تغيير الجنسية والجمع بين أكثر من جنسية

يقوم بعض المسلمين بالتجنس بجنسية بلد غير مسلم؛ كدول أوربا وأمريكا، ونتيجة هذه الجنسية أن يصير محكومًا من قبل رئيس وحكومة وقوانين غير إسلامية، فما حكم الإقدام على هذا العمل؟ 

مادة: الجيم والنون والسين تدل في اللغة على الضرب من الشيء، يقال: جنَّس الْأَشْيَاءَ شاكل بَين أفرادها ونسبها إِلَى أجناسها تجنس مُطَاوع جنسه تجانسا اتحدا فِي الْجِنْس... "الجنسية" الصّفة الَّتِي تلْحق بالشخص من جِهَة انتسابه لشعب أَو أمة.
وفِي القانون: علاقَة قانونية ترْبط فَردًا معينًا بدولة مُعينَة وَقد تكون أصيلة أَو مكتسبة. ينظر: "الوسيط" (ص: 14، مادة: ج ن س، ط. مجمع اللغة العربية)، و"معجم مقاييس اللغة" للعلامة ابن فارس (1/ 486، ط. دار الفكر).
والحكم في هذه المسألة ينبني على دافع الهجرة والتجنس، وكذلك على الوضع الحقيقي للدولة المهاجر إليها، فقد يكون إقدام الفرد على هذا الفعل فرضًا عينيًّا مثل: فرار المرء بدينه، ولا يتحقق ذلك إلا في هذه الدولة أو مثلها.
وقد يكون السفر ويتبعه التجنس من أجل الحصول على شيء مباح؛ مثل طلب الرزق، وقد يكون مستحبًا أو واجبًا كفائيًّا؛ مثل: الحصول على علوم يحتاج إليها المسلمون.
وهناك صور أخرى تأخذ حكمها من النظائر التي ذكرناها.
أما بخصوص التجنس بجنسية دولة يضيق عليه فيها في عقيدته، كبعض الدول التي تنكر الدين إنكارًا تامًّا؛ فلا يجوز التجنس بجنسيتها، إلا إذا أخذ الجنسية من أجل الحصول على جواز سفر منها، ثم يهاجر إلى دولة أخرى.
أما السفر إلى دولة فيها حرية التدين في الغالب ولا يكون لها تأثير على عقيدته وديانته فلا بأس في هذه الحالة بالتجنس، ويدور الأمر في هذه الحالة على الجواز أو الاستحباب أو الوجوب، بحسب الحالة كما تقدم، ويستمر الحكم ما لم تتغير الأحوال إلى ما يدعو إلى تغيره.
ولا يخفى أن الأصل هو الإقامة في بلد مسلم؛ لأمن المرء على دينه وأهله وذريته، وإلا كره لغير حاجة إذ لا يخلو الأمر من حيث الواقع من خوف على دين المرء، وذريته على الأقل.
ولكل مما سبق دليله، أما إن كان فرضًا عينيًّا مثل فرار المرء بدينه ولا يتحقق هذا إلا في هذه الدولة أو مثلها؛ فدليله قول الله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 173]. فبينت الآية أن "الضرورات تبيح المحظورات".
وقال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ۞ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ۞ فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورا﴾ [النساء: 97-99].
فبينت الآية أن المسلم كان مأمورًا بالهجرة إلى المدينة؛ ليتمكن من إقامة دينه، ولنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا كانت الهجرة إلى المدينة لم تعد واجبة؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ» أخرجه البخاري، فبقي حكم من لا يستطيع إقامة دينه إلا بالهجرة على أصله، وهو الوجوب؛ قال الإمام البيضاوي في "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" (2/ 92، ط. دار إحياء التراث العربي): [وفي الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه] اهـ.
ومن أدلة الهجرة إلى بلدة يحكمها غير مسلم: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، وحاكمها النجاشي كان نصرانيًا. وقد هاجر بعض أهل اليمن فألقتهم السفينة في الحبشة، فأمرهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بالإقامة معهم، فلو كانت الإقامة ممتنعة ما أقام ومن معه، كما لم يكن لهم أن يأمروا غيرهم بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد هاجر إلى المدينة، وصار المسلمون يأمنون على دينهم، وإن كان النجاشي يعامل المسلمين معاملة حسنة، إلا أن أهل البلاد لم يكونوا على ذلك الأمر، ويظهر ذلك في كلام أسماء بنت عميس رضي الله عنها كما سيأتي.
ومعلوم أن قدوم جعفر وأصحابه رضي الله عنهم جميعًا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عام خيبر، أي في العام السابع من الهجرة، كما بين هذا الحديث الطويل الذي في "الصحيحين": عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها ابْنَةِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، قَالَتْ: "لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ، جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ، النَّجَاشِيَّ، أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا، وَعَبَدْنَا اللهَ لَا نُؤْذَى، وَلا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا، ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ، وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا إِلَيْهِ الْأَدَمُ، فَجَمَعُوا لَهُ أَدَمًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إِلا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً، ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، وعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَأَمَرُوهُمَا أَمْرَهُمْ، وَقَالُوا لَهُمَا: ادْفَعُوا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ، قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمُوا النَّجَاشِيَّ فِيهِمْ، ثُمَّ قَدِّمُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ، ثُمَّ سَلُوهُ أَنْ يُسْلِمَهُمِ إلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، قَالَتْ: فَخَرَجَا فَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ، وَعِنْدَ خَيْرِ جَارٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إِلا دَفَعَا إِلَيْهِ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ، ثُمَّ قَالا لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ: إِنَّهُ قَدْ صَبَا إِلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ، وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتُمْ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَى الْمَلِكِ فِيهِمِ أشْرَافُ قَوْمِهِمْ لِنَرُدَّهُمِ إلَيْهِمْ، فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ، فَتُشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسْلِمَهُمِ إلَيْنَا وَلا يُكَلِّمَهُمْ، فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُمَا: نَعَمْ، ثُمَّ إِنَّهُمَا قَرَّبَا هَدَايَاهُمِ إلَى النَّجَاشِيِّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا، ثُمَّ كَلَّمَاهُ، فَقَالا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّهُ قَدْ صَبَا إِلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ، وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَيْكَ فِيهِمِ أشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ، وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ، لِتَرُدَّهُمِ إلَيْهِمْ، فَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ. قَالَتْ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ النَّجَاشِيُّ كَلامَهُمْ، فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ: صَدَقُوا أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَوْمُهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ، فَأَسْلِمْهُمِ إلَيْهِمَا، فَلْيَرُدَّاهُمِ إلَى بِلادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ، قَالَت: فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ، ثُمَّ قَالَ: لَا، هَيْمُ اللهِ، إِذًا لَا أُسْلِمُهُمْ إِلَيْهِمَا، وَلَا أُكَادُ قَوْمًا جَاوَرُونِي وَنَزَلُوا بِلادِي وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ مَاذَا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولانِ أَسْلَمْتُهُمِ الَيْهِمَا وَرَدَدْتُهُمِ الَى قَوْمِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا، وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي.
قَالَتْ: ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَدَعَاهُمْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إِذَا جِئْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاللهِ مَا عَلَّمَنَا، وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، كَائِنٌ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ. فَلَمَّا جَاءُوهُ، وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ، فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ، سَأَلَهُمْ فَقَالَ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ، وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي وَلا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ؟ قَالَتْ: فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ، وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، قَالَ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلامِ، فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، فَعَبَدْنَا اللهَ وَحْدَهُ، فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا؛ فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الخَبَائِثِ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا، وَشَقُّوا عَلَيْنَا، وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا، خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ، وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ رضي الله عنه: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: فَاقْرَأْهُ عَلَيَّ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ ﴿كهيعص﴾، قَالَتْ: فَبَكَى وَاللهِ النَّجَاشِيُّ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، انْطَلِقَا فَوَاللهِ لَا أُسْلِمُهُمِ الَيْكُمِ ابَدًا، وَلا أُكَادُ، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنه: فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: وَاللهِ لانَبِّئَنَّهُمْ غَدًا عَيْبَهُمْ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ، قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ -وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا-: لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ لَهُمِ ارْحَامًا، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا. قَالَ: وَاللهِ لاخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَبْدٌ، قَالَتْ: ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ الْغَدَ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلًا عَظِيمًا، فَأَرْسِلِ الَيْهِمْ فَاسْأَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ، قَالَتْ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ، قَالَتْ: وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهُ، فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاللهِ فِيهِ مَا قَالَ اللهُ، وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، قَالَ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا: هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ، قَالَتْ: فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ يَدَهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا، ثُمَّ قَالَ: مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ، فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللهِ اذْهَبُوا، فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي -وَالسُّيُومُ: الْآمِنُونَ- مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ، ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرًا ذَهَبًا، وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ -وَالدَّبْرُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: الْجَبَلُ- رُدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا، فَلا حَاجَةَ لَنَا بِهَا، فَوَاللهِ مَا أَخَذَ اللهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي، فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيهِ وَمَا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ، فَأُطِيعَهُمْ فِيهِ.
قَالَتْ: فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ، وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ مَعَ خَيْرِ جَارٍ. قَالَتْ: فَوَاللهِ إِنَّا عَلَى ذَلِكَ إِذْ نَزَلَ بِهِ -يَعْنِي مَنْ يُنَازِعُهُ فِي مُلْكِهِ- قَالَ: فَوَاللهِ مَا عَلِمْنَا حُزْنًا قَطُّ كَانَ أَشَدَّ مِنْ حُزْنٍ حَزِنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ، تَخَوُّفًا أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَيَأْتِيَ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ النَّجَاشِيُّ يَعْرِفُ مِنْهُ. قَالَتْ: وَسَارَ النَّجَاشِيُّ وَبَيْنَهُمَا عُرْضُ النِّيلِ، قَالَتْ: فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَتَّى يَحْضُرَ وَقْعَةَ الْقَوْمِ ثُمَّ يَأْتِيَنَا بِالْخَبَرِ؟ قَالَتْ: فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ رضي الله عنه: أَنَا، قَالَتْ: وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ الْقَوْمِ سِنًّا، قَالَتْ: فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً، فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ ثُمَّ سَبَحَ عَلَيْهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى نَاحِيَةِ النِّيلِ الَّتِي بِهَا مُلْتَقَى الْقَوْمِ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى حَضَرَهُمْ. قَالَتْ: وَدَعَوْنَا اللهَ لِلنَّجَاشِيِّ بِالظُّهُورِ عَلَى عَدُوِّهِ، وَالتَّمْكِينِ لَهُ فِي بِلادِهِ، وَاسْتَوْسَقَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَبَشَةِ، فَكُنَّا عِنْدَهُ فِي خَيْرِ مَنْزِلٍ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وَهُوَ بِمَكَّةَ". أخرجه الإمام أحمد في "مسنده".
وعند ابن هشام: ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا إلى مكة، وأقام من أقام.
وعن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن باليمن؛ فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، أحدهما أبو بردة، والآخر أبو رهم رضي الله عنهما، إما قال: بضع، وإما قال: في ثلاثة وخمسين، أو اثنين وخمسين رجلًا من قومي، فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعًا، فوافقنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين افتتح خيبر، وكان أناس من الناس يقولون لنا، يعني لأهل السفينة: سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس رضي الله عنها -وهي ممن قدم معنا- على حفصة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم زائرةً، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة، وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر: الحبشية هذه، البحرية هذه؟ قالت أسماء رضي الله عنها: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة؛ فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منكم. فغضبت وقالت: كلا والله؛ كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار -أو في أرض- البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وايم الله لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن كنا نؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ، ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: يا نبي الله، إن عمر قال كذا وكذا؟ قال: «فما قلت له؟» قالت: قلت له: كذا وكذا، قال: «ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم -أهل السفينة- هجرتان».
قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة رضي الله عنهم يأتوني أرسالًا، يسألوني عن هذا الحديث، ما مِن الدنيا شيءٌ هُمْ به أفرحُ ولا أعظمُ في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال أبو بردة: قالت أسماء رضي الله عنها: فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني.
ومن الأدلة أيضًا: ما ورد عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: «يَتَعَرَّضُ مِنَ البَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ» رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب.
ووجه الدلالة حث الشرع للمكلف أن لا يتعرض للبلاء؛ لأن الإنسان قد يضعف ولا يستطيع أن يتحمل البلاء فيكون في ذلك هلاك دينه، وهذا أقل أحواله أن يحكم بكراهته.
وذهبت طائفة إلى المنع مطلقًا، ومن أشهر حججهم: قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97].
ووجه الدلالة: أن البقاء في البلاد التي لا يستطيعون فيها ممارسة شعائر دينهم ويضيق عليهم فيها، يعد من الاستضعاف المنهي عنه.
وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ» أخرجه أبو داود وغيره.
وعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ» أخرجه أبو داود.
كما احتجوا بعمومات النصوص الناهية عن موالاة المشركين.
والجواب عن هذه الأدلة: أن قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97]، ليس فيه حجة لما ذهبوا إليه؛ لأن الاستضعاف في واقع أمرنا قد يكون في بلاد المسلمين نفسها، وقد يكون الأمر فيه سعة خارج بلاد المسلمين أحيانًا! فالعبرة بالموطن الذي يستطيع أن يقيم المرء فيه دينه.
قال الإمام البيضاوي في "تفسيره" (2/ 92): [وفي الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه] اهـ.
وقد فصَّل الإمام الطاهر بن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير" (5/ 178-180، ط. الدار التونسية للنشر) الكلام عن هذه الآية الكريمة؛ فقال: [وقد اتفق العلماء على أن حكم هذه الآية انقضى يوم فتح مكة؛ لأن الهجرة كانت واجبة لمفارقة أهل الشرك وأعداء الدين، وللتمكن من عبادة الله دون حائل يحول عن ذلك، فلما صارت مكة دار إسلام ساوت غيرها، ويؤيده حديث: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ»، فكان المؤمنون يبقون في أوطانهم إلا المهاجرين يحرم عليهم الرجوع إلى مكة. وفي الحديث: «اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ»، قاله بعد أن فتحت مكة. غير أن القياس على حكم هذه الآية يفتح للمجتهدين نظرًا في أحكام وجوب الخروج من البلد الذي يفتن فيه المؤمن في دينه، وهذه أحكام يجمعها ستة أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون المؤمن ببلد يفتن فيه في إيمانه فيرغم على الكفر وهو يستطيع الخروج، فهذا حكمه حكم الذين نزلت فيهم الآية، وقد هاجر مسلمون من الأندلس حين أكرههم النصارى على التنصر؛ فخرجوا على وجوههم في كل واد تاركين أموالهم وديارهم ناجين بأنفسهم وإيمانهم، وهلك فريق منهم في الطريق وذلك في سنة 902م وما بعدها إلى أن كان الجلاء الأخير سنة 1016م.
الحالة الثانية: أن يكون ببلد الكفر غير مفتون في إيمانه ولكن يكون عرضة للإصابة في نفسه أو ماله بأسر أو قتل أو مصادرة مال، فهذا قد عرض نفسه للضر وهو حرام بلا نزاع، وهذا مسمى الإقامة ببلد الحرب المفسرة بأرض العدو.
الحالة الثالثة: أن يكون ببلد غلب عليه غير المسلمين إلا أنهم لم يفتنوا الناس في إيمانهم ولا في عباداتهم ولا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ولكنه بإقامته تجري عليه أحكام غير المسلمين إذا عرض له حادث مع واحد من أهل ذلك البلد الذين هم غير مسلمين، وهذا مثل الذي يقيم اليوم ببلاد أوروبا النصرانية، وظاهر قول مالك أن المقام في مثل ذلك مكروه كراهة شديدة من أجل أنه تجري عليه أحكام غير المسلمين، وهو ظاهر "المدونة" في كتاب التجارة إلى أرض الحرب والعُتْبِيَّة، كذلك تأول قول مالك فقهاء القيروان، وهو ظاهر الرسالة، وصريح كلام اللخمي في طالعة كتاب التجارة إلى أرض الحرب من تبصرته، وارتضاه ابن محرز وعبد الحق، وتأوله سحنون وابن حبيب على الحرمة، وكذلك عبد الحميد الصائغ المازري، وزاد سحنون فقال: إن مقامه جرحة في عدالته، ووافقه المازري وعبد الحميد، وعلى هذا يجري الكلام في السفر في سفن النصارى إلى الحج وغيره. وقال البرزلي عن ابن عرفة: إن كان أمير تونس قويًّا على النصارى جاز السفر، وإلا لم يجز؛ لأنهم يهينون المسلمين.
الحالة الرابعة: أن يتغلب الكفار على بلد أهله مسلمون ولا يفتنوهم في دينهم ولا في عبادتهم ولا في أموالهم، ولكنهم يكون لهم حكم القوة عليهم فقط، وتجري الأحكام بينهم على مقتضى شريعة الإسلام كما وقع في صقلية حين استولى عليها رجير النرمندي. وكما وقع في بلاد غرناطة حين استولى عليها طاغية الجلالقة على شروط منها احترام دينهم، فإن أهلها أقاموا بها مدة وأقام منهم علماؤهم وكانوا يلون القضاء والفتوى والعدالة والأمانة ونحو ذلك، وهاجر فريق منهم فلم يعب المهاجر على القاطن، ولا القاطن على المهاجر.
الحالة الخامسة: أن يكون لغير المسلمين نفوذ وسلطان على بعض بلاد الإسلام، مع بقاء ملوك الإسلام فيها، واستمرار تصرفهم في قومهم، وولاية حكامهم منهم، واحترام أديانهم وسائر شعائرهم، ولكن تصرف الأمراء تحت نظر غير المسلمين وبموافقتهم، وهو ما يسمى بالحماية والاحتلال والوصاية والانتداب، كما وقع في مصر مدة احتلال جيش الفرنسيس بها، ثم مدة احتلال الأنقليز، وكما وقع بتونس والمغرب الأقصى من حماية فرنسا، وكما وقع في سوريا والعراق أيام الانتداب وهذه لا شبهة في عدم وجوب الهجرة منها.
الحالة السادسة: البلد الذي تكثر فيه المناكر والبدع، وتجري فيه أحكام كثيرة على خلاف صريح الإسلام بحيث يخلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا ولا يجبر المسلم فيها على ارتكابه خلاف الشرع، ولكنه لا يستطيع تغييرها إلا بالقول، أو لا يستطيع ذلك أصلًا، وهذه روي عن مالك وجوب الخروج منها، رواه ابن القاسم، غير أن ذلك قد حدث في القيروان أيام بني عبيد فلم يحفظ أن أحدًا من فقهائها الصالحين دعا الناس إلى الهجرة. وحسبك بإقامة الشيخ أبي محمد بن أبي زيد وأمثاله. وحدث في مصر مدة الفاطميين أيضًا فلم يغادرها أحد من علمائها الصالحين.
ودون هذه الأحوال الستة أحوال كثيرة هي أولى بجواز الإقامة، وأنها مراتب، وإن لبقاء المسلمين في أوطانهم إذا لم يفتنوا في دينهم مصلحة كبرى للجامعة الإسلامية] اهـ.
وأما الأحاديث التي ذكروها فالكلام فيها على سندها ومتنها، أما الكلام على سند الحديث الأول، فقد قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل، عن قيس، عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه، قال: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمٍ، فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ، فَأَسْرَعَ فِيهِمُ الْقَتْلَ قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ، وَقَالَ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لِمَ؟ قَالَ: «لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا». قال أبو داود: رواه هشيم، ومعمر، وخالد الواسطي، وجماعة لم يذكروا جريرًا.
وأخرجه الترمذي من نفس الطريق به، ثم قال: حدثنا هناد قال: حدثنا عبدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم مثل حديث أبي معاوية، ولم يذكر فيه عن جرير وهذا أصح. وفي الباب عن سمرة: وأكثر أصحاب إسماعيل قالوا: عن قيس بن أبي حازم، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية ولم يذكروا فيه عن جرير. ورواه حماد بن سلمة، عن الحجاج بن أرطاة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن جرير مثل حديث أبي معاوية. وسمعت محمدًا يقول: الصحيح حديث قيس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسل.
ومحمد هو محمد بن إسماعيل البخاري، وقد ذكر الترمذي الحديث في "العلل" (رقم: 483) من رواية هناد عن أبي معاوية به، ثم قال: سألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: الصحيح عن قيس بن أبي حازم مرسل. قلت له: فإن حماد بن سلمة روى هذا الحديث عن الحجاج بن أرطاة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير! فلم يعده محفوظًا.
فالصواب في هذا الحديث أن سنده مرسل، وأن الرواية المذكور فيها الصحابي غير محفوظة.
وعلى فرض التسليم بصحته فالنهي فيه عن المقام بين أظهر المشركين مخصوص بحال خوف الفتنة وليس على إطلاقه، فقد هاجر الصحابة للحبشة ولم تكن وقتئذ دار إسلام كما مر، وهذا صريح مذهب الشافعية؛ يقول الإمام النووي في "الروضة" (10/ 282، ط. المكتب الإسلامي): [المسلم إن كان ضعيفًا في دار الكفر لا يقدر على إظهار الدين، حرم عليه الإقامة هناك، وتجب عليه الهجرة إلى دار الإسلام، فإن لم يقدر على الهجرة؛ فهو معذور إلى أن يقدر، فإن فتح البلد قبل أن يهاجر، سقط عنه الهجرة، وإن كان يقدر على إظهار الدين؛ لكونه مطاعًا في قومه، أو لأن له هناك عشيرة يحمونه، ولم يخف فتنة في دينه، لم تجب الهجرة، لكن تستحب؛ لئلا يكثر سوادهم، أو يميل إليهم، أو يكيدوا له، وقيل: تجب الهجرة، حكاه الإمام، والصحيح الأول. قلت: قال صاحب "الحاوي": فإن كان يرجو ظهور الإسلام هناك بمقامه، فالأفضل أن يقيم، قال: وإن قدر على الامتناع في دار الحرب والاعتزال، وجب عليه المقام بها؛ لأن موضعه دار إسلام، فلو هاجر لصار دار حرب، فيحرم ذلك، ثم إن قدر على قتال الكفار ودعائهم إلى الإسلام، لزمه، وإلا فلا، والله أعلم] اهـ.
وأما حديث سمرة رضي الله عنه فقد أشار إليه الترمذي، وأخرجه أبو داود قال: حدثنا محمد بن داود بن سفيان، حدثنا يحيى بن حسان، أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود، حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، حدثني خبيب بن سليمان، عن أبيه سليمان بن سمرة، عن سمرة بن جندب، أما بعد: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ».
وقد قال الحافظ الذهبي في ترجمة جعفر بن سعد بن سمرة: [له حديث في الزكاة عن ابن عم له. رده ابن حزم، فقال: هما مجهولان. قلت: ابن عمه هو خبيب بن سليمان بن سمرة يجهل حاله عن أبيه. قال ابن القطان: ما من هؤلاء من يعرف حاله، وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم، وهو إسناد يروى به جملة أحاديث، قد ذكر البزار منها نحو المائة. وقال عبد الحق الأزدي: خبيب ضعيف، وليس جعفر ممن يعتمد عليه.. قلت: في "سنن أبي داود" من ذلك ستة أحاديث بسند، وهو: حدثنا محمد بن داود، حدثنا يحيى بن حسان، عن سليمان بن موسى، عن جعفر، عن ابن عمه خبيب، عن أبيه، عن جده. فسليمان هذا زهري من أهل الكوفة، ليس بالمشهور، وبكل حال هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم] اهـ. "ميزان الاعتدال" (1/ 407، ط. دار المعرفة). فمن حسَّن إسناد حديث سمرة فقد وهم.
فهذا حديث أيضًا لا يصح من حيث السند، ولو افترضنا تقويته بطرقه فليس في متنه ما يؤخذ منه التحريم المطلق، بل يكون الأمر فيه تفصيل كما نص على ذلك طائفة من أهل العلم؛ لأن الحديث يوضع مع غيره من الأدلة الواردة في الباب، فقوله: «فَإِنَّهُ مِثْلُهُ» أي من بعض الوجوه؛ لأن المخالطة قد تجر إلى تداعي ضعف إيمانه فزجر الشارع عن مخالطته بهذا التغليظ العظيم حسمًا لمادة الفساد. ينظر: "عون المعبود" للعظيم آبادي (7/ 337، ط. دار الكتب العلمية).
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 38، ط. دار المعرفة): [قال الخطابي وغيره: كانت الهجرة فرضًا في أول الإسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجًا فسقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو. انتهى، وكانت الحكمة أيضًا في وجوب الهجرة على من أسلم؛ ليسلم من أذى ذويه من الكفار فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه وفيهم نزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ [النساء: 97] الآية، وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر، وقدر على الخروج منها وقد روى النسائي من طريق بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده رضي الله عنه مرفوعًا: «لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ مُشْرك عملًا بعد مَا أَسْلَمَ أَوْ يُفَارِقُ الْمُشْرِكِينَ»، ولأبي داود من حديث سمرة رضي الله عنه مرفوعًا: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ»، وهذا محمول على من لم يأمن على دينه] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (4/ 204، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(فصل: تجب الهجرة) من دار الكفر إلى دار الإسلام (على مستطيع) لها (إن عجز عن إظهار دينه)؛ لقوله تعالى ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [النحل: 28] الآية، ولخبر أبي داود وغيره «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ» سواء الرجل والمرأة، وإن لم تجد محرمًا وكذا كل من أظهر حقًّا ببلدة من بلاد الإسلام ولم يقبل منه ولم يقدر على إظهاره تلزمه الهجرة منها نقله الأذرعي وغيره عن صاحب المعتمد ونقله الزركشي عن البغوي أيضًا، واستثنى البلقيني من ذلك ما إذا كان في إقامته مصلحة للمسلمين فيجوز له الإقامة، فإن لم يستطع الهجرة فهو معذور إلى أن يستطيع، فإن فتح البلد قبل أن يهاجر سقط عنه الهجرة صرحَ به الأصْلُ.
(وإن قدر) على إظهار دينه؛ لكونه مطاعًا في قومه، أو لأن له عشيرة تحميه (ولم يخف فتنة فيه استحب) له أن يهاجر؛ لئلا يكثر سوادهم أو يميل إليهم أو يكيدوا له ولا يجب؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم بعث عثمان رضي الله عنه يوم الحديبية إلى مكة؛ لأن عشيرته بها فيقدر على إظهار دينه (لا إن رجا إسلام غيره)، ثم فلا يستحب له أن يهاجر بل الأفضل أن يقيم] اهـ.
وكل ما ذكر في مسألة الإقامة في غير بلاد المسلمين يأتي في مسألة التجنيس بجنسية هذه الدول؛ إذ الفرق هو أمر تنظيمي، وقد يستفيد منه المسلم كما هو معروف ومشاهد- كما تقدم في أول الفتوى.
ومما سبق: يتضح أن الحكم الشرعي في قضية التجنس والهجرة إلى بلاد أخرى يختلف بناءً على دوافع ذلك، وعلى طبيعة الدولة المراد التجنس بجنسيتها، والخضوع لحكامها وقوانينها، فإن كان في ذلك ما يضيق على المسلم في دينه وشعائره، كبعض الدول التي تنكر الدين إنكارًا تامًّا فلا يجوز، وإلا فإن كانت تلك الدولة تتيح الحرية الدينية وليس فيها ما يضر بالمسلم في دينه أو دنياه فلا بأس حينئذ بالتجنسِ بجنسيتها والهجرةِ إليها ما دام ذلك لا يشتمل على أمور محرمة.
والله سبحانه وتعالى أعلم. 

التفاصيل ....

مادة: الجيم والنون والسين تدل في اللغة على الضرب من الشيء، يقال: جنَّس الْأَشْيَاءَ شاكل بَين أفرادها ونسبها إِلَى أجناسها تجنس مُطَاوع جنسه تجانسا اتحدا فِي الْجِنْس... "الجنسية" الصّفة الَّتِي تلْحق بالشخص من جِهَة انتسابه لشعب أَو أمة.
وفِي القانون: علاقَة قانونية ترْبط فَردًا معينًا بدولة مُعينَة وَقد تكون أصيلة أَو مكتسبة. ينظر: "الوسيط" (ص: 14، مادة: ج ن س، ط. مجمع اللغة العربية)، و"معجم مقاييس اللغة" للعلامة ابن فارس (1/ 486، ط. دار الفكر).
والحكم في هذه المسألة ينبني على دافع الهجرة والتجنس، وكذلك على الوضع الحقيقي للدولة المهاجر إليها، فقد يكون إقدام الفرد على هذا الفعل فرضًا عينيًّا مثل: فرار المرء بدينه، ولا يتحقق ذلك إلا في هذه الدولة أو مثلها.
وقد يكون السفر ويتبعه التجنس من أجل الحصول على شيء مباح؛ مثل طلب الرزق، وقد يكون مستحبًا أو واجبًا كفائيًّا؛ مثل: الحصول على علوم يحتاج إليها المسلمون.
وهناك صور أخرى تأخذ حكمها من النظائر التي ذكرناها.
أما بخصوص التجنس بجنسية دولة يضيق عليه فيها في عقيدته، كبعض الدول التي تنكر الدين إنكارًا تامًّا؛ فلا يجوز التجنس بجنسيتها، إلا إذا أخذ الجنسية من أجل الحصول على جواز سفر منها، ثم يهاجر إلى دولة أخرى.
أما السفر إلى دولة فيها حرية التدين في الغالب ولا يكون لها تأثير على عقيدته وديانته فلا بأس في هذه الحالة بالتجنس، ويدور الأمر في هذه الحالة على الجواز أو الاستحباب أو الوجوب، بحسب الحالة كما تقدم، ويستمر الحكم ما لم تتغير الأحوال إلى ما يدعو إلى تغيره.
ولا يخفى أن الأصل هو الإقامة في بلد مسلم؛ لأمن المرء على دينه وأهله وذريته، وإلا كره لغير حاجة إذ لا يخلو الأمر من حيث الواقع من خوف على دين المرء، وذريته على الأقل.
ولكل مما سبق دليله، أما إن كان فرضًا عينيًّا مثل فرار المرء بدينه ولا يتحقق هذا إلا في هذه الدولة أو مثلها؛ فدليله قول الله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 173]. فبينت الآية أن "الضرورات تبيح المحظورات".
وقال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ۞ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ۞ فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورا﴾ [النساء: 97-99].
فبينت الآية أن المسلم كان مأمورًا بالهجرة إلى المدينة؛ ليتمكن من إقامة دينه، ولنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا كانت الهجرة إلى المدينة لم تعد واجبة؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ» أخرجه البخاري، فبقي حكم من لا يستطيع إقامة دينه إلا بالهجرة على أصله، وهو الوجوب؛ قال الإمام البيضاوي في "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" (2/ 92، ط. دار إحياء التراث العربي): [وفي الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه] اهـ.
ومن أدلة الهجرة إلى بلدة يحكمها غير مسلم: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، وحاكمها النجاشي كان نصرانيًا. وقد هاجر بعض أهل اليمن فألقتهم السفينة في الحبشة، فأمرهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بالإقامة معهم، فلو كانت الإقامة ممتنعة ما أقام ومن معه، كما لم يكن لهم أن يأمروا غيرهم بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد هاجر إلى المدينة، وصار المسلمون يأمنون على دينهم، وإن كان النجاشي يعامل المسلمين معاملة حسنة، إلا أن أهل البلاد لم يكونوا على ذلك الأمر، ويظهر ذلك في كلام أسماء بنت عميس رضي الله عنها كما سيأتي.
ومعلوم أن قدوم جعفر وأصحابه رضي الله عنهم جميعًا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عام خيبر، أي في العام السابع من الهجرة، كما بين هذا الحديث الطويل الذي في "الصحيحين": عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها ابْنَةِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، قَالَتْ: "لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ، جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ، النَّجَاشِيَّ، أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا، وَعَبَدْنَا اللهَ لَا نُؤْذَى، وَلا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا، ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ، وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا إِلَيْهِ الْأَدَمُ، فَجَمَعُوا لَهُ أَدَمًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إِلا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً، ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، وعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَأَمَرُوهُمَا أَمْرَهُمْ، وَقَالُوا لَهُمَا: ادْفَعُوا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ، قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمُوا النَّجَاشِيَّ فِيهِمْ، ثُمَّ قَدِّمُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ، ثُمَّ سَلُوهُ أَنْ يُسْلِمَهُمِ إلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، قَالَتْ: فَخَرَجَا فَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ، وَعِنْدَ خَيْرِ جَارٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إِلا دَفَعَا إِلَيْهِ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ، ثُمَّ قَالا لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ: إِنَّهُ قَدْ صَبَا إِلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ، وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتُمْ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَى الْمَلِكِ فِيهِمِ أشْرَافُ قَوْمِهِمْ لِنَرُدَّهُمِ إلَيْهِمْ، فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ، فَتُشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسْلِمَهُمِ إلَيْنَا وَلا يُكَلِّمَهُمْ، فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُمَا: نَعَمْ، ثُمَّ إِنَّهُمَا قَرَّبَا هَدَايَاهُمِ إلَى النَّجَاشِيِّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا، ثُمَّ كَلَّمَاهُ، فَقَالا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّهُ قَدْ صَبَا إِلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ، وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَيْكَ فِيهِمِ أشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ، وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ، لِتَرُدَّهُمِ إلَيْهِمْ، فَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ. قَالَتْ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ النَّجَاشِيُّ كَلامَهُمْ، فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ: صَدَقُوا أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَوْمُهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ، فَأَسْلِمْهُمِ إلَيْهِمَا، فَلْيَرُدَّاهُمِ إلَى بِلادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ، قَالَت: فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ، ثُمَّ قَالَ: لَا، هَيْمُ اللهِ، إِذًا لَا أُسْلِمُهُمْ إِلَيْهِمَا، وَلَا أُكَادُ قَوْمًا جَاوَرُونِي وَنَزَلُوا بِلادِي وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ مَاذَا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولانِ أَسْلَمْتُهُمِ الَيْهِمَا وَرَدَدْتُهُمِ الَى قَوْمِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا، وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي.
قَالَتْ: ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَدَعَاهُمْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إِذَا جِئْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاللهِ مَا عَلَّمَنَا، وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، كَائِنٌ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ. فَلَمَّا جَاءُوهُ، وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ، فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ، سَأَلَهُمْ فَقَالَ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ، وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي وَلا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ؟ قَالَتْ: فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ، وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، قَالَ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلامِ، فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، فَعَبَدْنَا اللهَ وَحْدَهُ، فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا؛ فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الخَبَائِثِ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا، وَشَقُّوا عَلَيْنَا، وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا، خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ، وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ رضي الله عنه: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: فَاقْرَأْهُ عَلَيَّ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ ﴿كهيعص﴾، قَالَتْ: فَبَكَى وَاللهِ النَّجَاشِيُّ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، انْطَلِقَا فَوَاللهِ لَا أُسْلِمُهُمِ الَيْكُمِ ابَدًا، وَلا أُكَادُ، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنه: فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: وَاللهِ لانَبِّئَنَّهُمْ غَدًا عَيْبَهُمْ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ، قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ -وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا-: لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ لَهُمِ ارْحَامًا، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا. قَالَ: وَاللهِ لاخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَبْدٌ، قَالَتْ: ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ الْغَدَ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلًا عَظِيمًا، فَأَرْسِلِ الَيْهِمْ فَاسْأَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ، قَالَتْ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ، قَالَتْ: وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهُ، فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاللهِ فِيهِ مَا قَالَ اللهُ، وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، قَالَ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا: هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ، قَالَتْ: فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ يَدَهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا، ثُمَّ قَالَ: مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ، فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللهِ اذْهَبُوا، فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي -وَالسُّيُومُ: الْآمِنُونَ- مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ، ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرًا ذَهَبًا، وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ -وَالدَّبْرُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: الْجَبَلُ- رُدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا، فَلا حَاجَةَ لَنَا بِهَا، فَوَاللهِ مَا أَخَذَ اللهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي، فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيهِ وَمَا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ، فَأُطِيعَهُمْ فِيهِ.
قَالَتْ: فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ، وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ مَعَ خَيْرِ جَارٍ. قَالَتْ: فَوَاللهِ إِنَّا عَلَى ذَلِكَ إِذْ نَزَلَ بِهِ -يَعْنِي مَنْ يُنَازِعُهُ فِي مُلْكِهِ- قَالَ: فَوَاللهِ مَا عَلِمْنَا حُزْنًا قَطُّ كَانَ أَشَدَّ مِنْ حُزْنٍ حَزِنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ، تَخَوُّفًا أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَيَأْتِيَ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ النَّجَاشِيُّ يَعْرِفُ مِنْهُ. قَالَتْ: وَسَارَ النَّجَاشِيُّ وَبَيْنَهُمَا عُرْضُ النِّيلِ، قَالَتْ: فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَتَّى يَحْضُرَ وَقْعَةَ الْقَوْمِ ثُمَّ يَأْتِيَنَا بِالْخَبَرِ؟ قَالَتْ: فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ رضي الله عنه: أَنَا، قَالَتْ: وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ الْقَوْمِ سِنًّا، قَالَتْ: فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً، فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ ثُمَّ سَبَحَ عَلَيْهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى نَاحِيَةِ النِّيلِ الَّتِي بِهَا مُلْتَقَى الْقَوْمِ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى حَضَرَهُمْ. قَالَتْ: وَدَعَوْنَا اللهَ لِلنَّجَاشِيِّ بِالظُّهُورِ عَلَى عَدُوِّهِ، وَالتَّمْكِينِ لَهُ فِي بِلادِهِ، وَاسْتَوْسَقَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَبَشَةِ، فَكُنَّا عِنْدَهُ فِي خَيْرِ مَنْزِلٍ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وَهُوَ بِمَكَّةَ". أخرجه الإمام أحمد في "مسنده".
وعند ابن هشام: ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا إلى مكة، وأقام من أقام.
وعن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن باليمن؛ فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، أحدهما أبو بردة، والآخر أبو رهم رضي الله عنهما، إما قال: بضع، وإما قال: في ثلاثة وخمسين، أو اثنين وخمسين رجلًا من قومي، فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعًا، فوافقنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين افتتح خيبر، وكان أناس من الناس يقولون لنا، يعني لأهل السفينة: سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس رضي الله عنها -وهي ممن قدم معنا- على حفصة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم زائرةً، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة، وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر: الحبشية هذه، البحرية هذه؟ قالت أسماء رضي الله عنها: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة؛ فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منكم. فغضبت وقالت: كلا والله؛ كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار -أو في أرض- البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وايم الله لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن كنا نؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ، ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: يا نبي الله، إن عمر قال كذا وكذا؟ قال: «فما قلت له؟» قالت: قلت له: كذا وكذا، قال: «ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم -أهل السفينة- هجرتان».
قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة رضي الله عنهم يأتوني أرسالًا، يسألوني عن هذا الحديث، ما مِن الدنيا شيءٌ هُمْ به أفرحُ ولا أعظمُ في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال أبو بردة: قالت أسماء رضي الله عنها: فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني.
ومن الأدلة أيضًا: ما ورد عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: «يَتَعَرَّضُ مِنَ البَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ» رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب.
ووجه الدلالة حث الشرع للمكلف أن لا يتعرض للبلاء؛ لأن الإنسان قد يضعف ولا يستطيع أن يتحمل البلاء فيكون في ذلك هلاك دينه، وهذا أقل أحواله أن يحكم بكراهته.
وذهبت طائفة إلى المنع مطلقًا، ومن أشهر حججهم: قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97].
ووجه الدلالة: أن البقاء في البلاد التي لا يستطيعون فيها ممارسة شعائر دينهم ويضيق عليهم فيها، يعد من الاستضعاف المنهي عنه.
وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ» أخرجه أبو داود وغيره.
وعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ» أخرجه أبو داود.
كما احتجوا بعمومات النصوص الناهية عن موالاة المشركين.
والجواب عن هذه الأدلة: أن قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97]، ليس فيه حجة لما ذهبوا إليه؛ لأن الاستضعاف في واقع أمرنا قد يكون في بلاد المسلمين نفسها، وقد يكون الأمر فيه سعة خارج بلاد المسلمين أحيانًا! فالعبرة بالموطن الذي يستطيع أن يقيم المرء فيه دينه.
قال الإمام البيضاوي في "تفسيره" (2/ 92): [وفي الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه] اهـ.
وقد فصَّل الإمام الطاهر بن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير" (5/ 178-180، ط. الدار التونسية للنشر) الكلام عن هذه الآية الكريمة؛ فقال: [وقد اتفق العلماء على أن حكم هذه الآية انقضى يوم فتح مكة؛ لأن الهجرة كانت واجبة لمفارقة أهل الشرك وأعداء الدين، وللتمكن من عبادة الله دون حائل يحول عن ذلك، فلما صارت مكة دار إسلام ساوت غيرها، ويؤيده حديث: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ»، فكان المؤمنون يبقون في أوطانهم إلا المهاجرين يحرم عليهم الرجوع إلى مكة. وفي الحديث: «اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ»، قاله بعد أن فتحت مكة. غير أن القياس على حكم هذه الآية يفتح للمجتهدين نظرًا في أحكام وجوب الخروج من البلد الذي يفتن فيه المؤمن في دينه، وهذه أحكام يجمعها ستة أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون المؤمن ببلد يفتن فيه في إيمانه فيرغم على الكفر وهو يستطيع الخروج، فهذا حكمه حكم الذين نزلت فيهم الآية، وقد هاجر مسلمون من الأندلس حين أكرههم النصارى على التنصر؛ فخرجوا على وجوههم في كل واد تاركين أموالهم وديارهم ناجين بأنفسهم وإيمانهم، وهلك فريق منهم في الطريق وذلك في سنة 902م وما بعدها إلى أن كان الجلاء الأخير سنة 1016م.
الحالة الثانية: أن يكون ببلد الكفر غير مفتون في إيمانه ولكن يكون عرضة للإصابة في نفسه أو ماله بأسر أو قتل أو مصادرة مال، فهذا قد عرض نفسه للضر وهو حرام بلا نزاع، وهذا مسمى الإقامة ببلد الحرب المفسرة بأرض العدو.
الحالة الثالثة: أن يكون ببلد غلب عليه غير المسلمين إلا أنهم لم يفتنوا الناس في إيمانهم ولا في عباداتهم ولا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ولكنه بإقامته تجري عليه أحكام غير المسلمين إذا عرض له حادث مع واحد من أهل ذلك البلد الذين هم غير مسلمين، وهذا مثل الذي يقيم اليوم ببلاد أوروبا النصرانية، وظاهر قول مالك أن المقام في مثل ذلك مكروه كراهة شديدة من أجل أنه تجري عليه أحكام غير المسلمين، وهو ظاهر "المدونة" في كتاب التجارة إلى أرض الحرب والعُتْبِيَّة، كذلك تأول قول مالك فقهاء القيروان، وهو ظاهر الرسالة، وصريح كلام اللخمي في طالعة كتاب التجارة إلى أرض الحرب من تبصرته، وارتضاه ابن محرز وعبد الحق، وتأوله سحنون وابن حبيب على الحرمة، وكذلك عبد الحميد الصائغ المازري، وزاد سحنون فقال: إن مقامه جرحة في عدالته، ووافقه المازري وعبد الحميد، وعلى هذا يجري الكلام في السفر في سفن النصارى إلى الحج وغيره. وقال البرزلي عن ابن عرفة: إن كان أمير تونس قويًّا على النصارى جاز السفر، وإلا لم يجز؛ لأنهم يهينون المسلمين.
الحالة الرابعة: أن يتغلب الكفار على بلد أهله مسلمون ولا يفتنوهم في دينهم ولا في عبادتهم ولا في أموالهم، ولكنهم يكون لهم حكم القوة عليهم فقط، وتجري الأحكام بينهم على مقتضى شريعة الإسلام كما وقع في صقلية حين استولى عليها رجير النرمندي. وكما وقع في بلاد غرناطة حين استولى عليها طاغية الجلالقة على شروط منها احترام دينهم، فإن أهلها أقاموا بها مدة وأقام منهم علماؤهم وكانوا يلون القضاء والفتوى والعدالة والأمانة ونحو ذلك، وهاجر فريق منهم فلم يعب المهاجر على القاطن، ولا القاطن على المهاجر.
الحالة الخامسة: أن يكون لغير المسلمين نفوذ وسلطان على بعض بلاد الإسلام، مع بقاء ملوك الإسلام فيها، واستمرار تصرفهم في قومهم، وولاية حكامهم منهم، واحترام أديانهم وسائر شعائرهم، ولكن تصرف الأمراء تحت نظر غير المسلمين وبموافقتهم، وهو ما يسمى بالحماية والاحتلال والوصاية والانتداب، كما وقع في مصر مدة احتلال جيش الفرنسيس بها، ثم مدة احتلال الأنقليز، وكما وقع بتونس والمغرب الأقصى من حماية فرنسا، وكما وقع في سوريا والعراق أيام الانتداب وهذه لا شبهة في عدم وجوب الهجرة منها.
الحالة السادسة: البلد الذي تكثر فيه المناكر والبدع، وتجري فيه أحكام كثيرة على خلاف صريح الإسلام بحيث يخلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا ولا يجبر المسلم فيها على ارتكابه خلاف الشرع، ولكنه لا يستطيع تغييرها إلا بالقول، أو لا يستطيع ذلك أصلًا، وهذه روي عن مالك وجوب الخروج منها، رواه ابن القاسم، غير أن ذلك قد حدث في القيروان أيام بني عبيد فلم يحفظ أن أحدًا من فقهائها الصالحين دعا الناس إلى الهجرة. وحسبك بإقامة الشيخ أبي محمد بن أبي زيد وأمثاله. وحدث في مصر مدة الفاطميين أيضًا فلم يغادرها أحد من علمائها الصالحين.
ودون هذه الأحوال الستة أحوال كثيرة هي أولى بجواز الإقامة، وأنها مراتب، وإن لبقاء المسلمين في أوطانهم إذا لم يفتنوا في دينهم مصلحة كبرى للجامعة الإسلامية] اهـ.
وأما الأحاديث التي ذكروها فالكلام فيها على سندها ومتنها، أما الكلام على سند الحديث الأول، فقد قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل، عن قيس، عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه، قال: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمٍ، فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ، فَأَسْرَعَ فِيهِمُ الْقَتْلَ قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ، وَقَالَ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لِمَ؟ قَالَ: «لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا». قال أبو داود: رواه هشيم، ومعمر، وخالد الواسطي، وجماعة لم يذكروا جريرًا.
وأخرجه الترمذي من نفس الطريق به، ثم قال: حدثنا هناد قال: حدثنا عبدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم مثل حديث أبي معاوية، ولم يذكر فيه عن جرير وهذا أصح. وفي الباب عن سمرة: وأكثر أصحاب إسماعيل قالوا: عن قيس بن أبي حازم، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية ولم يذكروا فيه عن جرير. ورواه حماد بن سلمة، عن الحجاج بن أرطاة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن جرير مثل حديث أبي معاوية. وسمعت محمدًا يقول: الصحيح حديث قيس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسل.
ومحمد هو محمد بن إسماعيل البخاري، وقد ذكر الترمذي الحديث في "العلل" (رقم: 483) من رواية هناد عن أبي معاوية به، ثم قال: سألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: الصحيح عن قيس بن أبي حازم مرسل. قلت له: فإن حماد بن سلمة روى هذا الحديث عن الحجاج بن أرطاة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير! فلم يعده محفوظًا.
فالصواب في هذا الحديث أن سنده مرسل، وأن الرواية المذكور فيها الصحابي غير محفوظة.
وعلى فرض التسليم بصحته فالنهي فيه عن المقام بين أظهر المشركين مخصوص بحال خوف الفتنة وليس على إطلاقه، فقد هاجر الصحابة للحبشة ولم تكن وقتئذ دار إسلام كما مر، وهذا صريح مذهب الشافعية؛ يقول الإمام النووي في "الروضة" (10/ 282، ط. المكتب الإسلامي): [المسلم إن كان ضعيفًا في دار الكفر لا يقدر على إظهار الدين، حرم عليه الإقامة هناك، وتجب عليه الهجرة إلى دار الإسلام، فإن لم يقدر على الهجرة؛ فهو معذور إلى أن يقدر، فإن فتح البلد قبل أن يهاجر، سقط عنه الهجرة، وإن كان يقدر على إظهار الدين؛ لكونه مطاعًا في قومه، أو لأن له هناك عشيرة يحمونه، ولم يخف فتنة في دينه، لم تجب الهجرة، لكن تستحب؛ لئلا يكثر سوادهم، أو يميل إليهم، أو يكيدوا له، وقيل: تجب الهجرة، حكاه الإمام، والصحيح الأول. قلت: قال صاحب "الحاوي": فإن كان يرجو ظهور الإسلام هناك بمقامه، فالأفضل أن يقيم، قال: وإن قدر على الامتناع في دار الحرب والاعتزال، وجب عليه المقام بها؛ لأن موضعه دار إسلام، فلو هاجر لصار دار حرب، فيحرم ذلك، ثم إن قدر على قتال الكفار ودعائهم إلى الإسلام، لزمه، وإلا فلا، والله أعلم] اهـ.
وأما حديث سمرة رضي الله عنه فقد أشار إليه الترمذي، وأخرجه أبو داود قال: حدثنا محمد بن داود بن سفيان، حدثنا يحيى بن حسان، أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود، حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، حدثني خبيب بن سليمان، عن أبيه سليمان بن سمرة، عن سمرة بن جندب، أما بعد: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ».
وقد قال الحافظ الذهبي في ترجمة جعفر بن سعد بن سمرة: [له حديث في الزكاة عن ابن عم له. رده ابن حزم، فقال: هما مجهولان. قلت: ابن عمه هو خبيب بن سليمان بن سمرة يجهل حاله عن أبيه. قال ابن القطان: ما من هؤلاء من يعرف حاله، وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم، وهو إسناد يروى به جملة أحاديث، قد ذكر البزار منها نحو المائة. وقال عبد الحق الأزدي: خبيب ضعيف، وليس جعفر ممن يعتمد عليه.. قلت: في "سنن أبي داود" من ذلك ستة أحاديث بسند، وهو: حدثنا محمد بن داود، حدثنا يحيى بن حسان، عن سليمان بن موسى، عن جعفر، عن ابن عمه خبيب، عن أبيه، عن جده. فسليمان هذا زهري من أهل الكوفة، ليس بالمشهور، وبكل حال هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم] اهـ. "ميزان الاعتدال" (1/ 407، ط. دار المعرفة). فمن حسَّن إسناد حديث سمرة فقد وهم.
فهذا حديث أيضًا لا يصح من حيث السند، ولو افترضنا تقويته بطرقه فليس في متنه ما يؤخذ منه التحريم المطلق، بل يكون الأمر فيه تفصيل كما نص على ذلك طائفة من أهل العلم؛ لأن الحديث يوضع مع غيره من الأدلة الواردة في الباب، فقوله: «فَإِنَّهُ مِثْلُهُ» أي من بعض الوجوه؛ لأن المخالطة قد تجر إلى تداعي ضعف إيمانه فزجر الشارع عن مخالطته بهذا التغليظ العظيم حسمًا لمادة الفساد. ينظر: "عون المعبود" للعظيم آبادي (7/ 337، ط. دار الكتب العلمية).
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 38، ط. دار المعرفة): [قال الخطابي وغيره: كانت الهجرة فرضًا في أول الإسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجًا فسقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو. انتهى، وكانت الحكمة أيضًا في وجوب الهجرة على من أسلم؛ ليسلم من أذى ذويه من الكفار فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه وفيهم نزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ [النساء: 97] الآية، وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر، وقدر على الخروج منها وقد روى النسائي من طريق بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده رضي الله عنه مرفوعًا: «لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ مُشْرك عملًا بعد مَا أَسْلَمَ أَوْ يُفَارِقُ الْمُشْرِكِينَ»، ولأبي داود من حديث سمرة رضي الله عنه مرفوعًا: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ»، وهذا محمول على من لم يأمن على دينه] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (4/ 204، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(فصل: تجب الهجرة) من دار الكفر إلى دار الإسلام (على مستطيع) لها (إن عجز عن إظهار دينه)؛ لقوله تعالى ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [النحل: 28] الآية، ولخبر أبي داود وغيره «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ» سواء الرجل والمرأة، وإن لم تجد محرمًا وكذا كل من أظهر حقًّا ببلدة من بلاد الإسلام ولم يقبل منه ولم يقدر على إظهاره تلزمه الهجرة منها نقله الأذرعي وغيره عن صاحب المعتمد ونقله الزركشي عن البغوي أيضًا، واستثنى البلقيني من ذلك ما إذا كان في إقامته مصلحة للمسلمين فيجوز له الإقامة، فإن لم يستطع الهجرة فهو معذور إلى أن يستطيع، فإن فتح البلد قبل أن يهاجر سقط عنه الهجرة صرحَ به الأصْلُ.
(وإن قدر) على إظهار دينه؛ لكونه مطاعًا في قومه، أو لأن له عشيرة تحميه (ولم يخف فتنة فيه استحب) له أن يهاجر؛ لئلا يكثر سوادهم أو يميل إليهم أو يكيدوا له ولا يجب؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم بعث عثمان رضي الله عنه يوم الحديبية إلى مكة؛ لأن عشيرته بها فيقدر على إظهار دينه (لا إن رجا إسلام غيره)، ثم فلا يستحب له أن يهاجر بل الأفضل أن يقيم] اهـ.
وكل ما ذكر في مسألة الإقامة في غير بلاد المسلمين يأتي في مسألة التجنيس بجنسية هذه الدول؛ إذ الفرق هو أمر تنظيمي، وقد يستفيد منه المسلم كما هو معروف ومشاهد- كما تقدم في أول الفتوى.
ومما سبق: يتضح أن الحكم الشرعي في قضية التجنس والهجرة إلى بلاد أخرى يختلف بناءً على دوافع ذلك، وعلى طبيعة الدولة المراد التجنس بجنسيتها، والخضوع لحكامها وقوانينها، فإن كان في ذلك ما يضيق على المسلم في دينه وشعائره، كبعض الدول التي تنكر الدين إنكارًا تامًّا فلا يجوز، وإلا فإن كانت تلك الدولة تتيح الحرية الدينية وليس فيها ما يضر بالمسلم في دينه أو دنياه فلا بأس حينئذ بالتجنسِ بجنسيتها والهجرةِ إليها ما دام ذلك لا يشتمل على أمور محرمة.
والله سبحانه وتعالى أعلم. 

اقرأ أيضا

تغيير الجنسية والجمع بين أكثر من جنسية

يقوم بعض المسلمين بالتجنس بجنسية بلد غير مسلم؛ كدول أوربا وأمريكا، ونتيجة هذه الجنسية أن يصير محكومًا من قبل رئيس وحكومة وقوانين غير إسلامية، فما حكم الإقدام على هذا العمل؟ 

مادة: الجيم والنون والسين تدل في اللغة على الضرب من الشيء، يقال: جنَّس الْأَشْيَاءَ شاكل بَين أفرادها ونسبها إِلَى أجناسها تجنس مُطَاوع جنسه تجانسا اتحدا فِي الْجِنْس... "الجنسية" الصّفة الَّتِي تلْحق بالشخص من جِهَة انتسابه لشعب أَو أمة.
وفِي القانون: علاقَة قانونية ترْبط فَردًا معينًا بدولة مُعينَة وَقد تكون أصيلة أَو مكتسبة. ينظر: "الوسيط" (ص: 14، مادة: ج ن س، ط. مجمع اللغة العربية)، و"معجم مقاييس اللغة" للعلامة ابن فارس (1/ 486، ط. دار الفكر).
والحكم في هذه المسألة ينبني على دافع الهجرة والتجنس، وكذلك على الوضع الحقيقي للدولة المهاجر إليها، فقد يكون إقدام الفرد على هذا الفعل فرضًا عينيًّا مثل: فرار المرء بدينه، ولا يتحقق ذلك إلا في هذه الدولة أو مثلها.
وقد يكون السفر ويتبعه التجنس من أجل الحصول على شيء مباح؛ مثل طلب الرزق، وقد يكون مستحبًا أو واجبًا كفائيًّا؛ مثل: الحصول على علوم يحتاج إليها المسلمون.
وهناك صور أخرى تأخذ حكمها من النظائر التي ذكرناها.
أما بخصوص التجنس بجنسية دولة يضيق عليه فيها في عقيدته، كبعض الدول التي تنكر الدين إنكارًا تامًّا؛ فلا يجوز التجنس بجنسيتها، إلا إذا أخذ الجنسية من أجل الحصول على جواز سفر منها، ثم يهاجر إلى دولة أخرى.
أما السفر إلى دولة فيها حرية التدين في الغالب ولا يكون لها تأثير على عقيدته وديانته فلا بأس في هذه الحالة بالتجنس، ويدور الأمر في هذه الحالة على الجواز أو الاستحباب أو الوجوب، بحسب الحالة كما تقدم، ويستمر الحكم ما لم تتغير الأحوال إلى ما يدعو إلى تغيره.
ولا يخفى أن الأصل هو الإقامة في بلد مسلم؛ لأمن المرء على دينه وأهله وذريته، وإلا كره لغير حاجة إذ لا يخلو الأمر من حيث الواقع من خوف على دين المرء، وذريته على الأقل.
ولكل مما سبق دليله، أما إن كان فرضًا عينيًّا مثل فرار المرء بدينه ولا يتحقق هذا إلا في هذه الدولة أو مثلها؛ فدليله قول الله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 173]. فبينت الآية أن "الضرورات تبيح المحظورات".
وقال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ۞ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ۞ فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورا﴾ [النساء: 97-99].
فبينت الآية أن المسلم كان مأمورًا بالهجرة إلى المدينة؛ ليتمكن من إقامة دينه، ولنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا كانت الهجرة إلى المدينة لم تعد واجبة؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ» أخرجه البخاري، فبقي حكم من لا يستطيع إقامة دينه إلا بالهجرة على أصله، وهو الوجوب؛ قال الإمام البيضاوي في "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" (2/ 92، ط. دار إحياء التراث العربي): [وفي الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه] اهـ.
ومن أدلة الهجرة إلى بلدة يحكمها غير مسلم: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، وحاكمها النجاشي كان نصرانيًا. وقد هاجر بعض أهل اليمن فألقتهم السفينة في الحبشة، فأمرهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بالإقامة معهم، فلو كانت الإقامة ممتنعة ما أقام ومن معه، كما لم يكن لهم أن يأمروا غيرهم بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد هاجر إلى المدينة، وصار المسلمون يأمنون على دينهم، وإن كان النجاشي يعامل المسلمين معاملة حسنة، إلا أن أهل البلاد لم يكونوا على ذلك الأمر، ويظهر ذلك في كلام أسماء بنت عميس رضي الله عنها كما سيأتي.
ومعلوم أن قدوم جعفر وأصحابه رضي الله عنهم جميعًا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عام خيبر، أي في العام السابع من الهجرة، كما بين هذا الحديث الطويل الذي في "الصحيحين": عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها ابْنَةِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، قَالَتْ: "لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ، جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ، النَّجَاشِيَّ، أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا، وَعَبَدْنَا اللهَ لَا نُؤْذَى، وَلا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا، ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ، وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا إِلَيْهِ الْأَدَمُ، فَجَمَعُوا لَهُ أَدَمًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إِلا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً، ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، وعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَأَمَرُوهُمَا أَمْرَهُمْ، وَقَالُوا لَهُمَا: ادْفَعُوا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ، قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمُوا النَّجَاشِيَّ فِيهِمْ، ثُمَّ قَدِّمُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ، ثُمَّ سَلُوهُ أَنْ يُسْلِمَهُمِ إلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، قَالَتْ: فَخَرَجَا فَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ، وَعِنْدَ خَيْرِ جَارٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إِلا دَفَعَا إِلَيْهِ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ، ثُمَّ قَالا لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ: إِنَّهُ قَدْ صَبَا إِلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ، وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتُمْ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَى الْمَلِكِ فِيهِمِ أشْرَافُ قَوْمِهِمْ لِنَرُدَّهُمِ إلَيْهِمْ، فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ، فَتُشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسْلِمَهُمِ إلَيْنَا وَلا يُكَلِّمَهُمْ، فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُمَا: نَعَمْ، ثُمَّ إِنَّهُمَا قَرَّبَا هَدَايَاهُمِ إلَى النَّجَاشِيِّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا، ثُمَّ كَلَّمَاهُ، فَقَالا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّهُ قَدْ صَبَا إِلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ، وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَيْكَ فِيهِمِ أشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ، وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ، لِتَرُدَّهُمِ إلَيْهِمْ، فَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ. قَالَتْ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ النَّجَاشِيُّ كَلامَهُمْ، فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ: صَدَقُوا أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَوْمُهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ، فَأَسْلِمْهُمِ إلَيْهِمَا، فَلْيَرُدَّاهُمِ إلَى بِلادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ، قَالَت: فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ، ثُمَّ قَالَ: لَا، هَيْمُ اللهِ، إِذًا لَا أُسْلِمُهُمْ إِلَيْهِمَا، وَلَا أُكَادُ قَوْمًا جَاوَرُونِي وَنَزَلُوا بِلادِي وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ مَاذَا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولانِ أَسْلَمْتُهُمِ الَيْهِمَا وَرَدَدْتُهُمِ الَى قَوْمِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا، وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي.
قَالَتْ: ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَدَعَاهُمْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إِذَا جِئْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاللهِ مَا عَلَّمَنَا، وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، كَائِنٌ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ. فَلَمَّا جَاءُوهُ، وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ، فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ، سَأَلَهُمْ فَقَالَ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ، وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي وَلا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ؟ قَالَتْ: فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ، وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، قَالَ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلامِ، فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، فَعَبَدْنَا اللهَ وَحْدَهُ، فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا؛ فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الخَبَائِثِ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا، وَشَقُّوا عَلَيْنَا، وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا، خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ، وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ رضي الله عنه: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: فَاقْرَأْهُ عَلَيَّ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ ﴿كهيعص﴾، قَالَتْ: فَبَكَى وَاللهِ النَّجَاشِيُّ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، انْطَلِقَا فَوَاللهِ لَا أُسْلِمُهُمِ الَيْكُمِ ابَدًا، وَلا أُكَادُ، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنه: فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: وَاللهِ لانَبِّئَنَّهُمْ غَدًا عَيْبَهُمْ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ، قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ -وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا-: لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ لَهُمِ ارْحَامًا، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا. قَالَ: وَاللهِ لاخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَبْدٌ، قَالَتْ: ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ الْغَدَ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلًا عَظِيمًا، فَأَرْسِلِ الَيْهِمْ فَاسْأَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ، قَالَتْ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ، قَالَتْ: وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهُ، فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاللهِ فِيهِ مَا قَالَ اللهُ، وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، قَالَ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا: هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ، قَالَتْ: فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ يَدَهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا، ثُمَّ قَالَ: مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ، فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللهِ اذْهَبُوا، فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي -وَالسُّيُومُ: الْآمِنُونَ- مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ، ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرًا ذَهَبًا، وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ -وَالدَّبْرُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: الْجَبَلُ- رُدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا، فَلا حَاجَةَ لَنَا بِهَا، فَوَاللهِ مَا أَخَذَ اللهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي، فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيهِ وَمَا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ، فَأُطِيعَهُمْ فِيهِ.
قَالَتْ: فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ، وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ مَعَ خَيْرِ جَارٍ. قَالَتْ: فَوَاللهِ إِنَّا عَلَى ذَلِكَ إِذْ نَزَلَ بِهِ -يَعْنِي مَنْ يُنَازِعُهُ فِي مُلْكِهِ- قَالَ: فَوَاللهِ مَا عَلِمْنَا حُزْنًا قَطُّ كَانَ أَشَدَّ مِنْ حُزْنٍ حَزِنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ، تَخَوُّفًا أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَيَأْتِيَ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ النَّجَاشِيُّ يَعْرِفُ مِنْهُ. قَالَتْ: وَسَارَ النَّجَاشِيُّ وَبَيْنَهُمَا عُرْضُ النِّيلِ، قَالَتْ: فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَتَّى يَحْضُرَ وَقْعَةَ الْقَوْمِ ثُمَّ يَأْتِيَنَا بِالْخَبَرِ؟ قَالَتْ: فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ رضي الله عنه: أَنَا، قَالَتْ: وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ الْقَوْمِ سِنًّا، قَالَتْ: فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً، فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ ثُمَّ سَبَحَ عَلَيْهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى نَاحِيَةِ النِّيلِ الَّتِي بِهَا مُلْتَقَى الْقَوْمِ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى حَضَرَهُمْ. قَالَتْ: وَدَعَوْنَا اللهَ لِلنَّجَاشِيِّ بِالظُّهُورِ عَلَى عَدُوِّهِ، وَالتَّمْكِينِ لَهُ فِي بِلادِهِ، وَاسْتَوْسَقَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَبَشَةِ، فَكُنَّا عِنْدَهُ فِي خَيْرِ مَنْزِلٍ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وَهُوَ بِمَكَّةَ". أخرجه الإمام أحمد في "مسنده".
وعند ابن هشام: ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا إلى مكة، وأقام من أقام.
وعن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن باليمن؛ فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، أحدهما أبو بردة، والآخر أبو رهم رضي الله عنهما، إما قال: بضع، وإما قال: في ثلاثة وخمسين، أو اثنين وخمسين رجلًا من قومي، فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعًا، فوافقنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين افتتح خيبر، وكان أناس من الناس يقولون لنا، يعني لأهل السفينة: سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس رضي الله عنها -وهي ممن قدم معنا- على حفصة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم زائرةً، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة، وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر: الحبشية هذه، البحرية هذه؟ قالت أسماء رضي الله عنها: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة؛ فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منكم. فغضبت وقالت: كلا والله؛ كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار -أو في أرض- البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وايم الله لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن كنا نؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ، ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: يا نبي الله، إن عمر قال كذا وكذا؟ قال: «فما قلت له؟» قالت: قلت له: كذا وكذا، قال: «ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم -أهل السفينة- هجرتان».
قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة رضي الله عنهم يأتوني أرسالًا، يسألوني عن هذا الحديث، ما مِن الدنيا شيءٌ هُمْ به أفرحُ ولا أعظمُ في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال أبو بردة: قالت أسماء رضي الله عنها: فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني.
ومن الأدلة أيضًا: ما ورد عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: «يَتَعَرَّضُ مِنَ البَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ» رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب.
ووجه الدلالة حث الشرع للمكلف أن لا يتعرض للبلاء؛ لأن الإنسان قد يضعف ولا يستطيع أن يتحمل البلاء فيكون في ذلك هلاك دينه، وهذا أقل أحواله أن يحكم بكراهته.
وذهبت طائفة إلى المنع مطلقًا، ومن أشهر حججهم: قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97].
ووجه الدلالة: أن البقاء في البلاد التي لا يستطيعون فيها ممارسة شعائر دينهم ويضيق عليهم فيها، يعد من الاستضعاف المنهي عنه.
وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ» أخرجه أبو داود وغيره.
وعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ» أخرجه أبو داود.
كما احتجوا بعمومات النصوص الناهية عن موالاة المشركين.
والجواب عن هذه الأدلة: أن قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97]، ليس فيه حجة لما ذهبوا إليه؛ لأن الاستضعاف في واقع أمرنا قد يكون في بلاد المسلمين نفسها، وقد يكون الأمر فيه سعة خارج بلاد المسلمين أحيانًا! فالعبرة بالموطن الذي يستطيع أن يقيم المرء فيه دينه.
قال الإمام البيضاوي في "تفسيره" (2/ 92): [وفي الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه] اهـ.
وقد فصَّل الإمام الطاهر بن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير" (5/ 178-180، ط. الدار التونسية للنشر) الكلام عن هذه الآية الكريمة؛ فقال: [وقد اتفق العلماء على أن حكم هذه الآية انقضى يوم فتح مكة؛ لأن الهجرة كانت واجبة لمفارقة أهل الشرك وأعداء الدين، وللتمكن من عبادة الله دون حائل يحول عن ذلك، فلما صارت مكة دار إسلام ساوت غيرها، ويؤيده حديث: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ»، فكان المؤمنون يبقون في أوطانهم إلا المهاجرين يحرم عليهم الرجوع إلى مكة. وفي الحديث: «اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ»، قاله بعد أن فتحت مكة. غير أن القياس على حكم هذه الآية يفتح للمجتهدين نظرًا في أحكام وجوب الخروج من البلد الذي يفتن فيه المؤمن في دينه، وهذه أحكام يجمعها ستة أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون المؤمن ببلد يفتن فيه في إيمانه فيرغم على الكفر وهو يستطيع الخروج، فهذا حكمه حكم الذين نزلت فيهم الآية، وقد هاجر مسلمون من الأندلس حين أكرههم النصارى على التنصر؛ فخرجوا على وجوههم في كل واد تاركين أموالهم وديارهم ناجين بأنفسهم وإيمانهم، وهلك فريق منهم في الطريق وذلك في سنة 902م وما بعدها إلى أن كان الجلاء الأخير سنة 1016م.
الحالة الثانية: أن يكون ببلد الكفر غير مفتون في إيمانه ولكن يكون عرضة للإصابة في نفسه أو ماله بأسر أو قتل أو مصادرة مال، فهذا قد عرض نفسه للضر وهو حرام بلا نزاع، وهذا مسمى الإقامة ببلد الحرب المفسرة بأرض العدو.
الحالة الثالثة: أن يكون ببلد غلب عليه غير المسلمين إلا أنهم لم يفتنوا الناس في إيمانهم ولا في عباداتهم ولا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ولكنه بإقامته تجري عليه أحكام غير المسلمين إذا عرض له حادث مع واحد من أهل ذلك البلد الذين هم غير مسلمين، وهذا مثل الذي يقيم اليوم ببلاد أوروبا النصرانية، وظاهر قول مالك أن المقام في مثل ذلك مكروه كراهة شديدة من أجل أنه تجري عليه أحكام غير المسلمين، وهو ظاهر "المدونة" في كتاب التجارة إلى أرض الحرب والعُتْبِيَّة، كذلك تأول قول مالك فقهاء القيروان، وهو ظاهر الرسالة، وصريح كلام اللخمي في طالعة كتاب التجارة إلى أرض الحرب من تبصرته، وارتضاه ابن محرز وعبد الحق، وتأوله سحنون وابن حبيب على الحرمة، وكذلك عبد الحميد الصائغ المازري، وزاد سحنون فقال: إن مقامه جرحة في عدالته، ووافقه المازري وعبد الحميد، وعلى هذا يجري الكلام في السفر في سفن النصارى إلى الحج وغيره. وقال البرزلي عن ابن عرفة: إن كان أمير تونس قويًّا على النصارى جاز السفر، وإلا لم يجز؛ لأنهم يهينون المسلمين.
الحالة الرابعة: أن يتغلب الكفار على بلد أهله مسلمون ولا يفتنوهم في دينهم ولا في عبادتهم ولا في أموالهم، ولكنهم يكون لهم حكم القوة عليهم فقط، وتجري الأحكام بينهم على مقتضى شريعة الإسلام كما وقع في صقلية حين استولى عليها رجير النرمندي. وكما وقع في بلاد غرناطة حين استولى عليها طاغية الجلالقة على شروط منها احترام دينهم، فإن أهلها أقاموا بها مدة وأقام منهم علماؤهم وكانوا يلون القضاء والفتوى والعدالة والأمانة ونحو ذلك، وهاجر فريق منهم فلم يعب المهاجر على القاطن، ولا القاطن على المهاجر.
الحالة الخامسة: أن يكون لغير المسلمين نفوذ وسلطان على بعض بلاد الإسلام، مع بقاء ملوك الإسلام فيها، واستمرار تصرفهم في قومهم، وولاية حكامهم منهم، واحترام أديانهم وسائر شعائرهم، ولكن تصرف الأمراء تحت نظر غير المسلمين وبموافقتهم، وهو ما يسمى بالحماية والاحتلال والوصاية والانتداب، كما وقع في مصر مدة احتلال جيش الفرنسيس بها، ثم مدة احتلال الأنقليز، وكما وقع بتونس والمغرب الأقصى من حماية فرنسا، وكما وقع في سوريا والعراق أيام الانتداب وهذه لا شبهة في عدم وجوب الهجرة منها.
الحالة السادسة: البلد الذي تكثر فيه المناكر والبدع، وتجري فيه أحكام كثيرة على خلاف صريح الإسلام بحيث يخلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا ولا يجبر المسلم فيها على ارتكابه خلاف الشرع، ولكنه لا يستطيع تغييرها إلا بالقول، أو لا يستطيع ذلك أصلًا، وهذه روي عن مالك وجوب الخروج منها، رواه ابن القاسم، غير أن ذلك قد حدث في القيروان أيام بني عبيد فلم يحفظ أن أحدًا من فقهائها الصالحين دعا الناس إلى الهجرة. وحسبك بإقامة الشيخ أبي محمد بن أبي زيد وأمثاله. وحدث في مصر مدة الفاطميين أيضًا فلم يغادرها أحد من علمائها الصالحين.
ودون هذه الأحوال الستة أحوال كثيرة هي أولى بجواز الإقامة، وأنها مراتب، وإن لبقاء المسلمين في أوطانهم إذا لم يفتنوا في دينهم مصلحة كبرى للجامعة الإسلامية] اهـ.
وأما الأحاديث التي ذكروها فالكلام فيها على سندها ومتنها، أما الكلام على سند الحديث الأول، فقد قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل، عن قيس، عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه، قال: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمٍ، فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ، فَأَسْرَعَ فِيهِمُ الْقَتْلَ قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ، وَقَالَ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لِمَ؟ قَالَ: «لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا». قال أبو داود: رواه هشيم، ومعمر، وخالد الواسطي، وجماعة لم يذكروا جريرًا.
وأخرجه الترمذي من نفس الطريق به، ثم قال: حدثنا هناد قال: حدثنا عبدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم مثل حديث أبي معاوية، ولم يذكر فيه عن جرير وهذا أصح. وفي الباب عن سمرة: وأكثر أصحاب إسماعيل قالوا: عن قيس بن أبي حازم، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية ولم يذكروا فيه عن جرير. ورواه حماد بن سلمة، عن الحجاج بن أرطاة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن جرير مثل حديث أبي معاوية. وسمعت محمدًا يقول: الصحيح حديث قيس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسل.
ومحمد هو محمد بن إسماعيل البخاري، وقد ذكر الترمذي الحديث في "العلل" (رقم: 483) من رواية هناد عن أبي معاوية به، ثم قال: سألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: الصحيح عن قيس بن أبي حازم مرسل. قلت له: فإن حماد بن سلمة روى هذا الحديث عن الحجاج بن أرطاة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير! فلم يعده محفوظًا.
فالصواب في هذا الحديث أن سنده مرسل، وأن الرواية المذكور فيها الصحابي غير محفوظة.
وعلى فرض التسليم بصحته فالنهي فيه عن المقام بين أظهر المشركين مخصوص بحال خوف الفتنة وليس على إطلاقه، فقد هاجر الصحابة للحبشة ولم تكن وقتئذ دار إسلام كما مر، وهذا صريح مذهب الشافعية؛ يقول الإمام النووي في "الروضة" (10/ 282، ط. المكتب الإسلامي): [المسلم إن كان ضعيفًا في دار الكفر لا يقدر على إظهار الدين، حرم عليه الإقامة هناك، وتجب عليه الهجرة إلى دار الإسلام، فإن لم يقدر على الهجرة؛ فهو معذور إلى أن يقدر، فإن فتح البلد قبل أن يهاجر، سقط عنه الهجرة، وإن كان يقدر على إظهار الدين؛ لكونه مطاعًا في قومه، أو لأن له هناك عشيرة يحمونه، ولم يخف فتنة في دينه، لم تجب الهجرة، لكن تستحب؛ لئلا يكثر سوادهم، أو يميل إليهم، أو يكيدوا له، وقيل: تجب الهجرة، حكاه الإمام، والصحيح الأول. قلت: قال صاحب "الحاوي": فإن كان يرجو ظهور الإسلام هناك بمقامه، فالأفضل أن يقيم، قال: وإن قدر على الامتناع في دار الحرب والاعتزال، وجب عليه المقام بها؛ لأن موضعه دار إسلام، فلو هاجر لصار دار حرب، فيحرم ذلك، ثم إن قدر على قتال الكفار ودعائهم إلى الإسلام، لزمه، وإلا فلا، والله أعلم] اهـ.
وأما حديث سمرة رضي الله عنه فقد أشار إليه الترمذي، وأخرجه أبو داود قال: حدثنا محمد بن داود بن سفيان، حدثنا يحيى بن حسان، أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود، حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، حدثني خبيب بن سليمان، عن أبيه سليمان بن سمرة، عن سمرة بن جندب، أما بعد: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ».
وقد قال الحافظ الذهبي في ترجمة جعفر بن سعد بن سمرة: [له حديث في الزكاة عن ابن عم له. رده ابن حزم، فقال: هما مجهولان. قلت: ابن عمه هو خبيب بن سليمان بن سمرة يجهل حاله عن أبيه. قال ابن القطان: ما من هؤلاء من يعرف حاله، وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم، وهو إسناد يروى به جملة أحاديث، قد ذكر البزار منها نحو المائة. وقال عبد الحق الأزدي: خبيب ضعيف، وليس جعفر ممن يعتمد عليه.. قلت: في "سنن أبي داود" من ذلك ستة أحاديث بسند، وهو: حدثنا محمد بن داود، حدثنا يحيى بن حسان، عن سليمان بن موسى، عن جعفر، عن ابن عمه خبيب، عن أبيه، عن جده. فسليمان هذا زهري من أهل الكوفة، ليس بالمشهور، وبكل حال هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم] اهـ. "ميزان الاعتدال" (1/ 407، ط. دار المعرفة). فمن حسَّن إسناد حديث سمرة فقد وهم.
فهذا حديث أيضًا لا يصح من حيث السند، ولو افترضنا تقويته بطرقه فليس في متنه ما يؤخذ منه التحريم المطلق، بل يكون الأمر فيه تفصيل كما نص على ذلك طائفة من أهل العلم؛ لأن الحديث يوضع مع غيره من الأدلة الواردة في الباب، فقوله: «فَإِنَّهُ مِثْلُهُ» أي من بعض الوجوه؛ لأن المخالطة قد تجر إلى تداعي ضعف إيمانه فزجر الشارع عن مخالطته بهذا التغليظ العظيم حسمًا لمادة الفساد. ينظر: "عون المعبود" للعظيم آبادي (7/ 337، ط. دار الكتب العلمية).
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 38، ط. دار المعرفة): [قال الخطابي وغيره: كانت الهجرة فرضًا في أول الإسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجًا فسقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو. انتهى، وكانت الحكمة أيضًا في وجوب الهجرة على من أسلم؛ ليسلم من أذى ذويه من الكفار فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه وفيهم نزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ [النساء: 97] الآية، وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر، وقدر على الخروج منها وقد روى النسائي من طريق بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده رضي الله عنه مرفوعًا: «لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ مُشْرك عملًا بعد مَا أَسْلَمَ أَوْ يُفَارِقُ الْمُشْرِكِينَ»، ولأبي داود من حديث سمرة رضي الله عنه مرفوعًا: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ»، وهذا محمول على من لم يأمن على دينه] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (4/ 204، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(فصل: تجب الهجرة) من دار الكفر إلى دار الإسلام (على مستطيع) لها (إن عجز عن إظهار دينه)؛ لقوله تعالى ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [النحل: 28] الآية، ولخبر أبي داود وغيره «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ» سواء الرجل والمرأة، وإن لم تجد محرمًا وكذا كل من أظهر حقًّا ببلدة من بلاد الإسلام ولم يقبل منه ولم يقدر على إظهاره تلزمه الهجرة منها نقله الأذرعي وغيره عن صاحب المعتمد ونقله الزركشي عن البغوي أيضًا، واستثنى البلقيني من ذلك ما إذا كان في إقامته مصلحة للمسلمين فيجوز له الإقامة، فإن لم يستطع الهجرة فهو معذور إلى أن يستطيع، فإن فتح البلد قبل أن يهاجر سقط عنه الهجرة صرحَ به الأصْلُ.
(وإن قدر) على إظهار دينه؛ لكونه مطاعًا في قومه، أو لأن له عشيرة تحميه (ولم يخف فتنة فيه استحب) له أن يهاجر؛ لئلا يكثر سوادهم أو يميل إليهم أو يكيدوا له ولا يجب؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم بعث عثمان رضي الله عنه يوم الحديبية إلى مكة؛ لأن عشيرته بها فيقدر على إظهار دينه (لا إن رجا إسلام غيره)، ثم فلا يستحب له أن يهاجر بل الأفضل أن يقيم] اهـ.
وكل ما ذكر في مسألة الإقامة في غير بلاد المسلمين يأتي في مسألة التجنيس بجنسية هذه الدول؛ إذ الفرق هو أمر تنظيمي، وقد يستفيد منه المسلم كما هو معروف ومشاهد- كما تقدم في أول الفتوى.
ومما سبق: يتضح أن الحكم الشرعي في قضية التجنس والهجرة إلى بلاد أخرى يختلف بناءً على دوافع ذلك، وعلى طبيعة الدولة المراد التجنس بجنسيتها، والخضوع لحكامها وقوانينها، فإن كان في ذلك ما يضيق على المسلم في دينه وشعائره، كبعض الدول التي تنكر الدين إنكارًا تامًّا فلا يجوز، وإلا فإن كانت تلك الدولة تتيح الحرية الدينية وليس فيها ما يضر بالمسلم في دينه أو دنياه فلا بأس حينئذ بالتجنسِ بجنسيتها والهجرةِ إليها ما دام ذلك لا يشتمل على أمور محرمة.
والله سبحانه وتعالى أعلم. 

التفاصيل ....

مادة: الجيم والنون والسين تدل في اللغة على الضرب من الشيء، يقال: جنَّس الْأَشْيَاءَ شاكل بَين أفرادها ونسبها إِلَى أجناسها تجنس مُطَاوع جنسه تجانسا اتحدا فِي الْجِنْس... "الجنسية" الصّفة الَّتِي تلْحق بالشخص من جِهَة انتسابه لشعب أَو أمة.
وفِي القانون: علاقَة قانونية ترْبط فَردًا معينًا بدولة مُعينَة وَقد تكون أصيلة أَو مكتسبة. ينظر: "الوسيط" (ص: 14، مادة: ج ن س، ط. مجمع اللغة العربية)، و"معجم مقاييس اللغة" للعلامة ابن فارس (1/ 486، ط. دار الفكر).
والحكم في هذه المسألة ينبني على دافع الهجرة والتجنس، وكذلك على الوضع الحقيقي للدولة المهاجر إليها، فقد يكون إقدام الفرد على هذا الفعل فرضًا عينيًّا مثل: فرار المرء بدينه، ولا يتحقق ذلك إلا في هذه الدولة أو مثلها.
وقد يكون السفر ويتبعه التجنس من أجل الحصول على شيء مباح؛ مثل طلب الرزق، وقد يكون مستحبًا أو واجبًا كفائيًّا؛ مثل: الحصول على علوم يحتاج إليها المسلمون.
وهناك صور أخرى تأخذ حكمها من النظائر التي ذكرناها.
أما بخصوص التجنس بجنسية دولة يضيق عليه فيها في عقيدته، كبعض الدول التي تنكر الدين إنكارًا تامًّا؛ فلا يجوز التجنس بجنسيتها، إلا إذا أخذ الجنسية من أجل الحصول على جواز سفر منها، ثم يهاجر إلى دولة أخرى.
أما السفر إلى دولة فيها حرية التدين في الغالب ولا يكون لها تأثير على عقيدته وديانته فلا بأس في هذه الحالة بالتجنس، ويدور الأمر في هذه الحالة على الجواز أو الاستحباب أو الوجوب، بحسب الحالة كما تقدم، ويستمر الحكم ما لم تتغير الأحوال إلى ما يدعو إلى تغيره.
ولا يخفى أن الأصل هو الإقامة في بلد مسلم؛ لأمن المرء على دينه وأهله وذريته، وإلا كره لغير حاجة إذ لا يخلو الأمر من حيث الواقع من خوف على دين المرء، وذريته على الأقل.
ولكل مما سبق دليله، أما إن كان فرضًا عينيًّا مثل فرار المرء بدينه ولا يتحقق هذا إلا في هذه الدولة أو مثلها؛ فدليله قول الله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 173]. فبينت الآية أن "الضرورات تبيح المحظورات".
وقال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ۞ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ۞ فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورا﴾ [النساء: 97-99].
فبينت الآية أن المسلم كان مأمورًا بالهجرة إلى المدينة؛ ليتمكن من إقامة دينه، ولنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا كانت الهجرة إلى المدينة لم تعد واجبة؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ» أخرجه البخاري، فبقي حكم من لا يستطيع إقامة دينه إلا بالهجرة على أصله، وهو الوجوب؛ قال الإمام البيضاوي في "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" (2/ 92، ط. دار إحياء التراث العربي): [وفي الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه] اهـ.
ومن أدلة الهجرة إلى بلدة يحكمها غير مسلم: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، وحاكمها النجاشي كان نصرانيًا. وقد هاجر بعض أهل اليمن فألقتهم السفينة في الحبشة، فأمرهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بالإقامة معهم، فلو كانت الإقامة ممتنعة ما أقام ومن معه، كما لم يكن لهم أن يأمروا غيرهم بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد هاجر إلى المدينة، وصار المسلمون يأمنون على دينهم، وإن كان النجاشي يعامل المسلمين معاملة حسنة، إلا أن أهل البلاد لم يكونوا على ذلك الأمر، ويظهر ذلك في كلام أسماء بنت عميس رضي الله عنها كما سيأتي.
ومعلوم أن قدوم جعفر وأصحابه رضي الله عنهم جميعًا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عام خيبر، أي في العام السابع من الهجرة، كما بين هذا الحديث الطويل الذي في "الصحيحين": عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها ابْنَةِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، قَالَتْ: "لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ، جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ، النَّجَاشِيَّ، أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا، وَعَبَدْنَا اللهَ لَا نُؤْذَى، وَلا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا، ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ، وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا إِلَيْهِ الْأَدَمُ، فَجَمَعُوا لَهُ أَدَمًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إِلا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً، ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، وعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَأَمَرُوهُمَا أَمْرَهُمْ، وَقَالُوا لَهُمَا: ادْفَعُوا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ، قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمُوا النَّجَاشِيَّ فِيهِمْ، ثُمَّ قَدِّمُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ، ثُمَّ سَلُوهُ أَنْ يُسْلِمَهُمِ إلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، قَالَتْ: فَخَرَجَا فَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ، وَعِنْدَ خَيْرِ جَارٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إِلا دَفَعَا إِلَيْهِ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ، ثُمَّ قَالا لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ: إِنَّهُ قَدْ صَبَا إِلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ، وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتُمْ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَى الْمَلِكِ فِيهِمِ أشْرَافُ قَوْمِهِمْ لِنَرُدَّهُمِ إلَيْهِمْ، فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ، فَتُشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسْلِمَهُمِ إلَيْنَا وَلا يُكَلِّمَهُمْ، فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُمَا: نَعَمْ، ثُمَّ إِنَّهُمَا قَرَّبَا هَدَايَاهُمِ إلَى النَّجَاشِيِّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا، ثُمَّ كَلَّمَاهُ، فَقَالا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّهُ قَدْ صَبَا إِلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ، وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَيْكَ فِيهِمِ أشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ، وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ، لِتَرُدَّهُمِ إلَيْهِمْ، فَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ. قَالَتْ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ النَّجَاشِيُّ كَلامَهُمْ، فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ: صَدَقُوا أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَوْمُهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ، فَأَسْلِمْهُمِ إلَيْهِمَا، فَلْيَرُدَّاهُمِ إلَى بِلادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ، قَالَت: فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ، ثُمَّ قَالَ: لَا، هَيْمُ اللهِ، إِذًا لَا أُسْلِمُهُمْ إِلَيْهِمَا، وَلَا أُكَادُ قَوْمًا جَاوَرُونِي وَنَزَلُوا بِلادِي وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ مَاذَا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولانِ أَسْلَمْتُهُمِ الَيْهِمَا وَرَدَدْتُهُمِ الَى قَوْمِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا، وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي.
قَالَتْ: ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَدَعَاهُمْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إِذَا جِئْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاللهِ مَا عَلَّمَنَا، وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، كَائِنٌ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ. فَلَمَّا جَاءُوهُ، وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ، فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ، سَأَلَهُمْ فَقَالَ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ، وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي وَلا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ؟ قَالَتْ: فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ، وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، قَالَ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلامِ، فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، فَعَبَدْنَا اللهَ وَحْدَهُ، فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا؛ فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الخَبَائِثِ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا، وَشَقُّوا عَلَيْنَا، وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا، خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ، وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ رضي الله عنه: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: فَاقْرَأْهُ عَلَيَّ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ ﴿كهيعص﴾، قَالَتْ: فَبَكَى وَاللهِ النَّجَاشِيُّ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، انْطَلِقَا فَوَاللهِ لَا أُسْلِمُهُمِ الَيْكُمِ ابَدًا، وَلا أُكَادُ، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنه: فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: وَاللهِ لانَبِّئَنَّهُمْ غَدًا عَيْبَهُمْ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ، قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ -وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا-: لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ لَهُمِ ارْحَامًا، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا. قَالَ: وَاللهِ لاخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَبْدٌ، قَالَتْ: ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ الْغَدَ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلًا عَظِيمًا، فَأَرْسِلِ الَيْهِمْ فَاسْأَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ، قَالَتْ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ، قَالَتْ: وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهُ، فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاللهِ فِيهِ مَا قَالَ اللهُ، وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، قَالَ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا: هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ، قَالَتْ: فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ يَدَهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا، ثُمَّ قَالَ: مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ، فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللهِ اذْهَبُوا، فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي -وَالسُّيُومُ: الْآمِنُونَ- مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ، ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرًا ذَهَبًا، وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ -وَالدَّبْرُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: الْجَبَلُ- رُدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا، فَلا حَاجَةَ لَنَا بِهَا، فَوَاللهِ مَا أَخَذَ اللهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي، فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيهِ وَمَا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ، فَأُطِيعَهُمْ فِيهِ.
قَالَتْ: فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ، وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ مَعَ خَيْرِ جَارٍ. قَالَتْ: فَوَاللهِ إِنَّا عَلَى ذَلِكَ إِذْ نَزَلَ بِهِ -يَعْنِي مَنْ يُنَازِعُهُ فِي مُلْكِهِ- قَالَ: فَوَاللهِ مَا عَلِمْنَا حُزْنًا قَطُّ كَانَ أَشَدَّ مِنْ حُزْنٍ حَزِنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ، تَخَوُّفًا أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَيَأْتِيَ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ النَّجَاشِيُّ يَعْرِفُ مِنْهُ. قَالَتْ: وَسَارَ النَّجَاشِيُّ وَبَيْنَهُمَا عُرْضُ النِّيلِ، قَالَتْ: فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَتَّى يَحْضُرَ وَقْعَةَ الْقَوْمِ ثُمَّ يَأْتِيَنَا بِالْخَبَرِ؟ قَالَتْ: فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ رضي الله عنه: أَنَا، قَالَتْ: وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ الْقَوْمِ سِنًّا، قَالَتْ: فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً، فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ ثُمَّ سَبَحَ عَلَيْهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى نَاحِيَةِ النِّيلِ الَّتِي بِهَا مُلْتَقَى الْقَوْمِ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى حَضَرَهُمْ. قَالَتْ: وَدَعَوْنَا اللهَ لِلنَّجَاشِيِّ بِالظُّهُورِ عَلَى عَدُوِّهِ، وَالتَّمْكِينِ لَهُ فِي بِلادِهِ، وَاسْتَوْسَقَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَبَشَةِ، فَكُنَّا عِنْدَهُ فِي خَيْرِ مَنْزِلٍ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وَهُوَ بِمَكَّةَ". أخرجه الإمام أحمد في "مسنده".
وعند ابن هشام: ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا إلى مكة، وأقام من أقام.
وعن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن باليمن؛ فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، أحدهما أبو بردة، والآخر أبو رهم رضي الله عنهما، إما قال: بضع، وإما قال: في ثلاثة وخمسين، أو اثنين وخمسين رجلًا من قومي، فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعًا، فوافقنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين افتتح خيبر، وكان أناس من الناس يقولون لنا، يعني لأهل السفينة: سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس رضي الله عنها -وهي ممن قدم معنا- على حفصة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم زائرةً، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة، وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر: الحبشية هذه، البحرية هذه؟ قالت أسماء رضي الله عنها: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة؛ فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منكم. فغضبت وقالت: كلا والله؛ كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار -أو في أرض- البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وايم الله لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن كنا نؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ، ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: يا نبي الله، إن عمر قال كذا وكذا؟ قال: «فما قلت له؟» قالت: قلت له: كذا وكذا، قال: «ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم -أهل السفينة- هجرتان».
قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة رضي الله عنهم يأتوني أرسالًا، يسألوني عن هذا الحديث، ما مِن الدنيا شيءٌ هُمْ به أفرحُ ولا أعظمُ في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال أبو بردة: قالت أسماء رضي الله عنها: فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني.
ومن الأدلة أيضًا: ما ورد عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: «يَتَعَرَّضُ مِنَ البَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ» رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب.
ووجه الدلالة حث الشرع للمكلف أن لا يتعرض للبلاء؛ لأن الإنسان قد يضعف ولا يستطيع أن يتحمل البلاء فيكون في ذلك هلاك دينه، وهذا أقل أحواله أن يحكم بكراهته.
وذهبت طائفة إلى المنع مطلقًا، ومن أشهر حججهم: قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97].
ووجه الدلالة: أن البقاء في البلاد التي لا يستطيعون فيها ممارسة شعائر دينهم ويضيق عليهم فيها، يعد من الاستضعاف المنهي عنه.
وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ» أخرجه أبو داود وغيره.
وعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ» أخرجه أبو داود.
كما احتجوا بعمومات النصوص الناهية عن موالاة المشركين.
والجواب عن هذه الأدلة: أن قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97]، ليس فيه حجة لما ذهبوا إليه؛ لأن الاستضعاف في واقع أمرنا قد يكون في بلاد المسلمين نفسها، وقد يكون الأمر فيه سعة خارج بلاد المسلمين أحيانًا! فالعبرة بالموطن الذي يستطيع أن يقيم المرء فيه دينه.
قال الإمام البيضاوي في "تفسيره" (2/ 92): [وفي الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه] اهـ.
وقد فصَّل الإمام الطاهر بن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير" (5/ 178-180، ط. الدار التونسية للنشر) الكلام عن هذه الآية الكريمة؛ فقال: [وقد اتفق العلماء على أن حكم هذه الآية انقضى يوم فتح مكة؛ لأن الهجرة كانت واجبة لمفارقة أهل الشرك وأعداء الدين، وللتمكن من عبادة الله دون حائل يحول عن ذلك، فلما صارت مكة دار إسلام ساوت غيرها، ويؤيده حديث: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ»، فكان المؤمنون يبقون في أوطانهم إلا المهاجرين يحرم عليهم الرجوع إلى مكة. وفي الحديث: «اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ»، قاله بعد أن فتحت مكة. غير أن القياس على حكم هذه الآية يفتح للمجتهدين نظرًا في أحكام وجوب الخروج من البلد الذي يفتن فيه المؤمن في دينه، وهذه أحكام يجمعها ستة أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون المؤمن ببلد يفتن فيه في إيمانه فيرغم على الكفر وهو يستطيع الخروج، فهذا حكمه حكم الذين نزلت فيهم الآية، وقد هاجر مسلمون من الأندلس حين أكرههم النصارى على التنصر؛ فخرجوا على وجوههم في كل واد تاركين أموالهم وديارهم ناجين بأنفسهم وإيمانهم، وهلك فريق منهم في الطريق وذلك في سنة 902م وما بعدها إلى أن كان الجلاء الأخير سنة 1016م.
الحالة الثانية: أن يكون ببلد الكفر غير مفتون في إيمانه ولكن يكون عرضة للإصابة في نفسه أو ماله بأسر أو قتل أو مصادرة مال، فهذا قد عرض نفسه للضر وهو حرام بلا نزاع، وهذا مسمى الإقامة ببلد الحرب المفسرة بأرض العدو.
الحالة الثالثة: أن يكون ببلد غلب عليه غير المسلمين إلا أنهم لم يفتنوا الناس في إيمانهم ولا في عباداتهم ولا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ولكنه بإقامته تجري عليه أحكام غير المسلمين إذا عرض له حادث مع واحد من أهل ذلك البلد الذين هم غير مسلمين، وهذا مثل الذي يقيم اليوم ببلاد أوروبا النصرانية، وظاهر قول مالك أن المقام في مثل ذلك مكروه كراهة شديدة من أجل أنه تجري عليه أحكام غير المسلمين، وهو ظاهر "المدونة" في كتاب التجارة إلى أرض الحرب والعُتْبِيَّة، كذلك تأول قول مالك فقهاء القيروان، وهو ظاهر الرسالة، وصريح كلام اللخمي في طالعة كتاب التجارة إلى أرض الحرب من تبصرته، وارتضاه ابن محرز وعبد الحق، وتأوله سحنون وابن حبيب على الحرمة، وكذلك عبد الحميد الصائغ المازري، وزاد سحنون فقال: إن مقامه جرحة في عدالته، ووافقه المازري وعبد الحميد، وعلى هذا يجري الكلام في السفر في سفن النصارى إلى الحج وغيره. وقال البرزلي عن ابن عرفة: إن كان أمير تونس قويًّا على النصارى جاز السفر، وإلا لم يجز؛ لأنهم يهينون المسلمين.
الحالة الرابعة: أن يتغلب الكفار على بلد أهله مسلمون ولا يفتنوهم في دينهم ولا في عبادتهم ولا في أموالهم، ولكنهم يكون لهم حكم القوة عليهم فقط، وتجري الأحكام بينهم على مقتضى شريعة الإسلام كما وقع في صقلية حين استولى عليها رجير النرمندي. وكما وقع في بلاد غرناطة حين استولى عليها طاغية الجلالقة على شروط منها احترام دينهم، فإن أهلها أقاموا بها مدة وأقام منهم علماؤهم وكانوا يلون القضاء والفتوى والعدالة والأمانة ونحو ذلك، وهاجر فريق منهم فلم يعب المهاجر على القاطن، ولا القاطن على المهاجر.
الحالة الخامسة: أن يكون لغير المسلمين نفوذ وسلطان على بعض بلاد الإسلام، مع بقاء ملوك الإسلام فيها، واستمرار تصرفهم في قومهم، وولاية حكامهم منهم، واحترام أديانهم وسائر شعائرهم، ولكن تصرف الأمراء تحت نظر غير المسلمين وبموافقتهم، وهو ما يسمى بالحماية والاحتلال والوصاية والانتداب، كما وقع في مصر مدة احتلال جيش الفرنسيس بها، ثم مدة احتلال الأنقليز، وكما وقع بتونس والمغرب الأقصى من حماية فرنسا، وكما وقع في سوريا والعراق أيام الانتداب وهذه لا شبهة في عدم وجوب الهجرة منها.
الحالة السادسة: البلد الذي تكثر فيه المناكر والبدع، وتجري فيه أحكام كثيرة على خلاف صريح الإسلام بحيث يخلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا ولا يجبر المسلم فيها على ارتكابه خلاف الشرع، ولكنه لا يستطيع تغييرها إلا بالقول، أو لا يستطيع ذلك أصلًا، وهذه روي عن مالك وجوب الخروج منها، رواه ابن القاسم، غير أن ذلك قد حدث في القيروان أيام بني عبيد فلم يحفظ أن أحدًا من فقهائها الصالحين دعا الناس إلى الهجرة. وحسبك بإقامة الشيخ أبي محمد بن أبي زيد وأمثاله. وحدث في مصر مدة الفاطميين أيضًا فلم يغادرها أحد من علمائها الصالحين.
ودون هذه الأحوال الستة أحوال كثيرة هي أولى بجواز الإقامة، وأنها مراتب، وإن لبقاء المسلمين في أوطانهم إذا لم يفتنوا في دينهم مصلحة كبرى للجامعة الإسلامية] اهـ.
وأما الأحاديث التي ذكروها فالكلام فيها على سندها ومتنها، أما الكلام على سند الحديث الأول، فقد قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل، عن قيس، عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه، قال: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمٍ، فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ، فَأَسْرَعَ فِيهِمُ الْقَتْلَ قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ، وَقَالَ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لِمَ؟ قَالَ: «لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا». قال أبو داود: رواه هشيم، ومعمر، وخالد الواسطي، وجماعة لم يذكروا جريرًا.
وأخرجه الترمذي من نفس الطريق به، ثم قال: حدثنا هناد قال: حدثنا عبدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم مثل حديث أبي معاوية، ولم يذكر فيه عن جرير وهذا أصح. وفي الباب عن سمرة: وأكثر أصحاب إسماعيل قالوا: عن قيس بن أبي حازم، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية ولم يذكروا فيه عن جرير. ورواه حماد بن سلمة، عن الحجاج بن أرطاة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن جرير مثل حديث أبي معاوية. وسمعت محمدًا يقول: الصحيح حديث قيس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسل.
ومحمد هو محمد بن إسماعيل البخاري، وقد ذكر الترمذي الحديث في "العلل" (رقم: 483) من رواية هناد عن أبي معاوية به، ثم قال: سألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: الصحيح عن قيس بن أبي حازم مرسل. قلت له: فإن حماد بن سلمة روى هذا الحديث عن الحجاج بن أرطاة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير! فلم يعده محفوظًا.
فالصواب في هذا الحديث أن سنده مرسل، وأن الرواية المذكور فيها الصحابي غير محفوظة.
وعلى فرض التسليم بصحته فالنهي فيه عن المقام بين أظهر المشركين مخصوص بحال خوف الفتنة وليس على إطلاقه، فقد هاجر الصحابة للحبشة ولم تكن وقتئذ دار إسلام كما مر، وهذا صريح مذهب الشافعية؛ يقول الإمام النووي في "الروضة" (10/ 282، ط. المكتب الإسلامي): [المسلم إن كان ضعيفًا في دار الكفر لا يقدر على إظهار الدين، حرم عليه الإقامة هناك، وتجب عليه الهجرة إلى دار الإسلام، فإن لم يقدر على الهجرة؛ فهو معذور إلى أن يقدر، فإن فتح البلد قبل أن يهاجر، سقط عنه الهجرة، وإن كان يقدر على إظهار الدين؛ لكونه مطاعًا في قومه، أو لأن له هناك عشيرة يحمونه، ولم يخف فتنة في دينه، لم تجب الهجرة، لكن تستحب؛ لئلا يكثر سوادهم، أو يميل إليهم، أو يكيدوا له، وقيل: تجب الهجرة، حكاه الإمام، والصحيح الأول. قلت: قال صاحب "الحاوي": فإن كان يرجو ظهور الإسلام هناك بمقامه، فالأفضل أن يقيم، قال: وإن قدر على الامتناع في دار الحرب والاعتزال، وجب عليه المقام بها؛ لأن موضعه دار إسلام، فلو هاجر لصار دار حرب، فيحرم ذلك، ثم إن قدر على قتال الكفار ودعائهم إلى الإسلام، لزمه، وإلا فلا، والله أعلم] اهـ.
وأما حديث سمرة رضي الله عنه فقد أشار إليه الترمذي، وأخرجه أبو داود قال: حدثنا محمد بن داود بن سفيان، حدثنا يحيى بن حسان، أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود، حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، حدثني خبيب بن سليمان، عن أبيه سليمان بن سمرة، عن سمرة بن جندب، أما بعد: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ».
وقد قال الحافظ الذهبي في ترجمة جعفر بن سعد بن سمرة: [له حديث في الزكاة عن ابن عم له. رده ابن حزم، فقال: هما مجهولان. قلت: ابن عمه هو خبيب بن سليمان بن سمرة يجهل حاله عن أبيه. قال ابن القطان: ما من هؤلاء من يعرف حاله، وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم، وهو إسناد يروى به جملة أحاديث، قد ذكر البزار منها نحو المائة. وقال عبد الحق الأزدي: خبيب ضعيف، وليس جعفر ممن يعتمد عليه.. قلت: في "سنن أبي داود" من ذلك ستة أحاديث بسند، وهو: حدثنا محمد بن داود، حدثنا يحيى بن حسان، عن سليمان بن موسى، عن جعفر، عن ابن عمه خبيب، عن أبيه، عن جده. فسليمان هذا زهري من أهل الكوفة، ليس بالمشهور، وبكل حال هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم] اهـ. "ميزان الاعتدال" (1/ 407، ط. دار المعرفة). فمن حسَّن إسناد حديث سمرة فقد وهم.
فهذا حديث أيضًا لا يصح من حيث السند، ولو افترضنا تقويته بطرقه فليس في متنه ما يؤخذ منه التحريم المطلق، بل يكون الأمر فيه تفصيل كما نص على ذلك طائفة من أهل العلم؛ لأن الحديث يوضع مع غيره من الأدلة الواردة في الباب، فقوله: «فَإِنَّهُ مِثْلُهُ» أي من بعض الوجوه؛ لأن المخالطة قد تجر إلى تداعي ضعف إيمانه فزجر الشارع عن مخالطته بهذا التغليظ العظيم حسمًا لمادة الفساد. ينظر: "عون المعبود" للعظيم آبادي (7/ 337، ط. دار الكتب العلمية).
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 38، ط. دار المعرفة): [قال الخطابي وغيره: كانت الهجرة فرضًا في أول الإسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجًا فسقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو. انتهى، وكانت الحكمة أيضًا في وجوب الهجرة على من أسلم؛ ليسلم من أذى ذويه من الكفار فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه وفيهم نزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ [النساء: 97] الآية، وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر، وقدر على الخروج منها وقد روى النسائي من طريق بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده رضي الله عنه مرفوعًا: «لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ مُشْرك عملًا بعد مَا أَسْلَمَ أَوْ يُفَارِقُ الْمُشْرِكِينَ»، ولأبي داود من حديث سمرة رضي الله عنه مرفوعًا: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ»، وهذا محمول على من لم يأمن على دينه] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (4/ 204، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(فصل: تجب الهجرة) من دار الكفر إلى دار الإسلام (على مستطيع) لها (إن عجز عن إظهار دينه)؛ لقوله تعالى ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [النحل: 28] الآية، ولخبر أبي داود وغيره «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ» سواء الرجل والمرأة، وإن لم تجد محرمًا وكذا كل من أظهر حقًّا ببلدة من بلاد الإسلام ولم يقبل منه ولم يقدر على إظهاره تلزمه الهجرة منها نقله الأذرعي وغيره عن صاحب المعتمد ونقله الزركشي عن البغوي أيضًا، واستثنى البلقيني من ذلك ما إذا كان في إقامته مصلحة للمسلمين فيجوز له الإقامة، فإن لم يستطع الهجرة فهو معذور إلى أن يستطيع، فإن فتح البلد قبل أن يهاجر سقط عنه الهجرة صرحَ به الأصْلُ.
(وإن قدر) على إظهار دينه؛ لكونه مطاعًا في قومه، أو لأن له عشيرة تحميه (ولم يخف فتنة فيه استحب) له أن يهاجر؛ لئلا يكثر سوادهم أو يميل إليهم أو يكيدوا له ولا يجب؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم بعث عثمان رضي الله عنه يوم الحديبية إلى مكة؛ لأن عشيرته بها فيقدر على إظهار دينه (لا إن رجا إسلام غيره)، ثم فلا يستحب له أن يهاجر بل الأفضل أن يقيم] اهـ.
وكل ما ذكر في مسألة الإقامة في غير بلاد المسلمين يأتي في مسألة التجنيس بجنسية هذه الدول؛ إذ الفرق هو أمر تنظيمي، وقد يستفيد منه المسلم كما هو معروف ومشاهد- كما تقدم في أول الفتوى.
ومما سبق: يتضح أن الحكم الشرعي في قضية التجنس والهجرة إلى بلاد أخرى يختلف بناءً على دوافع ذلك، وعلى طبيعة الدولة المراد التجنس بجنسيتها، والخضوع لحكامها وقوانينها، فإن كان في ذلك ما يضيق على المسلم في دينه وشعائره، كبعض الدول التي تنكر الدين إنكارًا تامًّا فلا يجوز، وإلا فإن كانت تلك الدولة تتيح الحرية الدينية وليس فيها ما يضر بالمسلم في دينه أو دنياه فلا بأس حينئذ بالتجنسِ بجنسيتها والهجرةِ إليها ما دام ذلك لا يشتمل على أمور محرمة.
والله سبحانه وتعالى أعلم. 

اقرأ أيضا
;