هل يجوز للمرأة أن تؤمَّ غيرها من النساء في الصلاة؟
إمامة المرأة للنساء في الصلاة
أداء الصلاة في جماعة من شعار الإسلام، ومن شيم الصالحين الكرام؛ فقد أعلى الشرع الشريف من شأنها، ورغّب فيها؛ فقال تعالى: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43] أي: في جماعتهم، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «صَلَاةُ الجَمَاعَةُ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» متفق عليه، وقال: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ» رواه أبو داود والنسائي، قال السائب بن حبيش -أحد رواة الحديث-: يعني بالجماعةِ الجماعةَ في الصلاة.
وهذه النصوص وغيرها تدل على أنه لا فرق في استحباب الجماعة بين المرأة والرجل، فصلاة المرأة في جماعة مع غيرها من النساء وإمامتها لهن مشروعة مستحبة، فالتعبير بأفعل التفضيل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم-: «صَلَاةُ الجَمَاعَةُ أفضل..» إلى آخر الحديث- يقتضي ندبيَّة الجماعة، والحديث مطلق، لم يقيده النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذَكَر أو أنثى، فدلَّ ذلك أن النساء متساويات مع الرجال في تحصيل فضيلة الجماعة، وإقامة الصلاة جماعة من قِبَلهن وحدهن كما يقيمها الرجال وحدهم.
وجواز إمامة المرأة غيرها من النساء هو المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما -راجع: "السنن الكبرى" للبيهقي (3/ 187، ط. دار الكتب العلمية)-، وذكر ابن حزم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يأمر جارية له تَؤُم نساءه في ليالي رمضان -انظر: "المحلى" لابن حزم (3/ 128، ط. دار الكتب العلمية)-، وهو مذهب عطاء والثوري والأوزاعي وإسحاق وأبي ثور -راجع: "المجموع" للنووي (4/ 94، ط. مكتبة الإرشاد)، و"المغني" لابن قدامة (2/ 17، ط. دار إحياء التراث العربي)-، وهو ما نصَّ عليه فقهاء الشافعية والحنابلة، وهو ما نفتي به.
يقول شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (1/ 209، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(وَلَا فَرْضَ فِيهَا) أي: الجماعة (عَلَى النِّسَاءِ، بَلْ تُسْتَحَبُّ) في حقِّهن، ولا يتأكَّد استحبابها لهم تأكُّده للرجال لمزيتهم عليهن؛ قال تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ [البقرة: 228] اهـ.
ويقول العلامة البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 260، ط. عالم الكتب): [(وَ) تُسَنُّ الجماعة (لنِسَاءٍ مُنْفَرِدَاتٍ) عن رجال، سواء أمَّهن رجلٌ أو امرأةٌ] اهـ.
وقد ورد ذلك من فعل أمهات المؤمنين؛ فعن ريطةَ الحنفيَّة رضي الله عنها قالت: أمَّتْنَا عائشةُ فقامت بينهن في الصلاة المكتوبة. رواه البيهقي في "الكبرى".
وعن حجيرة رضي الله عنها قالت: "أمَّتنا أمُّ سلمةَ في صلاة العصر، فقامت بيننا" رواه البيهقي في "السنن الكبرى". فلو لم تكن صلاتهن في جماعة مشروعةً لما وقع ذلك من أمهات المؤمنين؛ لقربهن من النبي ومعرفتهن بسنته صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن أمِّ ورقةَ رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يزورها في بيتها، وجعل لها مؤذِّنًا يؤذِّن لها، وأمرها أن تَؤُمَّ أهلَ دارها" رواه أبو داود والحاكم والبيهقي في "السنن لكبرى".
فأَمْرُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها بأن تؤمَّهم في الصلاة يدل على مشروعية إمامة المرأة لغيرها في البيت؛ لأن إمامة المرأة لغيرها لو لم تكن جائزةً لما أَمَرَها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإمامة غيرها من النساء.
ولا يصح القول بأن فعل السيدة عائشة رضي الله عنها محمولٌ على أنه كان عند ابتداء الإسلام ثم نُسِخ؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أقام بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة، ثم تزوج عائشة رضي الله عنها وبنى بها بالمدينة وهي بنت تسع سنين، وبقيت عنده تسع سنين، وما تؤم إلا بعد بلوغها، فأين ذلك من ابتداء الإسلام؟
وأما ما ذكره بعض الفقهاء من إمكان كون الناسخ هو ما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «صَلَاةُ المَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِن صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا»، وما رواه ابن خزيمة عنه صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ أَحَبَّ صَلَاةِ تُصَلِيهَا المَرْأَةُ إِلَى اللهِ فِي أَشَدِّ مَكَانٍ فِي بَيْتِهَا ظُلْمَةً»، وفي حديثٍ له ولابن حبان: «وَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَى وَجْهِ اللهِ أَقْرَب مِنْهَا فِي قَعْرِ بَيْتِهَا»، والمخدع: الخزانة التي تكون في البيت، ومعلومٌ أن المخدع لا يسع الجماعة، وكذا قعر بيتها وأشده ظلمة.
فجوابه: أن مجموع الأحاديث يدل على ندبية صلاة المرأة في أشد الأماكن سترًا لها؛ لصونها مما قد تتعرَّض له من أذى وإساءة، ودرءًا لما قد يسببه خروجها من فتنة وفساد، وليس في الأحاديث تعرُّض لكونها تصلي في جماعة أو منفردة، والمخدع: يطلق على الخزانة في البيت التي تحفظ فيه الأمتعة النفيسة، أو على البيت الصغير في البيت الكبير كالحجرة، والحجرة الصغيرة قد تكفي للجماعة من الاثنين على الأقل، والاثنان أقل الجماعة، وقعر الشيء هو نهاية أسفله، والجلوس في قعر البيت كناية عن الملازمة، فقعر بيتها، أي: داخل بيتها.
وأما حديث: «لا خَيْرَ فِي جَمَاعَةِ النِّسَاءِ إِلَّا فِي الـمَسْجِدِ أَوْ فِي جَنَازَةِ قَتِيلٍ» رواه أحمد، فقد يقال: إنه نفى الخيرية عن جماعة النساء خارج مسجد الجماعة، ولا يخفى أن جماعتهن في مسجد الجماعة لا تكون إلا مع الرجال؛ لأنه لم يقل أحد بجواز جماعتهن في مسجد الجماعة منفردات عن الرجال، فعلم أن جماعتهن وحدهن مكروهة، وقد يُسَلَّم بذلك لولا أن الحديث ضعيف؛ لأن فيه ابن لهيعة، وفيه كلام كما ذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 33، ط. مكتبة القدسي، القاهرة)، وقال فيه الإمام الذهبي في "الكاشف" (1/ 590، ط. دار القبلة للثقافة الإسلامية ومؤسسة علوم القرآن، جدة): [العمل على تضعيف حديثه] اهـ.
والحديث أعلَّه الإمام ابن الجوزي بعلتين: ضعف ابن لهيعة، وجهالة الوليد بن أبي الوليد أحد رواة الحديث. راجع: "العلل المتناهية" (2/ 898، ط. إدارة العلوم الأثرية، باكستان).
على أن الحديث لو صح فلا دلالة فيه أيضًا على المطلوب؛ لأن نفي الخيرية لا يستلزم التحريم، ونظيره ما رواه أحمد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الْإِزَارُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ وَإِلَى الْكَعْبَيْنِ، لَا خَيْرَ فِي أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ» رواه أحمد في "مسنده"، ومجرد مجاوزة الإزار الكعبين ليست محرمة.
وقد يقال: إن المرأة إذا أمَّت غيرها من النساء، فإن جماعتهن لا تخلو عن ارتكاب محرَّم؛ لأنه يلزمهن أحدُ المحظورين: إما أن تقف المرأة أمامهم، أي: تتقدمهن، وفي التقدم زيادة كشف للعورة، وكشف العورة محرم. وإما أن تقف المرأة وسطهن، وفي الوقوف وسطهن ترك لتقدم الإمام وهو واجب؛ فتُشَبَّه صلاتُهن بصلاة العراة، وجماعة العراة تُكرَه تحريمًا. لكن لا يسلَّم بكلا المحظورين؛ لأن المرأة إذا كانت مغطية لعورة الصلاة بما يجوز لغيرها من النساء أن يرينها فيه، فإن ستر عورتها يكون متحققًا، والقول بأن إمامتها لغيرها من النساء مؤد لانكشاف عورتها يلزم المعترض منه أن يقول بالمنع من مطلق تقدم المرأة على غيرها من النساء لا بقيد الصلاة فقط، وهو لازم فاسد. وأما محظور لزوم ترك التقدم في حال أن تكون إمامًا فلا يسلَّم أنه محظور؛ لأنا نمنع وجوب تقدم الإمام على المأمومين إذا كان امرأة تؤم نساء كالحال الذي تكون عليه جماعة الرجال، وإنما المحظور أن يتقدم عليه المأموم، وكذلك فإن وقوف المرأة المؤتم بها في وسط النساء المؤتمات بها لا يلزم عنه ترك التقدم، بل يمكنها أن تتقدم عليهن بخطوة يسيرة. وتشبيه صلاتهن بصلاة العراة وجماعة العراة قياسٌ فاسد الاعتبار؛ لمخالفته النص الوارد فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أم ورقة رضي الله عنها بإمامة أهل بيتها، واعتبار القياس مع النص اعتبارٌ له مع دليل أقوى منه، ولا يصح ذلك.
ولا ينافي جواز إمامة المرأة في الصلاة الحديث الذي رواه البخاري: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً»، ولا ما روي موقوفًا على ابن عباس رضي الله عنهما: "أَخِّرُوهُنَّ حَيثُ أَخَّرَهُنَّ الله" رواه عبد الرزاق، ولا ما ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "لَا تَؤُمُّ الْمَرْأَةُ" "مصنف" ابن أبي شيبة؛ لأن الحديث الأول عامٌّ، وأدلتنا خاصة، فلها التقديم؛ لأن القاعدة أن الخاص مقدَّم على العام عند التعارض، ويدخل فيه ائتمام الرجال بالمرأة، وليس ائتمام النساء بها. والمراد بالحديث الثاني أنهن يتأخرن عن صفوف الرجال في الصلاة لما فيه من الستر لهن، ودرء ما قد يحدث من مفسدة اختلاط الرجال والنساء في الصلاة. وأما الأثر المروي عن علي رضي الله عنه فلا يصح من جهة الإسناد؛ فالحديث فيه راوٍ مجهول لم يسم وهو مولى بني هاشم، ولو سلَّمنا صلاحيته للاستدلال فهو معارض بما هو أقوى منه من الأدلة التي ذكرناها، أو محمول على عدم جواز إمامة المرأة للرجال.
وعلى ذلك: فيصح للمرأة أن تؤم غيرها من النساء، وإذا أمَّتهن تقف في وسطهن ولا تتقدم عليهن كموقف إمام الرجال؛ لأن المرأة يُسْتَحَب لها التستر، ولذلك لا يستحب لها التجافي في الصلاة، وكونها في وسط الصف أستر لها؛ لأنها تستتر بهن من جانبيها، فاستحب لها ذلك كالعريان، وإذا أمَّت المرأةُ امرأةً واحدة قامت المرأةُ عن يمينها؛ كالمأموم مع الرجال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
التفاصيل ....
أداء الصلاة في جماعة من شعار الإسلام، ومن شيم الصالحين الكرام؛ فقد أعلى الشرع الشريف من شأنها، ورغّب فيها؛ فقال تعالى: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43] أي: في جماعتهم، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «صَلَاةُ الجَمَاعَةُ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» متفق عليه، وقال: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ» رواه أبو داود والنسائي، قال السائب بن حبيش -أحد رواة الحديث-: يعني بالجماعةِ الجماعةَ في الصلاة.
وهذه النصوص وغيرها تدل على أنه لا فرق في استحباب الجماعة بين المرأة والرجل، فصلاة المرأة في جماعة مع غيرها من النساء وإمامتها لهن مشروعة مستحبة، فالتعبير بأفعل التفضيل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم-: «صَلَاةُ الجَمَاعَةُ أفضل..» إلى آخر الحديث- يقتضي ندبيَّة الجماعة، والحديث مطلق، لم يقيده النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذَكَر أو أنثى، فدلَّ ذلك أن النساء متساويات مع الرجال في تحصيل فضيلة الجماعة، وإقامة الصلاة جماعة من قِبَلهن وحدهن كما يقيمها الرجال وحدهم.
وجواز إمامة المرأة غيرها من النساء هو المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما -راجع: "السنن الكبرى" للبيهقي (3/ 187، ط. دار الكتب العلمية)-، وذكر ابن حزم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يأمر جارية له تَؤُم نساءه في ليالي رمضان -انظر: "المحلى" لابن حزم (3/ 128، ط. دار الكتب العلمية)-، وهو مذهب عطاء والثوري والأوزاعي وإسحاق وأبي ثور -راجع: "المجموع" للنووي (4/ 94، ط. مكتبة الإرشاد)، و"المغني" لابن قدامة (2/ 17، ط. دار إحياء التراث العربي)-، وهو ما نصَّ عليه فقهاء الشافعية والحنابلة، وهو ما نفتي به.
يقول شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (1/ 209، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(وَلَا فَرْضَ فِيهَا) أي: الجماعة (عَلَى النِّسَاءِ، بَلْ تُسْتَحَبُّ) في حقِّهن، ولا يتأكَّد استحبابها لهم تأكُّده للرجال لمزيتهم عليهن؛ قال تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ [البقرة: 228] اهـ.
ويقول العلامة البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 260، ط. عالم الكتب): [(وَ) تُسَنُّ الجماعة (لنِسَاءٍ مُنْفَرِدَاتٍ) عن رجال، سواء أمَّهن رجلٌ أو امرأةٌ] اهـ.
وقد ورد ذلك من فعل أمهات المؤمنين؛ فعن ريطةَ الحنفيَّة رضي الله عنها قالت: أمَّتْنَا عائشةُ فقامت بينهن في الصلاة المكتوبة. رواه البيهقي في "الكبرى".
وعن حجيرة رضي الله عنها قالت: "أمَّتنا أمُّ سلمةَ في صلاة العصر، فقامت بيننا" رواه البيهقي في "السنن الكبرى". فلو لم تكن صلاتهن في جماعة مشروعةً لما وقع ذلك من أمهات المؤمنين؛ لقربهن من النبي ومعرفتهن بسنته صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن أمِّ ورقةَ رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يزورها في بيتها، وجعل لها مؤذِّنًا يؤذِّن لها، وأمرها أن تَؤُمَّ أهلَ دارها" رواه أبو داود والحاكم والبيهقي في "السنن لكبرى".
فأَمْرُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها بأن تؤمَّهم في الصلاة يدل على مشروعية إمامة المرأة لغيرها في البيت؛ لأن إمامة المرأة لغيرها لو لم تكن جائزةً لما أَمَرَها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإمامة غيرها من النساء.
ولا يصح القول بأن فعل السيدة عائشة رضي الله عنها محمولٌ على أنه كان عند ابتداء الإسلام ثم نُسِخ؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أقام بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة، ثم تزوج عائشة رضي الله عنها وبنى بها بالمدينة وهي بنت تسع سنين، وبقيت عنده تسع سنين، وما تؤم إلا بعد بلوغها، فأين ذلك من ابتداء الإسلام؟
وأما ما ذكره بعض الفقهاء من إمكان كون الناسخ هو ما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «صَلَاةُ المَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِن صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا»، وما رواه ابن خزيمة عنه صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ أَحَبَّ صَلَاةِ تُصَلِيهَا المَرْأَةُ إِلَى اللهِ فِي أَشَدِّ مَكَانٍ فِي بَيْتِهَا ظُلْمَةً»، وفي حديثٍ له ولابن حبان: «وَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَى وَجْهِ اللهِ أَقْرَب مِنْهَا فِي قَعْرِ بَيْتِهَا»، والمخدع: الخزانة التي تكون في البيت، ومعلومٌ أن المخدع لا يسع الجماعة، وكذا قعر بيتها وأشده ظلمة.
فجوابه: أن مجموع الأحاديث يدل على ندبية صلاة المرأة في أشد الأماكن سترًا لها؛ لصونها مما قد تتعرَّض له من أذى وإساءة، ودرءًا لما قد يسببه خروجها من فتنة وفساد، وليس في الأحاديث تعرُّض لكونها تصلي في جماعة أو منفردة، والمخدع: يطلق على الخزانة في البيت التي تحفظ فيه الأمتعة النفيسة، أو على البيت الصغير في البيت الكبير كالحجرة، والحجرة الصغيرة قد تكفي للجماعة من الاثنين على الأقل، والاثنان أقل الجماعة، وقعر الشيء هو نهاية أسفله، والجلوس في قعر البيت كناية عن الملازمة، فقعر بيتها، أي: داخل بيتها.
وأما حديث: «لا خَيْرَ فِي جَمَاعَةِ النِّسَاءِ إِلَّا فِي الـمَسْجِدِ أَوْ فِي جَنَازَةِ قَتِيلٍ» رواه أحمد، فقد يقال: إنه نفى الخيرية عن جماعة النساء خارج مسجد الجماعة، ولا يخفى أن جماعتهن في مسجد الجماعة لا تكون إلا مع الرجال؛ لأنه لم يقل أحد بجواز جماعتهن في مسجد الجماعة منفردات عن الرجال، فعلم أن جماعتهن وحدهن مكروهة، وقد يُسَلَّم بذلك لولا أن الحديث ضعيف؛ لأن فيه ابن لهيعة، وفيه كلام كما ذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 33، ط. مكتبة القدسي، القاهرة)، وقال فيه الإمام الذهبي في "الكاشف" (1/ 590، ط. دار القبلة للثقافة الإسلامية ومؤسسة علوم القرآن، جدة): [العمل على تضعيف حديثه] اهـ.
والحديث أعلَّه الإمام ابن الجوزي بعلتين: ضعف ابن لهيعة، وجهالة الوليد بن أبي الوليد أحد رواة الحديث. راجع: "العلل المتناهية" (2/ 898، ط. إدارة العلوم الأثرية، باكستان).
على أن الحديث لو صح فلا دلالة فيه أيضًا على المطلوب؛ لأن نفي الخيرية لا يستلزم التحريم، ونظيره ما رواه أحمد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الْإِزَارُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ وَإِلَى الْكَعْبَيْنِ، لَا خَيْرَ فِي أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ» رواه أحمد في "مسنده"، ومجرد مجاوزة الإزار الكعبين ليست محرمة.
وقد يقال: إن المرأة إذا أمَّت غيرها من النساء، فإن جماعتهن لا تخلو عن ارتكاب محرَّم؛ لأنه يلزمهن أحدُ المحظورين: إما أن تقف المرأة أمامهم، أي: تتقدمهن، وفي التقدم زيادة كشف للعورة، وكشف العورة محرم. وإما أن تقف المرأة وسطهن، وفي الوقوف وسطهن ترك لتقدم الإمام وهو واجب؛ فتُشَبَّه صلاتُهن بصلاة العراة، وجماعة العراة تُكرَه تحريمًا. لكن لا يسلَّم بكلا المحظورين؛ لأن المرأة إذا كانت مغطية لعورة الصلاة بما يجوز لغيرها من النساء أن يرينها فيه، فإن ستر عورتها يكون متحققًا، والقول بأن إمامتها لغيرها من النساء مؤد لانكشاف عورتها يلزم المعترض منه أن يقول بالمنع من مطلق تقدم المرأة على غيرها من النساء لا بقيد الصلاة فقط، وهو لازم فاسد. وأما محظور لزوم ترك التقدم في حال أن تكون إمامًا فلا يسلَّم أنه محظور؛ لأنا نمنع وجوب تقدم الإمام على المأمومين إذا كان امرأة تؤم نساء كالحال الذي تكون عليه جماعة الرجال، وإنما المحظور أن يتقدم عليه المأموم، وكذلك فإن وقوف المرأة المؤتم بها في وسط النساء المؤتمات بها لا يلزم عنه ترك التقدم، بل يمكنها أن تتقدم عليهن بخطوة يسيرة. وتشبيه صلاتهن بصلاة العراة وجماعة العراة قياسٌ فاسد الاعتبار؛ لمخالفته النص الوارد فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أم ورقة رضي الله عنها بإمامة أهل بيتها، واعتبار القياس مع النص اعتبارٌ له مع دليل أقوى منه، ولا يصح ذلك.
ولا ينافي جواز إمامة المرأة في الصلاة الحديث الذي رواه البخاري: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً»، ولا ما روي موقوفًا على ابن عباس رضي الله عنهما: "أَخِّرُوهُنَّ حَيثُ أَخَّرَهُنَّ الله" رواه عبد الرزاق، ولا ما ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "لَا تَؤُمُّ الْمَرْأَةُ" "مصنف" ابن أبي شيبة؛ لأن الحديث الأول عامٌّ، وأدلتنا خاصة، فلها التقديم؛ لأن القاعدة أن الخاص مقدَّم على العام عند التعارض، ويدخل فيه ائتمام الرجال بالمرأة، وليس ائتمام النساء بها. والمراد بالحديث الثاني أنهن يتأخرن عن صفوف الرجال في الصلاة لما فيه من الستر لهن، ودرء ما قد يحدث من مفسدة اختلاط الرجال والنساء في الصلاة. وأما الأثر المروي عن علي رضي الله عنه فلا يصح من جهة الإسناد؛ فالحديث فيه راوٍ مجهول لم يسم وهو مولى بني هاشم، ولو سلَّمنا صلاحيته للاستدلال فهو معارض بما هو أقوى منه من الأدلة التي ذكرناها، أو محمول على عدم جواز إمامة المرأة للرجال.
وعلى ذلك: فيصح للمرأة أن تؤم غيرها من النساء، وإذا أمَّتهن تقف في وسطهن ولا تتقدم عليهن كموقف إمام الرجال؛ لأن المرأة يُسْتَحَب لها التستر، ولذلك لا يستحب لها التجافي في الصلاة، وكونها في وسط الصف أستر لها؛ لأنها تستتر بهن من جانبيها، فاستحب لها ذلك كالعريان، وإذا أمَّت المرأةُ امرأةً واحدة قامت المرأةُ عن يمينها؛ كالمأموم مع الرجال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
إمامة المرأة للنساء في الصلاة
هل يجوز للمرأة أن تؤمَّ غيرها من النساء في الصلاة؟
أداء الصلاة في جماعة من شعار الإسلام، ومن شيم الصالحين الكرام؛ فقد أعلى الشرع الشريف من شأنها، ورغّب فيها؛ فقال تعالى: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43] أي: في جماعتهم، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «صَلَاةُ الجَمَاعَةُ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» متفق عليه، وقال: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ» رواه أبو داود والنسائي، قال السائب بن حبيش -أحد رواة الحديث-: يعني بالجماعةِ الجماعةَ في الصلاة.
وهذه النصوص وغيرها تدل على أنه لا فرق في استحباب الجماعة بين المرأة والرجل، فصلاة المرأة في جماعة مع غيرها من النساء وإمامتها لهن مشروعة مستحبة، فالتعبير بأفعل التفضيل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم-: «صَلَاةُ الجَمَاعَةُ أفضل..» إلى آخر الحديث- يقتضي ندبيَّة الجماعة، والحديث مطلق، لم يقيده النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذَكَر أو أنثى، فدلَّ ذلك أن النساء متساويات مع الرجال في تحصيل فضيلة الجماعة، وإقامة الصلاة جماعة من قِبَلهن وحدهن كما يقيمها الرجال وحدهم.
وجواز إمامة المرأة غيرها من النساء هو المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما -راجع: "السنن الكبرى" للبيهقي (3/ 187، ط. دار الكتب العلمية)-، وذكر ابن حزم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يأمر جارية له تَؤُم نساءه في ليالي رمضان -انظر: "المحلى" لابن حزم (3/ 128، ط. دار الكتب العلمية)-، وهو مذهب عطاء والثوري والأوزاعي وإسحاق وأبي ثور -راجع: "المجموع" للنووي (4/ 94، ط. مكتبة الإرشاد)، و"المغني" لابن قدامة (2/ 17، ط. دار إحياء التراث العربي)-، وهو ما نصَّ عليه فقهاء الشافعية والحنابلة، وهو ما نفتي به.
يقول شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (1/ 209، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(وَلَا فَرْضَ فِيهَا) أي: الجماعة (عَلَى النِّسَاءِ، بَلْ تُسْتَحَبُّ) في حقِّهن، ولا يتأكَّد استحبابها لهم تأكُّده للرجال لمزيتهم عليهن؛ قال تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ [البقرة: 228] اهـ.
ويقول العلامة البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 260، ط. عالم الكتب): [(وَ) تُسَنُّ الجماعة (لنِسَاءٍ مُنْفَرِدَاتٍ) عن رجال، سواء أمَّهن رجلٌ أو امرأةٌ] اهـ.
وقد ورد ذلك من فعل أمهات المؤمنين؛ فعن ريطةَ الحنفيَّة رضي الله عنها قالت: أمَّتْنَا عائشةُ فقامت بينهن في الصلاة المكتوبة. رواه البيهقي في "الكبرى".
وعن حجيرة رضي الله عنها قالت: "أمَّتنا أمُّ سلمةَ في صلاة العصر، فقامت بيننا" رواه البيهقي في "السنن الكبرى". فلو لم تكن صلاتهن في جماعة مشروعةً لما وقع ذلك من أمهات المؤمنين؛ لقربهن من النبي ومعرفتهن بسنته صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن أمِّ ورقةَ رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يزورها في بيتها، وجعل لها مؤذِّنًا يؤذِّن لها، وأمرها أن تَؤُمَّ أهلَ دارها" رواه أبو داود والحاكم والبيهقي في "السنن لكبرى".
فأَمْرُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها بأن تؤمَّهم في الصلاة يدل على مشروعية إمامة المرأة لغيرها في البيت؛ لأن إمامة المرأة لغيرها لو لم تكن جائزةً لما أَمَرَها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإمامة غيرها من النساء.
ولا يصح القول بأن فعل السيدة عائشة رضي الله عنها محمولٌ على أنه كان عند ابتداء الإسلام ثم نُسِخ؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أقام بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة، ثم تزوج عائشة رضي الله عنها وبنى بها بالمدينة وهي بنت تسع سنين، وبقيت عنده تسع سنين، وما تؤم إلا بعد بلوغها، فأين ذلك من ابتداء الإسلام؟
وأما ما ذكره بعض الفقهاء من إمكان كون الناسخ هو ما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «صَلَاةُ المَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِن صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا»، وما رواه ابن خزيمة عنه صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ أَحَبَّ صَلَاةِ تُصَلِيهَا المَرْأَةُ إِلَى اللهِ فِي أَشَدِّ مَكَانٍ فِي بَيْتِهَا ظُلْمَةً»، وفي حديثٍ له ولابن حبان: «وَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَى وَجْهِ اللهِ أَقْرَب مِنْهَا فِي قَعْرِ بَيْتِهَا»، والمخدع: الخزانة التي تكون في البيت، ومعلومٌ أن المخدع لا يسع الجماعة، وكذا قعر بيتها وأشده ظلمة.
فجوابه: أن مجموع الأحاديث يدل على ندبية صلاة المرأة في أشد الأماكن سترًا لها؛ لصونها مما قد تتعرَّض له من أذى وإساءة، ودرءًا لما قد يسببه خروجها من فتنة وفساد، وليس في الأحاديث تعرُّض لكونها تصلي في جماعة أو منفردة، والمخدع: يطلق على الخزانة في البيت التي تحفظ فيه الأمتعة النفيسة، أو على البيت الصغير في البيت الكبير كالحجرة، والحجرة الصغيرة قد تكفي للجماعة من الاثنين على الأقل، والاثنان أقل الجماعة، وقعر الشيء هو نهاية أسفله، والجلوس في قعر البيت كناية عن الملازمة، فقعر بيتها، أي: داخل بيتها.
وأما حديث: «لا خَيْرَ فِي جَمَاعَةِ النِّسَاءِ إِلَّا فِي الـمَسْجِدِ أَوْ فِي جَنَازَةِ قَتِيلٍ» رواه أحمد، فقد يقال: إنه نفى الخيرية عن جماعة النساء خارج مسجد الجماعة، ولا يخفى أن جماعتهن في مسجد الجماعة لا تكون إلا مع الرجال؛ لأنه لم يقل أحد بجواز جماعتهن في مسجد الجماعة منفردات عن الرجال، فعلم أن جماعتهن وحدهن مكروهة، وقد يُسَلَّم بذلك لولا أن الحديث ضعيف؛ لأن فيه ابن لهيعة، وفيه كلام كما ذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 33، ط. مكتبة القدسي، القاهرة)، وقال فيه الإمام الذهبي في "الكاشف" (1/ 590، ط. دار القبلة للثقافة الإسلامية ومؤسسة علوم القرآن، جدة): [العمل على تضعيف حديثه] اهـ.
والحديث أعلَّه الإمام ابن الجوزي بعلتين: ضعف ابن لهيعة، وجهالة الوليد بن أبي الوليد أحد رواة الحديث. راجع: "العلل المتناهية" (2/ 898، ط. إدارة العلوم الأثرية، باكستان).
على أن الحديث لو صح فلا دلالة فيه أيضًا على المطلوب؛ لأن نفي الخيرية لا يستلزم التحريم، ونظيره ما رواه أحمد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الْإِزَارُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ وَإِلَى الْكَعْبَيْنِ، لَا خَيْرَ فِي أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ» رواه أحمد في "مسنده"، ومجرد مجاوزة الإزار الكعبين ليست محرمة.
وقد يقال: إن المرأة إذا أمَّت غيرها من النساء، فإن جماعتهن لا تخلو عن ارتكاب محرَّم؛ لأنه يلزمهن أحدُ المحظورين: إما أن تقف المرأة أمامهم، أي: تتقدمهن، وفي التقدم زيادة كشف للعورة، وكشف العورة محرم. وإما أن تقف المرأة وسطهن، وفي الوقوف وسطهن ترك لتقدم الإمام وهو واجب؛ فتُشَبَّه صلاتُهن بصلاة العراة، وجماعة العراة تُكرَه تحريمًا. لكن لا يسلَّم بكلا المحظورين؛ لأن المرأة إذا كانت مغطية لعورة الصلاة بما يجوز لغيرها من النساء أن يرينها فيه، فإن ستر عورتها يكون متحققًا، والقول بأن إمامتها لغيرها من النساء مؤد لانكشاف عورتها يلزم المعترض منه أن يقول بالمنع من مطلق تقدم المرأة على غيرها من النساء لا بقيد الصلاة فقط، وهو لازم فاسد. وأما محظور لزوم ترك التقدم في حال أن تكون إمامًا فلا يسلَّم أنه محظور؛ لأنا نمنع وجوب تقدم الإمام على المأمومين إذا كان امرأة تؤم نساء كالحال الذي تكون عليه جماعة الرجال، وإنما المحظور أن يتقدم عليه المأموم، وكذلك فإن وقوف المرأة المؤتم بها في وسط النساء المؤتمات بها لا يلزم عنه ترك التقدم، بل يمكنها أن تتقدم عليهن بخطوة يسيرة. وتشبيه صلاتهن بصلاة العراة وجماعة العراة قياسٌ فاسد الاعتبار؛ لمخالفته النص الوارد فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أم ورقة رضي الله عنها بإمامة أهل بيتها، واعتبار القياس مع النص اعتبارٌ له مع دليل أقوى منه، ولا يصح ذلك.
ولا ينافي جواز إمامة المرأة في الصلاة الحديث الذي رواه البخاري: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً»، ولا ما روي موقوفًا على ابن عباس رضي الله عنهما: "أَخِّرُوهُنَّ حَيثُ أَخَّرَهُنَّ الله" رواه عبد الرزاق، ولا ما ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "لَا تَؤُمُّ الْمَرْأَةُ" "مصنف" ابن أبي شيبة؛ لأن الحديث الأول عامٌّ، وأدلتنا خاصة، فلها التقديم؛ لأن القاعدة أن الخاص مقدَّم على العام عند التعارض، ويدخل فيه ائتمام الرجال بالمرأة، وليس ائتمام النساء بها. والمراد بالحديث الثاني أنهن يتأخرن عن صفوف الرجال في الصلاة لما فيه من الستر لهن، ودرء ما قد يحدث من مفسدة اختلاط الرجال والنساء في الصلاة. وأما الأثر المروي عن علي رضي الله عنه فلا يصح من جهة الإسناد؛ فالحديث فيه راوٍ مجهول لم يسم وهو مولى بني هاشم، ولو سلَّمنا صلاحيته للاستدلال فهو معارض بما هو أقوى منه من الأدلة التي ذكرناها، أو محمول على عدم جواز إمامة المرأة للرجال.
وعلى ذلك: فيصح للمرأة أن تؤم غيرها من النساء، وإذا أمَّتهن تقف في وسطهن ولا تتقدم عليهن كموقف إمام الرجال؛ لأن المرأة يُسْتَحَب لها التستر، ولذلك لا يستحب لها التجافي في الصلاة، وكونها في وسط الصف أستر لها؛ لأنها تستتر بهن من جانبيها، فاستحب لها ذلك كالعريان، وإذا أمَّت المرأةُ امرأةً واحدة قامت المرأةُ عن يمينها؛ كالمأموم مع الرجال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
التفاصيل ....
أداء الصلاة في جماعة من شعار الإسلام، ومن شيم الصالحين الكرام؛ فقد أعلى الشرع الشريف من شأنها، ورغّب فيها؛ فقال تعالى: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43] أي: في جماعتهم، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «صَلَاةُ الجَمَاعَةُ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» متفق عليه، وقال: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ» رواه أبو داود والنسائي، قال السائب بن حبيش -أحد رواة الحديث-: يعني بالجماعةِ الجماعةَ في الصلاة.
وهذه النصوص وغيرها تدل على أنه لا فرق في استحباب الجماعة بين المرأة والرجل، فصلاة المرأة في جماعة مع غيرها من النساء وإمامتها لهن مشروعة مستحبة، فالتعبير بأفعل التفضيل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم-: «صَلَاةُ الجَمَاعَةُ أفضل..» إلى آخر الحديث- يقتضي ندبيَّة الجماعة، والحديث مطلق، لم يقيده النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذَكَر أو أنثى، فدلَّ ذلك أن النساء متساويات مع الرجال في تحصيل فضيلة الجماعة، وإقامة الصلاة جماعة من قِبَلهن وحدهن كما يقيمها الرجال وحدهم.
وجواز إمامة المرأة غيرها من النساء هو المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما -راجع: "السنن الكبرى" للبيهقي (3/ 187، ط. دار الكتب العلمية)-، وذكر ابن حزم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يأمر جارية له تَؤُم نساءه في ليالي رمضان -انظر: "المحلى" لابن حزم (3/ 128، ط. دار الكتب العلمية)-، وهو مذهب عطاء والثوري والأوزاعي وإسحاق وأبي ثور -راجع: "المجموع" للنووي (4/ 94، ط. مكتبة الإرشاد)، و"المغني" لابن قدامة (2/ 17، ط. دار إحياء التراث العربي)-، وهو ما نصَّ عليه فقهاء الشافعية والحنابلة، وهو ما نفتي به.
يقول شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (1/ 209، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(وَلَا فَرْضَ فِيهَا) أي: الجماعة (عَلَى النِّسَاءِ، بَلْ تُسْتَحَبُّ) في حقِّهن، ولا يتأكَّد استحبابها لهم تأكُّده للرجال لمزيتهم عليهن؛ قال تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ [البقرة: 228] اهـ.
ويقول العلامة البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 260، ط. عالم الكتب): [(وَ) تُسَنُّ الجماعة (لنِسَاءٍ مُنْفَرِدَاتٍ) عن رجال، سواء أمَّهن رجلٌ أو امرأةٌ] اهـ.
وقد ورد ذلك من فعل أمهات المؤمنين؛ فعن ريطةَ الحنفيَّة رضي الله عنها قالت: أمَّتْنَا عائشةُ فقامت بينهن في الصلاة المكتوبة. رواه البيهقي في "الكبرى".
وعن حجيرة رضي الله عنها قالت: "أمَّتنا أمُّ سلمةَ في صلاة العصر، فقامت بيننا" رواه البيهقي في "السنن الكبرى". فلو لم تكن صلاتهن في جماعة مشروعةً لما وقع ذلك من أمهات المؤمنين؛ لقربهن من النبي ومعرفتهن بسنته صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن أمِّ ورقةَ رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يزورها في بيتها، وجعل لها مؤذِّنًا يؤذِّن لها، وأمرها أن تَؤُمَّ أهلَ دارها" رواه أبو داود والحاكم والبيهقي في "السنن لكبرى".
فأَمْرُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها بأن تؤمَّهم في الصلاة يدل على مشروعية إمامة المرأة لغيرها في البيت؛ لأن إمامة المرأة لغيرها لو لم تكن جائزةً لما أَمَرَها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإمامة غيرها من النساء.
ولا يصح القول بأن فعل السيدة عائشة رضي الله عنها محمولٌ على أنه كان عند ابتداء الإسلام ثم نُسِخ؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أقام بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة، ثم تزوج عائشة رضي الله عنها وبنى بها بالمدينة وهي بنت تسع سنين، وبقيت عنده تسع سنين، وما تؤم إلا بعد بلوغها، فأين ذلك من ابتداء الإسلام؟
وأما ما ذكره بعض الفقهاء من إمكان كون الناسخ هو ما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «صَلَاةُ المَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِن صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا»، وما رواه ابن خزيمة عنه صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ أَحَبَّ صَلَاةِ تُصَلِيهَا المَرْأَةُ إِلَى اللهِ فِي أَشَدِّ مَكَانٍ فِي بَيْتِهَا ظُلْمَةً»، وفي حديثٍ له ولابن حبان: «وَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَى وَجْهِ اللهِ أَقْرَب مِنْهَا فِي قَعْرِ بَيْتِهَا»، والمخدع: الخزانة التي تكون في البيت، ومعلومٌ أن المخدع لا يسع الجماعة، وكذا قعر بيتها وأشده ظلمة.
فجوابه: أن مجموع الأحاديث يدل على ندبية صلاة المرأة في أشد الأماكن سترًا لها؛ لصونها مما قد تتعرَّض له من أذى وإساءة، ودرءًا لما قد يسببه خروجها من فتنة وفساد، وليس في الأحاديث تعرُّض لكونها تصلي في جماعة أو منفردة، والمخدع: يطلق على الخزانة في البيت التي تحفظ فيه الأمتعة النفيسة، أو على البيت الصغير في البيت الكبير كالحجرة، والحجرة الصغيرة قد تكفي للجماعة من الاثنين على الأقل، والاثنان أقل الجماعة، وقعر الشيء هو نهاية أسفله، والجلوس في قعر البيت كناية عن الملازمة، فقعر بيتها، أي: داخل بيتها.
وأما حديث: «لا خَيْرَ فِي جَمَاعَةِ النِّسَاءِ إِلَّا فِي الـمَسْجِدِ أَوْ فِي جَنَازَةِ قَتِيلٍ» رواه أحمد، فقد يقال: إنه نفى الخيرية عن جماعة النساء خارج مسجد الجماعة، ولا يخفى أن جماعتهن في مسجد الجماعة لا تكون إلا مع الرجال؛ لأنه لم يقل أحد بجواز جماعتهن في مسجد الجماعة منفردات عن الرجال، فعلم أن جماعتهن وحدهن مكروهة، وقد يُسَلَّم بذلك لولا أن الحديث ضعيف؛ لأن فيه ابن لهيعة، وفيه كلام كما ذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 33، ط. مكتبة القدسي، القاهرة)، وقال فيه الإمام الذهبي في "الكاشف" (1/ 590، ط. دار القبلة للثقافة الإسلامية ومؤسسة علوم القرآن، جدة): [العمل على تضعيف حديثه] اهـ.
والحديث أعلَّه الإمام ابن الجوزي بعلتين: ضعف ابن لهيعة، وجهالة الوليد بن أبي الوليد أحد رواة الحديث. راجع: "العلل المتناهية" (2/ 898، ط. إدارة العلوم الأثرية، باكستان).
على أن الحديث لو صح فلا دلالة فيه أيضًا على المطلوب؛ لأن نفي الخيرية لا يستلزم التحريم، ونظيره ما رواه أحمد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الْإِزَارُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ وَإِلَى الْكَعْبَيْنِ، لَا خَيْرَ فِي أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ» رواه أحمد في "مسنده"، ومجرد مجاوزة الإزار الكعبين ليست محرمة.
وقد يقال: إن المرأة إذا أمَّت غيرها من النساء، فإن جماعتهن لا تخلو عن ارتكاب محرَّم؛ لأنه يلزمهن أحدُ المحظورين: إما أن تقف المرأة أمامهم، أي: تتقدمهن، وفي التقدم زيادة كشف للعورة، وكشف العورة محرم. وإما أن تقف المرأة وسطهن، وفي الوقوف وسطهن ترك لتقدم الإمام وهو واجب؛ فتُشَبَّه صلاتُهن بصلاة العراة، وجماعة العراة تُكرَه تحريمًا. لكن لا يسلَّم بكلا المحظورين؛ لأن المرأة إذا كانت مغطية لعورة الصلاة بما يجوز لغيرها من النساء أن يرينها فيه، فإن ستر عورتها يكون متحققًا، والقول بأن إمامتها لغيرها من النساء مؤد لانكشاف عورتها يلزم المعترض منه أن يقول بالمنع من مطلق تقدم المرأة على غيرها من النساء لا بقيد الصلاة فقط، وهو لازم فاسد. وأما محظور لزوم ترك التقدم في حال أن تكون إمامًا فلا يسلَّم أنه محظور؛ لأنا نمنع وجوب تقدم الإمام على المأمومين إذا كان امرأة تؤم نساء كالحال الذي تكون عليه جماعة الرجال، وإنما المحظور أن يتقدم عليه المأموم، وكذلك فإن وقوف المرأة المؤتم بها في وسط النساء المؤتمات بها لا يلزم عنه ترك التقدم، بل يمكنها أن تتقدم عليهن بخطوة يسيرة. وتشبيه صلاتهن بصلاة العراة وجماعة العراة قياسٌ فاسد الاعتبار؛ لمخالفته النص الوارد فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أم ورقة رضي الله عنها بإمامة أهل بيتها، واعتبار القياس مع النص اعتبارٌ له مع دليل أقوى منه، ولا يصح ذلك.
ولا ينافي جواز إمامة المرأة في الصلاة الحديث الذي رواه البخاري: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً»، ولا ما روي موقوفًا على ابن عباس رضي الله عنهما: "أَخِّرُوهُنَّ حَيثُ أَخَّرَهُنَّ الله" رواه عبد الرزاق، ولا ما ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "لَا تَؤُمُّ الْمَرْأَةُ" "مصنف" ابن أبي شيبة؛ لأن الحديث الأول عامٌّ، وأدلتنا خاصة، فلها التقديم؛ لأن القاعدة أن الخاص مقدَّم على العام عند التعارض، ويدخل فيه ائتمام الرجال بالمرأة، وليس ائتمام النساء بها. والمراد بالحديث الثاني أنهن يتأخرن عن صفوف الرجال في الصلاة لما فيه من الستر لهن، ودرء ما قد يحدث من مفسدة اختلاط الرجال والنساء في الصلاة. وأما الأثر المروي عن علي رضي الله عنه فلا يصح من جهة الإسناد؛ فالحديث فيه راوٍ مجهول لم يسم وهو مولى بني هاشم، ولو سلَّمنا صلاحيته للاستدلال فهو معارض بما هو أقوى منه من الأدلة التي ذكرناها، أو محمول على عدم جواز إمامة المرأة للرجال.
وعلى ذلك: فيصح للمرأة أن تؤم غيرها من النساء، وإذا أمَّتهن تقف في وسطهن ولا تتقدم عليهن كموقف إمام الرجال؛ لأن المرأة يُسْتَحَب لها التستر، ولذلك لا يستحب لها التجافي في الصلاة، وكونها في وسط الصف أستر لها؛ لأنها تستتر بهن من جانبيها، فاستحب لها ذلك كالعريان، وإذا أمَّت المرأةُ امرأةً واحدة قامت المرأةُ عن يمينها؛ كالمأموم مع الرجال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.