موقف المستفتي من تعدد المفتين - الفتاوى - دار الإفتاء المصرية - دار الإفتاء

موقف المستفتي من تعدد المفتين

إذا كَثُرَ المفتون في بلدٍ فهل يُستفتى أي أحد منهم، أم لا بد من البحث عن الأفضل؟ 

لا يجوز للمستفتي إذا أراد معرفة حكم مسألة أن يسأل مجهولَ الحال، بل عليه سؤال من غلب على ظنه أنه أهل للفتوى، ولا يكفي في ذلك ظهور سيماء العلماء عليه، فليس كل من انتسب إلى العلم وانتصب للتدريس والإقراء يجوز استفتاؤه، بل لا بد أن يكون أهلًا للفتوى، بأن يغلب ذلك على ظن المستفتي، وطريق هذا الظن استفاضة كونه أهلًا للفتوى، لا مجرد الشهرة؛ يقول الإمام النووي في "آداب الفتوى" (ص: 72، ط. دار الفكر): [ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلًا للفتوى. وقال بعض أصحابنا المتأخرين: إنما يعتمد قوله أنا أهل للفتوى لا شهرته بذلك، ولا يكتفي بالاستفاضة ولا بالتواتر؛ لأن الاستفاضة والشهرة بين العامة لا يوثق بها وقد يكون أصلها التلبيس، وأما التواتر فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس. والصحيح الأول] اهـ.
ومن صور هذه الاستفاضة: إقامة الإمام أو نائبه مفتيًا، أو من يُجاز للإفتاء ممن يقيمهم الإمام.
والناظر في تفسير الأصوليين لصورة تعدد المفتين يلاحظ اعتمادهم قيدَ الإمكان، فمن لا يمكن المستفتي سؤاله بسبب بُعدٍ أو خوفٍ أو غيره من الموانع فوجوده كعدمه حتى ولو كان في بلده والعكس، وتطور وسائل الاتصالات له أثر كبير في شرط الإمكان، فإذا اجتمع في بلد المستفتي أكثر من مفتٍ كملت أهليتهم بأن تحققت فيهم شروط الإفتاء فإما أن يعلم المستفتي آرائهم في المستفتى فيه أو لا، فإن لم يعلم آراءهم، فقد اختلف الأصوليون فيمن يحق للمستفتي سؤاله على قولين:
- أولهما وهو المختار: له استفتاء من شاء ولا يجب عليه البحث عن الأعلم، وهو قول جمهور الأصوليين.
- وثانيهما: أن عليه البحث عن أفضلهما، وذهب إليه جماعة من الأصوليين، منهم ابن القصَّار والشاطبي المالكيَّين، وابن سريج والقفَّال المروزي والقاضي حسين والسَّمعاني من الشافعية، واختاره ابن عقيل وابن القيم من الحنابلة.
يقول العلامة أمير بادشاه في "تيسير التحرير" (4/ 251، ط. دار الفكر): [(يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل) عند أكثر الحنابلة كالقاضي وأبي الخطاب وصاحب الروضة، وقاله الحنفية والمالكية وأكثر الشافعية (وأحمد. وطائفة كثيرة من الفقهاء) متفقون (على المنع) كابن سريج والقفال والمروزي وابن السمعاني والخلاف في القطر الواحد إذ لا خلاف في أنه لا يجب عليه تقليد أفضل أهل الدنيا، كذا ذكره الزركشي في "شرحه"، وفي رواية أحمد مع الجمهور] اهـ.
وقال الإمام الزركشي في "البحر المحيط" (8/ 365، ط. دار الكتبي): [إذا لم يكن هناك إلا مفت واحد تعينت مراجعته، وإن كانوا جماعة فهل يلزمه النظر في الأعلم؟ فيه وجهان، بناء على الخلاف السابق في تقليد المفضول، أحدهما وبه قال ابن سريج والقفال أن عليه اجتهادًا آخر في طلبه، لأنه يتوصل إليه بالسماع من الثقات ولا يشق عليه، وصحَّحه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وإلكيا، فإن الأفضل أهدى إلى أسرار الشرع. والمختار أنه لا يجب، بل يتخير ويسأل من شاء منهما.
قال الرافعي: وهو الأصح عند عامة الأصحاب، وقال: إنه الأصح كما لا يلزم الاجتهاد في طلب الدليل.
وقد قال الشافعي رضي الله عنه في "الأعمى": كل من دلَّه من المسلمين على القبلة وسعه اتباعه ولم نأمره بالاجتهاد في الأوثق] اهـ.
وقال الإمام الغزالي في "المستصفى" (ص: 373، ط. دار الكتب العلمية): [مسألة إذا لم يكن في البلدة إلا مفتٍ واحدٍ وجب على العامي مراجعته، وإن كانوا جماعة فله أن يسأل من شاء ولا يلزمه مراجعة الأعلم كما فعل في زمان الصحابة إذ سأل العوام الفاضل والمفضول ولم يحجر على الخلق في سؤال غير أبي بكر وعمر وغير الخلفاء. وقال قوم: تجب مراجعة الأفضل، فإن استووا تخيَّر بينهم.
وهذا يخالف إجماع الصحابة إذ لم يحجر الفاضل على المفضول الفتوى بل لا تجب إلا مراجعة من عرفه بالعلم والعدالة وقد عرف كلهم بذلك] اهـ.
وفي "الوصول إلى الأصول" لابن بَرهان (2/ 363-364، ط. مكتبة المعارف بالرياض): [اختلف العلماء في العامي إذا حدثت له حادثة فهل يجوز له تقليد من شاء أم يتعين عليه النظر في أعيان المجتهدين؟ فقال قوم يجب عليه أن يتلقف من كل باب من أبواب الفقه مسائل ويحفظ أجوبتها ويسأل العالم فإن أصاب في الجواب قلده. وقال قائلون بل يقلد من ظهر ذكره بالفقه وشاع وانتشر. وقال قوم بل يقول للعالم أمجتهد أنت فأقلدك؟ فإن أجابه إلى ذلك قلده، وهو أصح المذاهب] اهـ.
وقال العلامة الـمرْداوي في "التحبير" (8/ 4080-4084، ط. دار الرشد): [قوله: (وله تقليد مفضول عند أكثر أصحابنا والأكثر. وقيل: إن اعتقده فاضلًا أو مساويًا. وعند ابن عقيل وابن سريج والقفال والسمعاني يلزمه الاجتهاد فيقدِّم الأرجح، ومعناه للخرقي وغيره. ولأحمد: روايتان) الأول: قول أكثر أصحابنا منهم القاضي، وأبو الخطاب، وصاحب الروضة، وقاله الحنفية والمالكية، وأكثر الشافعية.
والقول الثاني: له تقليده إن اعتقده فاضلًا أو مساويًا، واختاره التاج السبكي والبرماوي وجمعٌ، ووجهه: أنه إذا اعتقده مفضولًا فقوله عنده مرجوح، وليس من القواعد أن يعدل عن الراجح إلى المرجوح. وقال ابن عقيل: يلزمه الاجتهاد، فيقدم الأرجح. ومعناه: قول الخرقي والموفَّق في المقنع وغيرهما في استقبال القبلة، وقاله ابن سريج والقفال والقاضي حسين وابن السمعاني، والباقلاني، ولأحمد روايتان، كالأول وهذا.
استدل للأول: بأن المفضول من الصحابة والسلف كان يفتي مع وجود الفاضل مع الاشتهار والتكرار ولم ينكر ذلك أحد، فكان إجماعًا على جواز استفتائه مع القدرة على استفتاء الفاضل، وقال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ»، وفيهم الأفضل من غيره. وأيضًا: العامي لا يمكنه الترجيح لقصوره، ولو كلف بذلك لكان تكليفًا بضرب من الاجتهاد. لكن زيَّف ابن الحاجب بأن ذلك يظهر بالتسامع ورجوع العلماء إليه وغيره لكثرة المستفتين وتقديم العلماء له] اهـ.
وجملة ما استدل به أصحاب الرأي الأول ما يلي:
1- أنه يجوز سؤال المفضول مع وجود الفاضل، والدليل على ذلك حديث العسيف، وفيه أن رجلًا من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: إن ابني كان عسيفًا -أي أجيرًا- على هذا، فزنى بامرأته، فقالوا لي: على ابنك الرجم، ففديت ابني منه بمائة من الغنم ووليدة، ثم سألت أهل العلم، فقالوا: إنما على ابنك جلد مائة، وتغريب عام.
والشاهد فيه سؤاله أهل العلم مع وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه، كما أن الصحابة فيهم الفاضل وفيهم المفضول، ومع ذلك فقد كان المفضول يفتي مع وجود الفاضل بلا نكير.
2- أن المستفتي لا يمكنه معرفة أفضل المجتهدين ولا أكثرهم علمًا، ولو أوجبنا عليه ذلك لأوقعناه في الحيرة والحرج لا سيما وأننا لم نوجب عليه الاجتهاد في معرفة الحكم الشرعي، فكذلك لا نوجب عليه الاجتهاد في معرفة أفضل المفتين أو البحث عن ذلك، يضاف إلى ذلك أن المستفتي يجب عليه الرجوع إلى مفتٍ استجمع شروط الإفتاء، وهو حاصل في المفضول. انظر: "اللمع" لأبي إسحاق (ص: 256، ط. دار الكلم الطيب ودار ابن كثير).
3- أن وجود المفتي الأفضل لا يبطل فتوى المفتي المفضول، فلا يمنع حينئذٍ من استفتاء المفضول.
واستدل أصحاب القول الثاني بأن الرجوع إلى قول الغير لا يجوز إلا بعد العلم بأنه أهل لذلك، بدليل الحاكم والمقوِّم للسلع لا يجوز الرجوع إليهم إلا بعد العلم بأهليتهما، فكذلك في التقليد، ومتى لم يعلم المستفتي أهلية مفتيه لم يثق به ولم يكن قوله بأولى من قول غيره. انظر: "الواضح" (5/ 466، ط. مؤسسة الرسالة).
كما أن المفتين في نظر المستفتي كالأدلة المتعارضة في حق المجتهد، والمجتهد عند التعارض يقدِّم الأرجح فكذلك المستفتي عند تعدد المفتين، والأمر في الترجيح دائر مع الظن، فمن اعتقد أن الشافعي رحمه الله أعلم والصواب على مذهبه أغلب فليس له أن يأخذ بمذهب مخالفه بالتشهي، وهكذا.
ويمكن أن يجاب على ما استدل به أصحاب هذا الرأي الثاني بما يلي:
- الاستدلال بأنه لا يجوز الرجوع إلى قول الغير إلا بعد العلم بأنه أهل لذلك خارج عن محل النزاع؛ لأن غير الأهل للفتيا لا يجوز سؤاله أصلًا، وفرض مسألتنا فيمن تحققت فيه شروط الإفتاء مع تعدده.
- والقول بأن المفتين في نظر المستفتي كالأدلة المتعارضة للمجتهد منقوض بأن الترجيح من أعمال المجتهد أصالة لكثرة علمه وقوة ذهنه بخلاف المستفتي فلا عبرة بترجيحه ولو بين المفتين، وإذا كانت المسألة المستفتي فيها من قبيل الظنون –وهي كذلك وإلا لما وقع فيها خلاف بين المفتين فيها- فلا حرج على من أخذ بظنِّ مفتٍ وإن خالف ظنَّ مفت آخر.
- ولا يقال إن جعل المستفتي بالتخيير بين استفتاء أحد المفتين يفتح باب اتباع الهوى، لأن ذلك لو كان هؤلاء المفتون غير متحققين بشروط الإفتاء، فلو قيل بالتخيير بين كل من انتسب للفتوى أو اشتغل بالعلم من غير معرفة كاملة لكان هذا فتحًا لباب اتباع المستفتين الهوى.
- أما الحالة الثانية وهي علم المستفتي بآراء المفتين في المستفتى فيه -بأن قال أحدهم بالكراهة وقال الآخر بالحرمة مثلًا- فاختلفت كلمة الأصوليين أيضًا في من يؤخذ بقوله، وأوصل الزركشي الأقوال في المسألة إلى عشرة أقوال، والذي نأخذ به أن له الأخذ بقول أيهما شاء، حتى ولو كان صاحب القول المتروك هو الأفضل، وتعليل ذلك أن سؤال المفضول مع وجود الأفضل جائزٌ كما سبق.
ويتبين أن المفتين إذا كملت أهليتهم للفتوى فالمستفتي له مطلق الاختيار في سؤال أحدهم ما دام قد غلب على ظنه أنه أهل الفتوى، وله أيضًا الأخذ بقول أيّهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم. 

التفاصيل ....

لا يجوز للمستفتي إذا أراد معرفة حكم مسألة أن يسأل مجهولَ الحال، بل عليه سؤال من غلب على ظنه أنه أهل للفتوى، ولا يكفي في ذلك ظهور سيماء العلماء عليه، فليس كل من انتسب إلى العلم وانتصب للتدريس والإقراء يجوز استفتاؤه، بل لا بد أن يكون أهلًا للفتوى، بأن يغلب ذلك على ظن المستفتي، وطريق هذا الظن استفاضة كونه أهلًا للفتوى، لا مجرد الشهرة؛ يقول الإمام النووي في "آداب الفتوى" (ص: 72، ط. دار الفكر): [ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلًا للفتوى. وقال بعض أصحابنا المتأخرين: إنما يعتمد قوله أنا أهل للفتوى لا شهرته بذلك، ولا يكتفي بالاستفاضة ولا بالتواتر؛ لأن الاستفاضة والشهرة بين العامة لا يوثق بها وقد يكون أصلها التلبيس، وأما التواتر فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس. والصحيح الأول] اهـ.
ومن صور هذه الاستفاضة: إقامة الإمام أو نائبه مفتيًا، أو من يُجاز للإفتاء ممن يقيمهم الإمام.
والناظر في تفسير الأصوليين لصورة تعدد المفتين يلاحظ اعتمادهم قيدَ الإمكان، فمن لا يمكن المستفتي سؤاله بسبب بُعدٍ أو خوفٍ أو غيره من الموانع فوجوده كعدمه حتى ولو كان في بلده والعكس، وتطور وسائل الاتصالات له أثر كبير في شرط الإمكان، فإذا اجتمع في بلد المستفتي أكثر من مفتٍ كملت أهليتهم بأن تحققت فيهم شروط الإفتاء فإما أن يعلم المستفتي آرائهم في المستفتى فيه أو لا، فإن لم يعلم آراءهم، فقد اختلف الأصوليون فيمن يحق للمستفتي سؤاله على قولين:
- أولهما وهو المختار: له استفتاء من شاء ولا يجب عليه البحث عن الأعلم، وهو قول جمهور الأصوليين.
- وثانيهما: أن عليه البحث عن أفضلهما، وذهب إليه جماعة من الأصوليين، منهم ابن القصَّار والشاطبي المالكيَّين، وابن سريج والقفَّال المروزي والقاضي حسين والسَّمعاني من الشافعية، واختاره ابن عقيل وابن القيم من الحنابلة.
يقول العلامة أمير بادشاه في "تيسير التحرير" (4/ 251، ط. دار الفكر): [(يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل) عند أكثر الحنابلة كالقاضي وأبي الخطاب وصاحب الروضة، وقاله الحنفية والمالكية وأكثر الشافعية (وأحمد. وطائفة كثيرة من الفقهاء) متفقون (على المنع) كابن سريج والقفال والمروزي وابن السمعاني والخلاف في القطر الواحد إذ لا خلاف في أنه لا يجب عليه تقليد أفضل أهل الدنيا، كذا ذكره الزركشي في "شرحه"، وفي رواية أحمد مع الجمهور] اهـ.
وقال الإمام الزركشي في "البحر المحيط" (8/ 365، ط. دار الكتبي): [إذا لم يكن هناك إلا مفت واحد تعينت مراجعته، وإن كانوا جماعة فهل يلزمه النظر في الأعلم؟ فيه وجهان، بناء على الخلاف السابق في تقليد المفضول، أحدهما وبه قال ابن سريج والقفال أن عليه اجتهادًا آخر في طلبه، لأنه يتوصل إليه بالسماع من الثقات ولا يشق عليه، وصحَّحه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وإلكيا، فإن الأفضل أهدى إلى أسرار الشرع. والمختار أنه لا يجب، بل يتخير ويسأل من شاء منهما.
قال الرافعي: وهو الأصح عند عامة الأصحاب، وقال: إنه الأصح كما لا يلزم الاجتهاد في طلب الدليل.
وقد قال الشافعي رضي الله عنه في "الأعمى": كل من دلَّه من المسلمين على القبلة وسعه اتباعه ولم نأمره بالاجتهاد في الأوثق] اهـ.
وقال الإمام الغزالي في "المستصفى" (ص: 373، ط. دار الكتب العلمية): [مسألة إذا لم يكن في البلدة إلا مفتٍ واحدٍ وجب على العامي مراجعته، وإن كانوا جماعة فله أن يسأل من شاء ولا يلزمه مراجعة الأعلم كما فعل في زمان الصحابة إذ سأل العوام الفاضل والمفضول ولم يحجر على الخلق في سؤال غير أبي بكر وعمر وغير الخلفاء. وقال قوم: تجب مراجعة الأفضل، فإن استووا تخيَّر بينهم.
وهذا يخالف إجماع الصحابة إذ لم يحجر الفاضل على المفضول الفتوى بل لا تجب إلا مراجعة من عرفه بالعلم والعدالة وقد عرف كلهم بذلك] اهـ.
وفي "الوصول إلى الأصول" لابن بَرهان (2/ 363-364، ط. مكتبة المعارف بالرياض): [اختلف العلماء في العامي إذا حدثت له حادثة فهل يجوز له تقليد من شاء أم يتعين عليه النظر في أعيان المجتهدين؟ فقال قوم يجب عليه أن يتلقف من كل باب من أبواب الفقه مسائل ويحفظ أجوبتها ويسأل العالم فإن أصاب في الجواب قلده. وقال قائلون بل يقلد من ظهر ذكره بالفقه وشاع وانتشر. وقال قوم بل يقول للعالم أمجتهد أنت فأقلدك؟ فإن أجابه إلى ذلك قلده، وهو أصح المذاهب] اهـ.
وقال العلامة الـمرْداوي في "التحبير" (8/ 4080-4084، ط. دار الرشد): [قوله: (وله تقليد مفضول عند أكثر أصحابنا والأكثر. وقيل: إن اعتقده فاضلًا أو مساويًا. وعند ابن عقيل وابن سريج والقفال والسمعاني يلزمه الاجتهاد فيقدِّم الأرجح، ومعناه للخرقي وغيره. ولأحمد: روايتان) الأول: قول أكثر أصحابنا منهم القاضي، وأبو الخطاب، وصاحب الروضة، وقاله الحنفية والمالكية، وأكثر الشافعية.
والقول الثاني: له تقليده إن اعتقده فاضلًا أو مساويًا، واختاره التاج السبكي والبرماوي وجمعٌ، ووجهه: أنه إذا اعتقده مفضولًا فقوله عنده مرجوح، وليس من القواعد أن يعدل عن الراجح إلى المرجوح. وقال ابن عقيل: يلزمه الاجتهاد، فيقدم الأرجح. ومعناه: قول الخرقي والموفَّق في المقنع وغيرهما في استقبال القبلة، وقاله ابن سريج والقفال والقاضي حسين وابن السمعاني، والباقلاني، ولأحمد روايتان، كالأول وهذا.
استدل للأول: بأن المفضول من الصحابة والسلف كان يفتي مع وجود الفاضل مع الاشتهار والتكرار ولم ينكر ذلك أحد، فكان إجماعًا على جواز استفتائه مع القدرة على استفتاء الفاضل، وقال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ»، وفيهم الأفضل من غيره. وأيضًا: العامي لا يمكنه الترجيح لقصوره، ولو كلف بذلك لكان تكليفًا بضرب من الاجتهاد. لكن زيَّف ابن الحاجب بأن ذلك يظهر بالتسامع ورجوع العلماء إليه وغيره لكثرة المستفتين وتقديم العلماء له] اهـ.
وجملة ما استدل به أصحاب الرأي الأول ما يلي:
1- أنه يجوز سؤال المفضول مع وجود الفاضل، والدليل على ذلك حديث العسيف، وفيه أن رجلًا من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: إن ابني كان عسيفًا -أي أجيرًا- على هذا، فزنى بامرأته، فقالوا لي: على ابنك الرجم، ففديت ابني منه بمائة من الغنم ووليدة، ثم سألت أهل العلم، فقالوا: إنما على ابنك جلد مائة، وتغريب عام.
والشاهد فيه سؤاله أهل العلم مع وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه، كما أن الصحابة فيهم الفاضل وفيهم المفضول، ومع ذلك فقد كان المفضول يفتي مع وجود الفاضل بلا نكير.
2- أن المستفتي لا يمكنه معرفة أفضل المجتهدين ولا أكثرهم علمًا، ولو أوجبنا عليه ذلك لأوقعناه في الحيرة والحرج لا سيما وأننا لم نوجب عليه الاجتهاد في معرفة الحكم الشرعي، فكذلك لا نوجب عليه الاجتهاد في معرفة أفضل المفتين أو البحث عن ذلك، يضاف إلى ذلك أن المستفتي يجب عليه الرجوع إلى مفتٍ استجمع شروط الإفتاء، وهو حاصل في المفضول. انظر: "اللمع" لأبي إسحاق (ص: 256، ط. دار الكلم الطيب ودار ابن كثير).
3- أن وجود المفتي الأفضل لا يبطل فتوى المفتي المفضول، فلا يمنع حينئذٍ من استفتاء المفضول.
واستدل أصحاب القول الثاني بأن الرجوع إلى قول الغير لا يجوز إلا بعد العلم بأنه أهل لذلك، بدليل الحاكم والمقوِّم للسلع لا يجوز الرجوع إليهم إلا بعد العلم بأهليتهما، فكذلك في التقليد، ومتى لم يعلم المستفتي أهلية مفتيه لم يثق به ولم يكن قوله بأولى من قول غيره. انظر: "الواضح" (5/ 466، ط. مؤسسة الرسالة).
كما أن المفتين في نظر المستفتي كالأدلة المتعارضة في حق المجتهد، والمجتهد عند التعارض يقدِّم الأرجح فكذلك المستفتي عند تعدد المفتين، والأمر في الترجيح دائر مع الظن، فمن اعتقد أن الشافعي رحمه الله أعلم والصواب على مذهبه أغلب فليس له أن يأخذ بمذهب مخالفه بالتشهي، وهكذا.
ويمكن أن يجاب على ما استدل به أصحاب هذا الرأي الثاني بما يلي:
- الاستدلال بأنه لا يجوز الرجوع إلى قول الغير إلا بعد العلم بأنه أهل لذلك خارج عن محل النزاع؛ لأن غير الأهل للفتيا لا يجوز سؤاله أصلًا، وفرض مسألتنا فيمن تحققت فيه شروط الإفتاء مع تعدده.
- والقول بأن المفتين في نظر المستفتي كالأدلة المتعارضة للمجتهد منقوض بأن الترجيح من أعمال المجتهد أصالة لكثرة علمه وقوة ذهنه بخلاف المستفتي فلا عبرة بترجيحه ولو بين المفتين، وإذا كانت المسألة المستفتي فيها من قبيل الظنون –وهي كذلك وإلا لما وقع فيها خلاف بين المفتين فيها- فلا حرج على من أخذ بظنِّ مفتٍ وإن خالف ظنَّ مفت آخر.
- ولا يقال إن جعل المستفتي بالتخيير بين استفتاء أحد المفتين يفتح باب اتباع الهوى، لأن ذلك لو كان هؤلاء المفتون غير متحققين بشروط الإفتاء، فلو قيل بالتخيير بين كل من انتسب للفتوى أو اشتغل بالعلم من غير معرفة كاملة لكان هذا فتحًا لباب اتباع المستفتين الهوى.
- أما الحالة الثانية وهي علم المستفتي بآراء المفتين في المستفتى فيه -بأن قال أحدهم بالكراهة وقال الآخر بالحرمة مثلًا- فاختلفت كلمة الأصوليين أيضًا في من يؤخذ بقوله، وأوصل الزركشي الأقوال في المسألة إلى عشرة أقوال، والذي نأخذ به أن له الأخذ بقول أيهما شاء، حتى ولو كان صاحب القول المتروك هو الأفضل، وتعليل ذلك أن سؤال المفضول مع وجود الأفضل جائزٌ كما سبق.
ويتبين أن المفتين إذا كملت أهليتهم للفتوى فالمستفتي له مطلق الاختيار في سؤال أحدهم ما دام قد غلب على ظنه أنه أهل الفتوى، وله أيضًا الأخذ بقول أيّهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم. 

اقرأ أيضا

موقف المستفتي من تعدد المفتين

إذا كَثُرَ المفتون في بلدٍ فهل يُستفتى أي أحد منهم، أم لا بد من البحث عن الأفضل؟ 

لا يجوز للمستفتي إذا أراد معرفة حكم مسألة أن يسأل مجهولَ الحال، بل عليه سؤال من غلب على ظنه أنه أهل للفتوى، ولا يكفي في ذلك ظهور سيماء العلماء عليه، فليس كل من انتسب إلى العلم وانتصب للتدريس والإقراء يجوز استفتاؤه، بل لا بد أن يكون أهلًا للفتوى، بأن يغلب ذلك على ظن المستفتي، وطريق هذا الظن استفاضة كونه أهلًا للفتوى، لا مجرد الشهرة؛ يقول الإمام النووي في "آداب الفتوى" (ص: 72، ط. دار الفكر): [ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلًا للفتوى. وقال بعض أصحابنا المتأخرين: إنما يعتمد قوله أنا أهل للفتوى لا شهرته بذلك، ولا يكتفي بالاستفاضة ولا بالتواتر؛ لأن الاستفاضة والشهرة بين العامة لا يوثق بها وقد يكون أصلها التلبيس، وأما التواتر فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس. والصحيح الأول] اهـ.
ومن صور هذه الاستفاضة: إقامة الإمام أو نائبه مفتيًا، أو من يُجاز للإفتاء ممن يقيمهم الإمام.
والناظر في تفسير الأصوليين لصورة تعدد المفتين يلاحظ اعتمادهم قيدَ الإمكان، فمن لا يمكن المستفتي سؤاله بسبب بُعدٍ أو خوفٍ أو غيره من الموانع فوجوده كعدمه حتى ولو كان في بلده والعكس، وتطور وسائل الاتصالات له أثر كبير في شرط الإمكان، فإذا اجتمع في بلد المستفتي أكثر من مفتٍ كملت أهليتهم بأن تحققت فيهم شروط الإفتاء فإما أن يعلم المستفتي آرائهم في المستفتى فيه أو لا، فإن لم يعلم آراءهم، فقد اختلف الأصوليون فيمن يحق للمستفتي سؤاله على قولين:
- أولهما وهو المختار: له استفتاء من شاء ولا يجب عليه البحث عن الأعلم، وهو قول جمهور الأصوليين.
- وثانيهما: أن عليه البحث عن أفضلهما، وذهب إليه جماعة من الأصوليين، منهم ابن القصَّار والشاطبي المالكيَّين، وابن سريج والقفَّال المروزي والقاضي حسين والسَّمعاني من الشافعية، واختاره ابن عقيل وابن القيم من الحنابلة.
يقول العلامة أمير بادشاه في "تيسير التحرير" (4/ 251، ط. دار الفكر): [(يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل) عند أكثر الحنابلة كالقاضي وأبي الخطاب وصاحب الروضة، وقاله الحنفية والمالكية وأكثر الشافعية (وأحمد. وطائفة كثيرة من الفقهاء) متفقون (على المنع) كابن سريج والقفال والمروزي وابن السمعاني والخلاف في القطر الواحد إذ لا خلاف في أنه لا يجب عليه تقليد أفضل أهل الدنيا، كذا ذكره الزركشي في "شرحه"، وفي رواية أحمد مع الجمهور] اهـ.
وقال الإمام الزركشي في "البحر المحيط" (8/ 365، ط. دار الكتبي): [إذا لم يكن هناك إلا مفت واحد تعينت مراجعته، وإن كانوا جماعة فهل يلزمه النظر في الأعلم؟ فيه وجهان، بناء على الخلاف السابق في تقليد المفضول، أحدهما وبه قال ابن سريج والقفال أن عليه اجتهادًا آخر في طلبه، لأنه يتوصل إليه بالسماع من الثقات ولا يشق عليه، وصحَّحه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وإلكيا، فإن الأفضل أهدى إلى أسرار الشرع. والمختار أنه لا يجب، بل يتخير ويسأل من شاء منهما.
قال الرافعي: وهو الأصح عند عامة الأصحاب، وقال: إنه الأصح كما لا يلزم الاجتهاد في طلب الدليل.
وقد قال الشافعي رضي الله عنه في "الأعمى": كل من دلَّه من المسلمين على القبلة وسعه اتباعه ولم نأمره بالاجتهاد في الأوثق] اهـ.
وقال الإمام الغزالي في "المستصفى" (ص: 373، ط. دار الكتب العلمية): [مسألة إذا لم يكن في البلدة إلا مفتٍ واحدٍ وجب على العامي مراجعته، وإن كانوا جماعة فله أن يسأل من شاء ولا يلزمه مراجعة الأعلم كما فعل في زمان الصحابة إذ سأل العوام الفاضل والمفضول ولم يحجر على الخلق في سؤال غير أبي بكر وعمر وغير الخلفاء. وقال قوم: تجب مراجعة الأفضل، فإن استووا تخيَّر بينهم.
وهذا يخالف إجماع الصحابة إذ لم يحجر الفاضل على المفضول الفتوى بل لا تجب إلا مراجعة من عرفه بالعلم والعدالة وقد عرف كلهم بذلك] اهـ.
وفي "الوصول إلى الأصول" لابن بَرهان (2/ 363-364، ط. مكتبة المعارف بالرياض): [اختلف العلماء في العامي إذا حدثت له حادثة فهل يجوز له تقليد من شاء أم يتعين عليه النظر في أعيان المجتهدين؟ فقال قوم يجب عليه أن يتلقف من كل باب من أبواب الفقه مسائل ويحفظ أجوبتها ويسأل العالم فإن أصاب في الجواب قلده. وقال قائلون بل يقلد من ظهر ذكره بالفقه وشاع وانتشر. وقال قوم بل يقول للعالم أمجتهد أنت فأقلدك؟ فإن أجابه إلى ذلك قلده، وهو أصح المذاهب] اهـ.
وقال العلامة الـمرْداوي في "التحبير" (8/ 4080-4084، ط. دار الرشد): [قوله: (وله تقليد مفضول عند أكثر أصحابنا والأكثر. وقيل: إن اعتقده فاضلًا أو مساويًا. وعند ابن عقيل وابن سريج والقفال والسمعاني يلزمه الاجتهاد فيقدِّم الأرجح، ومعناه للخرقي وغيره. ولأحمد: روايتان) الأول: قول أكثر أصحابنا منهم القاضي، وأبو الخطاب، وصاحب الروضة، وقاله الحنفية والمالكية، وأكثر الشافعية.
والقول الثاني: له تقليده إن اعتقده فاضلًا أو مساويًا، واختاره التاج السبكي والبرماوي وجمعٌ، ووجهه: أنه إذا اعتقده مفضولًا فقوله عنده مرجوح، وليس من القواعد أن يعدل عن الراجح إلى المرجوح. وقال ابن عقيل: يلزمه الاجتهاد، فيقدم الأرجح. ومعناه: قول الخرقي والموفَّق في المقنع وغيرهما في استقبال القبلة، وقاله ابن سريج والقفال والقاضي حسين وابن السمعاني، والباقلاني، ولأحمد روايتان، كالأول وهذا.
استدل للأول: بأن المفضول من الصحابة والسلف كان يفتي مع وجود الفاضل مع الاشتهار والتكرار ولم ينكر ذلك أحد، فكان إجماعًا على جواز استفتائه مع القدرة على استفتاء الفاضل، وقال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ»، وفيهم الأفضل من غيره. وأيضًا: العامي لا يمكنه الترجيح لقصوره، ولو كلف بذلك لكان تكليفًا بضرب من الاجتهاد. لكن زيَّف ابن الحاجب بأن ذلك يظهر بالتسامع ورجوع العلماء إليه وغيره لكثرة المستفتين وتقديم العلماء له] اهـ.
وجملة ما استدل به أصحاب الرأي الأول ما يلي:
1- أنه يجوز سؤال المفضول مع وجود الفاضل، والدليل على ذلك حديث العسيف، وفيه أن رجلًا من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: إن ابني كان عسيفًا -أي أجيرًا- على هذا، فزنى بامرأته، فقالوا لي: على ابنك الرجم، ففديت ابني منه بمائة من الغنم ووليدة، ثم سألت أهل العلم، فقالوا: إنما على ابنك جلد مائة، وتغريب عام.
والشاهد فيه سؤاله أهل العلم مع وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه، كما أن الصحابة فيهم الفاضل وفيهم المفضول، ومع ذلك فقد كان المفضول يفتي مع وجود الفاضل بلا نكير.
2- أن المستفتي لا يمكنه معرفة أفضل المجتهدين ولا أكثرهم علمًا، ولو أوجبنا عليه ذلك لأوقعناه في الحيرة والحرج لا سيما وأننا لم نوجب عليه الاجتهاد في معرفة الحكم الشرعي، فكذلك لا نوجب عليه الاجتهاد في معرفة أفضل المفتين أو البحث عن ذلك، يضاف إلى ذلك أن المستفتي يجب عليه الرجوع إلى مفتٍ استجمع شروط الإفتاء، وهو حاصل في المفضول. انظر: "اللمع" لأبي إسحاق (ص: 256، ط. دار الكلم الطيب ودار ابن كثير).
3- أن وجود المفتي الأفضل لا يبطل فتوى المفتي المفضول، فلا يمنع حينئذٍ من استفتاء المفضول.
واستدل أصحاب القول الثاني بأن الرجوع إلى قول الغير لا يجوز إلا بعد العلم بأنه أهل لذلك، بدليل الحاكم والمقوِّم للسلع لا يجوز الرجوع إليهم إلا بعد العلم بأهليتهما، فكذلك في التقليد، ومتى لم يعلم المستفتي أهلية مفتيه لم يثق به ولم يكن قوله بأولى من قول غيره. انظر: "الواضح" (5/ 466، ط. مؤسسة الرسالة).
كما أن المفتين في نظر المستفتي كالأدلة المتعارضة في حق المجتهد، والمجتهد عند التعارض يقدِّم الأرجح فكذلك المستفتي عند تعدد المفتين، والأمر في الترجيح دائر مع الظن، فمن اعتقد أن الشافعي رحمه الله أعلم والصواب على مذهبه أغلب فليس له أن يأخذ بمذهب مخالفه بالتشهي، وهكذا.
ويمكن أن يجاب على ما استدل به أصحاب هذا الرأي الثاني بما يلي:
- الاستدلال بأنه لا يجوز الرجوع إلى قول الغير إلا بعد العلم بأنه أهل لذلك خارج عن محل النزاع؛ لأن غير الأهل للفتيا لا يجوز سؤاله أصلًا، وفرض مسألتنا فيمن تحققت فيه شروط الإفتاء مع تعدده.
- والقول بأن المفتين في نظر المستفتي كالأدلة المتعارضة للمجتهد منقوض بأن الترجيح من أعمال المجتهد أصالة لكثرة علمه وقوة ذهنه بخلاف المستفتي فلا عبرة بترجيحه ولو بين المفتين، وإذا كانت المسألة المستفتي فيها من قبيل الظنون –وهي كذلك وإلا لما وقع فيها خلاف بين المفتين فيها- فلا حرج على من أخذ بظنِّ مفتٍ وإن خالف ظنَّ مفت آخر.
- ولا يقال إن جعل المستفتي بالتخيير بين استفتاء أحد المفتين يفتح باب اتباع الهوى، لأن ذلك لو كان هؤلاء المفتون غير متحققين بشروط الإفتاء، فلو قيل بالتخيير بين كل من انتسب للفتوى أو اشتغل بالعلم من غير معرفة كاملة لكان هذا فتحًا لباب اتباع المستفتين الهوى.
- أما الحالة الثانية وهي علم المستفتي بآراء المفتين في المستفتى فيه -بأن قال أحدهم بالكراهة وقال الآخر بالحرمة مثلًا- فاختلفت كلمة الأصوليين أيضًا في من يؤخذ بقوله، وأوصل الزركشي الأقوال في المسألة إلى عشرة أقوال، والذي نأخذ به أن له الأخذ بقول أيهما شاء، حتى ولو كان صاحب القول المتروك هو الأفضل، وتعليل ذلك أن سؤال المفضول مع وجود الأفضل جائزٌ كما سبق.
ويتبين أن المفتين إذا كملت أهليتهم للفتوى فالمستفتي له مطلق الاختيار في سؤال أحدهم ما دام قد غلب على ظنه أنه أهل الفتوى، وله أيضًا الأخذ بقول أيّهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم. 

التفاصيل ....

لا يجوز للمستفتي إذا أراد معرفة حكم مسألة أن يسأل مجهولَ الحال، بل عليه سؤال من غلب على ظنه أنه أهل للفتوى، ولا يكفي في ذلك ظهور سيماء العلماء عليه، فليس كل من انتسب إلى العلم وانتصب للتدريس والإقراء يجوز استفتاؤه، بل لا بد أن يكون أهلًا للفتوى، بأن يغلب ذلك على ظن المستفتي، وطريق هذا الظن استفاضة كونه أهلًا للفتوى، لا مجرد الشهرة؛ يقول الإمام النووي في "آداب الفتوى" (ص: 72، ط. دار الفكر): [ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلًا للفتوى. وقال بعض أصحابنا المتأخرين: إنما يعتمد قوله أنا أهل للفتوى لا شهرته بذلك، ولا يكتفي بالاستفاضة ولا بالتواتر؛ لأن الاستفاضة والشهرة بين العامة لا يوثق بها وقد يكون أصلها التلبيس، وأما التواتر فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس. والصحيح الأول] اهـ.
ومن صور هذه الاستفاضة: إقامة الإمام أو نائبه مفتيًا، أو من يُجاز للإفتاء ممن يقيمهم الإمام.
والناظر في تفسير الأصوليين لصورة تعدد المفتين يلاحظ اعتمادهم قيدَ الإمكان، فمن لا يمكن المستفتي سؤاله بسبب بُعدٍ أو خوفٍ أو غيره من الموانع فوجوده كعدمه حتى ولو كان في بلده والعكس، وتطور وسائل الاتصالات له أثر كبير في شرط الإمكان، فإذا اجتمع في بلد المستفتي أكثر من مفتٍ كملت أهليتهم بأن تحققت فيهم شروط الإفتاء فإما أن يعلم المستفتي آرائهم في المستفتى فيه أو لا، فإن لم يعلم آراءهم، فقد اختلف الأصوليون فيمن يحق للمستفتي سؤاله على قولين:
- أولهما وهو المختار: له استفتاء من شاء ولا يجب عليه البحث عن الأعلم، وهو قول جمهور الأصوليين.
- وثانيهما: أن عليه البحث عن أفضلهما، وذهب إليه جماعة من الأصوليين، منهم ابن القصَّار والشاطبي المالكيَّين، وابن سريج والقفَّال المروزي والقاضي حسين والسَّمعاني من الشافعية، واختاره ابن عقيل وابن القيم من الحنابلة.
يقول العلامة أمير بادشاه في "تيسير التحرير" (4/ 251، ط. دار الفكر): [(يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل) عند أكثر الحنابلة كالقاضي وأبي الخطاب وصاحب الروضة، وقاله الحنفية والمالكية وأكثر الشافعية (وأحمد. وطائفة كثيرة من الفقهاء) متفقون (على المنع) كابن سريج والقفال والمروزي وابن السمعاني والخلاف في القطر الواحد إذ لا خلاف في أنه لا يجب عليه تقليد أفضل أهل الدنيا، كذا ذكره الزركشي في "شرحه"، وفي رواية أحمد مع الجمهور] اهـ.
وقال الإمام الزركشي في "البحر المحيط" (8/ 365، ط. دار الكتبي): [إذا لم يكن هناك إلا مفت واحد تعينت مراجعته، وإن كانوا جماعة فهل يلزمه النظر في الأعلم؟ فيه وجهان، بناء على الخلاف السابق في تقليد المفضول، أحدهما وبه قال ابن سريج والقفال أن عليه اجتهادًا آخر في طلبه، لأنه يتوصل إليه بالسماع من الثقات ولا يشق عليه، وصحَّحه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وإلكيا، فإن الأفضل أهدى إلى أسرار الشرع. والمختار أنه لا يجب، بل يتخير ويسأل من شاء منهما.
قال الرافعي: وهو الأصح عند عامة الأصحاب، وقال: إنه الأصح كما لا يلزم الاجتهاد في طلب الدليل.
وقد قال الشافعي رضي الله عنه في "الأعمى": كل من دلَّه من المسلمين على القبلة وسعه اتباعه ولم نأمره بالاجتهاد في الأوثق] اهـ.
وقال الإمام الغزالي في "المستصفى" (ص: 373، ط. دار الكتب العلمية): [مسألة إذا لم يكن في البلدة إلا مفتٍ واحدٍ وجب على العامي مراجعته، وإن كانوا جماعة فله أن يسأل من شاء ولا يلزمه مراجعة الأعلم كما فعل في زمان الصحابة إذ سأل العوام الفاضل والمفضول ولم يحجر على الخلق في سؤال غير أبي بكر وعمر وغير الخلفاء. وقال قوم: تجب مراجعة الأفضل، فإن استووا تخيَّر بينهم.
وهذا يخالف إجماع الصحابة إذ لم يحجر الفاضل على المفضول الفتوى بل لا تجب إلا مراجعة من عرفه بالعلم والعدالة وقد عرف كلهم بذلك] اهـ.
وفي "الوصول إلى الأصول" لابن بَرهان (2/ 363-364، ط. مكتبة المعارف بالرياض): [اختلف العلماء في العامي إذا حدثت له حادثة فهل يجوز له تقليد من شاء أم يتعين عليه النظر في أعيان المجتهدين؟ فقال قوم يجب عليه أن يتلقف من كل باب من أبواب الفقه مسائل ويحفظ أجوبتها ويسأل العالم فإن أصاب في الجواب قلده. وقال قائلون بل يقلد من ظهر ذكره بالفقه وشاع وانتشر. وقال قوم بل يقول للعالم أمجتهد أنت فأقلدك؟ فإن أجابه إلى ذلك قلده، وهو أصح المذاهب] اهـ.
وقال العلامة الـمرْداوي في "التحبير" (8/ 4080-4084، ط. دار الرشد): [قوله: (وله تقليد مفضول عند أكثر أصحابنا والأكثر. وقيل: إن اعتقده فاضلًا أو مساويًا. وعند ابن عقيل وابن سريج والقفال والسمعاني يلزمه الاجتهاد فيقدِّم الأرجح، ومعناه للخرقي وغيره. ولأحمد: روايتان) الأول: قول أكثر أصحابنا منهم القاضي، وأبو الخطاب، وصاحب الروضة، وقاله الحنفية والمالكية، وأكثر الشافعية.
والقول الثاني: له تقليده إن اعتقده فاضلًا أو مساويًا، واختاره التاج السبكي والبرماوي وجمعٌ، ووجهه: أنه إذا اعتقده مفضولًا فقوله عنده مرجوح، وليس من القواعد أن يعدل عن الراجح إلى المرجوح. وقال ابن عقيل: يلزمه الاجتهاد، فيقدم الأرجح. ومعناه: قول الخرقي والموفَّق في المقنع وغيرهما في استقبال القبلة، وقاله ابن سريج والقفال والقاضي حسين وابن السمعاني، والباقلاني، ولأحمد روايتان، كالأول وهذا.
استدل للأول: بأن المفضول من الصحابة والسلف كان يفتي مع وجود الفاضل مع الاشتهار والتكرار ولم ينكر ذلك أحد، فكان إجماعًا على جواز استفتائه مع القدرة على استفتاء الفاضل، وقال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ»، وفيهم الأفضل من غيره. وأيضًا: العامي لا يمكنه الترجيح لقصوره، ولو كلف بذلك لكان تكليفًا بضرب من الاجتهاد. لكن زيَّف ابن الحاجب بأن ذلك يظهر بالتسامع ورجوع العلماء إليه وغيره لكثرة المستفتين وتقديم العلماء له] اهـ.
وجملة ما استدل به أصحاب الرأي الأول ما يلي:
1- أنه يجوز سؤال المفضول مع وجود الفاضل، والدليل على ذلك حديث العسيف، وفيه أن رجلًا من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: إن ابني كان عسيفًا -أي أجيرًا- على هذا، فزنى بامرأته، فقالوا لي: على ابنك الرجم، ففديت ابني منه بمائة من الغنم ووليدة، ثم سألت أهل العلم، فقالوا: إنما على ابنك جلد مائة، وتغريب عام.
والشاهد فيه سؤاله أهل العلم مع وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه، كما أن الصحابة فيهم الفاضل وفيهم المفضول، ومع ذلك فقد كان المفضول يفتي مع وجود الفاضل بلا نكير.
2- أن المستفتي لا يمكنه معرفة أفضل المجتهدين ولا أكثرهم علمًا، ولو أوجبنا عليه ذلك لأوقعناه في الحيرة والحرج لا سيما وأننا لم نوجب عليه الاجتهاد في معرفة الحكم الشرعي، فكذلك لا نوجب عليه الاجتهاد في معرفة أفضل المفتين أو البحث عن ذلك، يضاف إلى ذلك أن المستفتي يجب عليه الرجوع إلى مفتٍ استجمع شروط الإفتاء، وهو حاصل في المفضول. انظر: "اللمع" لأبي إسحاق (ص: 256، ط. دار الكلم الطيب ودار ابن كثير).
3- أن وجود المفتي الأفضل لا يبطل فتوى المفتي المفضول، فلا يمنع حينئذٍ من استفتاء المفضول.
واستدل أصحاب القول الثاني بأن الرجوع إلى قول الغير لا يجوز إلا بعد العلم بأنه أهل لذلك، بدليل الحاكم والمقوِّم للسلع لا يجوز الرجوع إليهم إلا بعد العلم بأهليتهما، فكذلك في التقليد، ومتى لم يعلم المستفتي أهلية مفتيه لم يثق به ولم يكن قوله بأولى من قول غيره. انظر: "الواضح" (5/ 466، ط. مؤسسة الرسالة).
كما أن المفتين في نظر المستفتي كالأدلة المتعارضة في حق المجتهد، والمجتهد عند التعارض يقدِّم الأرجح فكذلك المستفتي عند تعدد المفتين، والأمر في الترجيح دائر مع الظن، فمن اعتقد أن الشافعي رحمه الله أعلم والصواب على مذهبه أغلب فليس له أن يأخذ بمذهب مخالفه بالتشهي، وهكذا.
ويمكن أن يجاب على ما استدل به أصحاب هذا الرأي الثاني بما يلي:
- الاستدلال بأنه لا يجوز الرجوع إلى قول الغير إلا بعد العلم بأنه أهل لذلك خارج عن محل النزاع؛ لأن غير الأهل للفتيا لا يجوز سؤاله أصلًا، وفرض مسألتنا فيمن تحققت فيه شروط الإفتاء مع تعدده.
- والقول بأن المفتين في نظر المستفتي كالأدلة المتعارضة للمجتهد منقوض بأن الترجيح من أعمال المجتهد أصالة لكثرة علمه وقوة ذهنه بخلاف المستفتي فلا عبرة بترجيحه ولو بين المفتين، وإذا كانت المسألة المستفتي فيها من قبيل الظنون –وهي كذلك وإلا لما وقع فيها خلاف بين المفتين فيها- فلا حرج على من أخذ بظنِّ مفتٍ وإن خالف ظنَّ مفت آخر.
- ولا يقال إن جعل المستفتي بالتخيير بين استفتاء أحد المفتين يفتح باب اتباع الهوى، لأن ذلك لو كان هؤلاء المفتون غير متحققين بشروط الإفتاء، فلو قيل بالتخيير بين كل من انتسب للفتوى أو اشتغل بالعلم من غير معرفة كاملة لكان هذا فتحًا لباب اتباع المستفتين الهوى.
- أما الحالة الثانية وهي علم المستفتي بآراء المفتين في المستفتى فيه -بأن قال أحدهم بالكراهة وقال الآخر بالحرمة مثلًا- فاختلفت كلمة الأصوليين أيضًا في من يؤخذ بقوله، وأوصل الزركشي الأقوال في المسألة إلى عشرة أقوال، والذي نأخذ به أن له الأخذ بقول أيهما شاء، حتى ولو كان صاحب القول المتروك هو الأفضل، وتعليل ذلك أن سؤال المفضول مع وجود الأفضل جائزٌ كما سبق.
ويتبين أن المفتين إذا كملت أهليتهم للفتوى فالمستفتي له مطلق الاختيار في سؤال أحدهم ما دام قد غلب على ظنه أنه أهل الفتوى، وله أيضًا الأخذ بقول أيّهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم. 

اقرأ أيضا
;