إقراض رصيد المحمول ورده برصيد أكثر

ما حكم إقراض رصيد المحمول مع اشتراط رده برصيد أكبر؟

المكالمات الهاتفية هي عبارة عن خدمة تقنية حديثة تقدمها شركات متخصصة لعملائها من أجل تمكينهم من المحادثة والتواصل الصوتي بينهم عن بُعد دون الحاجة إلى التقارب الجثماني المعتاد بين المتحدثين، وتُعدُّ مثل هذه الخدمة في المعيار الفقهي من قبيل المنافع، بخلاف الأجهزة والأدوات الملموسة فتعد من الأموال العينية.

والمنفعة: هي الفائدة التي تحصل باستعمال العين، كالفائدة التي تستحصل من الدار بسكناها، ومن الدابة بركوبها. "درر الحكام شرح مجلة الأحكام" (1/ 115، مادة 125، ط. دار الجيل).

أما الرصيد فعبارة عن حق مالي تمنحه شركة الاتصالات للعميل لينتفع بإجراء المكالمات وقتما يشاء دون أن يتجاوز مجموع ما يجريه مقدارًا زمنيًّا محددًا تبعًا للمبلغ النقدي الذي يدفعه العميل مقدمًا -وهو ما يعرف بنظام الكارت-، فإذا استهلك العميل المقدار الزمني المحدد توقفت الخدمة لحين حصوله على رصيد آخر.

فالرصيد أمر اعتباري يحدد مدى استحقاق العميل للانتفاع بخدمة إجراء المكالمات نظير ما دفعه من المال، فهو من الحقوق المتعلقة بالمال، والحق في اصطلاح الفقهاء: اختصاص يقر به الشرع سلطة على شيء أو اقتضاء أداء من آخر تحقيقًا لمصلحة معينة. "الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده" للدكتور/ محمد فتحي الدريني (ص: 260، ط. دار البشير).

والعلاقة الرابطة بين الحق والمنفعة هي أن المنفعة مصلحة مقصودة، أما الحق فهو وسيلة معنوية لتحصيل المصلحة، بينما الأجهزة الملموسة هي الوسيلة العينية والتي جرى العرف قديمًا وحديثًا بإقراضها وإعارتها وإجارتها ورهنها وغير ذلك من المعاملات.

وقد أتاحت شركات الاتصالات للعميل إجراء عملية تعرف بتحويل الرصيد تتيح له -في ظاهر الأمر- تحويل رصيده أو بعض منه إلى عميل آخر، وهذا التحويل في حالة اتحاد جنس العوضين -الرصيد مقابل الرصيد- قد يُكيَّف فقهيًّا على أنه من باب "قرض المنافع والحقوق" فيكون مبنى المعاملة على الإرفاق والتبرع، وردِّ المثل قدرًا وصفة، وحرمانية شرط الزيادة مطلقًا سواء كانت من جنس القرض أم من غير جنسه، ويحتمل تكييف هذا التحويل أيضًا على أنه من باب بيع المنافع بجنسها، فيكون مبناها على المرابحة بالتراضي.

فعلى التكييف الأول تكون عملية التحويل المتبادلة بين الطرفين بجملتها عبارة عن إقراض منفعة مستحقة للطرف الأول عند شركة الاتصالات بحيث تقدم الشركة الخدمة أو جزءًا منها للطرف الثاني بدلًا من الطرف الأول بناءً على طلبه، وعندما يمتلك الطرف الثاني رصيدًا كافيًا يطلب كذلك من الشركة أن تقدم الخدمة المستحقة أو جزءًا منها للطرف الأول بدلًا منه، تعويضًا عما تمَّ اقتطاعه من رصيده في عملية التحويل الأولى، فهذا تكييف للمسألة على أنها من باب قرض المنافع.

والقرض لغة: القطع. وشرعًا: تمليك الشيء على أن يُرَدَّ بدله. وسمي بذلك؛ لأن المقرض يقطع للمقترض قطعة من ماله. "مغني المحتاج" (3/ 29، ط. دار الكتب العلمية).

وقد ثبت جواز القرض ومشروعيته بالكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله عز وجل: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: 245]، فإطلاق القرض في حق الله عز وجل وإن كان إطلاقًا مجازيًّا، إلا أن العلاقة بين المعنى المراد في الآية الكريمة وبين معنى القرض هو اشتراك المعنيين في التأكد والثبوت، فالمراد تأكيد استحقاق المنفق من ماله وجهده في مرضاة الله تعالى للثواب الجزيل كاستحقاق المقرض لأداء القرض إليه، وفي استعارة صورة القرض لمثل هذا المعنى ما يشير إلى مشروعيته وثناء الشرع عليه؛ إذ لا يصحُّ تشبيه المعنى المحمود بما هو مذموم في الشرع.

يقول الإمام أبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن" (3/ 616، ط. دار الفكر): [وقوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ إنما هو استدعاء إلى أعمال البر والإنفاق في سبيل الخير بألطف الكلام وأبلغه، وسماه قرضًا؛ تأكيدًا لاستحقاق الثواب به؛ إذ لا يكون قرضًا إلا والعوض مستحق به] اهـ.

ويقول الإمام الرازي في "تفسيره الكبير" (6/ 500، ط. دار إحياء التراث العربي): [والحكمة فيه التنبيه على أن ذلك لا يضيع عند الله، فكما أن القرض يجب أداؤه لا يجوز الإخلال به فكذا الثواب الواجب على هذا الإنفاق واصل إلى المكلف لا محالة] اهـ.

وأما السنة: ففعله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي رافع رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ، فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا خِيَارًا رَبَاعِيًّا"، فَقَالَ: «أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً».

وكذلك ما ورد في شأن الإقراض من الأجر؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كُلُّ قَرْضٍ صَدَقَة»، قال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/ 19، ط. دار الكتب العلمية): [رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَاد حسن وَالْبَيْهَقِيُّ] اهـ.

وقد أجمع المسلمون على جواز القرض. "المغني" لابن قدامة (4/ 207، ط. دار إحياء التراث العربي).

والأصل في القرض أنه قربة مندوبة في حق المقرض؛ لما فيه من قضاء حاجة المعسر وتفريج كربته؛ روى الإمام مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من يَسَّرَ على مُعسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عليه في الدنيا والآخرة».

وليس من المشروع اتخاذ القرض عقدًا تجاريًّا بحيث يصير وسيلة يستثمر بها المقرض أمواله لجني الأرباح، فهذا من ربا الجاهلية الذي كان يستغل فيه المرابون حاجة الفقراء والمعسرين، وقد انعقد الإجماع على حرمانية اشتراط الزيادة في رد القرض سواء كانت الزيادة من جنس القرض أم من غير جنسه.

قال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (4/ 240، ط. مكتبة القاهرة): [وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرامٌ بغير خلاف، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، أن أخذ الزيادة على ذلك ربًا. وقد رُوي عن أُبَي بن كعب، وابن عباس، وابن مسعود، أنهم نهوا عن قرض جر منفعة، ولأنه عقد إرفاق وقربة، فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه. ولا فرق بين الزيادة في القدر أو في الصفة، مثل أن يقرضه مكسرة ليعطيه صحاحًا، أو نقدًا ليعطيه خيرًا منه] اهـ.

وقال الحافظ ابن عبد البر المالكي في كتاب "الكافي في فقه أهل المدينة" (2/ 728، ط. مكتبة الرياض الحديثة): [ولا يجوز أن يسلف أحدًا شيئًا على أن يزيده فيما يقضيه أو على أن ينفعه المتسلف من أجل سلفه قلَّت أو كثرت بوجه من الوجوه، وكل زيادة في سلف أو منفعة ينتفع بها المسلف فهي ربًا ولو كانت قبضة من علف، وذلك حرام إن كان شُرِط] اهـ.

ويقول في كتاب "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" (4/ 68، ط. وزارة عموم الأوقاف والشئون الإسلامية- المغرب): [وقد أجمع المسلمون نقلًا عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربًا ولو كان قبضةً من علف أو حبة، كما قال ابن مسعود: أو حبة واحدة] اهـ.

فالواجب في القرض ردُّ المثل قدرًا وصفة، إلا أن يعجز عن المثل فيرد القيمة؛ يقول شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "فتح الوهاب شرح منهج الطلاب": (3/ 260-261، وعليه "حاشية الجمل"، ط. دار الفكر): [(ويرد) المقترض لمثلي (مثلًا)؛ لأنه أقرب إلى الحقِّ (ولمتقوم مثلًا صورة)؛ لخبر مسلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم اقترض بكرًا ورد رباعيًّا، وقال: «إِنَّ خِياركم أَحْسَنكم قَضَاءً»... (وفسد) أي: الإقراض (بشرط جرَّ نفعًا للمقرض كردِّ زيادة) في القدر أو الصفة؛ كردِّ صحيحٍ عن مكسر] اهـ.

وقال الإمام الصنعاني في "التاج المذهب" (2/ 485، ط. مكتبة اليمن): [(فيجب) عليه للمقرض (ردُّ مثله قدرًا وجنسًا) ونوعًا (وصفةً) لا فوقه ولا دونه] اهـ.

وقد جاء في نصوص الشريعة ما يدل على اعتبار المنافع أموالًا؛ قال تعالى في قصة نكاح سيدنا موسى عليه السلام: ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [القصص: 27]، فالنبي موسى عليه السلام قد تزوج على أن يؤجر نفسه عشر سنوات، فتأجير النفس للخدمة بدلًا من تقديم أموال عينية هو بذل منفعة، والأصل في المهر أن يكون مالًا؛ لقوله عز وجل: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ [النساء: 24].

فالمنفعة تعتبر مالًا؛ لأن الشارع جعلها مهرًا؛ يقول العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (5/ 129–130، ط. دار الكتب العلمية): [ولأن منفعة الحُرِّ يجوز أخذ العوض عنها في الإجارة فجازت صداقًا كمنفعة العبد، ومن قال ليست مالًا ممنوع؛ لأنه يجوز المعاوضة عنها وبها، ثم إن لم تكن مالًا أجريت مجرى المال] اهـ.

ويقول الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (4/ 367-368، ط. دار الكتب العلمية): [(ما صحَّ) كونه (مبيعًا) عِوضًا أو معوضًا عينًا أو دَينًا أو منفعة كثيرًا أو قليلًا ما لم ينته في القلَّة إلى حدٍّ لا يتمول (صحَّ) كونه (صداقًا)] اهـ.

وقد ذكر الشافعية في الأصح عندهم أن كل ما جاز السلم فيه صحَّ إقراضه إلا جارية تحل للمقترض؛ قال الإمام النووي في "الروضة" (4/ 32، ط. دار المعارف): [وأما الشيء المقرض، فالمال ضربان، أحدهما: يجوز السلم فيه، فيجوز إقراضه حيوانًا كان أو غيره، لكن إن كان جارية نظر إن كانت محرمًا للمستقرض بنسب أو رضاع أو مصاهرة جاز إقراضها قطعًا، وإن كانت حلالًا لم يجز على الأظهر المنصوص قديمًا وجديدًا، الضرب الثاني: ما لا يجوز السلم فيه، فجواز إقراضه يبنى على أن الواجب في المتقومات رد المثل أو القيمة، إن قلنا بالأول لم يجز، وبالثاني جاز] اهـ.

وقد نصُّوا أيضًا على جواز السلم في المنافع؛ قال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (3/ 25، ط. دار الكتب العلمية): [يصحُّ السلم في المنافع كتعليم القرآن؛ لأنها تثبت في الذمة كالأعيان] اهـ.

وهذا العموم الذي ذكره الشافعية يوحي بأن قواعدهم تقتضي القول بصحة قرض المنافع قولًا واحدًا، ومع هذا فقد جرى الخلاف داخل المذهب الشافعي كغيره من المذاهب الفقهية في صحة قرض المنافع، فقال بجوازه قوم، وقال آخرون بمنعه مطلقًا، وقال غيرهم بمنع بعض صوره.

فذهب الشافعية في وجه عندهم صرح به المتولي إلى القول بالجواز؛ قال العلامة العطار في "حاشيته على شرح المحلي لجمع الجوامع" (2/ 368، ط. دار الكتب العلمية): [وأما القرض في المنافع فقد نقل المصنف -أي ابن السبكي- في "ترشيح التوشيح" أن المتولي صرح بجوازه] اهـ.

وكذلك ذهب ابن تيمية من الحنابلة إلى القول بجواز قرض المنافع -خلافًا للمعتمد عند الحنابلة- وإن كان الغالب أنها ليست من ذوات الأمثال، وذكر أن رد المثل في هذه الحالة يكون بالتراضي. "الإنصاف" للمرداوي (5/ 125، ط. دار إحياء التراث العربي).

قال في "الفتاوى الكبرى" (5/ 394، ط. دار الكتب العلمية): [ويجوز قرض المنافع، مثل أن يحصد معه يومًا ويحصد معه الآخر يومًا، أو يسكنه دارًا ليسكنه الآخر بدلها، لكن الغالب على المنافع أنها ليست من ذوات الأمثال حتى يجب رد المثل بتراضيهما] اهـ.

ويظهر مما ذكره الشيخ ابن تيمية أن ردَّ المثل بالتراضي يعتبر من المعفُوَّات؛ إذ مبناه التقريب في تقدير ما لا مثل له غالبًا، وعليه: فما أمكن ضبطه من المنافع وأمكن ردُّ مثله حقيقة كان هو الواجب عملًا بالأصل في باب القرض.

وذهب الحنابلة -على المعتمد عندهم- والقاضي حسين من الشافعية إلى المنع مطلقًا من إقراض المنافع، وهو مذهب الحنفية والمالكية.

قال الإمام الرحيباني الحنبلي في "مطالب أولي النهى" (3/ 240، ط. المكتب الإسلامي): [(ولا يصح قرض المنافع)؛ لأنه غير معهود، (خلافًا للشيخ) تقي الدين، فإنه جوز قرضها، (كأن يحصد معه) إنسان (يومًا ليحصد الآخر معه مثله، أو يسكنه داره ليسكنه الآخر) دارًا (بدلها)؛ كالعارية بشرط العوض] اهـ.

ويذكر الإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر" (523، ط. دار الكتب العلمية) أن في قرض المنافع وجهين عند الشافعية، وأن المجزوم به عن القاضي حسين المنع، فيقول: [يجوز السلم في المنافع فيما نقله في أصل "الروضة" في باب السلم عن الروياني وأقره، وفي قرضها وجهان، والمجزوم به في "زوائد الروضة" عن القاضي حسين المنع] اهـ.

ومذهب الحنفية عدم جواز مبادلة المنفعة بجنسها، فلا يجوز مبادلة سكنى دار بسكنى دار أخرى ولا خدمة عبد بخدمة عبد؛ وذلك لأن اتحاد البدلين في الجنس يحرم النسيئة وتأخير القبض في أحدهما، وهذا ينطبق على الإجارة كما ينطبق على القرض على حد سواء، فلا يجوز في مذهبهم مبادلة رصيد محمول بمثله؛ قال العلامة الكاساني في "البدائع" (7/ 31، ط. دار الكتب العلمية): [مبادلة المنفعة بجنسها غير جائزة عندنا] اهـ.

ويقول العلامة السرخسي في "شرح السير الكبير" (5/ 2120، ط. الشركة الشرقية للإعلانات): [ولو أن رجلين في يد كل واحد منهما فرس حبيس على هذه الصفة دفع كل واحد منهما الفرس الذي في يده إلى صاحبه، على أن يغزو عليه، على أن يعطي الآخر فرسه، كان هذا شرطًا فاسدًا (لا ينبغي لهما ذلك؛ لأنهما لما شرطا ذلك شرطًا بينهما صارت مبادلة المنافع بالمنافع، ومبادلة المنافع بالمنافع إجارة فاسدة) كبيع السكنى بالسكنى] اهـ.

وعلى هذا: فتبادل المنافع المتحدة الجنس يكيَّف عندهم على أنه إجارة فاسدة أو قرض فاسد، وموجب ذلك أن على من استوفى المنفعة أجر المثل، وموجب القرض الفاسد لزوم رد عينه إن كان قائمًا، وإلا فالمثل إن كان مما له مثل بحيث يمكن ضبطه ظاهرًا وباطنًا، وإلا كان مضمونًا بالقيمة يوم القبض.

قال في "البحر الرائق" (6/ 133-171، ط. دار الكتاب الإسلامي): [القرض مضمون بالمثل، ولا يجوز في غير المثلي؛ لأنه لا يجب دينًا في الذمة، ويملكه المستقرض بالقبض كالصحيح، والمقبوض بقرض فاسد يتعين للرد] اهـ. وقال: [قوله: (لا في الحيوان) أي لا يصح السلم فيه لتفاوت آحاده؛ لأنه وإن أمكن ضبط ظاهره لا يمكن ضبط باطنه، وكذا استقراضه فاسد، ولكنه مضمون بالقيمة مملوك بالقبض حتى لو كان عبدًا فأعتقه يجوز لكونه مملوكًا له] اهـ.

وفي "رد المحتار" (6/ 62، ط. دار الكتب العلمية): [وفي "التتارخانية": إذا قوبلت المنفعة بجنسها واستوفى الآخر عليه أجر المثل في "ظاهر الرواية" وعليه الفتوى] اهـ.

أما المالكية فقد صرحوا بأن ما جاز السلم فيه جاز قرضه، وما ليس كذلك فلا يجوز قرضه، واستثنوا من ذلك الجارية التي تحل للمقترض، فإنه لا يجوز قرضها وإن جاز فيها السلم، وفي تعريف السلم استثنوا المنافع فأخرجوها من تعريفه ببعض القيود، وبذلك فإن مذهب المالكية في المنافع أنه لا يجري فيها السلم، وبالتالي فلا يجوز إقراضها بناءً على القاعدة المذكورة؛ قال العلامة الصاوي في "حاشيته على الشرح الصغير" (3/ 292، ط. دار المعارف): [أشار المصنف إلى قاعدة كلية مطردة منعكسة قائلة: وكل ما يصح أن يسلم فيه يصح أن يقرض إلا جارية تحلُّ للمقترض] اهـ.

وقد أخذوا في تعريف السلم بما عرفه به ابن عرفة؛ حيث قال: عقد معاوضة يوجب عمارة ذمة بغير عين ولا منفعة غير متماثل العوضين. قالوا: فقوله: (بغير عين) أخرج به بيعة الأجل، وقوله: (ولا منفعة) أخرج به الكراء المضمون. "شرح الخرشي على المختصر" (5/ 202، ط. دار الفكر).

والمقصود بالعين هنا الشيء المعين، وقد ذكروا أن موجب القرض الفاسد أو الممنوع هو رد المثل في المثلي ورد القيمة في القيمي؛ جاء في "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني" (2/ 163، ط. دار الفكر): [وحكم القرض الممنوع أنه يُردُّ إلا أن يفوت بما يفوت به البيع الفاسد فلا يُرد، ويلزم المقترض القيمة في المقوم، والمثل في المثلي] اهـ.

وذهب متأخرو الشافعية إلى أن التحقيق في مذهبهم يقتضي التفصيل، فقالوا بالمنع في بعض الصور وبالجواز فيما عداها، لكنهم اختلفوا في التوفيق بين عبارات المذهب المانعة وعباراته المجيزة التي ذكرها الإمام النووي في "الروضة،" فذهب بعضهم إلى أن المنع خاص في إقراض منافع العين المعينة؛ لأنه لا يجوز السلم فيها، وما سوى ذلك من منافع تتعلق بالذمة فيجوز إقراضها، وذهب بعضهم إلى أن المنع خاص بإقراض منفعة العقار؛ لأنه لا مثل لها، وأن الجواز عام في كل ما عدا منفعة العقار، لكن هذا التعليل يقتضي التعميم في كل ما ليس له مثل سواء كان عقارًا أم لا، وهذا هو المفهوم أيضًا من تعليل من خصَّص المنع بمنافع العين المعينة؛ لأنهم قالوا بأنه لا يجوز السلم فيها، وأن ما لا يجوز السلم فيه لا يجوز إقراضه، وعلَّلوه بأنه لا ينضبط أو يتعسر رد مثله، وعليه: فيجوز إقراض المنافع التي تنضبط بالوصف ويمكن ردُّ مثلها على الأصح في مذهب الشافعية، أما مقابل الأصح فهو الجواز مطلقًا بناء على مقابل الأظهر في أن الواجب في المتقوم رد القيمة.

قال الإمام أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب" (1/ 303، ط. عيسى الحلبي): [ويجوز قرض كل مال يملك بالبيع ويضبط بالوصف؛ لأنه عقد تمليك يثبت العوض فيه في الذمة فجاز أن يملك ويضبط بالوصف كالسلم] اهـ.

وقال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (3/ 32، ط. دار الكتب العلمية): [قال في "الروضة": ولا يجوز إقراض المنافع؛ لأنه لا يجوز السلم فيها، ويؤخذ من تعليله أن محلَّه في منافع العين المعينة، أما التي في الذمة فيجوز إقراضها لجواز السلم فيها، ولا يجوز إقراض ماء القناة للجهل به، (وما لا يسلم فيه) كالجارية وولدها والجواهر ونحوها (لا يجوز إقراضه في الأصح)؛ لأن ما لا ينضبط أو يندر وجوده يتعذر أو يتعسر رد مثله. والثاني: يجوز كالبيع، والخلاف مبني على أن الواجب في المتقوم المثل أو القيمة كما صرح به في "المحرر"، وإن قلنا بالأول وهو الأظهر لم يجز، وإلا جاز، وصرح الماوردي بأنه لا يجوز إقراض العقار كما لا يجوز السلم فيه، وما نقله ابن الرفعة عن الأصحاب، واقتضاه كلام الشيخين في الشفعة من جواز إقراض جزء من دار محمول كما قاله السبكي على ما إذا لم يزد الجزء على النصف فإن له حينئذٍ مثلًا فيجوز إقراضه كغيره] اهـ.

وقد سئل الشهاب الرملي عن قرض المنفعة، هل يجوز أم لا؟ فأجاب قائلًا: [بأن الذي في "الروضة" في باب القرض المنع، وفيها كأصلها في باب الإجارة الجواز، وحمل السبكي والبلقيني وغيرهما الأول على منفعة العقارات كما يمتنع السلم فيها؛ ولأنه لا يمكن رد مثلها، والجواز على منفعة غيره كما يجوز السلم فيها؛ ولإمكان رد مثلها الصوري، والإسنوي الأول على منفعة العين المعينة لامتناع السلم فيها، والجواز على ما في الذمة، وقال بعضهم: إن الأقرب ما قاله السبكي وغيره] اهـ. "فتاوى الرملي" (2/ 168، ط. المكتبة الإسلامية).

فحاصل ما تقدم في المسلك الأول لتكييف المسألة على أنها من باب القرض أن هناك خلافًا بين العلماء في صحة وجواز قرض المنافع من عدمه، فعلى مذهب من قال بالصحة والجواز يجب رد المثل؛ إذ هو مقتضى عقد القرض؛ لأن مبناه على الإرفاق والتبرع لا التربح والاتجار، وعلى مذهب من قال بعدم الصحة وعدم جواز جريان القرض في المنافع يكون على من استوفى المنفعة ردّ مثلها إن أمكن وإلا فرد القيمة، وذلك مع وقوعه في ذنب ارتكاب المحظور.

أما المسلك الثاني في تكييف مسألة مبادلة الرصيد بآخر أكثر منه، فهو اعتبار أن هذا التحويل من باب الإجارة أو بيع المنفعة بأخرى من جنسها، فيكون مبنى المعاملة قائم على المرابحة بالتراضي، وعليه: فلا يحرم التفاضل وتصح المبادلة بناء على أنه لا ربا في المنافع.

قال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (5/ 176، ط. المكتب الإسلامي): [يجوز أن تكون الأجرة منفعة، سواء اتفق الجنس، كما إذا أجر دارا بمنفعة دار، أو اختلف، بأن أجرها بمنفعة عبد، ولا ربا في المنافع أصلًا، حتى لو أجر دارا بمنفعة دارين، أو أجر حلي ذهب بذهب جاز، ولا يشترط القبض في المجلس] اهـ.

ويقول الإمام ابن حزم في "المحلى" (7/ 23، ط. دار الفكر): [والإجارة بالإجارة جائزة؛ كمن أجَّر سكنى دار بسكنى دار أو خدمة عبد بخدمة عبد، أو سكنى بخدمة عبد أو بخياطة، كل ذلك جائز؛ لأنه لم يأتِ نص بالنهي عن ذلك وهو قول مالك، وقال أبو حنيفة: لا يجوز كراء دار بكراء دار، ويجوز بخدمة عبد] اهـ.

وفي "المدونة" (3/ 517): [في الرجل يستأجر الدار بسكنى داره، قلت: أرأيت إن استأجرت منك سكنى دارك هذه السنة بسكنى داري هذه، أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: هو عندي جائز ولا بأس به] اهـ.

وفي "كشاف القناع" من كتب الحنابلة (3/ 557، ط. دار الكتب العلمية): [(ويجوز إجارة دار بسكنى دار) أخرى، (و) بـ(خدمة عبد، و) بـ(تزويج امرأة)؛ لقصة شعيب صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه جعل النكاح عوض الأجرة، ولأن كل ما جاز أن يكون ثمنًا في البيع جاز عوضًا في الإجارة، فكما جاز أن يكون العوض عينًا جاز أن يكون منفعة سواء كان الجنس واحدًا كالأول، أو مختلفًا كالثاني، قال المجد في "شرحه": فإذا دفعت عبدك إلى خيَّاط أو قصَّار أو نحوهما ليعلمه ذلك العمل بعمل الغلام سنة جاز ذلك في مذهب مالك وعندنا] اهـ.

فعلى هذا المسلك يجوز تبادل رصيد المحمول والمكالمات بما هو من جنسها مع التفاضل؛ بناءً على أن هذه المعاملة من البيوع التي يتم فيها تمليك المنافع بعوض كالإجارة ونحوها.

وبناءً على ما سبق: فإن الواجب على من استقرض رصيد مكالمات هاتفية أن يرد رصيدًا مماثلًا للمقرض، وكأن ما اقتطع من رصيده عاد إليه كما كان، وهذا بغض النظر عن أي تغير طرأ في سعر المكالمات أو في خصائصها وعروضها؛ لأن محل القرض هو الرصيد وليس مقدار المكالمات التي يتاح إجراؤها بهذا الرصيد، أو غير ذلك من المميزات.

وعليه: فيحرم شرعًا أن يشترط المقرض للرصيد أن يرد إليه المستقرض رصيدًا أكثر مما أخذ؛ لأنه من الربا وكبائر الآثام التي نهى عنها الشرع الشريف، وهذا بناءً على أحد مسلكين من مسالك العلماء في صحة جريان القرض في المنافع، أما على المسلك الآخر: فإن هذه المعاملة وإن كانت بصيغة القرض، إلا أنها تعتبر قرضًا فاسدًا؛ فيكون الواجب حينئذٍ رد المثل إن أمكن أو القيمة، أما إذا لم تكن بصيغة القرض فإنها تعتبر صحيحة ولو مع التفاضل في البدلين واشتراط الزيادة؛ بناء على تكييف المعاملة على أنها إجارةُ منفعةٍ بمنفعةٍ من جنسها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

المكالمات الهاتفية هي عبارة عن خدمة تقنية حديثة تقدمها شركات متخصصة لعملائها من أجل تمكينهم من المحادثة والتواصل الصوتي بينهم عن بُعد دون الحاجة إلى التقارب الجثماني المعتاد بين المتحدثين، وتُعدُّ مثل هذه الخدمة في المعيار الفقهي من قبيل المنافع، بخلاف الأجهزة والأدوات الملموسة فتعد من الأموال العينية.

والمنفعة: هي الفائدة التي تحصل باستعمال العين، كالفائدة التي تستحصل من الدار بسكناها، ومن الدابة بركوبها. "درر الحكام شرح مجلة الأحكام" (1/ 115، مادة 125، ط. دار الجيل).

أما الرصيد فعبارة عن حق مالي تمنحه شركة الاتصالات للعميل لينتفع بإجراء المكالمات وقتما يشاء دون أن يتجاوز مجموع ما يجريه مقدارًا زمنيًّا محددًا تبعًا للمبلغ النقدي الذي يدفعه العميل مقدمًا -وهو ما يعرف بنظام الكارت-، فإذا استهلك العميل المقدار الزمني المحدد توقفت الخدمة لحين حصوله على رصيد آخر.

فالرصيد أمر اعتباري يحدد مدى استحقاق العميل للانتفاع بخدمة إجراء المكالمات نظير ما دفعه من المال، فهو من الحقوق المتعلقة بالمال، والحق في اصطلاح الفقهاء: اختصاص يقر به الشرع سلطة على شيء أو اقتضاء أداء من آخر تحقيقًا لمصلحة معينة. "الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده" للدكتور/ محمد فتحي الدريني (ص: 260، ط. دار البشير).

والعلاقة الرابطة بين الحق والمنفعة هي أن المنفعة مصلحة مقصودة، أما الحق فهو وسيلة معنوية لتحصيل المصلحة، بينما الأجهزة الملموسة هي الوسيلة العينية والتي جرى العرف قديمًا وحديثًا بإقراضها وإعارتها وإجارتها ورهنها وغير ذلك من المعاملات.

وقد أتاحت شركات الاتصالات للعميل إجراء عملية تعرف بتحويل الرصيد تتيح له -في ظاهر الأمر- تحويل رصيده أو بعض منه إلى عميل آخر، وهذا التحويل في حالة اتحاد جنس العوضين -الرصيد مقابل الرصيد- قد يُكيَّف فقهيًّا على أنه من باب "قرض المنافع والحقوق" فيكون مبنى المعاملة على الإرفاق والتبرع، وردِّ المثل قدرًا وصفة، وحرمانية شرط الزيادة مطلقًا سواء كانت من جنس القرض أم من غير جنسه، ويحتمل تكييف هذا التحويل أيضًا على أنه من باب بيع المنافع بجنسها، فيكون مبناها على المرابحة بالتراضي.

فعلى التكييف الأول تكون عملية التحويل المتبادلة بين الطرفين بجملتها عبارة عن إقراض منفعة مستحقة للطرف الأول عند شركة الاتصالات بحيث تقدم الشركة الخدمة أو جزءًا منها للطرف الثاني بدلًا من الطرف الأول بناءً على طلبه، وعندما يمتلك الطرف الثاني رصيدًا كافيًا يطلب كذلك من الشركة أن تقدم الخدمة المستحقة أو جزءًا منها للطرف الأول بدلًا منه، تعويضًا عما تمَّ اقتطاعه من رصيده في عملية التحويل الأولى، فهذا تكييف للمسألة على أنها من باب قرض المنافع.

والقرض لغة: القطع. وشرعًا: تمليك الشيء على أن يُرَدَّ بدله. وسمي بذلك؛ لأن المقرض يقطع للمقترض قطعة من ماله. "مغني المحتاج" (3/ 29، ط. دار الكتب العلمية).

وقد ثبت جواز القرض ومشروعيته بالكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله عز وجل: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: 245]، فإطلاق القرض في حق الله عز وجل وإن كان إطلاقًا مجازيًّا، إلا أن العلاقة بين المعنى المراد في الآية الكريمة وبين معنى القرض هو اشتراك المعنيين في التأكد والثبوت، فالمراد تأكيد استحقاق المنفق من ماله وجهده في مرضاة الله تعالى للثواب الجزيل كاستحقاق المقرض لأداء القرض إليه، وفي استعارة صورة القرض لمثل هذا المعنى ما يشير إلى مشروعيته وثناء الشرع عليه؛ إذ لا يصحُّ تشبيه المعنى المحمود بما هو مذموم في الشرع.

يقول الإمام أبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن" (3/ 616، ط. دار الفكر): [وقوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ إنما هو استدعاء إلى أعمال البر والإنفاق في سبيل الخير بألطف الكلام وأبلغه، وسماه قرضًا؛ تأكيدًا لاستحقاق الثواب به؛ إذ لا يكون قرضًا إلا والعوض مستحق به] اهـ.

ويقول الإمام الرازي في "تفسيره الكبير" (6/ 500، ط. دار إحياء التراث العربي): [والحكمة فيه التنبيه على أن ذلك لا يضيع عند الله، فكما أن القرض يجب أداؤه لا يجوز الإخلال به فكذا الثواب الواجب على هذا الإنفاق واصل إلى المكلف لا محالة] اهـ.

وأما السنة: ففعله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي رافع رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ، فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا خِيَارًا رَبَاعِيًّا"، فَقَالَ: «أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً».

وكذلك ما ورد في شأن الإقراض من الأجر؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كُلُّ قَرْضٍ صَدَقَة»، قال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/ 19، ط. دار الكتب العلمية): [رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَاد حسن وَالْبَيْهَقِيُّ] اهـ.

وقد أجمع المسلمون على جواز القرض. "المغني" لابن قدامة (4/ 207، ط. دار إحياء التراث العربي).

والأصل في القرض أنه قربة مندوبة في حق المقرض؛ لما فيه من قضاء حاجة المعسر وتفريج كربته؛ روى الإمام مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من يَسَّرَ على مُعسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عليه في الدنيا والآخرة».

وليس من المشروع اتخاذ القرض عقدًا تجاريًّا بحيث يصير وسيلة يستثمر بها المقرض أمواله لجني الأرباح، فهذا من ربا الجاهلية الذي كان يستغل فيه المرابون حاجة الفقراء والمعسرين، وقد انعقد الإجماع على حرمانية اشتراط الزيادة في رد القرض سواء كانت الزيادة من جنس القرض أم من غير جنسه.

قال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (4/ 240، ط. مكتبة القاهرة): [وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرامٌ بغير خلاف، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، أن أخذ الزيادة على ذلك ربًا. وقد رُوي عن أُبَي بن كعب، وابن عباس، وابن مسعود، أنهم نهوا عن قرض جر منفعة، ولأنه عقد إرفاق وقربة، فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه. ولا فرق بين الزيادة في القدر أو في الصفة، مثل أن يقرضه مكسرة ليعطيه صحاحًا، أو نقدًا ليعطيه خيرًا منه] اهـ.

وقال الحافظ ابن عبد البر المالكي في كتاب "الكافي في فقه أهل المدينة" (2/ 728، ط. مكتبة الرياض الحديثة): [ولا يجوز أن يسلف أحدًا شيئًا على أن يزيده فيما يقضيه أو على أن ينفعه المتسلف من أجل سلفه قلَّت أو كثرت بوجه من الوجوه، وكل زيادة في سلف أو منفعة ينتفع بها المسلف فهي ربًا ولو كانت قبضة من علف، وذلك حرام إن كان شُرِط] اهـ.

ويقول في كتاب "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" (4/ 68، ط. وزارة عموم الأوقاف والشئون الإسلامية- المغرب): [وقد أجمع المسلمون نقلًا عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربًا ولو كان قبضةً من علف أو حبة، كما قال ابن مسعود: أو حبة واحدة] اهـ.

فالواجب في القرض ردُّ المثل قدرًا وصفة، إلا أن يعجز عن المثل فيرد القيمة؛ يقول شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "فتح الوهاب شرح منهج الطلاب": (3/ 260-261، وعليه "حاشية الجمل"، ط. دار الفكر): [(ويرد) المقترض لمثلي (مثلًا)؛ لأنه أقرب إلى الحقِّ (ولمتقوم مثلًا صورة)؛ لخبر مسلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم اقترض بكرًا ورد رباعيًّا، وقال: «إِنَّ خِياركم أَحْسَنكم قَضَاءً»... (وفسد) أي: الإقراض (بشرط جرَّ نفعًا للمقرض كردِّ زيادة) في القدر أو الصفة؛ كردِّ صحيحٍ عن مكسر] اهـ.

وقال الإمام الصنعاني في "التاج المذهب" (2/ 485، ط. مكتبة اليمن): [(فيجب) عليه للمقرض (ردُّ مثله قدرًا وجنسًا) ونوعًا (وصفةً) لا فوقه ولا دونه] اهـ.

وقد جاء في نصوص الشريعة ما يدل على اعتبار المنافع أموالًا؛ قال تعالى في قصة نكاح سيدنا موسى عليه السلام: ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [القصص: 27]، فالنبي موسى عليه السلام قد تزوج على أن يؤجر نفسه عشر سنوات، فتأجير النفس للخدمة بدلًا من تقديم أموال عينية هو بذل منفعة، والأصل في المهر أن يكون مالًا؛ لقوله عز وجل: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ [النساء: 24].

فالمنفعة تعتبر مالًا؛ لأن الشارع جعلها مهرًا؛ يقول العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (5/ 129–130، ط. دار الكتب العلمية): [ولأن منفعة الحُرِّ يجوز أخذ العوض عنها في الإجارة فجازت صداقًا كمنفعة العبد، ومن قال ليست مالًا ممنوع؛ لأنه يجوز المعاوضة عنها وبها، ثم إن لم تكن مالًا أجريت مجرى المال] اهـ.

ويقول الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (4/ 367-368، ط. دار الكتب العلمية): [(ما صحَّ) كونه (مبيعًا) عِوضًا أو معوضًا عينًا أو دَينًا أو منفعة كثيرًا أو قليلًا ما لم ينته في القلَّة إلى حدٍّ لا يتمول (صحَّ) كونه (صداقًا)] اهـ.

وقد ذكر الشافعية في الأصح عندهم أن كل ما جاز السلم فيه صحَّ إقراضه إلا جارية تحل للمقترض؛ قال الإمام النووي في "الروضة" (4/ 32، ط. دار المعارف): [وأما الشيء المقرض، فالمال ضربان، أحدهما: يجوز السلم فيه، فيجوز إقراضه حيوانًا كان أو غيره، لكن إن كان جارية نظر إن كانت محرمًا للمستقرض بنسب أو رضاع أو مصاهرة جاز إقراضها قطعًا، وإن كانت حلالًا لم يجز على الأظهر المنصوص قديمًا وجديدًا، الضرب الثاني: ما لا يجوز السلم فيه، فجواز إقراضه يبنى على أن الواجب في المتقومات رد المثل أو القيمة، إن قلنا بالأول لم يجز، وبالثاني جاز] اهـ.

وقد نصُّوا أيضًا على جواز السلم في المنافع؛ قال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (3/ 25، ط. دار الكتب العلمية): [يصحُّ السلم في المنافع كتعليم القرآن؛ لأنها تثبت في الذمة كالأعيان] اهـ.

وهذا العموم الذي ذكره الشافعية يوحي بأن قواعدهم تقتضي القول بصحة قرض المنافع قولًا واحدًا، ومع هذا فقد جرى الخلاف داخل المذهب الشافعي كغيره من المذاهب الفقهية في صحة قرض المنافع، فقال بجوازه قوم، وقال آخرون بمنعه مطلقًا، وقال غيرهم بمنع بعض صوره.

فذهب الشافعية في وجه عندهم صرح به المتولي إلى القول بالجواز؛ قال العلامة العطار في "حاشيته على شرح المحلي لجمع الجوامع" (2/ 368، ط. دار الكتب العلمية): [وأما القرض في المنافع فقد نقل المصنف -أي ابن السبكي- في "ترشيح التوشيح" أن المتولي صرح بجوازه] اهـ.

وكذلك ذهب ابن تيمية من الحنابلة إلى القول بجواز قرض المنافع -خلافًا للمعتمد عند الحنابلة- وإن كان الغالب أنها ليست من ذوات الأمثال، وذكر أن رد المثل في هذه الحالة يكون بالتراضي. "الإنصاف" للمرداوي (5/ 125، ط. دار إحياء التراث العربي).

قال في "الفتاوى الكبرى" (5/ 394، ط. دار الكتب العلمية): [ويجوز قرض المنافع، مثل أن يحصد معه يومًا ويحصد معه الآخر يومًا، أو يسكنه دارًا ليسكنه الآخر بدلها، لكن الغالب على المنافع أنها ليست من ذوات الأمثال حتى يجب رد المثل بتراضيهما] اهـ.

ويظهر مما ذكره الشيخ ابن تيمية أن ردَّ المثل بالتراضي يعتبر من المعفُوَّات؛ إذ مبناه التقريب في تقدير ما لا مثل له غالبًا، وعليه: فما أمكن ضبطه من المنافع وأمكن ردُّ مثله حقيقة كان هو الواجب عملًا بالأصل في باب القرض.

وذهب الحنابلة -على المعتمد عندهم- والقاضي حسين من الشافعية إلى المنع مطلقًا من إقراض المنافع، وهو مذهب الحنفية والمالكية.

قال الإمام الرحيباني الحنبلي في "مطالب أولي النهى" (3/ 240، ط. المكتب الإسلامي): [(ولا يصح قرض المنافع)؛ لأنه غير معهود، (خلافًا للشيخ) تقي الدين، فإنه جوز قرضها، (كأن يحصد معه) إنسان (يومًا ليحصد الآخر معه مثله، أو يسكنه داره ليسكنه الآخر) دارًا (بدلها)؛ كالعارية بشرط العوض] اهـ.

ويذكر الإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر" (523، ط. دار الكتب العلمية) أن في قرض المنافع وجهين عند الشافعية، وأن المجزوم به عن القاضي حسين المنع، فيقول: [يجوز السلم في المنافع فيما نقله في أصل "الروضة" في باب السلم عن الروياني وأقره، وفي قرضها وجهان، والمجزوم به في "زوائد الروضة" عن القاضي حسين المنع] اهـ.

ومذهب الحنفية عدم جواز مبادلة المنفعة بجنسها، فلا يجوز مبادلة سكنى دار بسكنى دار أخرى ولا خدمة عبد بخدمة عبد؛ وذلك لأن اتحاد البدلين في الجنس يحرم النسيئة وتأخير القبض في أحدهما، وهذا ينطبق على الإجارة كما ينطبق على القرض على حد سواء، فلا يجوز في مذهبهم مبادلة رصيد محمول بمثله؛ قال العلامة الكاساني في "البدائع" (7/ 31، ط. دار الكتب العلمية): [مبادلة المنفعة بجنسها غير جائزة عندنا] اهـ.

ويقول العلامة السرخسي في "شرح السير الكبير" (5/ 2120، ط. الشركة الشرقية للإعلانات): [ولو أن رجلين في يد كل واحد منهما فرس حبيس على هذه الصفة دفع كل واحد منهما الفرس الذي في يده إلى صاحبه، على أن يغزو عليه، على أن يعطي الآخر فرسه، كان هذا شرطًا فاسدًا (لا ينبغي لهما ذلك؛ لأنهما لما شرطا ذلك شرطًا بينهما صارت مبادلة المنافع بالمنافع، ومبادلة المنافع بالمنافع إجارة فاسدة) كبيع السكنى بالسكنى] اهـ.

وعلى هذا: فتبادل المنافع المتحدة الجنس يكيَّف عندهم على أنه إجارة فاسدة أو قرض فاسد، وموجب ذلك أن على من استوفى المنفعة أجر المثل، وموجب القرض الفاسد لزوم رد عينه إن كان قائمًا، وإلا فالمثل إن كان مما له مثل بحيث يمكن ضبطه ظاهرًا وباطنًا، وإلا كان مضمونًا بالقيمة يوم القبض.

قال في "البحر الرائق" (6/ 133-171، ط. دار الكتاب الإسلامي): [القرض مضمون بالمثل، ولا يجوز في غير المثلي؛ لأنه لا يجب دينًا في الذمة، ويملكه المستقرض بالقبض كالصحيح، والمقبوض بقرض فاسد يتعين للرد] اهـ. وقال: [قوله: (لا في الحيوان) أي لا يصح السلم فيه لتفاوت آحاده؛ لأنه وإن أمكن ضبط ظاهره لا يمكن ضبط باطنه، وكذا استقراضه فاسد، ولكنه مضمون بالقيمة مملوك بالقبض حتى لو كان عبدًا فأعتقه يجوز لكونه مملوكًا له] اهـ.

وفي "رد المحتار" (6/ 62، ط. دار الكتب العلمية): [وفي "التتارخانية": إذا قوبلت المنفعة بجنسها واستوفى الآخر عليه أجر المثل في "ظاهر الرواية" وعليه الفتوى] اهـ.

أما المالكية فقد صرحوا بأن ما جاز السلم فيه جاز قرضه، وما ليس كذلك فلا يجوز قرضه، واستثنوا من ذلك الجارية التي تحل للمقترض، فإنه لا يجوز قرضها وإن جاز فيها السلم، وفي تعريف السلم استثنوا المنافع فأخرجوها من تعريفه ببعض القيود، وبذلك فإن مذهب المالكية في المنافع أنه لا يجري فيها السلم، وبالتالي فلا يجوز إقراضها بناءً على القاعدة المذكورة؛ قال العلامة الصاوي في "حاشيته على الشرح الصغير" (3/ 292، ط. دار المعارف): [أشار المصنف إلى قاعدة كلية مطردة منعكسة قائلة: وكل ما يصح أن يسلم فيه يصح أن يقرض إلا جارية تحلُّ للمقترض] اهـ.

وقد أخذوا في تعريف السلم بما عرفه به ابن عرفة؛ حيث قال: عقد معاوضة يوجب عمارة ذمة بغير عين ولا منفعة غير متماثل العوضين. قالوا: فقوله: (بغير عين) أخرج به بيعة الأجل، وقوله: (ولا منفعة) أخرج به الكراء المضمون. "شرح الخرشي على المختصر" (5/ 202، ط. دار الفكر).

والمقصود بالعين هنا الشيء المعين، وقد ذكروا أن موجب القرض الفاسد أو الممنوع هو رد المثل في المثلي ورد القيمة في القيمي؛ جاء في "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني" (2/ 163، ط. دار الفكر): [وحكم القرض الممنوع أنه يُردُّ إلا أن يفوت بما يفوت به البيع الفاسد فلا يُرد، ويلزم المقترض القيمة في المقوم، والمثل في المثلي] اهـ.

وذهب متأخرو الشافعية إلى أن التحقيق في مذهبهم يقتضي التفصيل، فقالوا بالمنع في بعض الصور وبالجواز فيما عداها، لكنهم اختلفوا في التوفيق بين عبارات المذهب المانعة وعباراته المجيزة التي ذكرها الإمام النووي في "الروضة،" فذهب بعضهم إلى أن المنع خاص في إقراض منافع العين المعينة؛ لأنه لا يجوز السلم فيها، وما سوى ذلك من منافع تتعلق بالذمة فيجوز إقراضها، وذهب بعضهم إلى أن المنع خاص بإقراض منفعة العقار؛ لأنه لا مثل لها، وأن الجواز عام في كل ما عدا منفعة العقار، لكن هذا التعليل يقتضي التعميم في كل ما ليس له مثل سواء كان عقارًا أم لا، وهذا هو المفهوم أيضًا من تعليل من خصَّص المنع بمنافع العين المعينة؛ لأنهم قالوا بأنه لا يجوز السلم فيها، وأن ما لا يجوز السلم فيه لا يجوز إقراضه، وعلَّلوه بأنه لا ينضبط أو يتعسر رد مثله، وعليه: فيجوز إقراض المنافع التي تنضبط بالوصف ويمكن ردُّ مثلها على الأصح في مذهب الشافعية، أما مقابل الأصح فهو الجواز مطلقًا بناء على مقابل الأظهر في أن الواجب في المتقوم رد القيمة.

قال الإمام أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب" (1/ 303، ط. عيسى الحلبي): [ويجوز قرض كل مال يملك بالبيع ويضبط بالوصف؛ لأنه عقد تمليك يثبت العوض فيه في الذمة فجاز أن يملك ويضبط بالوصف كالسلم] اهـ.

وقال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (3/ 32، ط. دار الكتب العلمية): [قال في "الروضة": ولا يجوز إقراض المنافع؛ لأنه لا يجوز السلم فيها، ويؤخذ من تعليله أن محلَّه في منافع العين المعينة، أما التي في الذمة فيجوز إقراضها لجواز السلم فيها، ولا يجوز إقراض ماء القناة للجهل به، (وما لا يسلم فيه) كالجارية وولدها والجواهر ونحوها (لا يجوز إقراضه في الأصح)؛ لأن ما لا ينضبط أو يندر وجوده يتعذر أو يتعسر رد مثله. والثاني: يجوز كالبيع، والخلاف مبني على أن الواجب في المتقوم المثل أو القيمة كما صرح به في "المحرر"، وإن قلنا بالأول وهو الأظهر لم يجز، وإلا جاز، وصرح الماوردي بأنه لا يجوز إقراض العقار كما لا يجوز السلم فيه، وما نقله ابن الرفعة عن الأصحاب، واقتضاه كلام الشيخين في الشفعة من جواز إقراض جزء من دار محمول كما قاله السبكي على ما إذا لم يزد الجزء على النصف فإن له حينئذٍ مثلًا فيجوز إقراضه كغيره] اهـ.

وقد سئل الشهاب الرملي عن قرض المنفعة، هل يجوز أم لا؟ فأجاب قائلًا: [بأن الذي في "الروضة" في باب القرض المنع، وفيها كأصلها في باب الإجارة الجواز، وحمل السبكي والبلقيني وغيرهما الأول على منفعة العقارات كما يمتنع السلم فيها؛ ولأنه لا يمكن رد مثلها، والجواز على منفعة غيره كما يجوز السلم فيها؛ ولإمكان رد مثلها الصوري، والإسنوي الأول على منفعة العين المعينة لامتناع السلم فيها، والجواز على ما في الذمة، وقال بعضهم: إن الأقرب ما قاله السبكي وغيره] اهـ. "فتاوى الرملي" (2/ 168، ط. المكتبة الإسلامية).

فحاصل ما تقدم في المسلك الأول لتكييف المسألة على أنها من باب القرض أن هناك خلافًا بين العلماء في صحة وجواز قرض المنافع من عدمه، فعلى مذهب من قال بالصحة والجواز يجب رد المثل؛ إذ هو مقتضى عقد القرض؛ لأن مبناه على الإرفاق والتبرع لا التربح والاتجار، وعلى مذهب من قال بعدم الصحة وعدم جواز جريان القرض في المنافع يكون على من استوفى المنفعة ردّ مثلها إن أمكن وإلا فرد القيمة، وذلك مع وقوعه في ذنب ارتكاب المحظور.

أما المسلك الثاني في تكييف مسألة مبادلة الرصيد بآخر أكثر منه، فهو اعتبار أن هذا التحويل من باب الإجارة أو بيع المنفعة بأخرى من جنسها، فيكون مبنى المعاملة قائم على المرابحة بالتراضي، وعليه: فلا يحرم التفاضل وتصح المبادلة بناء على أنه لا ربا في المنافع.

قال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (5/ 176، ط. المكتب الإسلامي): [يجوز أن تكون الأجرة منفعة، سواء اتفق الجنس، كما إذا أجر دارا بمنفعة دار، أو اختلف، بأن أجرها بمنفعة عبد، ولا ربا في المنافع أصلًا، حتى لو أجر دارا بمنفعة دارين، أو أجر حلي ذهب بذهب جاز، ولا يشترط القبض في المجلس] اهـ.

ويقول الإمام ابن حزم في "المحلى" (7/ 23، ط. دار الفكر): [والإجارة بالإجارة جائزة؛ كمن أجَّر سكنى دار بسكنى دار أو خدمة عبد بخدمة عبد، أو سكنى بخدمة عبد أو بخياطة، كل ذلك جائز؛ لأنه لم يأتِ نص بالنهي عن ذلك وهو قول مالك، وقال أبو حنيفة: لا يجوز كراء دار بكراء دار، ويجوز بخدمة عبد] اهـ.

وفي "المدونة" (3/ 517): [في الرجل يستأجر الدار بسكنى داره، قلت: أرأيت إن استأجرت منك سكنى دارك هذه السنة بسكنى داري هذه، أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: هو عندي جائز ولا بأس به] اهـ.

وفي "كشاف القناع" من كتب الحنابلة (3/ 557، ط. دار الكتب العلمية): [(ويجوز إجارة دار بسكنى دار) أخرى، (و) بـ(خدمة عبد، و) بـ(تزويج امرأة)؛ لقصة شعيب صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه جعل النكاح عوض الأجرة، ولأن كل ما جاز أن يكون ثمنًا في البيع جاز عوضًا في الإجارة، فكما جاز أن يكون العوض عينًا جاز أن يكون منفعة سواء كان الجنس واحدًا كالأول، أو مختلفًا كالثاني، قال المجد في "شرحه": فإذا دفعت عبدك إلى خيَّاط أو قصَّار أو نحوهما ليعلمه ذلك العمل بعمل الغلام سنة جاز ذلك في مذهب مالك وعندنا] اهـ.

فعلى هذا المسلك يجوز تبادل رصيد المحمول والمكالمات بما هو من جنسها مع التفاضل؛ بناءً على أن هذه المعاملة من البيوع التي يتم فيها تمليك المنافع بعوض كالإجارة ونحوها.

وبناءً على ما سبق: فإن الواجب على من استقرض رصيد مكالمات هاتفية أن يرد رصيدًا مماثلًا للمقرض، وكأن ما اقتطع من رصيده عاد إليه كما كان، وهذا بغض النظر عن أي تغير طرأ في سعر المكالمات أو في خصائصها وعروضها؛ لأن محل القرض هو الرصيد وليس مقدار المكالمات التي يتاح إجراؤها بهذا الرصيد، أو غير ذلك من المميزات.

وعليه: فيحرم شرعًا أن يشترط المقرض للرصيد أن يرد إليه المستقرض رصيدًا أكثر مما أخذ؛ لأنه من الربا وكبائر الآثام التي نهى عنها الشرع الشريف، وهذا بناءً على أحد مسلكين من مسالك العلماء في صحة جريان القرض في المنافع، أما على المسلك الآخر: فإن هذه المعاملة وإن كانت بصيغة القرض، إلا أنها تعتبر قرضًا فاسدًا؛ فيكون الواجب حينئذٍ رد المثل إن أمكن أو القيمة، أما إذا لم تكن بصيغة القرض فإنها تعتبر صحيحة ولو مع التفاضل في البدلين واشتراط الزيادة؛ بناء على تكييف المعاملة على أنها إجارةُ منفعةٍ بمنفعةٍ من جنسها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

إقراض رصيد المحمول ورده برصيد أكثر

ما حكم إقراض رصيد المحمول مع اشتراط رده برصيد أكبر؟

المكالمات الهاتفية هي عبارة عن خدمة تقنية حديثة تقدمها شركات متخصصة لعملائها من أجل تمكينهم من المحادثة والتواصل الصوتي بينهم عن بُعد دون الحاجة إلى التقارب الجثماني المعتاد بين المتحدثين، وتُعدُّ مثل هذه الخدمة في المعيار الفقهي من قبيل المنافع، بخلاف الأجهزة والأدوات الملموسة فتعد من الأموال العينية.

والمنفعة: هي الفائدة التي تحصل باستعمال العين، كالفائدة التي تستحصل من الدار بسكناها، ومن الدابة بركوبها. "درر الحكام شرح مجلة الأحكام" (1/ 115، مادة 125، ط. دار الجيل).

أما الرصيد فعبارة عن حق مالي تمنحه شركة الاتصالات للعميل لينتفع بإجراء المكالمات وقتما يشاء دون أن يتجاوز مجموع ما يجريه مقدارًا زمنيًّا محددًا تبعًا للمبلغ النقدي الذي يدفعه العميل مقدمًا -وهو ما يعرف بنظام الكارت-، فإذا استهلك العميل المقدار الزمني المحدد توقفت الخدمة لحين حصوله على رصيد آخر.

فالرصيد أمر اعتباري يحدد مدى استحقاق العميل للانتفاع بخدمة إجراء المكالمات نظير ما دفعه من المال، فهو من الحقوق المتعلقة بالمال، والحق في اصطلاح الفقهاء: اختصاص يقر به الشرع سلطة على شيء أو اقتضاء أداء من آخر تحقيقًا لمصلحة معينة. "الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده" للدكتور/ محمد فتحي الدريني (ص: 260، ط. دار البشير).

والعلاقة الرابطة بين الحق والمنفعة هي أن المنفعة مصلحة مقصودة، أما الحق فهو وسيلة معنوية لتحصيل المصلحة، بينما الأجهزة الملموسة هي الوسيلة العينية والتي جرى العرف قديمًا وحديثًا بإقراضها وإعارتها وإجارتها ورهنها وغير ذلك من المعاملات.

وقد أتاحت شركات الاتصالات للعميل إجراء عملية تعرف بتحويل الرصيد تتيح له -في ظاهر الأمر- تحويل رصيده أو بعض منه إلى عميل آخر، وهذا التحويل في حالة اتحاد جنس العوضين -الرصيد مقابل الرصيد- قد يُكيَّف فقهيًّا على أنه من باب "قرض المنافع والحقوق" فيكون مبنى المعاملة على الإرفاق والتبرع، وردِّ المثل قدرًا وصفة، وحرمانية شرط الزيادة مطلقًا سواء كانت من جنس القرض أم من غير جنسه، ويحتمل تكييف هذا التحويل أيضًا على أنه من باب بيع المنافع بجنسها، فيكون مبناها على المرابحة بالتراضي.

فعلى التكييف الأول تكون عملية التحويل المتبادلة بين الطرفين بجملتها عبارة عن إقراض منفعة مستحقة للطرف الأول عند شركة الاتصالات بحيث تقدم الشركة الخدمة أو جزءًا منها للطرف الثاني بدلًا من الطرف الأول بناءً على طلبه، وعندما يمتلك الطرف الثاني رصيدًا كافيًا يطلب كذلك من الشركة أن تقدم الخدمة المستحقة أو جزءًا منها للطرف الأول بدلًا منه، تعويضًا عما تمَّ اقتطاعه من رصيده في عملية التحويل الأولى، فهذا تكييف للمسألة على أنها من باب قرض المنافع.

والقرض لغة: القطع. وشرعًا: تمليك الشيء على أن يُرَدَّ بدله. وسمي بذلك؛ لأن المقرض يقطع للمقترض قطعة من ماله. "مغني المحتاج" (3/ 29، ط. دار الكتب العلمية).

وقد ثبت جواز القرض ومشروعيته بالكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله عز وجل: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: 245]، فإطلاق القرض في حق الله عز وجل وإن كان إطلاقًا مجازيًّا، إلا أن العلاقة بين المعنى المراد في الآية الكريمة وبين معنى القرض هو اشتراك المعنيين في التأكد والثبوت، فالمراد تأكيد استحقاق المنفق من ماله وجهده في مرضاة الله تعالى للثواب الجزيل كاستحقاق المقرض لأداء القرض إليه، وفي استعارة صورة القرض لمثل هذا المعنى ما يشير إلى مشروعيته وثناء الشرع عليه؛ إذ لا يصحُّ تشبيه المعنى المحمود بما هو مذموم في الشرع.

يقول الإمام أبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن" (3/ 616، ط. دار الفكر): [وقوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ إنما هو استدعاء إلى أعمال البر والإنفاق في سبيل الخير بألطف الكلام وأبلغه، وسماه قرضًا؛ تأكيدًا لاستحقاق الثواب به؛ إذ لا يكون قرضًا إلا والعوض مستحق به] اهـ.

ويقول الإمام الرازي في "تفسيره الكبير" (6/ 500، ط. دار إحياء التراث العربي): [والحكمة فيه التنبيه على أن ذلك لا يضيع عند الله، فكما أن القرض يجب أداؤه لا يجوز الإخلال به فكذا الثواب الواجب على هذا الإنفاق واصل إلى المكلف لا محالة] اهـ.

وأما السنة: ففعله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي رافع رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ، فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا خِيَارًا رَبَاعِيًّا"، فَقَالَ: «أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً».

وكذلك ما ورد في شأن الإقراض من الأجر؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كُلُّ قَرْضٍ صَدَقَة»، قال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/ 19، ط. دار الكتب العلمية): [رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَاد حسن وَالْبَيْهَقِيُّ] اهـ.

وقد أجمع المسلمون على جواز القرض. "المغني" لابن قدامة (4/ 207، ط. دار إحياء التراث العربي).

والأصل في القرض أنه قربة مندوبة في حق المقرض؛ لما فيه من قضاء حاجة المعسر وتفريج كربته؛ روى الإمام مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من يَسَّرَ على مُعسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عليه في الدنيا والآخرة».

وليس من المشروع اتخاذ القرض عقدًا تجاريًّا بحيث يصير وسيلة يستثمر بها المقرض أمواله لجني الأرباح، فهذا من ربا الجاهلية الذي كان يستغل فيه المرابون حاجة الفقراء والمعسرين، وقد انعقد الإجماع على حرمانية اشتراط الزيادة في رد القرض سواء كانت الزيادة من جنس القرض أم من غير جنسه.

قال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (4/ 240، ط. مكتبة القاهرة): [وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرامٌ بغير خلاف، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، أن أخذ الزيادة على ذلك ربًا. وقد رُوي عن أُبَي بن كعب، وابن عباس، وابن مسعود، أنهم نهوا عن قرض جر منفعة، ولأنه عقد إرفاق وقربة، فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه. ولا فرق بين الزيادة في القدر أو في الصفة، مثل أن يقرضه مكسرة ليعطيه صحاحًا، أو نقدًا ليعطيه خيرًا منه] اهـ.

وقال الحافظ ابن عبد البر المالكي في كتاب "الكافي في فقه أهل المدينة" (2/ 728، ط. مكتبة الرياض الحديثة): [ولا يجوز أن يسلف أحدًا شيئًا على أن يزيده فيما يقضيه أو على أن ينفعه المتسلف من أجل سلفه قلَّت أو كثرت بوجه من الوجوه، وكل زيادة في سلف أو منفعة ينتفع بها المسلف فهي ربًا ولو كانت قبضة من علف، وذلك حرام إن كان شُرِط] اهـ.

ويقول في كتاب "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" (4/ 68، ط. وزارة عموم الأوقاف والشئون الإسلامية- المغرب): [وقد أجمع المسلمون نقلًا عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربًا ولو كان قبضةً من علف أو حبة، كما قال ابن مسعود: أو حبة واحدة] اهـ.

فالواجب في القرض ردُّ المثل قدرًا وصفة، إلا أن يعجز عن المثل فيرد القيمة؛ يقول شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "فتح الوهاب شرح منهج الطلاب": (3/ 260-261، وعليه "حاشية الجمل"، ط. دار الفكر): [(ويرد) المقترض لمثلي (مثلًا)؛ لأنه أقرب إلى الحقِّ (ولمتقوم مثلًا صورة)؛ لخبر مسلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم اقترض بكرًا ورد رباعيًّا، وقال: «إِنَّ خِياركم أَحْسَنكم قَضَاءً»... (وفسد) أي: الإقراض (بشرط جرَّ نفعًا للمقرض كردِّ زيادة) في القدر أو الصفة؛ كردِّ صحيحٍ عن مكسر] اهـ.

وقال الإمام الصنعاني في "التاج المذهب" (2/ 485، ط. مكتبة اليمن): [(فيجب) عليه للمقرض (ردُّ مثله قدرًا وجنسًا) ونوعًا (وصفةً) لا فوقه ولا دونه] اهـ.

وقد جاء في نصوص الشريعة ما يدل على اعتبار المنافع أموالًا؛ قال تعالى في قصة نكاح سيدنا موسى عليه السلام: ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [القصص: 27]، فالنبي موسى عليه السلام قد تزوج على أن يؤجر نفسه عشر سنوات، فتأجير النفس للخدمة بدلًا من تقديم أموال عينية هو بذل منفعة، والأصل في المهر أن يكون مالًا؛ لقوله عز وجل: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ [النساء: 24].

فالمنفعة تعتبر مالًا؛ لأن الشارع جعلها مهرًا؛ يقول العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (5/ 129–130، ط. دار الكتب العلمية): [ولأن منفعة الحُرِّ يجوز أخذ العوض عنها في الإجارة فجازت صداقًا كمنفعة العبد، ومن قال ليست مالًا ممنوع؛ لأنه يجوز المعاوضة عنها وبها، ثم إن لم تكن مالًا أجريت مجرى المال] اهـ.

ويقول الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (4/ 367-368، ط. دار الكتب العلمية): [(ما صحَّ) كونه (مبيعًا) عِوضًا أو معوضًا عينًا أو دَينًا أو منفعة كثيرًا أو قليلًا ما لم ينته في القلَّة إلى حدٍّ لا يتمول (صحَّ) كونه (صداقًا)] اهـ.

وقد ذكر الشافعية في الأصح عندهم أن كل ما جاز السلم فيه صحَّ إقراضه إلا جارية تحل للمقترض؛ قال الإمام النووي في "الروضة" (4/ 32، ط. دار المعارف): [وأما الشيء المقرض، فالمال ضربان، أحدهما: يجوز السلم فيه، فيجوز إقراضه حيوانًا كان أو غيره، لكن إن كان جارية نظر إن كانت محرمًا للمستقرض بنسب أو رضاع أو مصاهرة جاز إقراضها قطعًا، وإن كانت حلالًا لم يجز على الأظهر المنصوص قديمًا وجديدًا، الضرب الثاني: ما لا يجوز السلم فيه، فجواز إقراضه يبنى على أن الواجب في المتقومات رد المثل أو القيمة، إن قلنا بالأول لم يجز، وبالثاني جاز] اهـ.

وقد نصُّوا أيضًا على جواز السلم في المنافع؛ قال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (3/ 25، ط. دار الكتب العلمية): [يصحُّ السلم في المنافع كتعليم القرآن؛ لأنها تثبت في الذمة كالأعيان] اهـ.

وهذا العموم الذي ذكره الشافعية يوحي بأن قواعدهم تقتضي القول بصحة قرض المنافع قولًا واحدًا، ومع هذا فقد جرى الخلاف داخل المذهب الشافعي كغيره من المذاهب الفقهية في صحة قرض المنافع، فقال بجوازه قوم، وقال آخرون بمنعه مطلقًا، وقال غيرهم بمنع بعض صوره.

فذهب الشافعية في وجه عندهم صرح به المتولي إلى القول بالجواز؛ قال العلامة العطار في "حاشيته على شرح المحلي لجمع الجوامع" (2/ 368، ط. دار الكتب العلمية): [وأما القرض في المنافع فقد نقل المصنف -أي ابن السبكي- في "ترشيح التوشيح" أن المتولي صرح بجوازه] اهـ.

وكذلك ذهب ابن تيمية من الحنابلة إلى القول بجواز قرض المنافع -خلافًا للمعتمد عند الحنابلة- وإن كان الغالب أنها ليست من ذوات الأمثال، وذكر أن رد المثل في هذه الحالة يكون بالتراضي. "الإنصاف" للمرداوي (5/ 125، ط. دار إحياء التراث العربي).

قال في "الفتاوى الكبرى" (5/ 394، ط. دار الكتب العلمية): [ويجوز قرض المنافع، مثل أن يحصد معه يومًا ويحصد معه الآخر يومًا، أو يسكنه دارًا ليسكنه الآخر بدلها، لكن الغالب على المنافع أنها ليست من ذوات الأمثال حتى يجب رد المثل بتراضيهما] اهـ.

ويظهر مما ذكره الشيخ ابن تيمية أن ردَّ المثل بالتراضي يعتبر من المعفُوَّات؛ إذ مبناه التقريب في تقدير ما لا مثل له غالبًا، وعليه: فما أمكن ضبطه من المنافع وأمكن ردُّ مثله حقيقة كان هو الواجب عملًا بالأصل في باب القرض.

وذهب الحنابلة -على المعتمد عندهم- والقاضي حسين من الشافعية إلى المنع مطلقًا من إقراض المنافع، وهو مذهب الحنفية والمالكية.

قال الإمام الرحيباني الحنبلي في "مطالب أولي النهى" (3/ 240، ط. المكتب الإسلامي): [(ولا يصح قرض المنافع)؛ لأنه غير معهود، (خلافًا للشيخ) تقي الدين، فإنه جوز قرضها، (كأن يحصد معه) إنسان (يومًا ليحصد الآخر معه مثله، أو يسكنه داره ليسكنه الآخر) دارًا (بدلها)؛ كالعارية بشرط العوض] اهـ.

ويذكر الإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر" (523، ط. دار الكتب العلمية) أن في قرض المنافع وجهين عند الشافعية، وأن المجزوم به عن القاضي حسين المنع، فيقول: [يجوز السلم في المنافع فيما نقله في أصل "الروضة" في باب السلم عن الروياني وأقره، وفي قرضها وجهان، والمجزوم به في "زوائد الروضة" عن القاضي حسين المنع] اهـ.

ومذهب الحنفية عدم جواز مبادلة المنفعة بجنسها، فلا يجوز مبادلة سكنى دار بسكنى دار أخرى ولا خدمة عبد بخدمة عبد؛ وذلك لأن اتحاد البدلين في الجنس يحرم النسيئة وتأخير القبض في أحدهما، وهذا ينطبق على الإجارة كما ينطبق على القرض على حد سواء، فلا يجوز في مذهبهم مبادلة رصيد محمول بمثله؛ قال العلامة الكاساني في "البدائع" (7/ 31، ط. دار الكتب العلمية): [مبادلة المنفعة بجنسها غير جائزة عندنا] اهـ.

ويقول العلامة السرخسي في "شرح السير الكبير" (5/ 2120، ط. الشركة الشرقية للإعلانات): [ولو أن رجلين في يد كل واحد منهما فرس حبيس على هذه الصفة دفع كل واحد منهما الفرس الذي في يده إلى صاحبه، على أن يغزو عليه، على أن يعطي الآخر فرسه، كان هذا شرطًا فاسدًا (لا ينبغي لهما ذلك؛ لأنهما لما شرطا ذلك شرطًا بينهما صارت مبادلة المنافع بالمنافع، ومبادلة المنافع بالمنافع إجارة فاسدة) كبيع السكنى بالسكنى] اهـ.

وعلى هذا: فتبادل المنافع المتحدة الجنس يكيَّف عندهم على أنه إجارة فاسدة أو قرض فاسد، وموجب ذلك أن على من استوفى المنفعة أجر المثل، وموجب القرض الفاسد لزوم رد عينه إن كان قائمًا، وإلا فالمثل إن كان مما له مثل بحيث يمكن ضبطه ظاهرًا وباطنًا، وإلا كان مضمونًا بالقيمة يوم القبض.

قال في "البحر الرائق" (6/ 133-171، ط. دار الكتاب الإسلامي): [القرض مضمون بالمثل، ولا يجوز في غير المثلي؛ لأنه لا يجب دينًا في الذمة، ويملكه المستقرض بالقبض كالصحيح، والمقبوض بقرض فاسد يتعين للرد] اهـ. وقال: [قوله: (لا في الحيوان) أي لا يصح السلم فيه لتفاوت آحاده؛ لأنه وإن أمكن ضبط ظاهره لا يمكن ضبط باطنه، وكذا استقراضه فاسد، ولكنه مضمون بالقيمة مملوك بالقبض حتى لو كان عبدًا فأعتقه يجوز لكونه مملوكًا له] اهـ.

وفي "رد المحتار" (6/ 62، ط. دار الكتب العلمية): [وفي "التتارخانية": إذا قوبلت المنفعة بجنسها واستوفى الآخر عليه أجر المثل في "ظاهر الرواية" وعليه الفتوى] اهـ.

أما المالكية فقد صرحوا بأن ما جاز السلم فيه جاز قرضه، وما ليس كذلك فلا يجوز قرضه، واستثنوا من ذلك الجارية التي تحل للمقترض، فإنه لا يجوز قرضها وإن جاز فيها السلم، وفي تعريف السلم استثنوا المنافع فأخرجوها من تعريفه ببعض القيود، وبذلك فإن مذهب المالكية في المنافع أنه لا يجري فيها السلم، وبالتالي فلا يجوز إقراضها بناءً على القاعدة المذكورة؛ قال العلامة الصاوي في "حاشيته على الشرح الصغير" (3/ 292، ط. دار المعارف): [أشار المصنف إلى قاعدة كلية مطردة منعكسة قائلة: وكل ما يصح أن يسلم فيه يصح أن يقرض إلا جارية تحلُّ للمقترض] اهـ.

وقد أخذوا في تعريف السلم بما عرفه به ابن عرفة؛ حيث قال: عقد معاوضة يوجب عمارة ذمة بغير عين ولا منفعة غير متماثل العوضين. قالوا: فقوله: (بغير عين) أخرج به بيعة الأجل، وقوله: (ولا منفعة) أخرج به الكراء المضمون. "شرح الخرشي على المختصر" (5/ 202، ط. دار الفكر).

والمقصود بالعين هنا الشيء المعين، وقد ذكروا أن موجب القرض الفاسد أو الممنوع هو رد المثل في المثلي ورد القيمة في القيمي؛ جاء في "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني" (2/ 163، ط. دار الفكر): [وحكم القرض الممنوع أنه يُردُّ إلا أن يفوت بما يفوت به البيع الفاسد فلا يُرد، ويلزم المقترض القيمة في المقوم، والمثل في المثلي] اهـ.

وذهب متأخرو الشافعية إلى أن التحقيق في مذهبهم يقتضي التفصيل، فقالوا بالمنع في بعض الصور وبالجواز فيما عداها، لكنهم اختلفوا في التوفيق بين عبارات المذهب المانعة وعباراته المجيزة التي ذكرها الإمام النووي في "الروضة،" فذهب بعضهم إلى أن المنع خاص في إقراض منافع العين المعينة؛ لأنه لا يجوز السلم فيها، وما سوى ذلك من منافع تتعلق بالذمة فيجوز إقراضها، وذهب بعضهم إلى أن المنع خاص بإقراض منفعة العقار؛ لأنه لا مثل لها، وأن الجواز عام في كل ما عدا منفعة العقار، لكن هذا التعليل يقتضي التعميم في كل ما ليس له مثل سواء كان عقارًا أم لا، وهذا هو المفهوم أيضًا من تعليل من خصَّص المنع بمنافع العين المعينة؛ لأنهم قالوا بأنه لا يجوز السلم فيها، وأن ما لا يجوز السلم فيه لا يجوز إقراضه، وعلَّلوه بأنه لا ينضبط أو يتعسر رد مثله، وعليه: فيجوز إقراض المنافع التي تنضبط بالوصف ويمكن ردُّ مثلها على الأصح في مذهب الشافعية، أما مقابل الأصح فهو الجواز مطلقًا بناء على مقابل الأظهر في أن الواجب في المتقوم رد القيمة.

قال الإمام أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب" (1/ 303، ط. عيسى الحلبي): [ويجوز قرض كل مال يملك بالبيع ويضبط بالوصف؛ لأنه عقد تمليك يثبت العوض فيه في الذمة فجاز أن يملك ويضبط بالوصف كالسلم] اهـ.

وقال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (3/ 32، ط. دار الكتب العلمية): [قال في "الروضة": ولا يجوز إقراض المنافع؛ لأنه لا يجوز السلم فيها، ويؤخذ من تعليله أن محلَّه في منافع العين المعينة، أما التي في الذمة فيجوز إقراضها لجواز السلم فيها، ولا يجوز إقراض ماء القناة للجهل به، (وما لا يسلم فيه) كالجارية وولدها والجواهر ونحوها (لا يجوز إقراضه في الأصح)؛ لأن ما لا ينضبط أو يندر وجوده يتعذر أو يتعسر رد مثله. والثاني: يجوز كالبيع، والخلاف مبني على أن الواجب في المتقوم المثل أو القيمة كما صرح به في "المحرر"، وإن قلنا بالأول وهو الأظهر لم يجز، وإلا جاز، وصرح الماوردي بأنه لا يجوز إقراض العقار كما لا يجوز السلم فيه، وما نقله ابن الرفعة عن الأصحاب، واقتضاه كلام الشيخين في الشفعة من جواز إقراض جزء من دار محمول كما قاله السبكي على ما إذا لم يزد الجزء على النصف فإن له حينئذٍ مثلًا فيجوز إقراضه كغيره] اهـ.

وقد سئل الشهاب الرملي عن قرض المنفعة، هل يجوز أم لا؟ فأجاب قائلًا: [بأن الذي في "الروضة" في باب القرض المنع، وفيها كأصلها في باب الإجارة الجواز، وحمل السبكي والبلقيني وغيرهما الأول على منفعة العقارات كما يمتنع السلم فيها؛ ولأنه لا يمكن رد مثلها، والجواز على منفعة غيره كما يجوز السلم فيها؛ ولإمكان رد مثلها الصوري، والإسنوي الأول على منفعة العين المعينة لامتناع السلم فيها، والجواز على ما في الذمة، وقال بعضهم: إن الأقرب ما قاله السبكي وغيره] اهـ. "فتاوى الرملي" (2/ 168، ط. المكتبة الإسلامية).

فحاصل ما تقدم في المسلك الأول لتكييف المسألة على أنها من باب القرض أن هناك خلافًا بين العلماء في صحة وجواز قرض المنافع من عدمه، فعلى مذهب من قال بالصحة والجواز يجب رد المثل؛ إذ هو مقتضى عقد القرض؛ لأن مبناه على الإرفاق والتبرع لا التربح والاتجار، وعلى مذهب من قال بعدم الصحة وعدم جواز جريان القرض في المنافع يكون على من استوفى المنفعة ردّ مثلها إن أمكن وإلا فرد القيمة، وذلك مع وقوعه في ذنب ارتكاب المحظور.

أما المسلك الثاني في تكييف مسألة مبادلة الرصيد بآخر أكثر منه، فهو اعتبار أن هذا التحويل من باب الإجارة أو بيع المنفعة بأخرى من جنسها، فيكون مبنى المعاملة قائم على المرابحة بالتراضي، وعليه: فلا يحرم التفاضل وتصح المبادلة بناء على أنه لا ربا في المنافع.

قال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (5/ 176، ط. المكتب الإسلامي): [يجوز أن تكون الأجرة منفعة، سواء اتفق الجنس، كما إذا أجر دارا بمنفعة دار، أو اختلف، بأن أجرها بمنفعة عبد، ولا ربا في المنافع أصلًا، حتى لو أجر دارا بمنفعة دارين، أو أجر حلي ذهب بذهب جاز، ولا يشترط القبض في المجلس] اهـ.

ويقول الإمام ابن حزم في "المحلى" (7/ 23، ط. دار الفكر): [والإجارة بالإجارة جائزة؛ كمن أجَّر سكنى دار بسكنى دار أو خدمة عبد بخدمة عبد، أو سكنى بخدمة عبد أو بخياطة، كل ذلك جائز؛ لأنه لم يأتِ نص بالنهي عن ذلك وهو قول مالك، وقال أبو حنيفة: لا يجوز كراء دار بكراء دار، ويجوز بخدمة عبد] اهـ.

وفي "المدونة" (3/ 517): [في الرجل يستأجر الدار بسكنى داره، قلت: أرأيت إن استأجرت منك سكنى دارك هذه السنة بسكنى داري هذه، أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: هو عندي جائز ولا بأس به] اهـ.

وفي "كشاف القناع" من كتب الحنابلة (3/ 557، ط. دار الكتب العلمية): [(ويجوز إجارة دار بسكنى دار) أخرى، (و) بـ(خدمة عبد، و) بـ(تزويج امرأة)؛ لقصة شعيب صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه جعل النكاح عوض الأجرة، ولأن كل ما جاز أن يكون ثمنًا في البيع جاز عوضًا في الإجارة، فكما جاز أن يكون العوض عينًا جاز أن يكون منفعة سواء كان الجنس واحدًا كالأول، أو مختلفًا كالثاني، قال المجد في "شرحه": فإذا دفعت عبدك إلى خيَّاط أو قصَّار أو نحوهما ليعلمه ذلك العمل بعمل الغلام سنة جاز ذلك في مذهب مالك وعندنا] اهـ.

فعلى هذا المسلك يجوز تبادل رصيد المحمول والمكالمات بما هو من جنسها مع التفاضل؛ بناءً على أن هذه المعاملة من البيوع التي يتم فيها تمليك المنافع بعوض كالإجارة ونحوها.

وبناءً على ما سبق: فإن الواجب على من استقرض رصيد مكالمات هاتفية أن يرد رصيدًا مماثلًا للمقرض، وكأن ما اقتطع من رصيده عاد إليه كما كان، وهذا بغض النظر عن أي تغير طرأ في سعر المكالمات أو في خصائصها وعروضها؛ لأن محل القرض هو الرصيد وليس مقدار المكالمات التي يتاح إجراؤها بهذا الرصيد، أو غير ذلك من المميزات.

وعليه: فيحرم شرعًا أن يشترط المقرض للرصيد أن يرد إليه المستقرض رصيدًا أكثر مما أخذ؛ لأنه من الربا وكبائر الآثام التي نهى عنها الشرع الشريف، وهذا بناءً على أحد مسلكين من مسالك العلماء في صحة جريان القرض في المنافع، أما على المسلك الآخر: فإن هذه المعاملة وإن كانت بصيغة القرض، إلا أنها تعتبر قرضًا فاسدًا؛ فيكون الواجب حينئذٍ رد المثل إن أمكن أو القيمة، أما إذا لم تكن بصيغة القرض فإنها تعتبر صحيحة ولو مع التفاضل في البدلين واشتراط الزيادة؛ بناء على تكييف المعاملة على أنها إجارةُ منفعةٍ بمنفعةٍ من جنسها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

المكالمات الهاتفية هي عبارة عن خدمة تقنية حديثة تقدمها شركات متخصصة لعملائها من أجل تمكينهم من المحادثة والتواصل الصوتي بينهم عن بُعد دون الحاجة إلى التقارب الجثماني المعتاد بين المتحدثين، وتُعدُّ مثل هذه الخدمة في المعيار الفقهي من قبيل المنافع، بخلاف الأجهزة والأدوات الملموسة فتعد من الأموال العينية.

والمنفعة: هي الفائدة التي تحصل باستعمال العين، كالفائدة التي تستحصل من الدار بسكناها، ومن الدابة بركوبها. "درر الحكام شرح مجلة الأحكام" (1/ 115، مادة 125، ط. دار الجيل).

أما الرصيد فعبارة عن حق مالي تمنحه شركة الاتصالات للعميل لينتفع بإجراء المكالمات وقتما يشاء دون أن يتجاوز مجموع ما يجريه مقدارًا زمنيًّا محددًا تبعًا للمبلغ النقدي الذي يدفعه العميل مقدمًا -وهو ما يعرف بنظام الكارت-، فإذا استهلك العميل المقدار الزمني المحدد توقفت الخدمة لحين حصوله على رصيد آخر.

فالرصيد أمر اعتباري يحدد مدى استحقاق العميل للانتفاع بخدمة إجراء المكالمات نظير ما دفعه من المال، فهو من الحقوق المتعلقة بالمال، والحق في اصطلاح الفقهاء: اختصاص يقر به الشرع سلطة على شيء أو اقتضاء أداء من آخر تحقيقًا لمصلحة معينة. "الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده" للدكتور/ محمد فتحي الدريني (ص: 260، ط. دار البشير).

والعلاقة الرابطة بين الحق والمنفعة هي أن المنفعة مصلحة مقصودة، أما الحق فهو وسيلة معنوية لتحصيل المصلحة، بينما الأجهزة الملموسة هي الوسيلة العينية والتي جرى العرف قديمًا وحديثًا بإقراضها وإعارتها وإجارتها ورهنها وغير ذلك من المعاملات.

وقد أتاحت شركات الاتصالات للعميل إجراء عملية تعرف بتحويل الرصيد تتيح له -في ظاهر الأمر- تحويل رصيده أو بعض منه إلى عميل آخر، وهذا التحويل في حالة اتحاد جنس العوضين -الرصيد مقابل الرصيد- قد يُكيَّف فقهيًّا على أنه من باب "قرض المنافع والحقوق" فيكون مبنى المعاملة على الإرفاق والتبرع، وردِّ المثل قدرًا وصفة، وحرمانية شرط الزيادة مطلقًا سواء كانت من جنس القرض أم من غير جنسه، ويحتمل تكييف هذا التحويل أيضًا على أنه من باب بيع المنافع بجنسها، فيكون مبناها على المرابحة بالتراضي.

فعلى التكييف الأول تكون عملية التحويل المتبادلة بين الطرفين بجملتها عبارة عن إقراض منفعة مستحقة للطرف الأول عند شركة الاتصالات بحيث تقدم الشركة الخدمة أو جزءًا منها للطرف الثاني بدلًا من الطرف الأول بناءً على طلبه، وعندما يمتلك الطرف الثاني رصيدًا كافيًا يطلب كذلك من الشركة أن تقدم الخدمة المستحقة أو جزءًا منها للطرف الأول بدلًا منه، تعويضًا عما تمَّ اقتطاعه من رصيده في عملية التحويل الأولى، فهذا تكييف للمسألة على أنها من باب قرض المنافع.

والقرض لغة: القطع. وشرعًا: تمليك الشيء على أن يُرَدَّ بدله. وسمي بذلك؛ لأن المقرض يقطع للمقترض قطعة من ماله. "مغني المحتاج" (3/ 29، ط. دار الكتب العلمية).

وقد ثبت جواز القرض ومشروعيته بالكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله عز وجل: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: 245]، فإطلاق القرض في حق الله عز وجل وإن كان إطلاقًا مجازيًّا، إلا أن العلاقة بين المعنى المراد في الآية الكريمة وبين معنى القرض هو اشتراك المعنيين في التأكد والثبوت، فالمراد تأكيد استحقاق المنفق من ماله وجهده في مرضاة الله تعالى للثواب الجزيل كاستحقاق المقرض لأداء القرض إليه، وفي استعارة صورة القرض لمثل هذا المعنى ما يشير إلى مشروعيته وثناء الشرع عليه؛ إذ لا يصحُّ تشبيه المعنى المحمود بما هو مذموم في الشرع.

يقول الإمام أبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن" (3/ 616، ط. دار الفكر): [وقوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ إنما هو استدعاء إلى أعمال البر والإنفاق في سبيل الخير بألطف الكلام وأبلغه، وسماه قرضًا؛ تأكيدًا لاستحقاق الثواب به؛ إذ لا يكون قرضًا إلا والعوض مستحق به] اهـ.

ويقول الإمام الرازي في "تفسيره الكبير" (6/ 500، ط. دار إحياء التراث العربي): [والحكمة فيه التنبيه على أن ذلك لا يضيع عند الله، فكما أن القرض يجب أداؤه لا يجوز الإخلال به فكذا الثواب الواجب على هذا الإنفاق واصل إلى المكلف لا محالة] اهـ.

وأما السنة: ففعله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي رافع رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ، فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا خِيَارًا رَبَاعِيًّا"، فَقَالَ: «أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً».

وكذلك ما ورد في شأن الإقراض من الأجر؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كُلُّ قَرْضٍ صَدَقَة»، قال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/ 19، ط. دار الكتب العلمية): [رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَاد حسن وَالْبَيْهَقِيُّ] اهـ.

وقد أجمع المسلمون على جواز القرض. "المغني" لابن قدامة (4/ 207، ط. دار إحياء التراث العربي).

والأصل في القرض أنه قربة مندوبة في حق المقرض؛ لما فيه من قضاء حاجة المعسر وتفريج كربته؛ روى الإمام مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من يَسَّرَ على مُعسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عليه في الدنيا والآخرة».

وليس من المشروع اتخاذ القرض عقدًا تجاريًّا بحيث يصير وسيلة يستثمر بها المقرض أمواله لجني الأرباح، فهذا من ربا الجاهلية الذي كان يستغل فيه المرابون حاجة الفقراء والمعسرين، وقد انعقد الإجماع على حرمانية اشتراط الزيادة في رد القرض سواء كانت الزيادة من جنس القرض أم من غير جنسه.

قال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (4/ 240، ط. مكتبة القاهرة): [وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرامٌ بغير خلاف، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، أن أخذ الزيادة على ذلك ربًا. وقد رُوي عن أُبَي بن كعب، وابن عباس، وابن مسعود، أنهم نهوا عن قرض جر منفعة، ولأنه عقد إرفاق وقربة، فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه. ولا فرق بين الزيادة في القدر أو في الصفة، مثل أن يقرضه مكسرة ليعطيه صحاحًا، أو نقدًا ليعطيه خيرًا منه] اهـ.

وقال الحافظ ابن عبد البر المالكي في كتاب "الكافي في فقه أهل المدينة" (2/ 728، ط. مكتبة الرياض الحديثة): [ولا يجوز أن يسلف أحدًا شيئًا على أن يزيده فيما يقضيه أو على أن ينفعه المتسلف من أجل سلفه قلَّت أو كثرت بوجه من الوجوه، وكل زيادة في سلف أو منفعة ينتفع بها المسلف فهي ربًا ولو كانت قبضة من علف، وذلك حرام إن كان شُرِط] اهـ.

ويقول في كتاب "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" (4/ 68، ط. وزارة عموم الأوقاف والشئون الإسلامية- المغرب): [وقد أجمع المسلمون نقلًا عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربًا ولو كان قبضةً من علف أو حبة، كما قال ابن مسعود: أو حبة واحدة] اهـ.

فالواجب في القرض ردُّ المثل قدرًا وصفة، إلا أن يعجز عن المثل فيرد القيمة؛ يقول شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "فتح الوهاب شرح منهج الطلاب": (3/ 260-261، وعليه "حاشية الجمل"، ط. دار الفكر): [(ويرد) المقترض لمثلي (مثلًا)؛ لأنه أقرب إلى الحقِّ (ولمتقوم مثلًا صورة)؛ لخبر مسلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم اقترض بكرًا ورد رباعيًّا، وقال: «إِنَّ خِياركم أَحْسَنكم قَضَاءً»... (وفسد) أي: الإقراض (بشرط جرَّ نفعًا للمقرض كردِّ زيادة) في القدر أو الصفة؛ كردِّ صحيحٍ عن مكسر] اهـ.

وقال الإمام الصنعاني في "التاج المذهب" (2/ 485، ط. مكتبة اليمن): [(فيجب) عليه للمقرض (ردُّ مثله قدرًا وجنسًا) ونوعًا (وصفةً) لا فوقه ولا دونه] اهـ.

وقد جاء في نصوص الشريعة ما يدل على اعتبار المنافع أموالًا؛ قال تعالى في قصة نكاح سيدنا موسى عليه السلام: ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [القصص: 27]، فالنبي موسى عليه السلام قد تزوج على أن يؤجر نفسه عشر سنوات، فتأجير النفس للخدمة بدلًا من تقديم أموال عينية هو بذل منفعة، والأصل في المهر أن يكون مالًا؛ لقوله عز وجل: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ [النساء: 24].

فالمنفعة تعتبر مالًا؛ لأن الشارع جعلها مهرًا؛ يقول العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (5/ 129–130، ط. دار الكتب العلمية): [ولأن منفعة الحُرِّ يجوز أخذ العوض عنها في الإجارة فجازت صداقًا كمنفعة العبد، ومن قال ليست مالًا ممنوع؛ لأنه يجوز المعاوضة عنها وبها، ثم إن لم تكن مالًا أجريت مجرى المال] اهـ.

ويقول الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (4/ 367-368، ط. دار الكتب العلمية): [(ما صحَّ) كونه (مبيعًا) عِوضًا أو معوضًا عينًا أو دَينًا أو منفعة كثيرًا أو قليلًا ما لم ينته في القلَّة إلى حدٍّ لا يتمول (صحَّ) كونه (صداقًا)] اهـ.

وقد ذكر الشافعية في الأصح عندهم أن كل ما جاز السلم فيه صحَّ إقراضه إلا جارية تحل للمقترض؛ قال الإمام النووي في "الروضة" (4/ 32، ط. دار المعارف): [وأما الشيء المقرض، فالمال ضربان، أحدهما: يجوز السلم فيه، فيجوز إقراضه حيوانًا كان أو غيره، لكن إن كان جارية نظر إن كانت محرمًا للمستقرض بنسب أو رضاع أو مصاهرة جاز إقراضها قطعًا، وإن كانت حلالًا لم يجز على الأظهر المنصوص قديمًا وجديدًا، الضرب الثاني: ما لا يجوز السلم فيه، فجواز إقراضه يبنى على أن الواجب في المتقومات رد المثل أو القيمة، إن قلنا بالأول لم يجز، وبالثاني جاز] اهـ.

وقد نصُّوا أيضًا على جواز السلم في المنافع؛ قال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (3/ 25، ط. دار الكتب العلمية): [يصحُّ السلم في المنافع كتعليم القرآن؛ لأنها تثبت في الذمة كالأعيان] اهـ.

وهذا العموم الذي ذكره الشافعية يوحي بأن قواعدهم تقتضي القول بصحة قرض المنافع قولًا واحدًا، ومع هذا فقد جرى الخلاف داخل المذهب الشافعي كغيره من المذاهب الفقهية في صحة قرض المنافع، فقال بجوازه قوم، وقال آخرون بمنعه مطلقًا، وقال غيرهم بمنع بعض صوره.

فذهب الشافعية في وجه عندهم صرح به المتولي إلى القول بالجواز؛ قال العلامة العطار في "حاشيته على شرح المحلي لجمع الجوامع" (2/ 368، ط. دار الكتب العلمية): [وأما القرض في المنافع فقد نقل المصنف -أي ابن السبكي- في "ترشيح التوشيح" أن المتولي صرح بجوازه] اهـ.

وكذلك ذهب ابن تيمية من الحنابلة إلى القول بجواز قرض المنافع -خلافًا للمعتمد عند الحنابلة- وإن كان الغالب أنها ليست من ذوات الأمثال، وذكر أن رد المثل في هذه الحالة يكون بالتراضي. "الإنصاف" للمرداوي (5/ 125، ط. دار إحياء التراث العربي).

قال في "الفتاوى الكبرى" (5/ 394، ط. دار الكتب العلمية): [ويجوز قرض المنافع، مثل أن يحصد معه يومًا ويحصد معه الآخر يومًا، أو يسكنه دارًا ليسكنه الآخر بدلها، لكن الغالب على المنافع أنها ليست من ذوات الأمثال حتى يجب رد المثل بتراضيهما] اهـ.

ويظهر مما ذكره الشيخ ابن تيمية أن ردَّ المثل بالتراضي يعتبر من المعفُوَّات؛ إذ مبناه التقريب في تقدير ما لا مثل له غالبًا، وعليه: فما أمكن ضبطه من المنافع وأمكن ردُّ مثله حقيقة كان هو الواجب عملًا بالأصل في باب القرض.

وذهب الحنابلة -على المعتمد عندهم- والقاضي حسين من الشافعية إلى المنع مطلقًا من إقراض المنافع، وهو مذهب الحنفية والمالكية.

قال الإمام الرحيباني الحنبلي في "مطالب أولي النهى" (3/ 240، ط. المكتب الإسلامي): [(ولا يصح قرض المنافع)؛ لأنه غير معهود، (خلافًا للشيخ) تقي الدين، فإنه جوز قرضها، (كأن يحصد معه) إنسان (يومًا ليحصد الآخر معه مثله، أو يسكنه داره ليسكنه الآخر) دارًا (بدلها)؛ كالعارية بشرط العوض] اهـ.

ويذكر الإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر" (523، ط. دار الكتب العلمية) أن في قرض المنافع وجهين عند الشافعية، وأن المجزوم به عن القاضي حسين المنع، فيقول: [يجوز السلم في المنافع فيما نقله في أصل "الروضة" في باب السلم عن الروياني وأقره، وفي قرضها وجهان، والمجزوم به في "زوائد الروضة" عن القاضي حسين المنع] اهـ.

ومذهب الحنفية عدم جواز مبادلة المنفعة بجنسها، فلا يجوز مبادلة سكنى دار بسكنى دار أخرى ولا خدمة عبد بخدمة عبد؛ وذلك لأن اتحاد البدلين في الجنس يحرم النسيئة وتأخير القبض في أحدهما، وهذا ينطبق على الإجارة كما ينطبق على القرض على حد سواء، فلا يجوز في مذهبهم مبادلة رصيد محمول بمثله؛ قال العلامة الكاساني في "البدائع" (7/ 31، ط. دار الكتب العلمية): [مبادلة المنفعة بجنسها غير جائزة عندنا] اهـ.

ويقول العلامة السرخسي في "شرح السير الكبير" (5/ 2120، ط. الشركة الشرقية للإعلانات): [ولو أن رجلين في يد كل واحد منهما فرس حبيس على هذه الصفة دفع كل واحد منهما الفرس الذي في يده إلى صاحبه، على أن يغزو عليه، على أن يعطي الآخر فرسه، كان هذا شرطًا فاسدًا (لا ينبغي لهما ذلك؛ لأنهما لما شرطا ذلك شرطًا بينهما صارت مبادلة المنافع بالمنافع، ومبادلة المنافع بالمنافع إجارة فاسدة) كبيع السكنى بالسكنى] اهـ.

وعلى هذا: فتبادل المنافع المتحدة الجنس يكيَّف عندهم على أنه إجارة فاسدة أو قرض فاسد، وموجب ذلك أن على من استوفى المنفعة أجر المثل، وموجب القرض الفاسد لزوم رد عينه إن كان قائمًا، وإلا فالمثل إن كان مما له مثل بحيث يمكن ضبطه ظاهرًا وباطنًا، وإلا كان مضمونًا بالقيمة يوم القبض.

قال في "البحر الرائق" (6/ 133-171، ط. دار الكتاب الإسلامي): [القرض مضمون بالمثل، ولا يجوز في غير المثلي؛ لأنه لا يجب دينًا في الذمة، ويملكه المستقرض بالقبض كالصحيح، والمقبوض بقرض فاسد يتعين للرد] اهـ. وقال: [قوله: (لا في الحيوان) أي لا يصح السلم فيه لتفاوت آحاده؛ لأنه وإن أمكن ضبط ظاهره لا يمكن ضبط باطنه، وكذا استقراضه فاسد، ولكنه مضمون بالقيمة مملوك بالقبض حتى لو كان عبدًا فأعتقه يجوز لكونه مملوكًا له] اهـ.

وفي "رد المحتار" (6/ 62، ط. دار الكتب العلمية): [وفي "التتارخانية": إذا قوبلت المنفعة بجنسها واستوفى الآخر عليه أجر المثل في "ظاهر الرواية" وعليه الفتوى] اهـ.

أما المالكية فقد صرحوا بأن ما جاز السلم فيه جاز قرضه، وما ليس كذلك فلا يجوز قرضه، واستثنوا من ذلك الجارية التي تحل للمقترض، فإنه لا يجوز قرضها وإن جاز فيها السلم، وفي تعريف السلم استثنوا المنافع فأخرجوها من تعريفه ببعض القيود، وبذلك فإن مذهب المالكية في المنافع أنه لا يجري فيها السلم، وبالتالي فلا يجوز إقراضها بناءً على القاعدة المذكورة؛ قال العلامة الصاوي في "حاشيته على الشرح الصغير" (3/ 292، ط. دار المعارف): [أشار المصنف إلى قاعدة كلية مطردة منعكسة قائلة: وكل ما يصح أن يسلم فيه يصح أن يقرض إلا جارية تحلُّ للمقترض] اهـ.

وقد أخذوا في تعريف السلم بما عرفه به ابن عرفة؛ حيث قال: عقد معاوضة يوجب عمارة ذمة بغير عين ولا منفعة غير متماثل العوضين. قالوا: فقوله: (بغير عين) أخرج به بيعة الأجل، وقوله: (ولا منفعة) أخرج به الكراء المضمون. "شرح الخرشي على المختصر" (5/ 202، ط. دار الفكر).

والمقصود بالعين هنا الشيء المعين، وقد ذكروا أن موجب القرض الفاسد أو الممنوع هو رد المثل في المثلي ورد القيمة في القيمي؛ جاء في "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني" (2/ 163، ط. دار الفكر): [وحكم القرض الممنوع أنه يُردُّ إلا أن يفوت بما يفوت به البيع الفاسد فلا يُرد، ويلزم المقترض القيمة في المقوم، والمثل في المثلي] اهـ.

وذهب متأخرو الشافعية إلى أن التحقيق في مذهبهم يقتضي التفصيل، فقالوا بالمنع في بعض الصور وبالجواز فيما عداها، لكنهم اختلفوا في التوفيق بين عبارات المذهب المانعة وعباراته المجيزة التي ذكرها الإمام النووي في "الروضة،" فذهب بعضهم إلى أن المنع خاص في إقراض منافع العين المعينة؛ لأنه لا يجوز السلم فيها، وما سوى ذلك من منافع تتعلق بالذمة فيجوز إقراضها، وذهب بعضهم إلى أن المنع خاص بإقراض منفعة العقار؛ لأنه لا مثل لها، وأن الجواز عام في كل ما عدا منفعة العقار، لكن هذا التعليل يقتضي التعميم في كل ما ليس له مثل سواء كان عقارًا أم لا، وهذا هو المفهوم أيضًا من تعليل من خصَّص المنع بمنافع العين المعينة؛ لأنهم قالوا بأنه لا يجوز السلم فيها، وأن ما لا يجوز السلم فيه لا يجوز إقراضه، وعلَّلوه بأنه لا ينضبط أو يتعسر رد مثله، وعليه: فيجوز إقراض المنافع التي تنضبط بالوصف ويمكن ردُّ مثلها على الأصح في مذهب الشافعية، أما مقابل الأصح فهو الجواز مطلقًا بناء على مقابل الأظهر في أن الواجب في المتقوم رد القيمة.

قال الإمام أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب" (1/ 303، ط. عيسى الحلبي): [ويجوز قرض كل مال يملك بالبيع ويضبط بالوصف؛ لأنه عقد تمليك يثبت العوض فيه في الذمة فجاز أن يملك ويضبط بالوصف كالسلم] اهـ.

وقال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (3/ 32، ط. دار الكتب العلمية): [قال في "الروضة": ولا يجوز إقراض المنافع؛ لأنه لا يجوز السلم فيها، ويؤخذ من تعليله أن محلَّه في منافع العين المعينة، أما التي في الذمة فيجوز إقراضها لجواز السلم فيها، ولا يجوز إقراض ماء القناة للجهل به، (وما لا يسلم فيه) كالجارية وولدها والجواهر ونحوها (لا يجوز إقراضه في الأصح)؛ لأن ما لا ينضبط أو يندر وجوده يتعذر أو يتعسر رد مثله. والثاني: يجوز كالبيع، والخلاف مبني على أن الواجب في المتقوم المثل أو القيمة كما صرح به في "المحرر"، وإن قلنا بالأول وهو الأظهر لم يجز، وإلا جاز، وصرح الماوردي بأنه لا يجوز إقراض العقار كما لا يجوز السلم فيه، وما نقله ابن الرفعة عن الأصحاب، واقتضاه كلام الشيخين في الشفعة من جواز إقراض جزء من دار محمول كما قاله السبكي على ما إذا لم يزد الجزء على النصف فإن له حينئذٍ مثلًا فيجوز إقراضه كغيره] اهـ.

وقد سئل الشهاب الرملي عن قرض المنفعة، هل يجوز أم لا؟ فأجاب قائلًا: [بأن الذي في "الروضة" في باب القرض المنع، وفيها كأصلها في باب الإجارة الجواز، وحمل السبكي والبلقيني وغيرهما الأول على منفعة العقارات كما يمتنع السلم فيها؛ ولأنه لا يمكن رد مثلها، والجواز على منفعة غيره كما يجوز السلم فيها؛ ولإمكان رد مثلها الصوري، والإسنوي الأول على منفعة العين المعينة لامتناع السلم فيها، والجواز على ما في الذمة، وقال بعضهم: إن الأقرب ما قاله السبكي وغيره] اهـ. "فتاوى الرملي" (2/ 168، ط. المكتبة الإسلامية).

فحاصل ما تقدم في المسلك الأول لتكييف المسألة على أنها من باب القرض أن هناك خلافًا بين العلماء في صحة وجواز قرض المنافع من عدمه، فعلى مذهب من قال بالصحة والجواز يجب رد المثل؛ إذ هو مقتضى عقد القرض؛ لأن مبناه على الإرفاق والتبرع لا التربح والاتجار، وعلى مذهب من قال بعدم الصحة وعدم جواز جريان القرض في المنافع يكون على من استوفى المنفعة ردّ مثلها إن أمكن وإلا فرد القيمة، وذلك مع وقوعه في ذنب ارتكاب المحظور.

أما المسلك الثاني في تكييف مسألة مبادلة الرصيد بآخر أكثر منه، فهو اعتبار أن هذا التحويل من باب الإجارة أو بيع المنفعة بأخرى من جنسها، فيكون مبنى المعاملة قائم على المرابحة بالتراضي، وعليه: فلا يحرم التفاضل وتصح المبادلة بناء على أنه لا ربا في المنافع.

قال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (5/ 176، ط. المكتب الإسلامي): [يجوز أن تكون الأجرة منفعة، سواء اتفق الجنس، كما إذا أجر دارا بمنفعة دار، أو اختلف، بأن أجرها بمنفعة عبد، ولا ربا في المنافع أصلًا، حتى لو أجر دارا بمنفعة دارين، أو أجر حلي ذهب بذهب جاز، ولا يشترط القبض في المجلس] اهـ.

ويقول الإمام ابن حزم في "المحلى" (7/ 23، ط. دار الفكر): [والإجارة بالإجارة جائزة؛ كمن أجَّر سكنى دار بسكنى دار أو خدمة عبد بخدمة عبد، أو سكنى بخدمة عبد أو بخياطة، كل ذلك جائز؛ لأنه لم يأتِ نص بالنهي عن ذلك وهو قول مالك، وقال أبو حنيفة: لا يجوز كراء دار بكراء دار، ويجوز بخدمة عبد] اهـ.

وفي "المدونة" (3/ 517): [في الرجل يستأجر الدار بسكنى داره، قلت: أرأيت إن استأجرت منك سكنى دارك هذه السنة بسكنى داري هذه، أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: هو عندي جائز ولا بأس به] اهـ.

وفي "كشاف القناع" من كتب الحنابلة (3/ 557، ط. دار الكتب العلمية): [(ويجوز إجارة دار بسكنى دار) أخرى، (و) بـ(خدمة عبد، و) بـ(تزويج امرأة)؛ لقصة شعيب صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه جعل النكاح عوض الأجرة، ولأن كل ما جاز أن يكون ثمنًا في البيع جاز عوضًا في الإجارة، فكما جاز أن يكون العوض عينًا جاز أن يكون منفعة سواء كان الجنس واحدًا كالأول، أو مختلفًا كالثاني، قال المجد في "شرحه": فإذا دفعت عبدك إلى خيَّاط أو قصَّار أو نحوهما ليعلمه ذلك العمل بعمل الغلام سنة جاز ذلك في مذهب مالك وعندنا] اهـ.

فعلى هذا المسلك يجوز تبادل رصيد المحمول والمكالمات بما هو من جنسها مع التفاضل؛ بناءً على أن هذه المعاملة من البيوع التي يتم فيها تمليك المنافع بعوض كالإجارة ونحوها.

وبناءً على ما سبق: فإن الواجب على من استقرض رصيد مكالمات هاتفية أن يرد رصيدًا مماثلًا للمقرض، وكأن ما اقتطع من رصيده عاد إليه كما كان، وهذا بغض النظر عن أي تغير طرأ في سعر المكالمات أو في خصائصها وعروضها؛ لأن محل القرض هو الرصيد وليس مقدار المكالمات التي يتاح إجراؤها بهذا الرصيد، أو غير ذلك من المميزات.

وعليه: فيحرم شرعًا أن يشترط المقرض للرصيد أن يرد إليه المستقرض رصيدًا أكثر مما أخذ؛ لأنه من الربا وكبائر الآثام التي نهى عنها الشرع الشريف، وهذا بناءً على أحد مسلكين من مسالك العلماء في صحة جريان القرض في المنافع، أما على المسلك الآخر: فإن هذه المعاملة وإن كانت بصيغة القرض، إلا أنها تعتبر قرضًا فاسدًا؛ فيكون الواجب حينئذٍ رد المثل إن أمكن أو القيمة، أما إذا لم تكن بصيغة القرض فإنها تعتبر صحيحة ولو مع التفاضل في البدلين واشتراط الزيادة؛ بناء على تكييف المعاملة على أنها إجارةُ منفعةٍ بمنفعةٍ من جنسها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;