الحرمان من الميراث

الحرمان من الميراث، هل هو من قبيل التعزير بالمال إذا كان الوارث عاقًّا لمورثه؟

يعمد بعض الناس إلى منع بعض الورثة من حقه من الميراث بكتابة وصية بذلك، وقد يكون في دولة تجيز قوانينها ذلك الأمر، وقد يظن المكلف أن ذلك حقٌّ له خاصة إن كان الوارث عاقًّا له.

وهذا المنع المذكور فيه عدة محاذير شرعية؛ منها: أنه يعدُّ من قبيل منع حقوق العباد التي أعطاها الله تعالى لهم، ويعدُّ من قبيل المضارة في الوصية، وفيه أيضًا ترك الخير والحكمة من هذا التفصيل من الله تعالى.

وتقسيم الميراث بحسب الشرع فيه الخير كله؛ لأن الله تعالى برحمته وعدله وحكمته هو الذي قسمه، وقد بدأ آيات الميراث بالوصية بالأبناء؛ لأنه أرحم بنا من أنفسنا.

قال أبو القاسم السهيلي في كتابه "الفرائض وشرح آيات الوصية" (ص: 27، ط. المكتبة الفيصلية- مكة المكرمة): [ثمَّ إِنِّي نظرت فِيمَا بَيَّنه الله سُبْحَانَهُ فِي كِتَابه من حَلَال وَحرَام وحدود وَأَحْكَام فَلم نجده افْتتح شَيْئا من ذَلِك بِمَا افْتتح بِهِ آيَة الْفَرَائِض وَلَا ختم شَيْئا من ذَلِك بِمَا خَتمهَا بِهِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَولهَا: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ [النساء: 11]، فأخبر تَعَالَى عَن نَفسه أَنه موصٍ تَنْبِيهًا على حكمته فِيمَا أوصى بِهِ وعَلى عدله وَرَحمته، أما حكمته فَإِنَّهُ علم سُبْحَانَهُ مَا تضمنه أمره من الْمصلحَة لِعِبَادِهِ وَمَا كَانَ فِي فعلهم قبل هَذَا الْأَمر من الْفساد؛ حَيْثُ كَانُوا يورثون الْكِبَار وَلَا يورثون الصغار، ويورثون الذُّكُور وَلَا يورثون الْإِنَاث، وَيَقُولُونَ: أنورث أَمْوَالنَا من لَا يركب الْفرس وَلَا يضْرب بِالسَّيْفِ ويسوق الْغنم. فَلَو وَكلهمْ الله إِلَى آرائهم وتركهم مَعَ أهوائهم لمالت بهم الأهواء عِنْد الْمَوْت مَعَ بعض الْبَنِينَ دون بعض فَأدى ذَلِك إِلَى التشاجر والتباغض والجور وَقلة النصفة فَانْتزع الْوَصِيَّة مِنْهُم وردهَا على نَفسه دونهم ليرضي بِعِلْمِهِ وَحكمه؛ وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى حِين ختم الْآيَة: ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ [النساء: 12] وَقَالَ قبل ذَلِك: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾، وَأما عدله فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ سوَّى بَين الذُّكُور؛ لأَنهم سَوَاء فِي أَحْكَام الدِّيات والعقول ورجاء الْمَنْفَعَة وإن صغر السن لا يبطل حق الْولادَة وَلَا معنى النَّسَب وإن كلًّا مِنْهُم فلق الأكباد وشجا الحساد وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى: ﴿يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم﴾ وَلم يقل بأولادكم؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ الْعدْل فيهم والتحذير من الْجور عَلَيْهِم، وَجَاء بِاللَّفْظِ عَامًّا غير مَقْصُور على الْمِيرَاث أَو غَيره] اهـ.
والحكم في هذا الأمر واضح أنه حرام، ولا يحل للمكلف اعتقاده فضلًا عن فعله.

والأدلة على ذلك كثيرة ومتنوعة، منها:
أولًا: تفصيل التشريع في الميراث، بخلاف غيره من التشريعات بما يوحي عدم ترك التفصيل للاجتهاد: فتقسيم الميراث ذكره الله تعالى تفصيلًا؛ اهتمامًا بشأنه، ولم يكل تفصيله إلى غيره كما فعل ذلك في كثير من التشريعات.

قال الإمام الزيلعي في "شرح الكنز" (6/ 229، ط. المطبعة الكبرى الأميرية): [(كِتَابُ الْفَرَائِضِ) وَهِيَ جَمْعُ فَرِيضَةٍ، وَالْفَرْضُ التَّقْدِيرُ، يُقَالُ: فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ أَيْ قَدَّرَهَا، وَسُمِّيَ هَذَا الْعِلْمُ فَرَائِضَ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدَّرَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُفَوِّضْ تَقْدِيرَهُ إلَى مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَبَيَّنَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النِّصْفِ وَالرُّبُعِ وَالثُّمُنِ وَالثُّلُثَيْنِ وَالثُّلُثِ وَالسُّدُسِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَحْكَامِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهَا فَإِنَّ النُّصُوصَ فِيهَا مُجْمَلَةٌ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43]، ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ [آل عمران: 97]، وَإِنَّمَا السُّنَّةُ بَيَّنَتْهَا] اهـ.

ثانيًا: الانتقال الاضطراري للميراث، بمعنى أن المال ينتقل إلى الوارث دون اختياره، فالميراث ينتقل من المورث إلى الوارث بمجرد الوفاة، ولا يتوقف على إجراء آخر؛ لأنه ليس انتقال اختيار كالوصية والبيع والشراء، وإنما هو انتقال اضطراري.

قال العلامة الحصكفي في "الدر المختار" (6/ 757، ط. دار الفكر): [كِتَابُ الْفَرَائِضِ: هِيَ عِلْمٌ بِأُصُولٍ مِنْ فِقْهٍ وَحِسَابٍ تُعَرِّفُ حَقَّ كُلٍّ مِنْ التَّرِكَةِ، وَالْحُقُوقُ هَا هُنَا خَمْسَةٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ إمَّا لِلْمَيِّتِ أَوْ عَلَيْهِ أَوْ لَا وَلَا: الْأَوَّلُ التَّجْهِيزُ، وَالثَّانِي: إمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ وَهُوَ الدَّينُ الْمُطْلَقُ، أَوْ لَا وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْعَيْنِ، وَالثَّالِثُ: إمَّا اخْتِيَارِيٌّ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ، أَوِ اضْطِرَارِيٌّ وَهُوَ الْمِيرَاثُ] اهـ.

ثالثًا: تقييد الوصية بالثلث، ولا وصية لوارث، فلو كان الأمر متروكًا للمورث ما قيِّدت وصيته بمثل هذا، بل كان الأمر موكولًا لصاحب المال؛ قال الله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ۞ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۞ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: 12-14].

قال الإمام ابن كثير في "تفسيره" (2/ 231-232، ط. دار طيبة- الرياض) عند تفسيره لهذه الآيات: [وَقَوْلُهُ: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ أَيْ: لِتَكُونَ وَصِيَّتُهُ عَلَى الْعَدْلِ، لَا عَلَى الْإِضْرَارِ وَالْجَوْرِ وَالْحَيْفِ بِأَنْ يَحْرِمَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ، أَوْ يَنْقُصَهُ، أَوْ يَزِيدَهُ عَلَى مَا قدرَ اللهُ لَهُ مِنَ الْفَرِيضَةِ، فَمَتَى سَعَى فِي ذَلِكَ كَانَ كَمَنْ ضَادَّ اللهَ فِي حِكْمَتِهِ وَقِسْمَتِهِ... -ثم ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «إِنَّ اللهَ قَدْ أعْطَى كُلَّ ذِي حَق حَقَّه، فَلَا وَصِيَّة لِوَارِثٍ» مرفوعًا وموقوفًا- ثم قال: وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ: هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ التُّهْمَةِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْصَى لَهُ بِصِيغَةِ الْإِقْرَارِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أعْطَى كُلَّ ذِي حَق حَقَّه، فَلَا وَصِيَّة لِوَارِثٍ». وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ، رَحِمَهُمُ اللهُ، وَذَهَبَ فِي الْجَدِيدِ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِقْرَارُ. وَهُوَ مَذْهَبُ طَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبُخَارِيِّ فِي "صَحِيحِهِ"... فَمَتَى كَانَ الإقرارُ صَحِيحًا مُطَابِقًا لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ جَرَى فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ، وَمَتَى كَانَ حِيلَةً وَوَسِيلَةً إِلَى زِيَادَةِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ وَنُقْصَانِ بَعْضِهِمْ، فَهُوَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ وَبِنَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾، ثُمَّ قَالَ اللهُ: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۞ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: 13-14] أَيْ: هَذِهِ الْفَرَائِضُ وَالْمَقَادِيرُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ لِلْوَرَثَةِ بِحَسَبِ قُربهم مِنَ الْمَيِّتِ وَاحْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ وَفَقْدِهِمْ لَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ، هِيَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَلَا تُجَاوِزُوهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ أَيْ: فِيهَا، فَلَمْ يَزِدْ بَعْض الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَنْقُصْ بَعْضًا بِحِيلَةٍ وَوَسِيلَةٍ، بَلْ تَرَكَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ وَفَرِيضَتِهِ وَقِسْمَتِهِ ﴿ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ أَيْ، لِكَوْنِهِ غيَّر مَا حَكَمَ اللهُ بِهِ وَضَادَّ اللهَ فِي حُكْمِهِ. وَهَذَا إِنَّمَا يَصْدُرُ عَنْ عَدَمِ الرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللهُ وَحَكَمَ بِهِ، وَلِهَذَا يُجَازِيهِ بالإهانة في العذاب الأليم المقيم] اهـ.

وفي الحديث الشريف عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» أخرجه أبو داود والنسائي في "الكبرى" وابن ماجه.

قال الإمام الخطابي في "معالم السنن" (4/ 85، ط. المطبعة العلمية- حلب): [قوله: «أعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ» إشارة إلى آية المواريث، وكانت الوصية قبل نزول الآية واجبة للأقربين وهو قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: 18]، ثم نسخت بآية الميراث، وإنما تبطل الوصية للوارث في قول أكثر أهل العلم من أجل حقوق سائر الورثة، فإذا أجازوها جازت كما إذا أجازوا الزيادة على الثلث للأجنبي جاز، وذهب بعضهم إلى أن الوصية للوارث لا تجوز بحال وإن أجازها سائر الورثة؛ لأن المنع منها إنما لحق الشرع فلو جوزناها لكنا قد استعملنا الحكم المنسوخ وذلك غير جائز، كما أن الوصية للقاتل غير جائزة وإن أجازها الورثة] اهـ.

وقال الإمام ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (2/ 213، ط. مؤسسة الرسالة– بيروت): [وَالْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ تَارَةً يَكُونُ بِأَنْ يَخُصَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ بِزِيَادَةٍ عَلَى فَرْضِهِ الَّذِي فَرَضَهُ اللهُ لَهُ، فَيَتَضَرَّرُ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ بِتَخْصِيصِهِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ». وَتَارَةً بِأَنْ يُوصِيَ لِأَجْنَبِيٍّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، فَتَنْقُصُ حُقُوقُ الْوَرَثَةِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ». وَمَتَى وَصَّى لِوَارِثٍ أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، لَمْ يُنَفَّذْ مَا وَصَّى بِهِ إِلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَسَوَاءٌ قَصَدَ الْمُضَارَّةَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ، وَأَمَّا إِنْ قَصَدَ الْمُضَارَّةَ بِالْوَصِيَّةِ لِأَجْنَبِيٍّ بِالثُّلُثِ، فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِقَصْدِهِ الْمُضَارَّةَ، وَهَلْ تُرَدُّ وَصِيَّتُهُ إِذَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ أَمْ لَا؟ حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا تُرَدُّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قِيَاسُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ] اهـ.

رابعًا: تعلق حق الورثة بالمال بوجود مرض الموت، فلا يجوز له التصرف المطلق.
قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (6/ 25، ط. مكتبة القاهرة): [مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَمَنْ وَقَفَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، أَوْ قَالَ: هُوَ وَقْفٌ بَعْدَ مَوْتِي. وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ، وُقِفَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، إلَّا أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَقْفَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ، فِي اعْتِبَارِهِ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، فَاعْتُبِرَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ مِنَ الثُّلُثِ، كَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ وَإِذَا خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ، جَازَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْوَرَثَةِ وَلَزِمَ، وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، لَزِمَ الْوَقْفُ مِنْهُ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ، وَوَقَفَ الزَّائِدُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِلُزُومِ الْوَقْفِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِالْمَالِ بِوُجُودِ الْمَرَضِ، فَمَنَعَ التَّبَرُّعَ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، كَالْعَطَايَا وَالْعِتْقِ] اهـ.

ومما تقدم يتبين عدم جواز معاقبة الابن العاق أو غيره من الورثة بالحرمان من حقهم في الإرث.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

يعمد بعض الناس إلى منع بعض الورثة من حقه من الميراث بكتابة وصية بذلك، وقد يكون في دولة تجيز قوانينها ذلك الأمر، وقد يظن المكلف أن ذلك حقٌّ له خاصة إن كان الوارث عاقًّا له.

وهذا المنع المذكور فيه عدة محاذير شرعية؛ منها: أنه يعدُّ من قبيل منع حقوق العباد التي أعطاها الله تعالى لهم، ويعدُّ من قبيل المضارة في الوصية، وفيه أيضًا ترك الخير والحكمة من هذا التفصيل من الله تعالى.

وتقسيم الميراث بحسب الشرع فيه الخير كله؛ لأن الله تعالى برحمته وعدله وحكمته هو الذي قسمه، وقد بدأ آيات الميراث بالوصية بالأبناء؛ لأنه أرحم بنا من أنفسنا.

قال أبو القاسم السهيلي في كتابه "الفرائض وشرح آيات الوصية" (ص: 27، ط. المكتبة الفيصلية- مكة المكرمة): [ثمَّ إِنِّي نظرت فِيمَا بَيَّنه الله سُبْحَانَهُ فِي كِتَابه من حَلَال وَحرَام وحدود وَأَحْكَام فَلم نجده افْتتح شَيْئا من ذَلِك بِمَا افْتتح بِهِ آيَة الْفَرَائِض وَلَا ختم شَيْئا من ذَلِك بِمَا خَتمهَا بِهِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَولهَا: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ [النساء: 11]، فأخبر تَعَالَى عَن نَفسه أَنه موصٍ تَنْبِيهًا على حكمته فِيمَا أوصى بِهِ وعَلى عدله وَرَحمته، أما حكمته فَإِنَّهُ علم سُبْحَانَهُ مَا تضمنه أمره من الْمصلحَة لِعِبَادِهِ وَمَا كَانَ فِي فعلهم قبل هَذَا الْأَمر من الْفساد؛ حَيْثُ كَانُوا يورثون الْكِبَار وَلَا يورثون الصغار، ويورثون الذُّكُور وَلَا يورثون الْإِنَاث، وَيَقُولُونَ: أنورث أَمْوَالنَا من لَا يركب الْفرس وَلَا يضْرب بِالسَّيْفِ ويسوق الْغنم. فَلَو وَكلهمْ الله إِلَى آرائهم وتركهم مَعَ أهوائهم لمالت بهم الأهواء عِنْد الْمَوْت مَعَ بعض الْبَنِينَ دون بعض فَأدى ذَلِك إِلَى التشاجر والتباغض والجور وَقلة النصفة فَانْتزع الْوَصِيَّة مِنْهُم وردهَا على نَفسه دونهم ليرضي بِعِلْمِهِ وَحكمه؛ وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى حِين ختم الْآيَة: ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ [النساء: 12] وَقَالَ قبل ذَلِك: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾، وَأما عدله فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ سوَّى بَين الذُّكُور؛ لأَنهم سَوَاء فِي أَحْكَام الدِّيات والعقول ورجاء الْمَنْفَعَة وإن صغر السن لا يبطل حق الْولادَة وَلَا معنى النَّسَب وإن كلًّا مِنْهُم فلق الأكباد وشجا الحساد وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى: ﴿يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم﴾ وَلم يقل بأولادكم؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ الْعدْل فيهم والتحذير من الْجور عَلَيْهِم، وَجَاء بِاللَّفْظِ عَامًّا غير مَقْصُور على الْمِيرَاث أَو غَيره] اهـ.
والحكم في هذا الأمر واضح أنه حرام، ولا يحل للمكلف اعتقاده فضلًا عن فعله.

والأدلة على ذلك كثيرة ومتنوعة، منها:
أولًا: تفصيل التشريع في الميراث، بخلاف غيره من التشريعات بما يوحي عدم ترك التفصيل للاجتهاد: فتقسيم الميراث ذكره الله تعالى تفصيلًا؛ اهتمامًا بشأنه، ولم يكل تفصيله إلى غيره كما فعل ذلك في كثير من التشريعات.

قال الإمام الزيلعي في "شرح الكنز" (6/ 229، ط. المطبعة الكبرى الأميرية): [(كِتَابُ الْفَرَائِضِ) وَهِيَ جَمْعُ فَرِيضَةٍ، وَالْفَرْضُ التَّقْدِيرُ، يُقَالُ: فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ أَيْ قَدَّرَهَا، وَسُمِّيَ هَذَا الْعِلْمُ فَرَائِضَ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدَّرَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُفَوِّضْ تَقْدِيرَهُ إلَى مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَبَيَّنَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النِّصْفِ وَالرُّبُعِ وَالثُّمُنِ وَالثُّلُثَيْنِ وَالثُّلُثِ وَالسُّدُسِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَحْكَامِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهَا فَإِنَّ النُّصُوصَ فِيهَا مُجْمَلَةٌ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43]، ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ [آل عمران: 97]، وَإِنَّمَا السُّنَّةُ بَيَّنَتْهَا] اهـ.

ثانيًا: الانتقال الاضطراري للميراث، بمعنى أن المال ينتقل إلى الوارث دون اختياره، فالميراث ينتقل من المورث إلى الوارث بمجرد الوفاة، ولا يتوقف على إجراء آخر؛ لأنه ليس انتقال اختيار كالوصية والبيع والشراء، وإنما هو انتقال اضطراري.

قال العلامة الحصكفي في "الدر المختار" (6/ 757، ط. دار الفكر): [كِتَابُ الْفَرَائِضِ: هِيَ عِلْمٌ بِأُصُولٍ مِنْ فِقْهٍ وَحِسَابٍ تُعَرِّفُ حَقَّ كُلٍّ مِنْ التَّرِكَةِ، وَالْحُقُوقُ هَا هُنَا خَمْسَةٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ إمَّا لِلْمَيِّتِ أَوْ عَلَيْهِ أَوْ لَا وَلَا: الْأَوَّلُ التَّجْهِيزُ، وَالثَّانِي: إمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ وَهُوَ الدَّينُ الْمُطْلَقُ، أَوْ لَا وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْعَيْنِ، وَالثَّالِثُ: إمَّا اخْتِيَارِيٌّ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ، أَوِ اضْطِرَارِيٌّ وَهُوَ الْمِيرَاثُ] اهـ.

ثالثًا: تقييد الوصية بالثلث، ولا وصية لوارث، فلو كان الأمر متروكًا للمورث ما قيِّدت وصيته بمثل هذا، بل كان الأمر موكولًا لصاحب المال؛ قال الله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ۞ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۞ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: 12-14].

قال الإمام ابن كثير في "تفسيره" (2/ 231-232، ط. دار طيبة- الرياض) عند تفسيره لهذه الآيات: [وَقَوْلُهُ: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ أَيْ: لِتَكُونَ وَصِيَّتُهُ عَلَى الْعَدْلِ، لَا عَلَى الْإِضْرَارِ وَالْجَوْرِ وَالْحَيْفِ بِأَنْ يَحْرِمَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ، أَوْ يَنْقُصَهُ، أَوْ يَزِيدَهُ عَلَى مَا قدرَ اللهُ لَهُ مِنَ الْفَرِيضَةِ، فَمَتَى سَعَى فِي ذَلِكَ كَانَ كَمَنْ ضَادَّ اللهَ فِي حِكْمَتِهِ وَقِسْمَتِهِ... -ثم ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «إِنَّ اللهَ قَدْ أعْطَى كُلَّ ذِي حَق حَقَّه، فَلَا وَصِيَّة لِوَارِثٍ» مرفوعًا وموقوفًا- ثم قال: وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ: هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ التُّهْمَةِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْصَى لَهُ بِصِيغَةِ الْإِقْرَارِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أعْطَى كُلَّ ذِي حَق حَقَّه، فَلَا وَصِيَّة لِوَارِثٍ». وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ، رَحِمَهُمُ اللهُ، وَذَهَبَ فِي الْجَدِيدِ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِقْرَارُ. وَهُوَ مَذْهَبُ طَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبُخَارِيِّ فِي "صَحِيحِهِ"... فَمَتَى كَانَ الإقرارُ صَحِيحًا مُطَابِقًا لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ جَرَى فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ، وَمَتَى كَانَ حِيلَةً وَوَسِيلَةً إِلَى زِيَادَةِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ وَنُقْصَانِ بَعْضِهِمْ، فَهُوَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ وَبِنَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾، ثُمَّ قَالَ اللهُ: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۞ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: 13-14] أَيْ: هَذِهِ الْفَرَائِضُ وَالْمَقَادِيرُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ لِلْوَرَثَةِ بِحَسَبِ قُربهم مِنَ الْمَيِّتِ وَاحْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ وَفَقْدِهِمْ لَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ، هِيَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَلَا تُجَاوِزُوهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ أَيْ: فِيهَا، فَلَمْ يَزِدْ بَعْض الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَنْقُصْ بَعْضًا بِحِيلَةٍ وَوَسِيلَةٍ، بَلْ تَرَكَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ وَفَرِيضَتِهِ وَقِسْمَتِهِ ﴿ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ أَيْ، لِكَوْنِهِ غيَّر مَا حَكَمَ اللهُ بِهِ وَضَادَّ اللهَ فِي حُكْمِهِ. وَهَذَا إِنَّمَا يَصْدُرُ عَنْ عَدَمِ الرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللهُ وَحَكَمَ بِهِ، وَلِهَذَا يُجَازِيهِ بالإهانة في العذاب الأليم المقيم] اهـ.

وفي الحديث الشريف عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» أخرجه أبو داود والنسائي في "الكبرى" وابن ماجه.

قال الإمام الخطابي في "معالم السنن" (4/ 85، ط. المطبعة العلمية- حلب): [قوله: «أعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ» إشارة إلى آية المواريث، وكانت الوصية قبل نزول الآية واجبة للأقربين وهو قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: 18]، ثم نسخت بآية الميراث، وإنما تبطل الوصية للوارث في قول أكثر أهل العلم من أجل حقوق سائر الورثة، فإذا أجازوها جازت كما إذا أجازوا الزيادة على الثلث للأجنبي جاز، وذهب بعضهم إلى أن الوصية للوارث لا تجوز بحال وإن أجازها سائر الورثة؛ لأن المنع منها إنما لحق الشرع فلو جوزناها لكنا قد استعملنا الحكم المنسوخ وذلك غير جائز، كما أن الوصية للقاتل غير جائزة وإن أجازها الورثة] اهـ.

وقال الإمام ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (2/ 213، ط. مؤسسة الرسالة– بيروت): [وَالْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ تَارَةً يَكُونُ بِأَنْ يَخُصَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ بِزِيَادَةٍ عَلَى فَرْضِهِ الَّذِي فَرَضَهُ اللهُ لَهُ، فَيَتَضَرَّرُ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ بِتَخْصِيصِهِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ». وَتَارَةً بِأَنْ يُوصِيَ لِأَجْنَبِيٍّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، فَتَنْقُصُ حُقُوقُ الْوَرَثَةِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ». وَمَتَى وَصَّى لِوَارِثٍ أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، لَمْ يُنَفَّذْ مَا وَصَّى بِهِ إِلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَسَوَاءٌ قَصَدَ الْمُضَارَّةَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ، وَأَمَّا إِنْ قَصَدَ الْمُضَارَّةَ بِالْوَصِيَّةِ لِأَجْنَبِيٍّ بِالثُّلُثِ، فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِقَصْدِهِ الْمُضَارَّةَ، وَهَلْ تُرَدُّ وَصِيَّتُهُ إِذَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ أَمْ لَا؟ حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا تُرَدُّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قِيَاسُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ] اهـ.

رابعًا: تعلق حق الورثة بالمال بوجود مرض الموت، فلا يجوز له التصرف المطلق.
قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (6/ 25، ط. مكتبة القاهرة): [مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَمَنْ وَقَفَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، أَوْ قَالَ: هُوَ وَقْفٌ بَعْدَ مَوْتِي. وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ، وُقِفَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، إلَّا أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَقْفَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ، فِي اعْتِبَارِهِ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، فَاعْتُبِرَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ مِنَ الثُّلُثِ، كَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ وَإِذَا خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ، جَازَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْوَرَثَةِ وَلَزِمَ، وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، لَزِمَ الْوَقْفُ مِنْهُ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ، وَوَقَفَ الزَّائِدُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِلُزُومِ الْوَقْفِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِالْمَالِ بِوُجُودِ الْمَرَضِ، فَمَنَعَ التَّبَرُّعَ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، كَالْعَطَايَا وَالْعِتْقِ] اهـ.

ومما تقدم يتبين عدم جواز معاقبة الابن العاق أو غيره من الورثة بالحرمان من حقهم في الإرث.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

الحرمان من الميراث

الحرمان من الميراث، هل هو من قبيل التعزير بالمال إذا كان الوارث عاقًّا لمورثه؟

يعمد بعض الناس إلى منع بعض الورثة من حقه من الميراث بكتابة وصية بذلك، وقد يكون في دولة تجيز قوانينها ذلك الأمر، وقد يظن المكلف أن ذلك حقٌّ له خاصة إن كان الوارث عاقًّا له.

وهذا المنع المذكور فيه عدة محاذير شرعية؛ منها: أنه يعدُّ من قبيل منع حقوق العباد التي أعطاها الله تعالى لهم، ويعدُّ من قبيل المضارة في الوصية، وفيه أيضًا ترك الخير والحكمة من هذا التفصيل من الله تعالى.

وتقسيم الميراث بحسب الشرع فيه الخير كله؛ لأن الله تعالى برحمته وعدله وحكمته هو الذي قسمه، وقد بدأ آيات الميراث بالوصية بالأبناء؛ لأنه أرحم بنا من أنفسنا.

قال أبو القاسم السهيلي في كتابه "الفرائض وشرح آيات الوصية" (ص: 27، ط. المكتبة الفيصلية- مكة المكرمة): [ثمَّ إِنِّي نظرت فِيمَا بَيَّنه الله سُبْحَانَهُ فِي كِتَابه من حَلَال وَحرَام وحدود وَأَحْكَام فَلم نجده افْتتح شَيْئا من ذَلِك بِمَا افْتتح بِهِ آيَة الْفَرَائِض وَلَا ختم شَيْئا من ذَلِك بِمَا خَتمهَا بِهِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَولهَا: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ [النساء: 11]، فأخبر تَعَالَى عَن نَفسه أَنه موصٍ تَنْبِيهًا على حكمته فِيمَا أوصى بِهِ وعَلى عدله وَرَحمته، أما حكمته فَإِنَّهُ علم سُبْحَانَهُ مَا تضمنه أمره من الْمصلحَة لِعِبَادِهِ وَمَا كَانَ فِي فعلهم قبل هَذَا الْأَمر من الْفساد؛ حَيْثُ كَانُوا يورثون الْكِبَار وَلَا يورثون الصغار، ويورثون الذُّكُور وَلَا يورثون الْإِنَاث، وَيَقُولُونَ: أنورث أَمْوَالنَا من لَا يركب الْفرس وَلَا يضْرب بِالسَّيْفِ ويسوق الْغنم. فَلَو وَكلهمْ الله إِلَى آرائهم وتركهم مَعَ أهوائهم لمالت بهم الأهواء عِنْد الْمَوْت مَعَ بعض الْبَنِينَ دون بعض فَأدى ذَلِك إِلَى التشاجر والتباغض والجور وَقلة النصفة فَانْتزع الْوَصِيَّة مِنْهُم وردهَا على نَفسه دونهم ليرضي بِعِلْمِهِ وَحكمه؛ وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى حِين ختم الْآيَة: ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ [النساء: 12] وَقَالَ قبل ذَلِك: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾، وَأما عدله فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ سوَّى بَين الذُّكُور؛ لأَنهم سَوَاء فِي أَحْكَام الدِّيات والعقول ورجاء الْمَنْفَعَة وإن صغر السن لا يبطل حق الْولادَة وَلَا معنى النَّسَب وإن كلًّا مِنْهُم فلق الأكباد وشجا الحساد وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى: ﴿يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم﴾ وَلم يقل بأولادكم؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ الْعدْل فيهم والتحذير من الْجور عَلَيْهِم، وَجَاء بِاللَّفْظِ عَامًّا غير مَقْصُور على الْمِيرَاث أَو غَيره] اهـ.
والحكم في هذا الأمر واضح أنه حرام، ولا يحل للمكلف اعتقاده فضلًا عن فعله.

والأدلة على ذلك كثيرة ومتنوعة، منها:
أولًا: تفصيل التشريع في الميراث، بخلاف غيره من التشريعات بما يوحي عدم ترك التفصيل للاجتهاد: فتقسيم الميراث ذكره الله تعالى تفصيلًا؛ اهتمامًا بشأنه، ولم يكل تفصيله إلى غيره كما فعل ذلك في كثير من التشريعات.

قال الإمام الزيلعي في "شرح الكنز" (6/ 229، ط. المطبعة الكبرى الأميرية): [(كِتَابُ الْفَرَائِضِ) وَهِيَ جَمْعُ فَرِيضَةٍ، وَالْفَرْضُ التَّقْدِيرُ، يُقَالُ: فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ أَيْ قَدَّرَهَا، وَسُمِّيَ هَذَا الْعِلْمُ فَرَائِضَ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدَّرَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُفَوِّضْ تَقْدِيرَهُ إلَى مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَبَيَّنَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النِّصْفِ وَالرُّبُعِ وَالثُّمُنِ وَالثُّلُثَيْنِ وَالثُّلُثِ وَالسُّدُسِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَحْكَامِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهَا فَإِنَّ النُّصُوصَ فِيهَا مُجْمَلَةٌ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43]، ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ [آل عمران: 97]، وَإِنَّمَا السُّنَّةُ بَيَّنَتْهَا] اهـ.

ثانيًا: الانتقال الاضطراري للميراث، بمعنى أن المال ينتقل إلى الوارث دون اختياره، فالميراث ينتقل من المورث إلى الوارث بمجرد الوفاة، ولا يتوقف على إجراء آخر؛ لأنه ليس انتقال اختيار كالوصية والبيع والشراء، وإنما هو انتقال اضطراري.

قال العلامة الحصكفي في "الدر المختار" (6/ 757، ط. دار الفكر): [كِتَابُ الْفَرَائِضِ: هِيَ عِلْمٌ بِأُصُولٍ مِنْ فِقْهٍ وَحِسَابٍ تُعَرِّفُ حَقَّ كُلٍّ مِنْ التَّرِكَةِ، وَالْحُقُوقُ هَا هُنَا خَمْسَةٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ إمَّا لِلْمَيِّتِ أَوْ عَلَيْهِ أَوْ لَا وَلَا: الْأَوَّلُ التَّجْهِيزُ، وَالثَّانِي: إمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ وَهُوَ الدَّينُ الْمُطْلَقُ، أَوْ لَا وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْعَيْنِ، وَالثَّالِثُ: إمَّا اخْتِيَارِيٌّ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ، أَوِ اضْطِرَارِيٌّ وَهُوَ الْمِيرَاثُ] اهـ.

ثالثًا: تقييد الوصية بالثلث، ولا وصية لوارث، فلو كان الأمر متروكًا للمورث ما قيِّدت وصيته بمثل هذا، بل كان الأمر موكولًا لصاحب المال؛ قال الله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ۞ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۞ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: 12-14].

قال الإمام ابن كثير في "تفسيره" (2/ 231-232، ط. دار طيبة- الرياض) عند تفسيره لهذه الآيات: [وَقَوْلُهُ: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ أَيْ: لِتَكُونَ وَصِيَّتُهُ عَلَى الْعَدْلِ، لَا عَلَى الْإِضْرَارِ وَالْجَوْرِ وَالْحَيْفِ بِأَنْ يَحْرِمَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ، أَوْ يَنْقُصَهُ، أَوْ يَزِيدَهُ عَلَى مَا قدرَ اللهُ لَهُ مِنَ الْفَرِيضَةِ، فَمَتَى سَعَى فِي ذَلِكَ كَانَ كَمَنْ ضَادَّ اللهَ فِي حِكْمَتِهِ وَقِسْمَتِهِ... -ثم ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «إِنَّ اللهَ قَدْ أعْطَى كُلَّ ذِي حَق حَقَّه، فَلَا وَصِيَّة لِوَارِثٍ» مرفوعًا وموقوفًا- ثم قال: وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ: هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ التُّهْمَةِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْصَى لَهُ بِصِيغَةِ الْإِقْرَارِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أعْطَى كُلَّ ذِي حَق حَقَّه، فَلَا وَصِيَّة لِوَارِثٍ». وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ، رَحِمَهُمُ اللهُ، وَذَهَبَ فِي الْجَدِيدِ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِقْرَارُ. وَهُوَ مَذْهَبُ طَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبُخَارِيِّ فِي "صَحِيحِهِ"... فَمَتَى كَانَ الإقرارُ صَحِيحًا مُطَابِقًا لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ جَرَى فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ، وَمَتَى كَانَ حِيلَةً وَوَسِيلَةً إِلَى زِيَادَةِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ وَنُقْصَانِ بَعْضِهِمْ، فَهُوَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ وَبِنَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾، ثُمَّ قَالَ اللهُ: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۞ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: 13-14] أَيْ: هَذِهِ الْفَرَائِضُ وَالْمَقَادِيرُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ لِلْوَرَثَةِ بِحَسَبِ قُربهم مِنَ الْمَيِّتِ وَاحْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ وَفَقْدِهِمْ لَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ، هِيَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَلَا تُجَاوِزُوهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ أَيْ: فِيهَا، فَلَمْ يَزِدْ بَعْض الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَنْقُصْ بَعْضًا بِحِيلَةٍ وَوَسِيلَةٍ، بَلْ تَرَكَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ وَفَرِيضَتِهِ وَقِسْمَتِهِ ﴿ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ أَيْ، لِكَوْنِهِ غيَّر مَا حَكَمَ اللهُ بِهِ وَضَادَّ اللهَ فِي حُكْمِهِ. وَهَذَا إِنَّمَا يَصْدُرُ عَنْ عَدَمِ الرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللهُ وَحَكَمَ بِهِ، وَلِهَذَا يُجَازِيهِ بالإهانة في العذاب الأليم المقيم] اهـ.

وفي الحديث الشريف عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» أخرجه أبو داود والنسائي في "الكبرى" وابن ماجه.

قال الإمام الخطابي في "معالم السنن" (4/ 85، ط. المطبعة العلمية- حلب): [قوله: «أعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ» إشارة إلى آية المواريث، وكانت الوصية قبل نزول الآية واجبة للأقربين وهو قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: 18]، ثم نسخت بآية الميراث، وإنما تبطل الوصية للوارث في قول أكثر أهل العلم من أجل حقوق سائر الورثة، فإذا أجازوها جازت كما إذا أجازوا الزيادة على الثلث للأجنبي جاز، وذهب بعضهم إلى أن الوصية للوارث لا تجوز بحال وإن أجازها سائر الورثة؛ لأن المنع منها إنما لحق الشرع فلو جوزناها لكنا قد استعملنا الحكم المنسوخ وذلك غير جائز، كما أن الوصية للقاتل غير جائزة وإن أجازها الورثة] اهـ.

وقال الإمام ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (2/ 213، ط. مؤسسة الرسالة– بيروت): [وَالْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ تَارَةً يَكُونُ بِأَنْ يَخُصَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ بِزِيَادَةٍ عَلَى فَرْضِهِ الَّذِي فَرَضَهُ اللهُ لَهُ، فَيَتَضَرَّرُ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ بِتَخْصِيصِهِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ». وَتَارَةً بِأَنْ يُوصِيَ لِأَجْنَبِيٍّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، فَتَنْقُصُ حُقُوقُ الْوَرَثَةِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ». وَمَتَى وَصَّى لِوَارِثٍ أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، لَمْ يُنَفَّذْ مَا وَصَّى بِهِ إِلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَسَوَاءٌ قَصَدَ الْمُضَارَّةَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ، وَأَمَّا إِنْ قَصَدَ الْمُضَارَّةَ بِالْوَصِيَّةِ لِأَجْنَبِيٍّ بِالثُّلُثِ، فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِقَصْدِهِ الْمُضَارَّةَ، وَهَلْ تُرَدُّ وَصِيَّتُهُ إِذَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ أَمْ لَا؟ حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا تُرَدُّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قِيَاسُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ] اهـ.

رابعًا: تعلق حق الورثة بالمال بوجود مرض الموت، فلا يجوز له التصرف المطلق.
قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (6/ 25، ط. مكتبة القاهرة): [مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَمَنْ وَقَفَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، أَوْ قَالَ: هُوَ وَقْفٌ بَعْدَ مَوْتِي. وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ، وُقِفَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، إلَّا أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَقْفَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ، فِي اعْتِبَارِهِ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، فَاعْتُبِرَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ مِنَ الثُّلُثِ، كَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ وَإِذَا خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ، جَازَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْوَرَثَةِ وَلَزِمَ، وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، لَزِمَ الْوَقْفُ مِنْهُ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ، وَوَقَفَ الزَّائِدُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِلُزُومِ الْوَقْفِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِالْمَالِ بِوُجُودِ الْمَرَضِ، فَمَنَعَ التَّبَرُّعَ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، كَالْعَطَايَا وَالْعِتْقِ] اهـ.

ومما تقدم يتبين عدم جواز معاقبة الابن العاق أو غيره من الورثة بالحرمان من حقهم في الإرث.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

يعمد بعض الناس إلى منع بعض الورثة من حقه من الميراث بكتابة وصية بذلك، وقد يكون في دولة تجيز قوانينها ذلك الأمر، وقد يظن المكلف أن ذلك حقٌّ له خاصة إن كان الوارث عاقًّا له.

وهذا المنع المذكور فيه عدة محاذير شرعية؛ منها: أنه يعدُّ من قبيل منع حقوق العباد التي أعطاها الله تعالى لهم، ويعدُّ من قبيل المضارة في الوصية، وفيه أيضًا ترك الخير والحكمة من هذا التفصيل من الله تعالى.

وتقسيم الميراث بحسب الشرع فيه الخير كله؛ لأن الله تعالى برحمته وعدله وحكمته هو الذي قسمه، وقد بدأ آيات الميراث بالوصية بالأبناء؛ لأنه أرحم بنا من أنفسنا.

قال أبو القاسم السهيلي في كتابه "الفرائض وشرح آيات الوصية" (ص: 27، ط. المكتبة الفيصلية- مكة المكرمة): [ثمَّ إِنِّي نظرت فِيمَا بَيَّنه الله سُبْحَانَهُ فِي كِتَابه من حَلَال وَحرَام وحدود وَأَحْكَام فَلم نجده افْتتح شَيْئا من ذَلِك بِمَا افْتتح بِهِ آيَة الْفَرَائِض وَلَا ختم شَيْئا من ذَلِك بِمَا خَتمهَا بِهِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَولهَا: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ [النساء: 11]، فأخبر تَعَالَى عَن نَفسه أَنه موصٍ تَنْبِيهًا على حكمته فِيمَا أوصى بِهِ وعَلى عدله وَرَحمته، أما حكمته فَإِنَّهُ علم سُبْحَانَهُ مَا تضمنه أمره من الْمصلحَة لِعِبَادِهِ وَمَا كَانَ فِي فعلهم قبل هَذَا الْأَمر من الْفساد؛ حَيْثُ كَانُوا يورثون الْكِبَار وَلَا يورثون الصغار، ويورثون الذُّكُور وَلَا يورثون الْإِنَاث، وَيَقُولُونَ: أنورث أَمْوَالنَا من لَا يركب الْفرس وَلَا يضْرب بِالسَّيْفِ ويسوق الْغنم. فَلَو وَكلهمْ الله إِلَى آرائهم وتركهم مَعَ أهوائهم لمالت بهم الأهواء عِنْد الْمَوْت مَعَ بعض الْبَنِينَ دون بعض فَأدى ذَلِك إِلَى التشاجر والتباغض والجور وَقلة النصفة فَانْتزع الْوَصِيَّة مِنْهُم وردهَا على نَفسه دونهم ليرضي بِعِلْمِهِ وَحكمه؛ وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى حِين ختم الْآيَة: ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ [النساء: 12] وَقَالَ قبل ذَلِك: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾، وَأما عدله فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ سوَّى بَين الذُّكُور؛ لأَنهم سَوَاء فِي أَحْكَام الدِّيات والعقول ورجاء الْمَنْفَعَة وإن صغر السن لا يبطل حق الْولادَة وَلَا معنى النَّسَب وإن كلًّا مِنْهُم فلق الأكباد وشجا الحساد وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى: ﴿يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم﴾ وَلم يقل بأولادكم؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ الْعدْل فيهم والتحذير من الْجور عَلَيْهِم، وَجَاء بِاللَّفْظِ عَامًّا غير مَقْصُور على الْمِيرَاث أَو غَيره] اهـ.
والحكم في هذا الأمر واضح أنه حرام، ولا يحل للمكلف اعتقاده فضلًا عن فعله.

والأدلة على ذلك كثيرة ومتنوعة، منها:
أولًا: تفصيل التشريع في الميراث، بخلاف غيره من التشريعات بما يوحي عدم ترك التفصيل للاجتهاد: فتقسيم الميراث ذكره الله تعالى تفصيلًا؛ اهتمامًا بشأنه، ولم يكل تفصيله إلى غيره كما فعل ذلك في كثير من التشريعات.

قال الإمام الزيلعي في "شرح الكنز" (6/ 229، ط. المطبعة الكبرى الأميرية): [(كِتَابُ الْفَرَائِضِ) وَهِيَ جَمْعُ فَرِيضَةٍ، وَالْفَرْضُ التَّقْدِيرُ، يُقَالُ: فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ أَيْ قَدَّرَهَا، وَسُمِّيَ هَذَا الْعِلْمُ فَرَائِضَ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدَّرَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُفَوِّضْ تَقْدِيرَهُ إلَى مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَبَيَّنَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النِّصْفِ وَالرُّبُعِ وَالثُّمُنِ وَالثُّلُثَيْنِ وَالثُّلُثِ وَالسُّدُسِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَحْكَامِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهَا فَإِنَّ النُّصُوصَ فِيهَا مُجْمَلَةٌ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43]، ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ [آل عمران: 97]، وَإِنَّمَا السُّنَّةُ بَيَّنَتْهَا] اهـ.

ثانيًا: الانتقال الاضطراري للميراث، بمعنى أن المال ينتقل إلى الوارث دون اختياره، فالميراث ينتقل من المورث إلى الوارث بمجرد الوفاة، ولا يتوقف على إجراء آخر؛ لأنه ليس انتقال اختيار كالوصية والبيع والشراء، وإنما هو انتقال اضطراري.

قال العلامة الحصكفي في "الدر المختار" (6/ 757، ط. دار الفكر): [كِتَابُ الْفَرَائِضِ: هِيَ عِلْمٌ بِأُصُولٍ مِنْ فِقْهٍ وَحِسَابٍ تُعَرِّفُ حَقَّ كُلٍّ مِنْ التَّرِكَةِ، وَالْحُقُوقُ هَا هُنَا خَمْسَةٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ إمَّا لِلْمَيِّتِ أَوْ عَلَيْهِ أَوْ لَا وَلَا: الْأَوَّلُ التَّجْهِيزُ، وَالثَّانِي: إمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ وَهُوَ الدَّينُ الْمُطْلَقُ، أَوْ لَا وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْعَيْنِ، وَالثَّالِثُ: إمَّا اخْتِيَارِيٌّ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ، أَوِ اضْطِرَارِيٌّ وَهُوَ الْمِيرَاثُ] اهـ.

ثالثًا: تقييد الوصية بالثلث، ولا وصية لوارث، فلو كان الأمر متروكًا للمورث ما قيِّدت وصيته بمثل هذا، بل كان الأمر موكولًا لصاحب المال؛ قال الله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ۞ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۞ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: 12-14].

قال الإمام ابن كثير في "تفسيره" (2/ 231-232، ط. دار طيبة- الرياض) عند تفسيره لهذه الآيات: [وَقَوْلُهُ: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ أَيْ: لِتَكُونَ وَصِيَّتُهُ عَلَى الْعَدْلِ، لَا عَلَى الْإِضْرَارِ وَالْجَوْرِ وَالْحَيْفِ بِأَنْ يَحْرِمَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ، أَوْ يَنْقُصَهُ، أَوْ يَزِيدَهُ عَلَى مَا قدرَ اللهُ لَهُ مِنَ الْفَرِيضَةِ، فَمَتَى سَعَى فِي ذَلِكَ كَانَ كَمَنْ ضَادَّ اللهَ فِي حِكْمَتِهِ وَقِسْمَتِهِ... -ثم ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «إِنَّ اللهَ قَدْ أعْطَى كُلَّ ذِي حَق حَقَّه، فَلَا وَصِيَّة لِوَارِثٍ» مرفوعًا وموقوفًا- ثم قال: وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ: هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ التُّهْمَةِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْصَى لَهُ بِصِيغَةِ الْإِقْرَارِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أعْطَى كُلَّ ذِي حَق حَقَّه، فَلَا وَصِيَّة لِوَارِثٍ». وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ، رَحِمَهُمُ اللهُ، وَذَهَبَ فِي الْجَدِيدِ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِقْرَارُ. وَهُوَ مَذْهَبُ طَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبُخَارِيِّ فِي "صَحِيحِهِ"... فَمَتَى كَانَ الإقرارُ صَحِيحًا مُطَابِقًا لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ جَرَى فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ، وَمَتَى كَانَ حِيلَةً وَوَسِيلَةً إِلَى زِيَادَةِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ وَنُقْصَانِ بَعْضِهِمْ، فَهُوَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ وَبِنَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾، ثُمَّ قَالَ اللهُ: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۞ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: 13-14] أَيْ: هَذِهِ الْفَرَائِضُ وَالْمَقَادِيرُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ لِلْوَرَثَةِ بِحَسَبِ قُربهم مِنَ الْمَيِّتِ وَاحْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ وَفَقْدِهِمْ لَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ، هِيَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَلَا تُجَاوِزُوهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ أَيْ: فِيهَا، فَلَمْ يَزِدْ بَعْض الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَنْقُصْ بَعْضًا بِحِيلَةٍ وَوَسِيلَةٍ، بَلْ تَرَكَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ وَفَرِيضَتِهِ وَقِسْمَتِهِ ﴿ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ أَيْ، لِكَوْنِهِ غيَّر مَا حَكَمَ اللهُ بِهِ وَضَادَّ اللهَ فِي حُكْمِهِ. وَهَذَا إِنَّمَا يَصْدُرُ عَنْ عَدَمِ الرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللهُ وَحَكَمَ بِهِ، وَلِهَذَا يُجَازِيهِ بالإهانة في العذاب الأليم المقيم] اهـ.

وفي الحديث الشريف عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» أخرجه أبو داود والنسائي في "الكبرى" وابن ماجه.

قال الإمام الخطابي في "معالم السنن" (4/ 85، ط. المطبعة العلمية- حلب): [قوله: «أعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ» إشارة إلى آية المواريث، وكانت الوصية قبل نزول الآية واجبة للأقربين وهو قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: 18]، ثم نسخت بآية الميراث، وإنما تبطل الوصية للوارث في قول أكثر أهل العلم من أجل حقوق سائر الورثة، فإذا أجازوها جازت كما إذا أجازوا الزيادة على الثلث للأجنبي جاز، وذهب بعضهم إلى أن الوصية للوارث لا تجوز بحال وإن أجازها سائر الورثة؛ لأن المنع منها إنما لحق الشرع فلو جوزناها لكنا قد استعملنا الحكم المنسوخ وذلك غير جائز، كما أن الوصية للقاتل غير جائزة وإن أجازها الورثة] اهـ.

وقال الإمام ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (2/ 213، ط. مؤسسة الرسالة– بيروت): [وَالْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ تَارَةً يَكُونُ بِأَنْ يَخُصَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ بِزِيَادَةٍ عَلَى فَرْضِهِ الَّذِي فَرَضَهُ اللهُ لَهُ، فَيَتَضَرَّرُ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ بِتَخْصِيصِهِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ». وَتَارَةً بِأَنْ يُوصِيَ لِأَجْنَبِيٍّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، فَتَنْقُصُ حُقُوقُ الْوَرَثَةِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ». وَمَتَى وَصَّى لِوَارِثٍ أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، لَمْ يُنَفَّذْ مَا وَصَّى بِهِ إِلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَسَوَاءٌ قَصَدَ الْمُضَارَّةَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ، وَأَمَّا إِنْ قَصَدَ الْمُضَارَّةَ بِالْوَصِيَّةِ لِأَجْنَبِيٍّ بِالثُّلُثِ، فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِقَصْدِهِ الْمُضَارَّةَ، وَهَلْ تُرَدُّ وَصِيَّتُهُ إِذَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ أَمْ لَا؟ حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا تُرَدُّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قِيَاسُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ] اهـ.

رابعًا: تعلق حق الورثة بالمال بوجود مرض الموت، فلا يجوز له التصرف المطلق.
قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (6/ 25، ط. مكتبة القاهرة): [مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَمَنْ وَقَفَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، أَوْ قَالَ: هُوَ وَقْفٌ بَعْدَ مَوْتِي. وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ، وُقِفَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، إلَّا أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَقْفَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ، فِي اعْتِبَارِهِ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، فَاعْتُبِرَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ مِنَ الثُّلُثِ، كَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ وَإِذَا خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ، جَازَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْوَرَثَةِ وَلَزِمَ، وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، لَزِمَ الْوَقْفُ مِنْهُ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ، وَوَقَفَ الزَّائِدُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِلُزُومِ الْوَقْفِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِالْمَالِ بِوُجُودِ الْمَرَضِ، فَمَنَعَ التَّبَرُّعَ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، كَالْعَطَايَا وَالْعِتْقِ] اهـ.

ومما تقدم يتبين عدم جواز معاقبة الابن العاق أو غيره من الورثة بالحرمان من حقهم في الإرث.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;