعي، ثم لمس ذكره بيده مقلدا لأبي حنيفة، فلا يصح التقليد حينئذ. وكذا لو مسح شعرة، وترك القراءة خلف الإمام مقلدا للأئمة الثلاثة، أو افتصد مخالفا للأئمة الثلاثة، ولم يقرأ مقلدا لهم، وهذا وإن كان ظاهرا من حيث العقل، والتعليل فيه واضح، لكنه فيه حرج ومشقة خصوصا على العوام، الذي نص العلماء على أنه ليس لهم مذهب معين. وقد قال غير واحد: لا يلزم العامي أن يتمذهب بمذهب معين، كما لم يلزم في عصر أوائل الأمة. والذي أذهب إليه وأختاره: القول بجواز التقليد في التلفيق، لا بقصد تتبع ذلك ؛ لأن من تتبع الرخص فسق، بل حيث وقع ذلك اتفاقا، خصوصا من العوام الذين لا يسعهم غير ذلك. فلو توضأ شخص، ومسح جزءا من رأسه مقلدا للشافعي، فوضوءه صحيح بلا ريب. فلو لمس ذكره بعد ذلك مقلدًا لأبي حنيفة، جاز ذلك ؛ لأن وضوء هذا المقلد صحيح، ولمس الفرج غير ناقض عند أبي حنيفة، فإذا قلده في عدم نقض ما هو صحيح عند الشافعي، استمر الوضوء على حاله بتقليده لأبي حنيفة، وهذا هو فائدة التقليد. وحينئذ فلا يقال: الشافعي يرى بطلان هذا الوضوء بسبب مس الفرج، والحنفي يرى البطلان لعدم مسح ربع الرأس فأكثر؛ لأنهما قضيتان منفصلتان؛ لأن الوضوء قد تم صحيحا بتقليد الشافعي، ويستمر صحيحا بعد اللمس بتقليد الحنفي، فالتقليد لأبي حنيفة إنما هو في استمرار الصحة لا في ابتدائها، وأبو حنيفة ممن يقول بصحة وضوء هذا المقلد قطعا، فقد قلد أبا حنيفة فيما هو حاكم بصحته] اهـ.

وبناءً على ما سبق: فإن التلفيق بين مذاهب الفقهاء وآراء المجتهدين يكون جائزًا إذا توفرت فيه الشروط التي سبق ذكرها، فيجوز للمفتي التلفيق في الفتوى بحسب ما يراه محقِّقًا لمقاصد التشريع وملبِّيًا لحاجات المكلفين، ويجوز حينئذ للمستفتي العمل بالحكم الملفق إذا اطمأن إليه قلبه وغلب على ظنه رجحانه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

كلمة "التلفيق" تأتي في اللغة لعدة معان؛ منها:
- الضم بين الأشياء والملائمة بينها لتكون شيئًا واحدًا، يقال: لفق الثوب يلفقه لفقًا -من باب ضرب- وذلك بأن يضم شقة إلى أخرى فيخيطها.
- ويقال: تلافق القوم، أي تلاءمت أمورهم. راجع: "المصباح المنير" للإمام الفيومي مادة: (ل ف ق)، و"تاج العروس" للإمام الزبيدي مادة: (ل ف ق).

أما "التلفيق" عند علماء أصول الفقه، فهو من المصطلحات التي ظهرت لدى المتأخرين بعد أن استقرت المذاهب الفقهية وانتشرت وشاع تقليدها في الأقطار والأمصار، لكن الذي ظهر عند المتقدمين ويشبه التلفيق هو مصطلح "تتبع الرخص" أي البحث عن أيسر الآراء الفقهية في كل مذهب والأخذ بها لمجرد التشهي والتخفف من تحمل التكاليف الشرعية، وذلك مع تغافل المتتبع للرخص عن مآل الأمر ومدى موافقته لمقاصد التشريع وتحقيقه لها من عدمه.

ووجه التشابه بين "تتبع الرخص" وبين "التلفيق" هو أن كليهما فيه تقليد وانتقاء لبعض الأمور الفقهية من عدة مذاهب مختلفة، أما وجه المفارقة بين الأمرين فهو أن تتبع الرخص يكون في مسائل متفرقة لا تتركب منها هيئة واحدة أو عبادة واحدة؛ كمن أخذ برخصة للحنفية في الوضوء ورخصة للشافعية في الطلاق ورخصة للمالكية في البيوع؛ لما في هذه الرخص من تيسير؛ أما التلفيق فيكون في الأجزاء التي تتركب منها مسألة واحدة مما ينتج عنه حكم واحد لم يقل به مجتهد، وذلك كمن قلد الحنفية في جواز ترك الترتيب بين أفعال الوضوء، وقلد الشافعية في جواز الاقتصار على مسح أقل من ربع الرأس، فرغم أن الترتيب مسألة ومسح الرأس مسألة لكن كلاهما تعتبر جزءًا يتركب منه مسألة كبيرة أو قضية مستقلة وهي: هل الوضوء بهذه الكيفية الملفقة صحيح يعتد به في رفع الحدث أم لا؟

والتعريف الاصطلاحي المختار هو: أن التلفيق عبارة عن: الجمع بين المذاهب الفقهية المختلفة في أجزاء الحكم الواحد بكيفية لم يقل بها أيٌّ من تلك المذاهب. راجع: "التلفيق وحكمه في الفقه الإسلامي" للدكتور عبد الله بن محمد بن حسن السعيدي (ص: 12، بدون طبعة)، و"عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق" لمحمد سعيد الباني (ص: 91، ط. المكتب الإسلامي، دمشق).

وجاء في "الموسوعة الفقهية" (13/ 293، مصطلح: تلفيق): [المراد بالتلفيق بين المذاهب أخذ صحة الفعل من مذهبين معًا بعد الحكم ببطلانه على كل واحد منهما] اهـ.

ومن هنا يتبين أن حقيقة التلفيق تؤول إلى أخذ المقلد بأكثر من مذهب فقهي في نفس الوقت وفي نفس القضية بحيث يحصل من هذا المزج هيئة مركبة لم يقل بمجموعها أحد ممن قلَّدهم، وإنما قال بعضهم ببعض أجزائها وقال غيرهم ببعض آخر.

وقد ذهب بعض من كتب في مسألة التلفيق إلى أن التلفيق يصدق على تقليد عدة مذاهب في مسائل مستقلة لا تجتمع منها هيئة واحدة، كالأخذ بمذهب المالكية في أحكام العبادات مثلًا والأخذ بمذهب الحنابلة في المعاملات، لكن الصواب أن تقليد أكثر من مذهب في مسائل مستقلة لا يسمى تلفيقًا؛ لأن الراجح أن العوام لا يجب عليهم الالتزام بمذهب معين في جميع المسائل، بل مذهب العامي هو مذهب مفتيه، ولا يلزمه الاقتصار على مفت واحد بل يجوز له استفتاء أكثر من مفت سواء كان المفتي مالكيًا أو شافعيًا أو غير ذلك، ثم للمستفتي حينئذ الأخذ بما يطمئن إليه قلبه عند اختلاف المفتين، كما جرى عليه العمل في عصر الصحابة الكرام دون نكير، ولو ألزم العامي نفسه بمذهب أحد المجتهدين ثم قلد غيره في مسألة أو باب معين دون أن ينتج عن ذلك حصول صورة مركبة لم يقل بها أحد، لا يسمى هذا تلفيقًا بل يقال انتقل من مذهبه إلى مذهب آخر في بعض المسائل، أما لو حصلت صورة مركبة لم يقل بصحتها أحد ممن قلدهم، فهذا هو التلفيق، وذلك كما لو جمع بين تقليد الشافعية في باب الوضوء واقتصر على مسح بعض شعرات من الرأس، وبين تقليد الحنفية في صحة الصلاة بهذا الوضوء بدون الاطمئنان أو الخشوع في أفعالها، فقد جمع بين تقليد الشافعية في باب الوضوء وبين تقليد الحنفية في باب الصلاة، لكن نتج عن ذلك صورة مركبة لم يقل بصحتها أحد من هذين المذهبين، فالشافعية يقولون ببطلان هذه الصلاة؛ لعدم الطمأنينة، والحنفية يقولون ببطلانها؛ لعدم حصول الطهارة بمسح شعراتٍ أقل من ربع الرأس.

وينقسم التلفيق من حيث القصد وعدمه إلى:
- تلفيق حاصل بالقصد، كالواقع ممن تتبع المذاهب واستقراء الآراء ثم تعمد الجمع بينها والعمل بما تركب من مجموعها.
- وتلفيق حاصل دون قصد، كما يقع من العوام عند استفتائهم عدة مفتين من مذاهب مختلفة، ثم دمج كل ذلك في عمل واحد.

وينقسم من حيث الصورة التركيبية إلى:
- تلفيق بين حكمين في قضية واحدة، كمن جمع في صحة وضوئه بين تقليد الشافعية في عدم النقض بالخارج النجس من غير السبيلين، وتقليد الحنفية في عدم النقض بلمس المرأة، فهذا تركيب بين حكمين وردا في قضية واحدة وهي صحة الوضوء.
- وتلفيق بين أكثر من حكم في أكثر من قضية، كمن جمع في صحة صلاته بين تقليد الشافعية في مسح بعض شعرات من الرأس، وبين تقليد الحنفية في صحة الصلاة دون الطمأنينة، فهذا تركيب بين حكمين وردا في قضيتين هما الوضوء والصلاة.

وينقسم من حيث الوقت إلى:
- تلفيق قبل وقوع الفعل، وذلك بغرض الإقدام على الفعل.
- وتلفيق بعد وقوع الفعل، وذلك بغرض إيجاد المخرج لاستدراك خلل غير مقصود وتصحيح الفعل بعد وقوعه اجتنابًا للحرج والمشقة.
ولم يرد في حكم التلفيق نص صريح عن الفقهاء المتقدمين والأئمة المجتهدين أصحاب المذاهب الفقهية المتبوعة، وإنما ظهر الكلام حول هذا المصطلح لدى المتأخرين.

وقد اختلف المتأخرون في حكم التلفيق:
- فذهب أكثر الفقهاء المتأخرين إلى عدم جوازه مطلقًا.
- وذهب بعضهم إلى الجواز بشروط، وهو المختار، وسيأتي بيان الشروط.

دليل الرأي المختار:
أولًا: شُرع التقليد تخفيفًا على المكلفين، وفي اختلاف أئمة الاجتهاد رحمة للناس؛ قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، ولذلك لم يجب على المقلد التزام مذهب معين في جميع المسائل كما قال جمهور أهل العلم، بل يجوز له الأخذ في كل مسألة بأي مذهب شاء من مذاهب الأئمة المتبوعين إذا أفتاه به أحد المفتين، فهذا سعة ورخصة لمن لم يصل إلى درجة الاجتهاد، ولا فارق في ذلك بين الأخذ بأكثر من مذهب في مسائل متعددة –سواء كانت مرتبطة ببعضها أم لا- وبين الأخذ بأكثر من مذهب في أجزاء المسألة الواحدة وشروطها وضوابطها؛ فإن غالب الفقه مبني على الظن، وليس من المقطوع به أن رأي أحد المجتهدين هو الصواب الذي لا يحتمل الخطأ في جملته أو في تفصيله، بل يجوز في حق كل مجتهد أن يصيب في بعض أجزاء المسألة، ويجوز أن يخطئ في بعضها الآخر، ولا فارق في تلك الاحتمالية بين المسألة الواحدة والمسائل المتعددة، فالأخذ ببعض قول المجتهد في مسألة ما وببعض قول مجتهد آخر في نفس المسألة ليس خروجًا عن كلا المذهبين، وإنما هو كالجمع بين تقليدهما في أكثر من مسألة.

وبناء على هذا: فيجوز للمقلد التلفيق في المسألة الواحدة؛ سواء كانت في العبادات أم في المعاملات.

ثانيًا: يجوز للمفتي المقلد أن يخرج عن مذهب إمامه ويفتي بمذهب إمام آخر؛ وذلك نظرًا لتطورات العصور والمجتمعات واختلاف موازين المصالح والمفاسد باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال، فالجمود على رأي واحد حتى ولو صار غيره هو الملائم للواقع ليس من الفقه في شيء، ولذا فغالب الفقه -كما سبق- مبناه الظن كي تتعدد الآراء والاجتهادات ويكون في الأمر سعة ومرونة ورحمة بالناس؛ وإذ يجوز للمفتي المقلد الإفتاء بمذهب آخر غير مذهب إمامه تبعًا لمقاصد التشريع وتغير الأحوال، فإنه لا فارق بين أن يترك قول إمامه في كل المسألة ويفتي فيها بقول إمام آخر، وبين أن يترك قول إمامه في بعض شروط المسألة وضوابطها ويتبع في هذا إمامًا آخر.

ثالثًا: لم ينقل عن الصحابة الكرام أو التابعين -على كثرة مذاهبهم وتباينهم- أن أحدًا منهم قال لمن استفتاه: الواجب عليك أن تراعي أحكام مذهب من قلدته لئلا تلفق في عبادتك بين مذهبين أو أكثر، ولو كان التلفيق ممنوعًا لما أهملوا التحذير منه.

رابعًا: القول بعدم مشروعية التلفيق يؤدي للحكم بفساد عبادات العوام، فإنه من النادر أن تجد عاميًّا يلتزم بموافقة مذهب معين في جميع عباداته ومعاملاته، وإلزام العوام بذلك فيه من الحرج والمشقة ما لا يخفى، فقد عمت بلوى العوام بالحاجة للقول بصحة عباداتهم الملفقة التي لا تصح إذا قيست بمعيار وشروط مذهب واحد فقط.

خامسًا: القول بعدم مشروعية التلفيق يتنافى مع يسر الشريعة وشمولها، فقد يتجدد في المسألة أمر ما أو يترتب عليها أثر جديد، لذا فإن اجتهادات الفقهاء الأقدمين وانحصارها في عدد معين من الآراء لا تستلزم الجمود على أحد هذه الآراء بعينه، بل قد يكون الحل الأمثل أمام المفتي المقلد ليواجه مستجدات المسألة هو أن يأخذ بأكثر من مذهب ويضم من شروطهم وضوابطهم ما يجعل فتواه متوافقة مع مقاصد الشريعة وطبيعتها، وليس في هذا التلفيق إتيان بقول باطل عند كل مذهب نظرا لنقص بعض الشروط الخاصة بكل مذهب، فغاية ما هناك هو أن كل مجتهد من السابقين سيجد في المسألة الملفقة بعض شروطه ولا يجد بعضا آخر، لكن هذا لا يستلزم حكمه بالبطلان مطلقا، وإنما يستلزم البطلان في حق من قلده وحده ولم يجمع مع تقليده تقليد مجتهد آخر، ولذلك فالإمام الشافعي –مثلًا- يشترط وجود الشهود ليصح عقد النكاح خلافًا للإمام مالك، وفي الوقت ذاته لم يقل الشافعي بأن من قلد مالكًا في النكاح بلا شهود فنكاحه باطل، وكذلك لم يقل الإمام مالك ببطلان نكاح من قلد الإمام الشافعي في عدم اشتراط الصداق.

سادسًا: أن أقوال المجتهدين بالنسبة للمقلد تكون بمنزلة نصوص الشريعة وأدلتها بالنسبة للمجتهد، ومن هنا يتشابه التلفيق بين آراء المجتهدين مع التوفيق بين أدلة الأحكام المتعارضة، وإذا كان رأي المجتهد يحتمل الخطأ والصواب فلعل الجمع بين أكثر من رأي يكون أقرب إلى الصواب.

وهناك عدة شروط إذا فقدت امتنع العمل بالتلفيق وهي كالآتي:
الشرط الأول: أن تكون هناك حاجة داعية إلى العمل بالتلفيق، فلا يجوز لمجرد العبث أو الهوى أو التهرب من التكليفات الشرعية أو محبة الظهور وادعاء التجديد الفقهي؛ لما في ذلك من الاستخفاف بما قدمه فقهاؤنا العظام من آراء واجتهادات مثلت على مر القرون ثروة علمية وحرية فكرية بناءة تعد مفخرة للأمة الإسلامية.

الشرط الثاني: ألَّا يترتب على التلفيق تركيب حكم يخالف الإجماع أو يخالف نصًّا قاطعًا في دلالته.
الشرط الثالث: ألَّا يترتب على التلفيق ما يتعارض مع مقاصد الشريعة وطبيعتها، وذلك كمن لفق في عقد النكاح وتزوج بلا شهود مقلدًا لمالكٍ في عدم اشتراطهم، وبلا ولي للمرأة مقلدًا لأبي حنيفة، وبلا صداق مقلدا للشافعي، فهذا التلفيق يتعارض مع مقاصد الشريعة؛ لما يترتب عليه من مفاسد؛ كتعريض الزوج والزوجة للتهمة، وضياع حق المرأة، وتسهيل الزنا والتحايل بهذا التلفيق لدرء التهمة عن الزانيين.

الشرط الرابع: ألَّا يتخذ من التلفيق ذريعة لنقض حكم مستقر عمل فيه بمذهب أحد المجتهدين، وهذا قياسًا على قولهم "الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد" فمن باب أولى ألَّا ينقض بالتلفيق؛ لأنه تقليد، وذلك كمن قلَّد مذهب الحنفية في النكاح بلا وليٍّ ثم أوقع الطلقات الثلاث فبانت زوجته وحرم عليه نكاحها حتى تنكح زوجا غيره، لكنه أراد نكاحها مرة أخرى فقلَّد الشافعي في أن النكاح بلا ولي باطل، وبالتالي فلا يقع الطلاق في نكاح باطل فيحل له نكاحها، فهذا التلفيق بين المذهبين باطل متناقض، فكأن هذا الملفق يريد أن يقول: حينما تزوجتها بلا ولي لم يكن ذلك زنا تقليدا للإمام أبي حنيفة، ولم يكن نكاحًا صحيحًا تقليدًا للإمام الشافعي، فما وقع من طلقات لا اعتبار بها؛ لأنها لم ترد على نكاح صحيح عند الشافعي، لكن هذا التلفيق باطل لأن الشافعي وإن اشترط الولي إلا أنه لا يقول ببطلان نكاح من قلد أبا حنيفة ولا يقول بعدم وقوع طلاقه؛ لأن "الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد".

الشرط الخامس:
ألَّا يؤدي العمل بالتلفيق إلى نقض أحكام القضاء؛ لأن حكم القاضي يرفع الخلاف درءًا للفوضى، ولو عمل بالتلفيق على خلافه لأدى ذلك إلى اضطراب القضاء وعدم استقرار الأحكام القضائية.

الشرط السادس: أن يعتقد رجحان ذلك القول الملفق، فيقدِّر أنه لو وجد أحد الأئمة المجتهدين واطلع على المسألة بمتغيراتها الجديدة أو الخاصة بهذا الشخص المقلد لم يكن من البعيد أن يوافق مذهبه ما توصل إليه بالتلفيق، بل لا بد أن يكون هذا هو غالب ظن المقلد؛ لأن أقوال المجتهد بالنسبة له كنصوص الشارع بالنسبة للمجتهد، فيكون عمله بالتلفيق حينئذ لوجود دليل راجح بغالب الظن.

وقد صرح كثير من أهل العلم بجواز التلفيق:
- فمن الحنفية: العلامة الأمير بادشاه وقد ناقش في "شرحه على التحرير" ما قاله الإمام القرافي لجواز تقليد العامي لمجتهد آخر غير إمامه بألَّا يترتب عليه ما يمنعانه، كمن قلَّد الإمام الشافعي في عدم فرضية الدلك وقلَّد الإمام مالكًا في عدم نقض اللمس بلا شهوة ثم صلى بهذا الوضوء، فصلاته باطلة بحسب ما اشترطه الإمام القرافي، لكن قال العلامة أمير بادشاه في تعليقه على ذلك: [واعترض عليه بأن بطلان الصورة المذكورة عندهما غير مسلم فإن مالكا مثلا لم يقل أن من قلد الشافعي في عدم الصداق أن نكاحه باطل، ولم يقل الشافعي أن من قلد مالكًا في عدم الشهود أن نكاحه باطل انتهى. وأورد عليه أن عدم قولهما بالبطلان في حق من قلد أحدهما وراعى مذهبه في جميع ما يتوقف عليه صحة العمل وما نحن فيه من قلدهما وخالف كلا منهما في شيء، وعدم القول بالبطلان في ذلك لا يستلزم عدم القول به في هذا، وقد يجاب عنه: بأن الفارق بينهما ليس إلا أن كل واحد من المجتهدين لا يجد في صورة التلفيق جميع ما شرط في صحتها بل يجد في بعضها دون بعض، وهذا الفارق لا نسلم أن يكون موجبًا للحكم بالبطلان وكيف نسلم والمخالفة في بعض الشروط أهون من المخالفة في الجميع فيلزم الحكم بالصحة في الأهون بالطريق الأولى ومن يدعي وجود فارق أو وجود دليل آخر على بطلان صورة التلفيق على خلاف الصورة الأولى فعليه بالبرهان، فإن قلت لا نسلم كون المخالفة في البعض أهون من المخالفة في الكل؛ لأن المخالفة في الكل تتبع مجتهدًا واحدًا في جميع ما يتوقف عليه صحة العمل وها هنا لم يتبع واحدًا، قلت: هذا إنما يتم لك إذا كان معك دليل من نص أو إجماع أو قياس قوي يدل على أن العمل إذا كان له شروط يجب على المقلد اتباع مجتهد واحد في جميع ما يتوقف عليه ذلك فأتِ به إن كنت من الصادقين. والله تعالى أعلم] اهـ. "تيسير التحرير" (4/ 371، ط. دار الفكر).

- ومن الحنفية أيضًا: الإمام الطرسوسي، وشيخ الإسلام أبو السعود؛ قال العلامة ابن عابدين في "العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية" (1/ 109، ط. دار المعرفة): [وفي فتاوى الشلبي وقف البناء بدون الأرض صحيح والحكم به صحيح لكن في وقفه على نفسه إشكال من جهة أن الوقف على النفس أجازه أبو يوسف ومنعه محمد، ووقف البناء بدون الأرض من قبيل وقف المنقول ولا يقول به أبو يوسف بل محمد فيكون الحكم به مركبا من مذهبين، وهو لا يجوز، لكن الطرسوسي ذكر أن في منية المفتي ما يفيد جواز الحكم المركب من مذهبين، وعلى هذا يتخرج الحكم بوقف البناء على نفسه في مصر في أوقات كثيرة، على هذا النمط حكم بها القضاة السابقون ولعلهم بنوه على ما ذكرنا من جواز الحكم المركب من مذهبين أو على أن الأرض لما كانت متقررة للاحتكار نزلت منزلة ما لو وقف البناء مع الأرض من جهة أن الأرض بيد أرباب البناء يتصرفون فيها بما شاءوا من هدم وبناء وتغيير لا يتعرض أحد لهم فيها ولا يزعجهم عنها وإنما عليهم غلة تؤخذ منهم كما أفاده الخصاف هذا ما تحرر لي من الجواب. والله تعالى أعلم بالصواب] اهـ.

وفي موضع آخر من الوقف من فتاوى العلامة الشلبي المذكور ما نصه: [فإذا كان وقف الدراهم لم يرو إلا عن زفر ولم يرو عنه في وقف النفس شيء فلا يتأتى وقفها على النفس حينئذ على قوله، لكن لو فرضنا أن حاكمًا حنفيًا حكم بصحة وقف الدراهم على النفس، هل ينفذ حكمه؟ فنقول النفاذ مبني على القول بصحة الحكم الملفق، وبيان التلفيق أن الوقف على النفس لا يقول به إلا أبو يوسف وهو لا يرى وقف الدراهم، ووقف الدراهم لا يقول به إلا زفر وهو لا يرى الوقف على النفس، فكان الحكم بجواز وقف الدراهم على النفس حكما ملفقا من قولين كما ترى وقد مشى شيخ مشايخنا العلامة زين الدين قاسم في ديباجة تصحيح القدوري على عدم نفاذه ونقل فيها عن كتاب توفيق الحكام في غوامض الأحكام: أن الحكم الملفق باطل بإجماع المسلمين، ومشى الطرسوسي في كتابه أنفع الوسائل على النفاذ مستندا في ذلك لما رآه في منية المفتي، فلينظره من أراده. اهـ. أقول: ورأيت بخط شيخ مشايخنا منلا علي التركماني في مجموعته الكبيرة ناقلا عن خط الشيخ إبراهيم السؤالاتي بعد هذه المسألة المنقولة عن فتاوى الشلبي ما نصه: أقول وبالجواز أفتى شيخ الإسلام أبو السعود في فتاواه وأن الحكم ينفذ وعليه العمل. والله تعالى الموفق. اهـ ما رأيته بخطه عن الشيخ إبراهيم المذكور. وأقول أيضًا: قد يوجه ذلك بأنه ليس من الحكم الملفق الذي نقل العلامة قاسم أنه باطل بالإجماع؛ لأن المراد بما جزم ببطلانه ما إذا كان من مذاهب متباينة كما إذا حكم بصحة نكاح بلا ولي بناء على مذهب أبي حنيفة وبلا شهود بناء على مذهب مالك، بخلاف ما إذا كان ملفقا من أقوال أصحاب المذهب الواحد فإنها لا تخرج عن المذهب فإن أقوال أبي يوسف ومحمد وغيرهما مبنية على قواعد أبي حنيفة أو هي أقوال مروية عنه وإنما نسبت إليهم لا إليه لاستنباطهم لها من قواعده أو لاختيارهم إياها كما أوضحت ذلك في صدر حاشيتي على الدر المختار بما لا مزيد عليه فارجع إليه ويؤيد ما مر عن الشلبي من حكم القضاة الماضين بذلك وكذا ما في الدرر من كتاب القضاء عند قوله: القضاء في مجتهد فيه بخلاف رأيه ناسيا مذهبه نافذ عند أبي حنيفة ولو عامدا، ففيه روايتان حيث قال ما نصه: والمراد بخلاف الرأي خلاف أصل المذهب كالحنفي إذا حكم على مذهب الشافعي أو نحوه أو بالعكس. وأما إذا حكم الحنفي بما ذهب إليه أبو يوسف أو محمد أو نحوهما من أصحاب الإمام فليس حكما بخلاف رأيه. اهـ. فتأمل] اهـ.

وقال علي حيدر في "درر الحكام شرح مجلة الأحكام" (4/ 674، ط. دار الجيل، الطبعة الأولى): [وفي هذه الحالة قد أصبح تلفيق في هذه الأحكام الغيابية يعني أن إصدار الحكم الغيابي على الخصم غير المتواري هو على مذهب الإمام الشافعي، وإصدار الحكم بلا يمين هو على مذهب الإمام الحنفي، وبذلك يرد سؤال على هذه الأحكام بعدم جواز التلفيق، إن الأصل والقاعدة هو عدم جواز الحكم على الغائب فإذا لم يكن ممكنا إحضار الخصم أي إجباره على الحضور إلى المحاكمة فإن ذلك يستوجب ضياع حق المدعي فلزمت المحاكمة والحكم غيابيا دفعا للحرج والضرورات وصيانة للحقوق عن الضياع وقد أفتى خواهر زاده بجواز الحكم الغيابي على الخصم المتواري فقط] اهـ.

ويقول الشيخ محمد عبد العظيم المكي في "رسالة القول السديد" (ص: 113، ط. دار الدعوة، الكويت): [بعد مدة من استنباطي جواز التلفيق من مسألتي أبي يوسف وبعض علماء خوارزم ومسألة صحة الحكم على الغائب بصحة النكاح بعد وقوعه كما سبق في المسألة التي ذكروها واستئناسي بمقالة المحقق في التحرير وما على الإنسان أن يختار الأسهل في العمل، ثم وجدت شيخ الإسلام خاتمة الأئمة المتأخرين مولانا العلامة زين الدين ابن نجيم صرح في رسالة ألفها في بيع الوقف على وجه الاستبدال بأن: ما وقع في آخر التحرير من منع التلفيق فإنما عزاه إلى بعض المتأخرين وليس هذا المذهب. انتهى، فحمدت الله تبارك وتعالى على موافقة ما ادعيته لما نص عليه مولانا العلامة ابن نجيم] اهـ.

ويقول الشيخ محمد بخيت المطيعي في "حاشيته على شرح الإسنوي على منهاج البيضاوي" (4/ 630، ط. عالم الكتب): [مسألة التلفيق مبنية على مسألة إحداث قول ثالث، فهو إنما يمتنع إذا تحقق أن المجموع الذي عمل به مخالف لإجماع جميع المجتهدين بحيث لو وجد مجتهد لم يجز له أن يقول بهذا المجموع] اهـ.

- ومن المالكية: العلامة الدسوقي، قال في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/ 20، ط. دار إحياء الكتب العربية): [والذي سمعناه من شيخنا نقلًا عن شيخه الصغير وغيره أن الصحيح جوازه وهو فسحة. اهـ، وبالجملة ففي التلفيق في العبادة الواحدة من مذهبين طريقتان: المنع وهو طريقة المصاروة والجواز وهو طريقة المغاربة ورجحت] اهـ.

وفي "بلغة السالك" (1/ 19، ط. دار المعارف): [والذي قاله شيخنا الأمير عن شيخه العدوي عن شيخه الصغير وغيره: أن الصحيح جوازه، وهو فسحة، لكن لا ينبغي فعلها في النكاح؛ لأنه يحتاط في الفروج ما لا يحتاط في غيرها] اهـ.

وفي "الفواكه الدواني" (2/ 357، ط. دار الفكر): [قال القرافي نقلًا عن غير الزناتي: يجوز تقليد المذاهب والانتقال إليها في كل ما لا ينقض فيه قضاء القاضي لا ما ينقض فيه وهو أربعة مواضع: ما خالف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي، فلذا يجوز تقليد مالك في مثل أرواث الدواب، وترك الألفاظ في العقود] اهـ.

وفي "تهذيب الفروق والقواعد السنية" (2/ 34، ط. عالم الكتب): [وإذا قلد جاز له الأكل من الهدي بناء على جواز التلفيق في العبادة الواحدة من مذهبين؛ لأنه فسحة في الدين ودين الله يسر كما قال الشيخ علي العدوي في حاشية الخرشي] اهـ.

- ومن الشافعية: ما جاء في "فتح المعين" عن المحقق ابن زياد والبلقيني (4/ 359، ط. دار الكتب العلمية): [قال شيخنا المحقق ابن زياد رحمه الله تعالى في "فتاويه": إن الذي فهمناه من أمثلتهم أن التركيب القادح إنما يمتنع إذا كان في قضية واحدة، فمن أمثلتهم إذا توضأ ولمس تقليدا لأبي حنيفة وافتصد تقليدا للشافعي ثم صلى فصلاته باطلة لاتفاق الإمامين على بطلان ذلك، وكذلك إذا توضأ ومس بلا شهوة تقليدا للإمام مالك ولم يدلك تقليدا للشافعي ثم صلى فصلاته باطلة لاتفاق الإمامين على بطلان طهارته، بخلاف ما إذا كان التركيب من قضيتين، فالذي يظهر أن ذلك غير قادح في التقليد، كما إذا توضأ ومسح بعض رأسه ثم صلى إلى الجهة تقليدا لأبي حنيفة فالذي يظهر صحة صلاته؛ لأن الإمامين لم يتفقا على بطلان طهارته، فإن الخلاف فيها بحاله، لا يقال اتفقا على بطلان صلاته؛ لأنا نقول هذا الاتفاق ينشأ من التركيب في قضيتين. والذي فهمناه أنه غير قادح في التقليد ومثله ما إذا قلد الإمام أحمد في أن العورة السوءتان وكان ترك المضمضة والاستنشاق أو التسمية الذي يقول الإمام أحمد بوجوب ذلك، فالذي يظهر صحة صلاته إذا قلده في قدر العورة؛ لأنهما لم يتفقا على بطلان طهارته التي هي قضية واحدة، ولا يقدح في ذلك اتفاقهما على بطلان صلاته فإنه تركيب من قضيتين وهو غير قادح في التقليد كما يفهمه تمثيلهم. وقد رأيت في فتاوى البلقيني ما يقتضي أن التركيب بين القضيتين غير قادح. انتهى ملخصًا] اهـ.

- ومن الحنابلة: الشيخ مرعي الكرمي؛ فقد جاء في "مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى" (1/ 390، ط. المكتب الإسلامي) قال: [تتمة: قال المصنف –وهو الشيخ مرعي الكرمي- في تعليقة له: اعلم أنه قد ذهب كثير من العلماء إلى منع جواز التقليد، حيث أدى إلى التلفيق من كل مذهب؛ لأنه حينئذ كل من المذهبين أو المذاهب يرى البطلان، كمن توضأ مثلا ومسح شعرة من رأسه مقلدا للشافعي، ثم لمس ذكره بيده مقلدا لأبي حنيفة، فلا يصح التقليد حينئذ. وكذا لو مسح شعرة، وترك القراءة خلف الإمام مقلدا للأئمة الثلاثة، أو افتصد مخالفا للأئمة الثلاثة، ولم يقرأ مقلدا لهم، وهذا وإن كان ظاهرا من حيث العقل، والتعليل فيه واضح، لكنه فيه حرج ومشقة خصوصا على العوام، الذي نص العلماء على أنه ليس لهم مذهب معين. وقد قال غير واحد: لا يلزم العامي أن يتمذهب بمذهب معين، كما لم يلزم في عصر أوائل الأمة. والذي أذهب إليه وأختاره: القول بجواز التقليد في التلفيق، لا بقصد تتبع ذلك ؛ لأن من تتبع الرخص فسق، بل حيث وقع ذلك اتفاقا، خصوصا من العوام الذين لا يسعهم غير ذلك. فلو توضأ شخص، ومسح جزءا من رأسه مقلدا للشافعي، فوضوءه صحيح بلا ريب. فلو لمس ذكره بعد ذلك مقلدًا لأبي حنيفة، جاز ذلك ؛ لأن وضوء هذا المقلد صحيح، ولمس الفرج غير ناقض عند أبي حنيفة، فإذا قلده في عدم نقض ما هو صحيح عند الشافعي، استمر الوضوء على حاله بتقليده لأبي حنيفة، وهذا هو فائدة التقليد. وحينئذ فلا يقال: الشافعي يرى بطلان هذا الوضوء بسبب مس الفرج، والحنفي يرى البطلان لعدم مسح ربع الرأس فأكثر؛ لأنهما قضيتان منفصلتان؛ لأن الوضوء قد تم صحيحا بتقليد الشافعي، ويستمر صحيحا بعد اللمس بتقليد الحنفي، فالتقليد لأبي حنيفة إنما هو في استمرار الصحة لا في ابتدائها، وأبو حنيفة ممن يقول بصحة وضوء هذا المقلد قطعا، فقد قلد أبا حنيفة فيما هو حاكم بصحته] اهـ.

وبناءً على ما سبق: فإن التلفيق بين مذاهب الفقهاء وآراء المجتهدين يكون جائزًا إذا توفرت فيه الشروط التي سبق ذكرها، فيجوز للمفتي التلفيق في الفتوى بحسب ما يراه محقِّقًا لمقاصد التشريع وملبِّيًا لحاجات المكلفين، ويجوز حينئذ للمستفتي العمل بالحكم الملفق إذا اطمأن إليه قلبه وغلب على ظنه رجحانه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;